أرشيف التصنيف: المقالات العامة

استراتيجية روسية ـ صينية لدعم مواجهة أميركا اقتصادياً وعسكرياً!

تقول بعض المصادر المطلعة في أوروبا إن القمة الروسية الصينية التي انعقدت في موسكو في العشرين من هذا الشهر، كان مخططاً لها أن تعقد في بكين بزيارة يقوم بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على رأس وفد من الوزراء والفعاليات الاقتصادية، إلا أنه تم تغيير البرنامج وحصلت القمة بزيارة الرئيس الصيني شي جينبينغ إلى موسكو لأسباب قيل إنها تعود إلى ضرورة بقاء الوزراء والمسؤولين الروس قريباً من مراكزهم لدقة الأوضاع الراهنة بسبب حرب أوكرانيا.
إلا أن المصادر نفسها قالت إن التغيير الذي حصل كان بطلب خاص من الرئيس الصيني شي جينبينغ، الذي اتصل ببوتين وأخبره أن زيارته إلى روسيا ستكون رسالة واضحة لحلف الناتو عن مدى دعم بلاده لروسيا ووقعها سيكون أقوى بكثير من زيارة يقوم بها الرئيس الروسي لبكين التي من المؤكد سيتم تفسيرها على أنها لطلب المعونة.
وقد ترأس جينبينغ وفداً من 250 عضواً يمثلون كل أنشطة الدولة من تجارية وصناعية إلى مالية ودفاعية وطاقة وبناء ونقل… وقد فاق عدد مرافقي الرئيس الصيني الألف شخص مع الدبلوماسيين والمترجمين والإعلاميين ورجال الأمن. ودامت الزيارة خمسة أيام حرص خلالها المضيف على إبراز عمق العلاقة بين البلدين وإظهار فائق المودة الشخصية بين الرئيسين. وبعيداً عن المظاهر الاحتفالية عمل الوفد الصيني على توقيع العقود في شتى المجالات، ولعل أهمها عقود تجارية بقيمة 190 مليار دولار وإعلان وزير المال الروسي أنطون سوليانوف أن جميع العقود ستتم باليوان الصيني الذي أصبح يشكل 48% من سلة العملات الأجنبية لروسيا. كما تم الاتفاق على تسريع إنشاء خط سيبيريا 2، الذي ينتظر أن يمر فيه 50 مليار متر مكعب من الغاز الروسي سنوياً نحو الصين، وبهذا يتم التعويض عن توقف تصدير الغاز إلى أوروبا.
ولافتاً كان الانتقاد الصيني للناتو وتدخله في شؤون الدول.
الواضح أن روسيا اليوم تعتمد بشكلٍ رئيسي على الصين اقتصادياً وسياسياً وحتى عسكرياً ولو بشكل غير معلن. فالصين هي الملاذ الآمن للدب الروسي الذي تطوله العقوبات من كل حدب وصوب، وهي المستورد الأكبر لكي لا نقول الأوحد للغاز والنفط والمعادن والمواد الزراعية، حيث لا يجرؤ الآخرون على استيراد الإنتاج الروسي لكي لا تطولهم العقوبات. ولكن من ناحية أخرى ما يعني الصين في نهاية المطاف ليس دعم روسيا التي حجم اقتصادها يقل عن حجم اقتصاد إيطاليا بقدر ما هو وراثة روسيا الاتحاد السوفياتي. فمن خلال مقدرتها على التأثير على القرار الروسي أصبح العملاق الآسيوي قوة لا بد من الاعتراف بها أوروبياً ودولياً.
في مداخلة لهنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي السابق ومهندس العلاقة الصينية – الأميركية في يوليو (تموز) الماضي ضمن المؤتمر السنوي لمعهد ويلسون في نيويورك، يقول، وهو الخبير الأهم في شؤون الصين، إن ما تريده الصين هو اعتراف دولي وبالأخص أميركي بأنها دولة عظمى في عالم بقطبين، ويكمل كيسنجر بأن مسار الصين التوسعي لا يمكن إيقافه وأن تعامل بلاده معها هو خاطئ وغير مجد، وتمنى لو استشارته الإدارات المتعاقبة، لأنه كان سينصحها بعدم المواجهة بل بالتعاون كما حصل عندما فتح جدار الصين في سبعينات القرن الماضي وبنى جسوراً مع الزعيم الصيني ماو تسي تونغ ووزير خارجيته شو إن لاي، وبهذا أنهى صراعاً مكلفاً للولايات المتحدة في فيتنام وجنوب شرق آسيا.
بعد ترحيب حار على مدرج المطار، ركزت كاميرات التلفزيون الحكومية الروسية ليُسمع شي جينبينغ يقول لبوتين إنه يتوقع إعادة انتخابه العام المقبل.
قبل رحلته، وقّع شي «مقال رأي» في شكل رسالة مفتوحة في وسائل الإعلام الحكومية الروسية وصف علاقة البلدين بأنها علاقة «الصداقة والتعاون والسلام». دعت الرسالة إلى زيادة التبادلات الاقتصادية والتبادلات الشعبية بين الصين وروسيا، ولكنها تضمنت أيضا فقرتين عن الحرب. أكد شي على أهمية احترام «المخاوف الأمنية المشروعة لجميع البلدان»، مع تكرار التصريحات الواسعة الأخرى التي أدلت بها بكين من قبل.
يأتي حذر الغرب جزئيا من قرب بكين الواضح من موسكو. على الرغم من ادعاءاتها بالحياد، حافظت الصين على دعمها لروسيا في شكل مشتريات من الطاقة والحماية الدبلوماسية في الأمم المتحدة. كانت هناك تقارير تفيد بأن الصين تزود روسيا بمعدات عسكرية غير فتاكة، وحذرت الولايات المتحدة الصين من المضي قدما من خلال توريد الأسلحة. منذ اندلاع الحرب، زادت التجارة الثنائية بنسبة 36 في المائة. وواصلت الدولتان تدريباتهما العسكرية المشتركة في أماكن مثل المحيط الهندي وبحر العرب.
لكل هذه الأسباب، لا تعتبر الصين في نظر الغرب وسيطا موضوعيا عندما يتعلق الأمر بالحرب في أوكرانيا. ومع ذلك، هذا لا يعني أنه لا يمكن تصورها تلعب دورا أساسيا في أي مفاوضات في نهاية المطاف.
كانت كييف، على الرغم من تشككها، أكثر تقبلا لخطة الصين المكونة من 12 نقطة من الولايات المتحدة، قائلة إنها كانت مفتوحة الصدر لأجزاء منها. قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إنه يريد مناقشة الخطة مع شي.
بعد كل شيء، يحتاج بوتين إلى شي أكثر مما يحتاج شي إلى بوتين. منذ بدء الحرب، أصبحت روسيا معزولة بشكل متزايد سياسيا واقتصاديا، وتأتي الصين باستمرار لإنقاذها. في هذه العملية، جعلت روسيا الشريك الصغير والطالب المساعدة في علاقتهما.
علاوة على ذلك، لا تدعم بكين موسكو انطلاقا من العلاقات التاريخية العميقة أو القيم المشتركة، بل على العكس من ذلك، فإن الصداقة الحميمة على «مستوى السطح» بين الزعيمين تحجب التنافس التاريخي بين البلدين. علاقتهما هي علاقة تقوم على مشاركة عدو مشترك – الولايات المتحدة.
أظهر اجتياح أوكرانيا أن هناك في الواقع حدودا «لصداقة الصين وروسيا البدون حدود»، كما وصفا علاقتهما قبل أسابيع فقط من الاجتياح الروسي. وجدت بكين نفسها مدفوعة إلى زاوية دبلوماسية، مع عواقب سياسية واقتصادية محتملة بغض النظر عن المسار الذي تختاره.
إن الوقوف مع موسكو للنهوض بهدفهما المتبادل طويل الأجل المتمثل في إضعاف الغرب سيكون في نهاية المطاف غير متوافق مع تعميق العلاقات الاقتصادية مع أوروبا، إنها أولوية للصين وهي تخرج من سياستها «صفر كوفيد».
يأمل البعض في أوروبا أن تأثير الحرب على مكانة الصين يمكن أن يفوق في نهاية المطاف فوائد شراكة شي مع بوتين. معظمهم أكثر حذرا ويشككون في أن هذه الصداقة غير المتكافئة ستترجم إلى سلام لأوكرانيا. من وجهة النظر هذه، قد تستخدم الصين نفوذها، ولكن ليس في السعي لتحقيق السلام. بدلا من ذلك، ستكون المصالح الجيوسياسية والاقتصادية للصين أولوية بكين.
مرة أخرى، هذا لا يعني أنه لا يوجد مكان لبكين في محادثات السلام. وقد يكون هناك وقت يتماشى فيه السلام في أوكرانيا مع مصالح بكين العاجلة. ولكن في الوقت الحالي، تتمثل النتيجة الملموسة لزيارة شي في علاقات اقتصادية أقوى بين الصين وروسيا الخاضعة للعقوبات وإضفاء الشرعية على متهم رسمياً من محكمة لم تعترف روسيا بها أصلاً.

 

هدى الحسيني

تفكيك الشركات التقنية

في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، أطلقت الحكومة الصينية حملة شرسة حاربت فيها الميول الاحتكارية للشركات التقنية. على رأس هذه الشركات كانت «علي بابا»، التي أُوقف الطرح الأولي لذراعها المالية (آنت غروب)، وغرمت بمبلغ فلكي قارب 2.8 مليار دولار بسبب الاحتكار. وأعلنت الحكومة الصينية في مارس (آذار) 2021، أنها ستشدد القوانين بمكافحة الاحتكار، لتستحدث بعدها بأشهر قوانين جديدة تستهدف مكافحة المنافسة غير العادلة. بعد سنتين ونصف من بداية الحملة، جاءت نتائج هذه الإجراءات، وكانت بإعلان «علي بابا» الأسبوع الماضي تقسيم الشركة إلى ست شركات منفصلة حسب الأنشطة التجارية، لكل شركة منها رئيس تنفيذي، ومجلس إدارة خاص بها، لتكون بذلك نهاية دوامة عانت منها «علي بابا»، وخسرت خلالها أكثر من ثلثي قيمتها السوقية. ردة فعل السوق كانت إيجابية من إعلان «علي بابا»، فارتفعت أسعار الأسهم، وساد التفاؤل بين أوساط المساهمين، لا سيما أن الشركة أوضحت في إعلانها أن هذا التقسيم سيكون مفيداً للمساهمين الذي ستعظم ثروتهم بعد انطلاق الشركات الست، وطرحها للاكتتاب في المستقبل.
حالة «علي بابا» أعادت طرح موضوع تفكيك الشركات التقنية العملاقة مرة أخرى، وهو موضوع كان في أوجه إبان الانتخابات الأميركية السابقة عام 2019؛ حيث تمحورت حملة المرشحة الديمقراطية (إليزابيث وارن) حول تفكيك الشركات التقنية إلى شركات أصغر. ولدى (وارن) المعرفة العميقة حتى تقترح هذا الإجراء الذي يبدو للبعض كأنه اقتراح شعبوي لا يراد منه إلا جذب الشعبية، وكسب الأصوات. فقد كانت قائدة الفريق الذي أنشأ مكتب الحماية المالية للمستهلك بعد أزمة عام 2008، ولديها الخبرة الكافية في المواجهات والصدامات مع شركات «وول ستريت».
ويجادل الذين يريدون تقسيم الشركات التقنية، أن هذه الشركات لديها من البيانات ما يجعلها أقوى من أن تُنافس من الشركات الصغرى، وهذه البيانات تأتي من فروع الشركة الكثيرة، وميزة الاطلاع على بيانات المستخدمين، وإعادة استخدام هذه البيانات لتطوير الشركة بشكل لا يتأتّى للشركات الصغيرة. السبب الآخر – وهو أحد دوافع الحكومة الصينية لتفكيك «علي بابا» – أن هذه الشركات أصبحت تملك قُوى لا تمتلكها حتى الدول، وتحولت هذه القوّة من قوة سوقية إلى قوة سياسية، فأصبح للشركات نفوذ سياسي لا يستهان به، كما غدت أحد أهم اللاعبين في جماعات الضغط (اللوبيات)، وهو على الأرجح ما عطّل القرار الأميركي في تفكيك هذه الشركات. أحد الأسباب كذلك أن هذه الشركات، ومع ادعائها بدعم الابتكار، إلا أنها وبهيمنتها على السوق، وقمعها للمنافسين لا تدعم إلا الابتكار القائم داخل أسوارها والموجّه بتوجهها الخاص، والأمثلة كثيرة على شركات تقنية استحوذت على أخرى ناشئة، وأنهت جميع أنشطتها بهدف قمع منافستها، ولو كانت هذه الشركات العملاقة أقل حجماً لما كانت لها القدرة على هذه الاستحواذات.
أما الذين لا يرون صحّة تفكيك الشركات العملاقة فهم يرون أن أول تأثير لهذا الإجراء هو زيادة التكاليف على المستهلك؛ فكفاءة الشركات الكبيرة تقلل من تكاليف تشغيلها، وتفكيكها إلى شركات أصغر يزيد التكاليف. كما أن الشركات الكبرى لديها الإمكانية والملاءة المالية المناسبة للاستثمار في البحث والتطوير على المدى الطويل (أكثر من عشر سنوات)، بينما تحد القدرة المالية الشركات الصغرى من الدخول في هذه الاستثمارات.
إن ما فعلته الصين بتفكيك «علي بابا» خلال سنتين ونصف، يناقشه العالم الغربي – وهو مقتنع بجدواه – منذ أكثر من 7 سنوات. ومع أن الولايات المتحدة تحديداً لها خبرة سابقة في تفكيك الشركات العملاقة بهدف منع الاحتكار مثل ما حدث مع شركة «AT&T» فإنها لم تتخذ أي إجراء تجاه شركاتها التقنية الحالية. وقد سبق للاتحاد الأوروبي أن هدد بتفكيك هذه الشركات في حال لم تلتزم بالأنظمة الأوروبية، إلا أن ذلك لا يتعدى كونه تهديداً. ويبدو أن الشركات التقنية كانت أذكى كثيراً من الحكومات الغربية خلال السنوات الماضية، فهي قد دمجت عملياتها وأنشطتها، بل حتى ملكياتها الفكرية ليكون من الصعب على الحكومات تفكيكها في المستقبل، ولكن يبدو أن الحكومة الصينية، بما لديها من قوة تنفيذية، تمكنت من هذا الفصل للشركات التقنية. وتبقى السوق تنتظر القوانين التي تفصل في تبادل البيانات بين شركات «علي بابا» الست، والذي يعد أهم نتيجة لهذا التفكيك، فلو كان تبادل البيانات بين هذه الشركات كما هو الآن، لما كان لهذا التفكيك أي داعٍ.

د. عبد الله الردادي

البنك الدولي: اقتصاد العالم ذاهب إلى “عقد ضائع”

اعتاد العالم على سماع التوقّعات الاقتصاديّة المتشائمة خلال السنوات الثلاث الماضية، بعدما تظافرت مجموعة من العوامل لتفرض على الاقتصاد العالمي ضغوطاً قاسية لم نشهدها منذ عشرات السنين. إلا أنّ تقرير البنك الدولي الأخير، المعنون بـ”تراجع آفاق النمو على الأجل الطويل: الاتجاهات والتوقعات والسياسات”، قدّم للمرّة الأولى تقييمًا شاملًا لمعدلات النمو الاقتصادي العالمي المحتملة على المدى البعيد، في أعقاب جائحة كورونا والغزو الروسي لأوكرانيا، وما يشهده العالم اليوم من سياسات نقديّة انكماشيّة تحاول ضبط معدلات التضخّم.

أمّا أخطر ما وصل إليه التقرير، فهو أنّ أقصى معدّل للنمو على المدى الطويل، سينخفض إلى أدنى مستوياته منذ ثلاثة عقود بحلول العام 2030. وهذا التراجع، قد يكون أشد حدّة أو أقسى، في حال حدوث أزمة ماليّة عالميّة أو ركود طويل الأجل، حتّى ذلك الوقت، وهذا محتمل بشدّة طبعًا. وفي النتيجة، لخّص البنك الدولي الوضع بعبارات حسّاسة لا يفترض تجاهلها: “قد نكون أمام عقدٍ ضائع للاقتصاد العالمي. إن التراجع المستمر في النمو الاقتصادي، سيكون له تداعيات خطيرة على قدرة العالم على التصدّي لمجموعة من التحديات، كالفقر المدقع وتباين مستويات الدخل وتغيّر المناخ”.

نهاية ثلاثة عقود سعيدة
عاش العالم ثلاثة عقود من النمو الاقتصادي العالمي المستدام، منذ العام 1990. فعلى مدى هذه المدّة الطويلة، تمكّن العالم من خفض معدلات التضخّم، وزيادة مستويات الدخل، ورفع إنتاجيّة القطاعات الاقتصاديّة المختلفة، كما انخفضت معدلات الفقر المدقع العالميّة على نحو ملحوظ. في النتيجة، تمكنت ربع الاقتصادات النامية من الانتقال إلى مستوى دخل مرتفع، خلال جيل واحد.

اليوم، بات كل ما يجري من تحوّلات اقتصاديّة يدفع الاقتصاد العالمي بالاتجاه المعاكس تمامًا. فخلال السنوات العشر التي سبقت تفشّي وباء كورونا، بدأ الانخفاض العالمي تدريجيًّا في معدلات الإنتاجيّة الاقتصاديّة، والتي تؤثّر بشكل تلقائي على معدلات نمو الأجور والرواتب، وهو ما بدأ بإثارة القلق تجاه آفاق النمو الاقتصادي العالمي.

وخلال العقد الراهن، أي بين العامين 2020 و2030، من المتوقّع أن تنخفض معدلات نمو الإنتاجيّة إلى أدنى مستوى لها على الإطلاق منذ 23 سنة. مع الإشارة إلى أنّ معدلات الإنتاجيّة تقيس كميّة السلع والخدمات التي يمكن إنتاجها من خلال كميّة معيّنة من المدخلات (أي العمالة والمواد الأوليّة).

في الوقت نفسه، تتراجع اليوم معدلات الاستثمار إلى حدود مقلقة. فبين العامين 2022 و2024، من المتوقّع أن يبلغ معدّل الاستثمار السنوي نحو نصف المعدلات السنويّة، التي حققها العالم خلال العقدين الماضيين. كما ستستمر القوّة العاملة بالنمو بتواضع، في الدول المتقدمة والكثير من الأسواق الناشئة والدول النامية، نتيجة تراجع معدلات الولادات. وفعاليّة القوّة العاملة، تأثّرت أساسًا بالصدمات الصحيّة التي تعرّضت لها، وبحالات إقفال المدارس خلال الفترة الماضية، وتراجع معدلات ساعات التعليم، وغيرها من العوامل. أمّا معدلات التجارة الدوليّة، التي نمت بنحو ضعفي معدلات النمو الاقتصادي بين 1990 و2011، فتعاني اليوم للنمو بمعدلات النمو الاقتصادي نفسها.

نهاية العقود الثلاثة السعيدة، حسب البنك الدولي، هي ما سيقودنا نحو عقدٍ ضائع. وهذا لن يشمل بعض الدول والمناطق حول العالم، كما جرى في الماضي، بل سيشمل العالم بأسره من دون استثناء.

انخفاض حاد في النمو الاقتصادي العالمي
وبالأرقام، حسب التقرير، “من المتوقع أن ينخفض متوسط النمو العالمي المحتمل، لإجمالي الناتج المحلي بين عامي 2022 و2030، بنحو ثلث المعدل الذي كان سائدًا في العقد الأول من هذا القرن (أي بين عامي 2000 و2010)، ليصل إلى 2.2% سنوياً”. مع الإشارة إلى أنّ هذا المعدّل كان يبلغ حدود 3.5% بين عامي 2000 و2010.

وبالنسبة للاقتصادات النامية بالتحديد، سيكون الانخفاض حادًا بالدرجة نفسها: من 6% سنوياً بين عامي 2000 و2010، إلى 4% سنوياً خلال الفترة المتبقية من هذا العقد (أي حتّى نهاية 2030). وسيكون هذا التراجع أشد حدة في حالة حدوث أزمة مالية عالمية أو ركود اقتصادي. بمعنى آخر، لا تأخذ كل هذه التوقّعات بالاعتبار احتمالات حصول انهيارات اقتصاديّة استثنائيّة أقسى وأشد.

ويشير التقرير إلى مجموعة من الأحداث التي ضغطت على الاقتصادات العالميّة بأسرها خلال السنوات الثلاث الماضية: من تفشّي الوباء خلال العام 2020، إلى الغزو الروسي لأوكرانيا، وصولًا إلى سياسات رفع الفوائد وامتصاص السيولة وغيرها من الإجراءات الإنكاماشيّة التي قامت بها المصارف المركزيّة الغربيّة منذ العام 2022، بعدما توسّعت في تقديم رزم الدعم وضخ السيولة خلال فترة تفشّي الوباء. وفي هذا الإطار، ساهم رفع الفوائد خلال الفترة الماضية في الوصول إلى أقصى مستوى من التشديد النقدي منذ أربعة عقود من الزمن.

أمّا السياسات الماليّة للحكومات، فباتت أقل دعمًا لمتطلّبات النمو، بعدما تدهورت توازنات الميزانيّات العامّة للدول خلال الأزمة عام 2020، فيما ارتفع مستوى الديون الحكوميّة إلى مستويات تاريخيّة منذ ذلك الوقت. وأمام كل هذه الضغوط والصدمات التي تعرّض الاقتصاد العالمي، انخفضت معدلات النمو بشكل قاسي، بعد الركود الذي شهده العالم عام 2020.

إجراءات مطلوبة على المدى الطويل
ومع ذلك، يشير التقرير إلى أنّ هناك ما يمكن فعله لتفادي هذا السيناريو المتشائم، إذ أن النمو المحتمل لإجمالي الناتج المحلي العالمي “يمكن زيادته بما يصل إلى 0.7 نقطة مئوية، أي إلى متوسط سنوي قدره 2.9%، إذا اعتمدت البلدان المختلفة سياسات مستدامة موجهة نحو النمو”. ومن هذه الإجراءات التي يعددها التقرير، مثلًا:

– زيادة الاستثمارات في مجالات مثل النقل والطاقة، والزراعة والصناعات التحويلية المراعية للمناخ، وأنظمة الأراضي والمياه. هذا النوع من الاستثمارات المتوافقة مع الأهداف المناخية الرئيسية، يمكن لها أن ترفع النمو المحتمل بنسبة تصل إلى 0.3 نقطة مئوية سنوياً، فضلاً عن تعزيز القدرة على الصمود في وجه الكوارث الطبيعية في المستقبل.

– خفض تكاليف التجارة التي ترتبط في معظمها بالشحن البحري والخدمات اللوجستية واللوائح التنظيمية، والتي تؤدي فعليًا إلى مضاعفة تكلفة السلع المتداولة عالمياً اليوم. ويمكن للبلدان التي ترتفع فيها تكاليف الشحن واللوجستيات أن تخفض تكاليفها التجارية إلى النصف من خلال اعتماد اتفاقات تيسير التجارة، وغيرها من الممارسات المعتمدة في البلدان التي تعاني من أدنى تكاليف للشحن واللوجستيات.

– تعزيز قطاع الخدمات، بما يسمح لهذا القطاع بأن يكون المحرك الجديد للنمو الاقتصادي. فقد قفزت صادرات الخدمات المهنية المقدمة رقميًا، والمتعلّقة بتكنولوجيا المعلومات والاتصال، إلى أكثر من 50% من إجمالي صادرات الخدمات في عام 2021، مقارنة بـ40% في 2019.

– زيادة المشاركة في قوة العمل، إذ يُعزى نحو نصف التباطؤ المتوقع في النمو المحتمل لإجمالي الناتج المحلي حتى عام 2030 إلى تغير الأوضاع الديموغرافية، بما في ذلك تقلص عدد السكان في سن العمل وتراجع المشاركة في القوى العاملة مع تقدم المجتمعات في العمر. في بعض المناطق -مثل جنوب آسيا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا- يمكن زيادة معدلات مشاركة النساء في القوى العاملة، إلى نفس معدلات جميع اقتصادات الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية، بما يسمح بتسريع وتيرة النمو المحتمل لإجمالي الناتج المحلي بحدود 1.2 نقطة مئوية سنوياً بين عامي 2022 و 2030.

– يجب على واضعي السياسات إعطاء الأولوية للحد من التضخم، وضمان استقرار القطاع المالي، وخفض الديون، واستعادة الحصافة في المالية العامة. ويمكن لهذه السياسات أن تساعد مختلف البلدان على اجتذاب الاستثمارات من خلال تعزيز ثقة المستثمرين في المؤسسات الوطنية وسياساتها.

أمّا أهم توصيات التقرير، فهي ضرورة تعزيز التعاون العالمي، لتحقيق التكامل والتعاون بين اقتصادات مناطق العالم المختلفة. فقد ساعد التكامل الاقتصادي الدولي على دفع عجلة الرخاء العالمي لأكثر من عقدين منذ عام 1990، لكنه تعثر لاحقاً، بعد أن تنامت مؤخرًا ظواهر الحروب التجاريّة والقيود على التجارة الدوليّة، وتراخي الدول في تنفيذ التزاماتها المرتبطة بالمناخ. ففي النهاية، وكما يشير التقرير، يدين سكّان الأرض اليوم “للأجيال القادمة بصياغة سياسات يمكنها تحقيق نمو قوي ومستدام وشامل للجميع”، وهو ما يفرض القيام بخطوات جريئة وجماعيّة لتحفيز النمو المستدام على المدى البعيد.

علي نور الدين

غاز شرق المتوسط

تُعدّ أوروبا السوق الأفضل لغاز شرق المتوسط؛ نظراً للتقارب الجغرافي ما بين المنطقتين، ومن ثم ركزت معظم الدراسات على تصدير غاز شرق المتوسط إلى أوروبا، لكن في الوقت نفسه برز عاملان مهمان أضيفا إلى هذه الفرضية: هل الاحتياطات الأكيدة كافية لتلبية الطلب الأوروبي؟ وماذا عن الطلبين المحلي والإقليمي؟ وقد أضيف مؤخراً «العامل الأوكراني»؛ بمعنى إمكانية تعويض إمدادات الغاز الروسية التي قررت أوروبا مقاطعتها.
ويتوجب عند دراسة تصدير غاز شرق المتوسط إلى أوروبا، الأخذ بنظر الاعتبار، وسيلة التصدير (عبر أنبوب يَعبر البحر الأبيض، وما هو الطريق الأنسب لهذا الأنبوب؟) وإمكانية تسييل الغاز (كما يجري حالياً في مصر)، ومن ثم شحنه إلى أوروبا. هذه العوامل، وكثيرٌ غيرها من العوامل الجيواستراتيجية (هل يتوجب التصدير خلال خط أنابيب يمتدّ عبر قبرص، ومن ثم اليونان، أم خط أنابيب بحري إلى تركيا حيث يتم ربطه هناك مع أحد الخطوط البرية العاملة حالياً عبر دول جنوب وجنوب شرق أوروبا؟)، وأخيراً هناك مسألة تكاليف المواصلات أو مصانع التسييل، وأثرها على السعر النهائي للغاز.
يطرح السؤال الأول نفسه تلقائياً: هل الاحتياطات المؤكَّدة لغاز شرق المتوسط كافية لتلبية الطلب الأوروبي، وفي الوقت نفسه تلبية الطلب المحلي الإقليمي للغاز، حيث السوقان الضخمتان المصرية والتركية من جهة، والأسواق الأردنية والفلسطينية والإسرائيلية واللبنانية والقبرصية حيث لا تتوفر مصادر طاقة وافية أخرى معروفة حتى الآن. لقد أصبح الغاز بفضل سعره المنافس للنفط والفحم ودوره بصفته وقوداً «نظيفاً»، مقارنة ببقية الوقود الأحفوري، هو العنصر المعتمَد عليه في تزويد محطات توليد الكهرباء والمصانع بالوقود.
بلغ مجمل الاحتياطي الغازي المؤكَّد المكتشَف حتى الآن في مياه مصر وإسرائيل وقبرص حوالي 2400 مليار متر مكعب، أو نحو 85 تريليون قدم مكعب، وهذا الرقم مؤهَّل للارتفاع نتيجة استمرار الاكتشافات. وتشكل طاقة التسييل المصرية أكبر إمكانية حالياً لتصدير الغاز من شرق المتوسط، ويتوقع أن تزداد الطاقة التصديرية الغازية من شرق المتوسط إلى حوالي 50 مليار متر مكعب بحلول أوائل عقد الثلاثينات.
من الجدير بالذكر أن دول السوق الأوروبية أنتجت نحو 210 مليارات متر مكعب من الغاز، أو 38 % من الطلب في عام 2021. وفي الوقت نفسه، صدّرت روسيا إلى أوروبا عبر شبكة الأنابيب نحو 167 مليار متر مكعب، أو نحو 30 % من مجمل الإمدادات الغازية لأوروبا البالغة 551 مليار متر مكعب، الأمر الذي يعني أن احتياطيات شرق المتوسط وافية لكن متأخرة لتلبية الطلب الأوروبي (الذي بحاجة سريعة لتعويض الغاز الروسي).
من المعروف أن التقنيات الحديثة تعتمد أكثر وأكثر على الكهرباء. هذا معناه ازدياد استهلاك الكهرباء سنوياً، مما يعني بدوره أن دول شرق المتوسط ستحتاج إلى طاقة كهربائية أكثر مستقبلاً، مع ازدياد اعتمادها على الكهرباء، وخصوصاً في تلك الدول، ومنها ما يعاني عجزاً كهربائياً فادحاً غير مسبوق؛ بمعنى أنه مع زيادة استهلاك السيارة الكهربائية وكثير من السلع الاستهلاكية المعتمدة على الكهرباء، يتوجب أيضاً الأخذ بنظر الاعتبار الزيادة السريعة المتوقعة للاستهلاك الداخلي والإقليمي للغاز.
تستفيد الدول المصدِّرة للغاز في شرق المتوسط من الأسواق الإقليمية عبر شبكات وأنابيب قصيرة المدى وقليلة الكلفة نسبياً. وبالفعل، نجد الآن أن مصر والأردن وإسرائيل تزوِّد الأغلبية الساحقة من محطاتها الكهربائية بالغاز.
هذا، وتبقى المحطة الكهربائية الوحيدة في مناطق السلطة الفلسطينية، محطة كهرباء غزة التي تزوِّدها إسرائيل بالغاز، تحت رحمة إسرائيل في إيقاف وإيصال الإمدادات وفق ضغوط السياسات الإسرائيلية. وتبقى الضفة الغربية دون محطة كهرباء حتى الآن، حيث تمدُّها محطة غزة بالكهرباء، بالإضافة إلى الاعتماد على الطاقة الشمسية. ويتوفر لدى السلطة الفلسطينية حقل غاز مكتشَف في بحر غزة البحري، أوقفت إسرائيل تطويره. ورغم احتياطات الحقل الضئيلة، يمكن أن يزوّد كلاً من غزة والضفة الغربية بالوقود الكافي، في حال سماح إسرائيل بتطويره.
المسألة المهمة في الوقت الحاضر هي الطلب الأوروبي للغاز في ظل حرب أوكرانيا. وأقطار السوق الأوروبية تختلف في سياساتها الطاقوية المستقبلية، إذ إن هناك مصالح اقتصادية مختلفة فيما بينهم، وخصوصاً فرنسا وألمانيا وحلفاءهما. أدى اختلاف قطاع الطاقة الأوروبي إلى تباين في سياساتها المستقبلية، إذ يدور حالياً نزاع بين ألمانيا وفرنسا وحلفائهما الأوروبيين حول موعد إيقاف بيع سيارات محرك الاحتراق الداخلي، ليكون في عام 2035 كما تطالب فرنسا، أو في موعد لاحق كما تدعو ألمانيا التي تطالب، في الوقت نفسه، باستمرار استعمال سيارات محرك الاحتراق الداخلي «وقوداً نظيفاً» بدلاً من «تخريدها». وقد برز، خلال الأسبوعين الماضيين، خلاف جديد بين الدولتين الأوروبيتين الكبريين حول مدى اعتماد الطاقة النووية، بصفة طاقة مستدامة، كبقية الطاقات المستدامة التي يجري اعتمادها للمستقبل. فألمانيا تُعارض استعمال الطاقة النووية، بينما لدى فرنسا العشرات من المفاعلات، وتصدِّر الكهرباء لدول الجوار.
يستمر الاعتماد على الغاز في أوروبا، على الأقل في مرحلة «تحول الطاقة». المشكلة أن أوروبا الشمالية، ولا سيما ألمانيا، والنمسا، وهولندا، قد اعتمدت كلياً على الغاز الروسي المستورد عبر الأنابيب. هذا يعني أن أي تغيير في الإمدادات سيتطلب بعض الوقت لتشييد موانئ ومنشآت لاستقبال الغاز المُسال. وقد بدأت ألمانيا فعلاً بالتشييد اللازم خلال سنتين، وبكلفة نحو 6 مليارات يورو. أما دول أوروبا الجنوبية فوضعها أحسن، إذ تربطها منذ سنوات أنابيب غاز عبر البحر الأبيض، وخصوصاً من الجزائر (حيث تزوّد أيضاً دول أوروبا الجنوبية بالغاز المسال)، بالإضافة إلى كميات إضافية عبر الأنابيب من الجزائر وليبيا والغاز المسال عبر مصر.
تزور وفود أوروبية دولاً مصدّرة للغاز لتعويض الإمدادات الروسية. ورغم أن الدول الغازيّة مستعدّة للتصدير، وخصوصاً الغاز المسال للدول خارج منطقة البحر الأبيض، فهناك عقبة رئيسة تواجه الأقطار الأوروبية: مدة العقود التي عادةً تتراوح نحو عقدين أو أكثر من الزمن، نظراً للمصاريف الباهظة التي تتحمّلها الدولة المصدِّرة، ومحاولة الأوروبيين تقليص هذه الفترة إلى نحو 15 سنة، الأمر الذي تعتبره الدول المصدرة غير اقتصادي لها. وهناك طبعاً المفاوضات حول المعادلة السعرية للغاز.

وليد خدوري

ما المقصود بـ التيسير الكمي؟ وهل يسبب التضخم؟

التيسير الكمي (QE) عبارة عن أداة من أدوات السياسة النقدية تستخدمها البنوك المركزية مثل الاحتياطي الفدرالي الأميركي لمعالجة أزمة الانكماش وتباطؤ النمو الاقتصادي.

وبهذه الأداة، يشتري البنك المركزي الأوراق المالية (سندات الخزانة وأوراق الرهن العقاري) في محاولة لخفض أسعار الفائدة وزيادة المعروض من الأموال وإنعاش المزيد من الإقراض للمستهلكين والشركات، ومن ثم تحفيز النشاط الاقتصادي والحفاظ على تدفق الائتمان.

عندما يقرر البنك المركزي استخدام التيسير الكمي، فإنه يقوم بعمليات شراء واسعة النطاق للأوراق المالية، مثل السندات الحكومية وسندات الشركات وحتى الأسهم.

ويؤدي هذا القرار إلى نتائج قوية من بينها زيادة المعروض النقدي المتداول وخفض أسعار الفائدة طويلة الأجل، وبالتبعية، يقلل ذلك من تكلفة الاقتراض مما يحفز الاقتصاد.

من خلال شراء سندات طويلة الأجل، يهدف البنك المركزي إلى خفض أسعار الفائدة على المدى الطويل في السوق. بالمقارنة،فإن سياسة أسعار الفائدة تستهدف خفض الفائدة على المدى القصير والتي تفرضها البنوك على بعضها البعض مقابل قروض الليلة الواحدة.

أما استخدام الفائدة على المدى الطويل، فإنه يؤدي إلى الحفاظ على تدفق الائتمان لسنوات طويلة.

وخلال فترة الركود العظيم (الأزمة المالية العالمية)، تم تخفيض سعر الفائدة على الإقراض قرب الصفر لتشجيع الإقراض، ولكن كان من الصعب خفض الفائدة إلى نطاق سالب.

وبالتالي، كان على الفدرالي الأميركي البحث عن وسيلة أخرى، ومن هنا كانت الحاجة إلى التيسير الكمي، وبدأ في شراء الأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري (MBS) وسندات الخزانة لمنع الاقتصاد من الجمود.

التيسير الكمي يبعث برسالة قوية إلى الأسواق

ترسل البنوك المركزية مثل الاحتياطي الفدرالي رسالة قوية إلى الأسواق عندما تختار التيسير الكمي، فإنهم بذلك يخبرون المستثمرين والمتداولين أنهم لا يخشون الاستمرار في شراء الأصول للحفاظ على أسعار الفائدة منخفضة.

ويقول بيل ميرز، رئيس أبحاث الدخل الثابت في الولايات المتحدة: “إنها إشارة قوية إلى أن الفدرالي يريد تحفيز النمو الاقتصادي وأنه يؤثر بقوة على أسواق رأس المال وأسعار الأصول”.

كما يتم الاستعانة بالتيسير الكمي خلال فترات عدم اليقين أو الأزمة المالية التي يمكن أن تتحول إلى حالة من الذعر في السوق، فهذه الأداة تهدف إلى معالجة المخاوف الفورية في الأسواق المالية وتجنب سيناريو أسوأ.

كيف يعمل التيسير الكمي؟ وما نتائجه؟

يعمل عن طريق شراء الأصول على نطاق واسع، فعلى سبيل المثال، تمت مواجهة تداعيات جائحة كوفيد -19 من جانب الفدرالي الأميركي عن طريق البدء في شراء سندات الخزانة وسندات الشركات ذات الاستحقاقات الأطول أجلاً.

يحدث ذلك من خلال شراء الفدرالي للأصول واستغلال الاحتياطيات في ميزانيته العامة لشراء سندات الخزانة طويلة الأجل في السوق المفتوحة من المؤسسات المالية.

نتيجة لهذه المعاملات، هناك أموال جديدة تدخل الاقتصاد، وتمتلك المؤسسات المالية المزيد من السيولة النقدية في حساباتها، والتي يمكنها الاحتفاظ بها، أو إقراضها للعملاء أو الشركات، أو استخدامها لشراء أصول أخرى.

كما ذكرنا سابقاً، ينتج عن التيسير الكمي زيادة السيولة في النظام المالي مما يحول دون حدوث مشاكل في النظام المالي، مثل أزمة الائتمان.

أيضاً، تنمو الثقة في الاقتصاد بشكل أكبر من خلال التيسير الكمي حيث أن الفدرالي وغيره من البنوك المركزية التي تتبنى هذه الاستراتيجية تطمئن الأسواق حيال الاقتصاد ككل.

ما سلبيات التيسير الكمي؟

لا تأتي الرياح بما تشتهي السفن على الدوام، فهناك سلبيات محتملة تنشأ من التيسير الكمي نتناولها فيما يلي:

قد يتسبب التيسير الكمي في حدوث تضخم، وهو ما يعد أكبر خطر على الاقتصاد، فعندما يطبع البنك المركزي النقود، يزداد المعروض المتداول، وهذا ربما يؤدي من الناحية الافتراضية إلى انخفاض في القوة الشرائية للأموال المتداولة بالفعل حيث أن زيادة العرض النقدي تمكن الأفراد والشركات من زيادة طلبهم على نفس الكمية من الموارد، مما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار، وربما بشكل خطير.

كما أن التيسير الكمي ليس مفيدًا للجميع ولا يمكنه تطبيقه على جميع الاقتصادات، وربما يسبب فقاعات الأصول.

ويشكك بعض المحللين في فعالية التيسير الكمي، خاصة فيما يتعلق بتحفيز الاقتصاد وتأثيره غير المتكافئ على مختلف الأسر والشركات.

ومع ذلك، أشار مايكل وينتر ، المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة Leatherback Asset Management ، إلى أن التيسير الكمي كان “فعالًا للغاية” في تثبيت أسعار الأصول وزيادتها في نهاية المطاف في كل من أسواق الدخل الثابت والأسهم. وعندما ينتعش السوق بسرعة، كما حدث في أعقاب السوق الهابطة لعام 2020، يصبح السؤال هو يتوقف الأمر؟

ومن بين مخاطر التيسير الكمي أيضاً أنه قد يؤدي إلى تفاقم عدم المساواة في الدخل بسبب تأثيره على كل من الأصول المالية والأصول العقارية، ويقول وينتر: “لقد أفاد التيسير الكمي أولئك العاملين والمالكين للعقارات عندما ترتفع أسعار الأصول”.

أمثلة على التيسير الكمي

كان بنك اليابان أحد أكثر البنوك حماسة للتيسير الكمي، حيث طبق هذه السياسة لأكثر من عقد من الزمان. كما استخدم البنك المركزي الأوروبي وبنك إنكلترا التيسير الكمي في أعقاب الأزمة المالية العالمية التي بدأت في عام 2007.

وبدأ بنك الاحتياطي الفدرالي في استخدام التيسير الكمي لمكافحة الركود العظيم في عام 2008، ثم أطلق رئيس الاحتياطي الفدرالي وقتها، بن برنانكي، ثلاث جولات مختلفة من التيسير الكمي QE1/QE2/QE3، واشترى الفدرالي ما قيمته أكثر من 4 تريليونات دولار من الأصول بين عامي 2009 و 2014.

صفقة كريدي سويس: المساهمون أوّل الخاسرين وآخر المتكلّمين

بحلول اليوم الثالث بعد فتح الأسواق الإثنين الماضي، ولأوّل مرّة بعد الإعلان عن صفقة إنقاذ مصرف كريدي سويس، بات بالإمكان تلمّس آخر ما جرى من مفاوضات وضغوط قبيل عقد صفقة الاستحواذ. كما بات بالإمكان تلمّس آثار ما جرى على فئات المستثمرين والمساهمين المختلفة، ونوعيّة الخسائر التي ستصيب هؤلاء، وآثار هذه الخسائر على سائر الاقتصادات العالميّة. أمّا أهم ما في الموضوع اليوم، فهو النقاش الدائر حول عدالة الصفقة والمعايير التي قامت على أساسها، خصوصًا أنّها ستؤسّس لنمط جديد في التعامل مع الأزمات المصرفيّة خلال الفترة المقبلة.

مفاوضات الأيّام الأخيرة
خلال اليومين الماضيين، وبعد أن قُضي الأمر وانتهت حكاية كريدي سويس، تسرّبت إلى الأسواق تفاصيل مفاوضات الأيّام الأخيرة قبل عقد صفقة الاستحواذ.

فبحلول يوم الأربعاء الماضي، 15 آذار، اشتدّت الضغوط على المصرف، إلى الحد الذي بات يُنذر بانهيار كريدي سويس فوق رؤوس مودعيه ومساهميه. أُبلغ المصرف البنك السويسري وFINMA (الهيئة الناظمة للقطاع في سويسرا) بحجم السحوبات اليوميّة، والتي كانت قد تخطّت 10 مليارات دولار في ذلك الوقت، ما يعني أنّ كريدي سويس بات في طريقه للإقفال خلال ساعات معدودة ما لم يحصل أي تدخّل رسمي.

إشكاليّة كريدي سويس، كانت في عجزه عن تأمين أي زيادة في رساميله، بل وعدم جدوى هذه الزيادة، بعد حالة الهلع التي ضربت السوق. ثمّة عروض تقدّم بها سابقًا كل من بلاك روك، صاحب الحصّة الوازنة في كريدي سويس، وUBS، المصرف السويسري الوحيد الذي يفوق كريدي سويس من حيث الحجم، إلا أنّ جميع هذه العروض لم تتسم بالواقعيّة، من ناحية قدرتها على معالجة كثافة حجم السحوبات أو إعطاء جرعة من الطمأنينة في السوق.

يوم الأربعاء الماضي، جرى اتصال جمع إدارة كريدي سويس بالبنك المركزي وFINMA ووزيرة الماليّة السويسريّة. وفي الخلاصة، كان من الواضح أن الجهات الرسميّة اختارت أن تلعب لعبة إرسال رسالتين متعارضتين:

– الرسالة الأولى التي تم توجيهها، كانت إلى الأسواق وعموم المودعين، عبر منح المصرف تسهيلات من البنك المركزي بقيمة 54 مليار دولار. كان الهدف هنا القول أن كل شيء عاد إلى ما يرام، بمجرّد منح هذه السيولة للمصرف. وطالما أن المصرف المركزي ورّط نفسه بهذه التسهيلات، بدل إقفال كريدي سويس والبحث في مصيره كما جرى مع مصرف سيليكون فالي، فهذا يعني أن الجهات الرسميّة في سويسرا مازالت على قناعة بإمكانيّة تجاوز الأزمة بسهولة.

– الرسالة الثانية، المعاكسة تمامًا في مضمونها، كانت إلى إدارة المصرف: قرض الـ54 مليار دولار لن يكفي لتمويل السحوبات لأكثر من بضعة أيّام. والمطلوب بت صفقة بيع المصرف بحلول عطلة نهاية الأسبوع، وقبل فتح الأسواق يوم الإثنين. باختصار، من غير المسموح أن يعمل كريدي سويس على هذه الحال لأكثر من يومي عمل، أي يومي الخميس والجمعة الماضيين. وكان الجميع يدرك أن الجهة المشترية، لن تكون سوى UBS، المصرف الوحيد القادر على إتمام صفقة من هذا النوع.

في اليوم نفسه، أي يوم الأربعاء الماضي، جاء الجواب من UBS: نحن مستعدون، ولكن… لن يقبل UBS بشراء كريدي سويس إلا بقيمة رمزيّة لا تتخطى المليار دولار، ومع ضمانات حكوميّة كاملة لصفقة الاستحواذ، وتسهيلات خياليّة من المصرف المركزي، وغيرها من الأحلام الورديّة التي فكّرت بفرضها إدارة UBS في ظل الأزمة القاسية. وكما كان متوقّعًا، ثارت ثائرة المساهمين في كريدي سويس، احتجاجًا على الابتزاز الذي تمارسه إدارة UBS. وبدأت بعض الصناديق الاستثماريّة الأجنبيّة، المساهمة بالمصرف، بالضغط على الحكومة السويسريّة لتفادي هذا السيناريو.

لم يكن هناك أي مجال للعب أو العبث، وجاء الرد واضحًا من البنك المركزي وFINMA ووزارة الماليّة السويسريّة معًا، وفي يوم الأربعاء نفسه: على كل من كريدي سويس وUBS أن يسلّما بالوساطة التي ستقوم بها الجهات الرسميّة السويسريّة، وأن يسلما بصفقة الاستحواذ كما ستقررها هذه الجهات في عطلة نهاية الأسبوع، ومن دون الأخد بالاعتبار حسابات المستثمرين وحملة الأسهم. لن يُترك القرار لإدارة المصرفين، ولا حتّى للمساهمين فيهما. وأي تحدٍّ لهذا المسار، سيفرض إقرار قانون طارئ يجرّد إدارة كريدي سويس من صلاحيّاتها فورًا، ويجرّد المساهمين في المصرفين معًا من صلاحيّة عرقلة الصفقة. ولمزيد من الصرامة، تم إعداد مسودّة القانون على سبيل الاحتياط.

ببساطة، لم يتم الاكتفاء بوضع مساهمي كريدي سويس في طليعة قائمة الخاسرين، كما يفترض أن يكون الحال، بل تم وضعهم (مع مساهمي UBS) في آخر قائمة من يحق له الكلام أو إبداء الرأي. وكان على الجميع أن يرضى، إذ أن إفلاس كريدي سويس كان سيعني تلقائيًا إطلاق موجة من الإفلاسات التي ستطال UBS قبل أي مصرف آخر، بالنظر إلى نوعيّة الهلع الذي سينتج عن هذا السيناريو. ومن الأفضل أن يرضى المساهمون في المصرفين بهذه الصفقة، بدل أن يخسروا كل شيء.

خسائر المساهمين
في النتيجة، وبعد ثلاثة أيّام من المداولات مع المصرفين، بت البنك المركزي وFIMNA بصيغة الصفقة النهائيّة، التي لم يملك المصرفان إلّا الموافقة عليها:

– بلغت قيمة الاستحواذ 3.25 مليار دولار، وليس مليار دولار كما طلب USB. ومع ذلك، مثّلت الصفقة صفعة كبيرة للمساهمين في كريدي سويس، بعدما خسروا 60% من قيمة سهمهم كما كانت في آخر يوم تداول. وستُضاف هذه الخسارة إلى الخسائر السابقة التي مني بها السهم، والتي بلغت 25% من قيمته في آخر أسبوع من التداول، و75% من قيمة السهم في آخر 12 شهر من التداولات. بمعنى آخر، لم يحصّل المساهمون أكثر من 7.5% من قيمة السهم، كما كانت قبل سنة واحدة بالتمام والكمال.

– لن يتم تسديد قيمة أسهم كريدي سويس للمساهمين فيه نقدًا، بل على شكل أسهم في مصرف UBS. مع العلم أن أسهم UBS خسرت بدورها 8.8% من قيمتها، فور عقد الصفقة.

– اقتصرت قيمة الضمانات الحكوميّة على سقف لم يتجاوز حدود 6 مليارات دولار من قيمة موجودات كريدي سويس، ما يعني أن الحكومة السوسريّة لن تغطّي أي خسائر يتحمّلها UBS لاحقًا نتيجة الصفقة إلا ضمن هذا السقف. مع الإشارة إلى أنّ هذه الخسائر قد تنتج عن نوعيّة القروض التي منحها كريدي سويس في الماضي، أو نوعيّة الاستثمارات التي تورّط بها. وبذلك، لم ينجح UBS بفرض كفالة الحكومة للصفقة برمتها كما طلب في البداية.

– ستقتصر التسهيلات التي سيحصل عليها UBS بعد شراء كريدي سويس على 100 مليار دولار فقط، وهو ما سيسمح باستيعاب موجة محدودة من السحوبات، بعد إجراء الصفقة.

– تم شطب نحو 17 مليار دولار من إلتزامات كريدي سويس لحملة السندات القابلة للتحويل إلى أسهم. وهذا الإجراء، أثار حفيظة حملة هذه السندات، الذي اعتبروا أنّ شريحة المساهمين الحاليين يفترض أن تحمل أوّل شريحة من الخسائر حتّى استنفاد قيمة الأسهم، قبل تحميل أي خسائر لحملة السندات. وعلى هذا الأساس، رفضت هذه الشريحة من المستثمرين فكرة تجريدها من قيمة استثماراتها بالكامل، مقابل سداد قيمة الصفقة للمساهمين. ومع ذلك، جرت الصفقة من دون الأخذ بالاعتبار كل هذه الاعتراضات.

– سينتج عن صفقة الاستحواذ مصرف ضخم جدًا، بعد دمج ميزانيّات المصرفين. وستوازي قيمة موجودات هذا المصرف ضعفي حجم الناتج المحلّي السويسري بأسره، ما سيجعله أحد المصارف “الأكبر من أن تسقط” (بمعنى أن السلطات ستحتاج إلى إنقاذ المصرف في حال تعرّضه لأي هزّات في المستقبل).

خسائر المساهمين الأجانب
لن تقتصر تداعيات صفقة الاستحواذ على كريدي سويس على سويسرا أو أوروبا وحدهما، بل ستشمل كبرى المؤسسات والصناديق الاستثماريّة حول أنحاء العالم. فحتّى اللحظة، تم إحصاء ما يلي من خسائر تعرّض لها بعض المستثمرين الأجانب:

– البنك الأهلي السعودي، الذي كان يملك 9.8% من أسهم كريدي سويس، خسر ما يقارب 1.11 مليار دولار، نتيجة الفارق بين سعر شراء الأسهم وسعر بيعها.

– جهاز قطر للاستثمار سجّل خسارة قُدرت بـ3.69 مليار دولار، نظرًا لامتلاكه نحو 6.8% من أسهم كريدي سويس. مع الإشارة إلى أنّ حجم خسائر جهاز قطر للاستثمار تجاوزت حجم خسائر البنك الأهلي السعودي، رغم امتلاكه لحصّة أصغر، كون جهاز قطر للاستثمار اشترى أسهمه بتواريخ قديمة وبأسعار أعلى.

– مجموعة العليان السعوديّة، خسرت 4 مليار دولار في هذه الصفقة، فيما كانت تملك 3.2% من أسهم المصرف.

– شركة بلاك روك الاستثماريّة الأميركيّة، خسرت 2.23 مليار دولار، فيما كانت تملك 4% من قيمة أسهم المصرف.

– نورغس بنك النرويجي خسر 1.22 مليار دولار، بعدما امتلك في السابق 3.1% من قيمة أسهم المصرف.

– صندوق دودج آند كوكس الاستثماري الأميركي، خسر 1.82 مليار دولار، بعدما امتلك 3.3%.

في النتيجة، سيكون على جميع هذه الأطراف أن تتحسّب لخساراتها الناتجة عن الاستثمار في كريدي سويس، وأن تكوّن المؤونات المطلوبة للتعامل مع هذه الخسائر خلال الفترة المقبلة. أمّا الأهم، فهو أن صفقة بيع المصرف ثبّتت أصولاً مستجدّة للتعامل مع الأزمات المصرفيّة، لناحية طريقة التعامل مع مفاوضات الساعة الأخيرة مع مساهمي وإدارات المصارف، وطريقة فرض الحلول السريعة التي تلائم المصلحة العامّة، بمعزل عن مصالح المستثمرين الضيّقة.

علي نور الدين

وظلَّ البنك يربح حتى أفلس!

مع تنوع الأزمات المتعاقبة والمستمرة منذ بداية هذا العقد بين جائحة صحية عالمية، وتدهور جيوسياسي شمل حرباً على أرض أوروبية، وأزمة مناخ بتداعيات مدمرة للطبيعة والبيئة وأسباب المعيشة، وتدني الأداء الاقتصادي العام مع ارتفاع حاد في معدلات التضخم، وتراجع معدلات النمو والوقوع تحت مهددات الركود التضخمي، وتعرض بلدان نامية لمعضلات كبرى في إدارة ديونها الخارجية. وباعتبار أن الأزمات لم تعد تأتي فرادى فأتت معها بصنف من الأزمات التي تكررت على مدار العقود الماضية، ألا وهي الأزمة المصرفية، وهي أزمة غير مفتقدة بحال بعد ما ألحقته بالعالم من نوائب كما حدث في عام 2008، ولكن إرهاصاتها أطلت بقوة خلال الأيام الماضية لتسهم في إرباك الأسواق، وتصيب مودعين ومساهمين في عدة بنوك بالذعر.
وتماماً كحال بنك ليمان براذرز عند سقوطه مشعلاً فتيل الأزمة المالية العالمية، لم يسمع كثيرون عن بنك سيليكون فالي «إس في بي» إلا بعد اضطراب أوضاعه المالية ثم تعرضه للإفلاس. عرف الناس بعد ذلك أن البنك المتهاوي، هو السادس عشر في ترتيب البنوك الأميركية، وأنه قد استمر في العمل لمدة 40 عاماً متخصصاً في تمويل الشركات الناشئة في مجالات التكنولوجيا والتطبيقات الرقمية. وشهد البنك قفزة في أصوله المالية بنحو 3 مرات من 70 مليار دولار في عام 2019 إلى ما يقترب من 210 مليارات دولار في أقل من 3 سنوات. ويسيطر مودعو الجملة من المؤسسات والصناديق المالية على ودائعه بإجمالي 170 مليار دولار، منها 4 مليارات دولار لمودعين أفراد.
ومع انتشار أخبار تعرض الشركة الأم للبنك لخسارة مقدارها 1.8 مليار دولار في آخر عام 2022، وتعثر البنك في تعبئة 2.25 مليار دولار من خلال طرح أسهم لتعزيز رأسماله، تعرّض البنك لهجوم من مودعيه لسحب ما يزيد على 40 مليار دولار في خلال يوم واحد. واشتدت حدة الأزمة بإعلان تعثر بنك سغنيتشر بنيويورك ذي الأصول المالية البالغة 118 مليار دولار، والذي عانى مؤخراً من مشكلات في إدارته، منها زيادة نسبة الودائع غير المؤمنة، وزيادة نسبة الأصول المالية المشفرة في عملياته، وكذلك في التزاماته حتى بلغت 30 في المائة من إجمالي الودائع. وتعرّض البنك الذي تأسس منذ أكثر من عقدين لسحب مفاجئ من ودائعه بلغ 10 مليارات دولار في يوم واحد.
وفي هذه الأثناء تواترت الأنباء القادمة من أوروبا بتداعي أوضاع بنك كريدي سويس السويسري، وهو بنك قديم كبير الحجم بما جعله في قوائم البنوك المصنفة؛ وفقاً لاعتبارات المخاطر النظامية العالمية، أي أن سقوطه قد يؤدي إلى مخاطر على النظام المالي العالمي بتأثير قيمة تعاملاته وتشابك ارتباطاته الدولية. وقد تعرض بنك كريدي سويس مؤخراً لسلسلة من المشكلات مع توقعات باستمرار خسائره، مع رفض كبار المستثمرين فيه لتعزيز رأسماله بما خفض من تصنيفه الائتماني وتقييمه السوقي مع تقلب عنيف في أسعار أسهمه، وارتفاع حاد في تكاليف تمويل نشاطه من خلال إصدار سندات في الأسواق المالية.
تذكرني هذه الوقائع بعبارة رددها بعض أساتذة علم النقود والبنوك العتيدين في وصفهم لتطور أحد البنوك بقولهم: «وظل البنك يعمل بنجاح حتى أفلس». وإذا كانت «حتى» قد حيّرت علماء النحو لاختلاف معناها مع ما يأتي بعدها مجروراً أو منصوباً أو مرفوعاً، لكن في موضوعنا هذا فالتعرف على ما سبق «حتى» من ملابسات شديد الأهمية لفهم تطور عمل البنك المعني، وكيفية تحوله من الربح إلى الخسارة، وتعرضه إلى أزمات سيولة، فساءت لتصبح أزمة ملاءة مالية والعجز عن الوفاء بالحقوق ومن ثم الإفلاس. أما ما سيؤول إليه وضع البنك المفلس فيختلف من حيث طريقة المعالجة، وإن كان هناك اتفاق في الحالتين الأميركية والسويسرية على حماية المودعين بالكامل دون ضرر.
تداعيات التأخر في التقييد النقدي ثم الرفع المتسارع لأسعار الفائدة: بعد فترة من التيسير المالي المفرط إبان التعامل مع الجائحة أصابت زيادات أسعار الفائدة المتعاقبة الأسواق النقدية والمالية باضطرابات وردود أفعال عنيفة في حركة المحافظ المالية، وانتقال الأموال من وعاء إلى آخر بسرعات تجاوزت قدرة بعض المؤسسات المالية على إدارة السيولة ومخاطر الاستثمار، حيث تعرضت بعض المحافظ لانخفاض حاد في قيم السندات طويلة الأجل المحتفظ بها مع رفع أسعار الفائدة، وتعرّضَ مستثمرون وعدة مؤسسات مالية لخسائر، خصوصاً مع هروب إيداعات إلى العوائد الأعلى بأوعية مالية جديدة.
أثر العدوى وهلع الأسواق:
في أجواء مختلفة أكثر استقراراً لم تكن لتبالي السلطات النقدية والمالية فتبادر بنجدة مودعي بنك سيليكون فالي أو بنك سغنيتشر، ولتركوا للتعامل مع الآليات الموجودة بتغطية جزئية للودائع حتى 250 ألف دولار، ثم انتظار قسمة أصحاب الحقوق بعد تصفية البنك إن تبقى من أصوله ومقوماته ما يستحق. ولكن عوامل ثلاثة تدور حول أثر العدوى عجلت بتدخل السلطات الاقتصادية الأميركية: أولها دروس الأزمة المالية العالمية والخبرة التعيسة مع ترك بنك ليمان براذرز ليسقط في عام 2008 مخلفاً وراءه مدمرات للثقة أسهمت في اشتعال الأزمة المالية العالمية من خلال أثر العدوى وهلع الأسواق. ثاني العوامل ما يرتبط بالوضع الحرج للاقتصاد الذي يعاني من التضخم ويصارع احتمالات تراجع النمو والوقوع في براثن الركود التضخمي، فضلاً عن تحديات سياسية واقتصادية أخرى تأتي على أعتاب انتخابات جديدة في الولايات المتحدة جعلت الحكومة تؤثر السلامة باحتواء أزمة جديدة قبل استفحالها. ثالثاً أهمية التجاوب مع سرعة تداول الأخبار والتحليلات المصحوبة بمطالب الحسم السريع قبل انتشار العدوى فعلاً.
طرافة وتساؤلات حول الرقم 250:
بعد الأزمة المالية العالمية حددت القوانين 250 مليار دولار من الأصول المالية لتعريف البنوك الكبيرة التي قد يترتب على الخلل فيها مخاطر «نظامية» على سائر القطاع المالي، وتخضع هذه البنوك لإشراف مدقق واختبارات دورية إضافية على سلامتها وتوفر السيولة بها وقدرتها على مواجهة الصدمات. ولكن بنك سيليكون فالي سعى في عام 2018 مع جهات أخرى لتعديل القانون لإعفائه من هذه القيود بتعديل يستثني البنوك التي تقل أصولها عن 250 مليار من هذه القيود الرقابية، باعتبار أنه لا يشكل مخاطر نظامية. ورغم ذلك بعد سقوط البنك اعتبر هو وبنك سغنيتشر من هذا التصنيف للبنوك الكبيرة، حتى يمكن إنقاذ مودعيهما. والطرفة الأخرى للرقم 250 هي ما تحدده قواعد التأمين على الودائع، بأن تضمن ما لا يتجاوز 250 ألف دولار كحد أقصى للمودع. ولكن في وقت الأزمة اضطرت السلطات النقدية لضمان كافة المودعين والإيداعات من دون حد أقصى.
تدخل غير مسبوق من السلطات النقدية والمالية للتعامل مع أزمة المصارف:
في مواجهة المشكلات الاقتصادية والمالية الحادة ينبغي التدخل السريع الفعال وإلا تحولت لأزمة، أما إذا كان التدخل الحكومي فاشلاً فسوف تتحول المشكلات لكوارث ممتدة الأذى. وفي هذه المرة كان التدخل حاسماً لتهدئة الأسواق، وبث الثقة في مودعي البنوك، ومنع تدهور الأوضاع بما يحاكي أزمة 2008 أو ما هو أسوأ. فتم الإعلان عن حماية كافة الودائع لبنك سيليكون فالي وكذلك بنك سغنيتشر، والتكلفة ستتحملها الهيئة الفيدرالية للتأمين على الودائع، وإتاحة آلية مالية بالبنك الفيدرالي بالتنسيق مع وزارة الخزانة؛ لتوفير السيولة العاجلة المطلوبة في حالة زيادة الطلب على الودائع بما لا تضطر البنوك لبيع أصولها المالية فجأة. كما تدخلت السلطات الرقابية السويسرية لتنسيق استحواذ بنك يو بي إس على بنك كريدي سويس مقابل 3.23 مليار دولار مع إتاحة مائة مليار دولار من البنك المركزي السويسري للبنك المستحوذ وفقاً لما أوردته صحيفة «فاينانشيال تايمز» لتيسير عملية الاستحواذ والوفاء بالالتزامات. واتفق البنك الفيدرالي مع البنك المركزي الأوروبي والبنوك المركزية في المملكة المتحدة واليابان وكندا وسويسرا لإتاحة خط مبادلة يومي لإتاحة السيولة الدولارية للأسواق المالية حال الحاجة إليها، على أن يعمل بذلك فوراً حتى نهاية شهر أبريل (نيسان).
هناك استفادة من بعض دروس الأزمة المالية العالمية بسرعة التدخل لحماية النظام المالي الذي يعد في مجمله أكثر متانة وملاءة مما كان عليه الوضع قبل الأزمة، لكن سيظل النظام المالي محل اختبار لقياس صلابته في التعامل مع الصدمات. وستكون هناك مراجعات لأسباب ما حدث في البنوك المذكورة هل لقصور في نظم الرقابة أم لتقصير في تطبيقها؟ وسيكون هناك نقاش حول الحد الذي يمكن الاتفاق عليه لاعتبار البنك المعني مؤثرا على سلامة النظام المالي ومخاطره، وحول فاعلية نظم التأمين على الودائع. أما بالنسبة لاتجاهات أسعار الفائدة ففي تقديري أن البنك الفيدرالي سيستمر في اتجاه الرفع المتوقع في حدود ربع نقطة مئوية لتأكيد عزمه على السيطرة على التضخم، وإرسال إشارة بأن الوضع المالي مستقر ولا يستدعي تغييراً في السياسة النقدية المرسومة. أما أثر هذا كله على الاقتصاد الحقيقي فأميل إلى أنه سيكون ذا أثر انكماشي بتراجع الطلب من خلال تقييد الائتمان مرة من خلال سعر الفائدة ومرة أخرى باتباع البنوك والرقباء عليها إجراءات أكثر تمحيصاً وحرصاً في استثماراتها، وتوجيه أصولها المالية وإدارة محافظها. أما عن تأثير ذلك كله على البلدان النامية فهو مرتبط بمدى متانة اقتصاداتها، وبمرونة سياساتها في التعامل مع الصدمات المتواترة، وفي ذلك سيناريوهات نتناولها في مقال قادم.

د. محمود محيي الدين

أزمة مصرفية عالميّة؟ لا يؤخذ بكلام المسؤولين؟

لا شكّ أنّ وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين قرأت كتاب سلفها هانك بولسون الذي كان يجلس في مكتبها حين وقعت الأزمة المالية العالمية عام 2008، أثناء ولاية جورج بوش الابن الثانية.

في كتابه “On The Brink” (على شفير الهاوية)، يروي بولسون مذكّرات تلك الليلة العصيبة حين انهار بنك “ليمان براذرز”، وأوشكت على الانهيار بعده أكبر بنوك وول ستريت وكبريات شركات صناعة السيارات. المذهل أنّ ذلك الوزير أتى إلى البيت الأبيض عام 2006 من خلفيّة مصرفية وماليّة بحتة، إذ كان قبل ذلك رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لمصرف “غولدمان ساكس”، ومع ذلك لم يتمكّن من تفادي وقوع الأزمة المالية، على الرغم من وضوح مقدّماتها ومؤشّرات توقّعها حين تُستعرض بأثر رجعي.

يقول بولسون إنّه كان يتوقّع الأزمة، وإنّه أسرّ بذلك للرئيس، لكنّه لم يكن يتوقّع أن تكون بهذه الحدّة وبهذا المدى الشامل. من صفحات ذلك الكتاب يمكن استخلاص قاعدة تصلح كلّما ظهرت مقدّمات لأزمات كبرى: لا تطمئن لما يقوله المسؤول، ليس فقط لأنّه لا يفصح عن كلّ ما يتوقّعه، بل لأنّه في الغالب لا يملك التوقّع الصائب.

قال جانيت يلين أمس إنّ السحوبات من البنوك “الإقليمية” (المتوسّطة الحجم والصغيرة) في بلادها بدأت تهدأ، وإنّ القطاع المصرفي يتّجه إلى الاستقرار بعد الإفلاسين الأخيرين لبنكَي “سيليكون فالي” و”سيغنيتشر”. ذاك هو توقّعها، إلا أنّ الأزمات المصرفية بالذات لها ديناميّتها الخاصة، فالحقائق ليست ما يملكه المسؤولون من أرقام، بل ما تصنعه وقائع السوق لحظة بلحظة.

انهيار “كريدي سويس”

هذا ما ينطبق تماماً على انهيار قصّة المصرف السويسري العريق “كريدي سويس” بعد 166 سنة من تأسيسه. فإذا كانت الحكمة السائدة تقول إنّ “البنك لا تقتله رصاصة، بل تقتله شائعة”، فإنّ النمط الجديد من الأزمات يشير إلى أنّ البنك لا تقتله صحّته المالية، بل تقتله وسائل التواصل الاجتماعي.

في مطلع تشرين الأول الماضي، كان “كريدي سويس” على الورق من أفضل البنوك الأوروبية من حيث المتانة الرأسمالية وفق المعايير الرقابية، ولو أنّه كان في حاجة إلى زيادة رأس المال لإعادة هيكلة أعماله ودعم وحدته الاستثمارية التي كانت تعاني من قلّة النشاط. من دون سابق إنذار، انتشرت شائعات على “تويتر” ومنتديات موقع Reddit في شأن سلامته المالية، وغرّد صحافي أسترالي بأنّ بنكاً كبيراً على وشك السقوط، فاتّجهت الأنظار إلى البنك السويسري ليكون المشتبه به الوحيد، وبعد ذلك انهار سهم البنك.

إثر ذلك تمكّن ثاني أكبر بنك في سويسرا من تخطّي تلك الأزمة، وكان يسير على الطريق الصحيح لإعادة الهيكلة بعدما جمع رأس مالٍ جديداً من أربعة مليارات دولار أواخر العام الماضي، أتى أكثر من ثلثها من البنك الأهلي السعودي، أكبر بنوك المملكة.

شرارة الأزمة الأخيرة القاتلة أتت من الولايات المتحدة. فبعد انهيار بنك “سيليكون فالي” وبنكين آخرين، عادت الشائعات لتضرب “كريدي سويس”، فواجه حملة سحوبات غير مسبوقة للودائع بوتيرة وصلت إلى عشرة مليارات دولار يومياً. مرّة أخرى، لعب “تويتر” دوراً قاتلاً في نشر الأجواء السلبية حول البنك.

قد يبقى الأمر مفهوماً حين يتعلّق الأمر بـ”كريدي سويس”، ففي تاريخ البنك الكثير من الأزمات على مدى العقود الثلاثة الماضية، من استحواذات فاشلة وفضائح في ذراعه الاستثمارية، وصراعات داخلية في مستويات الإدارة العليا، وسوء إدارة ائتمانية، ولو أنّ كلّ ذلك لم يكن السبب المباشر لانهياره. لكنّ أزمة البنوك الأميركية المستجدّة فيها مفارقات أكبر.

الأزمة في أميركا

ما يستوقف في انهيار بنك “سيليكون فالي” أنّ البنك لم يستثمر أموال مودعيه في أصول مسمومة أو عالية المخاطر، على النحو الذي أدّى إلى الأزمة المصرفية العالمية في 2008، والتي نُسبت إلى سوق مشتقّات الرهن العقاري، بل كانت الضربة القاضية للبنك استثماره في سندات الخزينة الأميركية، التي تعدّ عالمياً أكثر الأصول المالية أماناً على وجه الأرض وأعلاها تصنيفاً. لكنّ ما جرى أنّ القيمة السوقية لتلك السندات انخفضت نتيجة سلسلة قرارات رفع الفائدة الأميركية بسرعة غير مسبوقة في التاريخ، من الصفر إلى 4.75% خلال فترة لم تتجاوز 13 شهراً.

وفي لحظة ما اضطرّ بنك سيليكون فالي إلى توفير السيولة، فباع جزءاً من محفظة السندات لديه بخسارة قاربت مليار دولار، فاضطرّ إلى طلب زيادة رأسماله بـ 2.25 مليار دولار، لكن فشلت العملية وحدث ما حدث.

يقول كثير من المحلّلين هذه الأيام إنّ الأزمة الراهنة كان من السهل توقّعها. فحين يرفع الاحتياطي الفدرالي الفائدة لا بدّ أن ينكسر شيء ما في نهاية الأمر، وقد انكسر سوق الرهن العقاري في 2008، وها هو سوق البنوك المتوسّطة الحجم ينكسر الآن.

لكنّ الملاحظة المهمّة أنّ رئيس الاحتياطي الفدرالي كان يتحدّث أمام الكونغرس قبل أيام قليلة من أزمة بنك “سيليكون فالي”، ويمكن الجزم أنّه لم يكن يتوقّع شيئاً ممّا جرى. بل إنّه كان يقول إنّ البيانات الاقتصادية “أقوى من توقّعاتنا السابقة”، وإنّ ذلك قد يستدعي “رفع الفائدة إلى ذروة أعلى ممّا كنّا نتوقّعه في السابق”. وفهمت الأسواق من كلامه أنّ وتيرة رفع الفائدة ستشتدّ. تترقّب الأسواق الآن اختتام اجتماع الاحتياطي الفدرالي مساء اليوم الأربعاء، ويراهن كثيرون على أنّه قد يتخلّى عن رفع الفائدة هذا الشهر لاحتواء التطوّرات.

الخيارات صعبة أمام الاحتياطي الفدرالي، فمعركته مع التضخّم لا يمكن تجميدها أو إيقافها، لكنّ الانتصار فيها سيصبح عديم المعنى إذا تحطّم الاستقرار المالي.

الأزمة الآن ملك الأسواق إلى حدّ بعيد، ووقائع الأيام المقبلة وحدها كفيلة بتحديد كيفية تصرّف المودعين: هل تعود إليهم الثقة، أم تنتقل عدوى السحوبات من بنك إلى آخر؟ يمكن لجيروم باول وجانيت يلين اتّخاذ إجراءات لمنع انهيار بنك أو ضخّ السيولة، لكنّ التحكّم بما يفكّر به الناس مهمّة أصعب في هذا الزمن.

عبادة اللدن

«إقتصادات» العالم تتجه نحو الـ Stagflation

في ظل مشاكلنا المتزايدة في لبنان، وصراعنا اليومي كي نبقى على قيد الحياة، وتركيزنا المضاعف على أزماتنا المتراكمة الإقتصادية والإجتماعية والمالية والنقدية، من المهم ألاّ نغضّ النظر عن الأزمات الدولية، وبالأخص إعادة هيكلة كل اقتصادات العالم، والتغيّرات الجذرية، وأيضاً المعضلات حيال التضخم المفرط الحاصل بالتوازي مع ركود وانكماش الذي يجرّنا على الطريق الشائك نحو الـ Stagflation.

لم تكد الإقتصادات الدولية تبلسم جروحها التي سبّبتها جائحة كورونا بعد سنتين من تجميد كل عقارب النمو والتبادل التجاري الدولي، حتى فوجئت أوروبا والعالم ككل بالحرب الروسية – الأوكرانية، وأبعادها الدولية ونتائجها ليس بالأضرار البشرية والتخريبية فحسب، لكن أيضاً بالتضخم الدولي والركود الناتج عنه.

إن هذا التضخم أدّى مباشرة إلى ارتفاعٍ مخيف في سعر صرف الدولار الأميركي والضغوط على كل البلدان التي تتعامل بالعملة الخضراء. وقد أدّى إرتفاع سعر الصرف هذا، إلى التضخم في هذه البلدان مصحوباً بركود وانكماش.

من جهة أخرى، إن هذه الحرب أدت أيضاً إلى التوصل نحو آفاق دراماتيكية في كل أسعار الموارد الطبيعية، لا سيما النفطية والغازية، وأيضاً الموارد الزراعية ومشتقاتها، مما ساهم في ارتفاع التضخم أكثر في كل بلدان العالم.

هذا التضخّم المفرط الذي أصبح مستداماً ومتزايداً أدى إلى زيادة مباشرة وغير مباشرة في سائر تكاليف الإنتاج والتصدير والتخزين، والذي أدى بدوره إلى إرتفاع أسعار وثمن المبيع، وانعكس أيضاً ارتفاعاً في الكلفة المعيشية وكل تكاليف الحاجات الأساسية لا سيما الطعام والشراب لكل شعوب العالم.

من جهة أخرى، إنّ هذا التضخم أدى مباشرة إلى إرتفاع الفوائد المصرفية التي أدت إلى انخفاض الإستثمارات وانكماش وجمود أكبر دولياً. ومن بعض نتائج هذه الـ Stagflation إرتفاع 27 % من الإفلاسات في الشركات في أوروبا وحدها.
فهذا يعني أن التوترات الدولية الراهنة ستواصل دفع التضخم إلى قمم أعلى، في ظل انكماش وركود متواصل، ولبنان الذي أصبح مدولراً بامتياز ومتّكلاً أكثر فأكثر على العملة الخضراء سيواجه مشكلة إقتصادية دولية جديدة، ستضاف الى أزماتنا الإقتصادية والمالية والنقدية الكارثية.

أما الركود والإنكماش المتزامن مع هذا التضخم فسيوثران مباشرة على المغتربين اللبنانيين، وتدفقاتهم المالية، التي تقترب من 40% – 50% من الناتج المحلي الراهن.
في الخلاصة، لا شك في أن أزماتنا الداخلية تتزايد يوماً بعد يوم، لكن علينا أن يتكوّن لدينا رؤية إقتصادية، كلية وشاملة وماكرو-إقتصادية لرسم خطط واستراتيجيات لمواجهة هذه الأزمات الداخلية، الإقليمية والدولية، على المدى القصير والمتوسط والبعيد. العالم متجه نحو الـ Stagflation بينما لبنان يتابع إستراتيجيته التخريبية الداخلية، والتدمير الذاتي.

د. فؤاد زمكحل

تعافي قطاع الطيران

لو عُبّر عن جائحة «كورونا» بمجموعة من المظاهر لكان الانقطاع عن السفر من أبرزها، ولكانت المطارات المهجورة من أشد هذه المظاهر غرابة، تلك المشاهد التي لم يكن أحد يتخيلها إلا في الأفلام الخيالية كانت واقعاً مخيفاً حينها. مع خلو المطارات من المسافرين شهد قطاع الطيران أزمة عصفت به، ودفعت كثيراً من شركات الطيران إلى الإفلاس، وتغيرت بعدها خريطة قطاع الطيران بشكل ملحوظ. خسائر قطاع الطيران خلال عامي الجائحة 2020 و2021 تعدّت 40 مليار دولار، حتى مع محاولاته لتجاوز الخسائر بتسريح نسبة من موظفيه، كونه من أكثر القطاعات تسريحاً للموظفين، حيث وصلت النسبة إلى نحو 15 في المائة في بعض الشركات.
جاء بعد ذلك عام 2022 برتم مختلف، وأخبار مبشّرة، ونتائج مالية مخالفة تماماً لعامي الجائحة، حيث زادت أرباح أكبر شركات الطيران في العالم على 6 مليارات دولار، وتعدت مبيعات هذه الشركات لعام 2022 مثيلاتها لما قبل الجائحة. فحققت شركة «لوفتهانزا» أرباحاً تشغيلية بنحو 1.5 مليار دولار مقارنة بخسائر تجاوزت 1.7 مليار دولار لعام 2021، بعد أن تضاعفت أعداد المسافرين مقارنة بين العامين. كما أعلنت المجموعة الدولية لخطوط الطيران (وهي المالكة للخطوط الجوية البريطانية) عودتها للربحية لأول مرة منذ الجائحة، ووصلت أرباحها التشغيلية إلى 1.3 مليار دولار مقارنة بخسائر تجاوزت 10 مليارات دولار خلال عامي الجائحة. هذه الأرباح هي نتيجة مباشرة لعودة المسافرين، حيث وصلت حركة المسافرين إلى نحو 91 في المائة من مستويات ما قبل الجائحة، ويتوقع أن تتراوح هذه النسبة بين 95 في المائة و105 في المائة لهذا العام. وهو ما يعني أن قطاع الطيران قد تعافى بالفعل، وقد يبدأ في التوسع في هذا العام. وبالفعل بدأت بعض خطوط الطيران في الإعلان عن خطط للتوظيف خلال الأعوام القادمة، منها الخطوط الأسترالية التي أعلنت عن نيتها توظيف نحو 8000 موظف خلال العقد القادم.
تعافي قطاع الطيران له معانٍ عدة في هذا الوقت، منها أن العالم يحتاج إلى أخبار اقتصادية إيجابية، لا سيما مع التضخم الذي يواجهه، وانتعاش قطاع الطيران يعطي مؤشرات إيجابية تجاه الوضع الاقتصادي. كما أن القطاعات المرتبطة بالطيران ستشهد بكل تأكيد انتعاشاً مشابهاً، سواء منظومات المطارات بما فيها من فنادق ووسائل مواصلات ومتاجر، والقطاعات الأخرى مثل قطاع السياحة والفندقة وغير ذلك. كما أن صناعة الطائرات ستنتعش كذلك مع بداية التوسع في قطاع الطيران، أكبر دليل على هذا الانتعاش كان من الخطوط الهندية التي طلبت دفعة واحدة نحو 470 طائرة من شركتي «بوينغ» و«إيرباص». ويعد هذا الطلب الأكبر من نوعه في تاريخ الطيران على الإطلاق، حيث لم يتجاوز أكبر طلب في التاريخ المائتي طائرة. وتطمح الخطوط الهندية (برؤية من الحكومة نفسها) إلى جعل الهند أحد أكبر محاور الطيران في العالم، لتكون ثالث أكبر سوق للطيران بعد الصين والولايات المتحدة.
لكن قطاع الطيران لا يزال يواجه كثيراً من الصعوبات، منها تلبية الطلب على الطائرات على المدى المتوسط بسبب شح في سلاسل الإمدادات. أما على المدى القصير، فما زال العالم يتذكر فوضى المطارات في الصيف الماضي، حيث تعطلت حركة الركاب في كثير من مطارات العالم بسبب بطء مواكبة المطارات لرتم تعافي قطاع الطيران. وتسببت قلة التوظيف بالمطارات في إلغاء بعض الرحلات، وضياع أمتعة المسافرين، وازدحام المطارات بالمسافرين الذين اصطفوا في طوابير الانتظار لساعات طوال. وقد طالبت شركات الطيران المطارات بالاستعداد لموسم الذروة المتوقع في الصيف، وفيما وعدت المطارات – ومنها مطار هيثرو في لندن – أنها ستكون على أتم الاستعداد بحلول الصيف، أظهر تقرير لصحيفة «فاينانشيال تايمز» أن المطار حدّ من قدرة شركات الطيران على إضافة رحلات إلى جداولها في فصل الصيف بسبب محدودية الطاقة الاستيعابية.
خلال أقل من عام، انتقل قطاع الطيران من قطاع يعاني من أزمة عاصفة، إلى قطاع تبدو فرص التوسع فيه سانحة للأعوام القادمة، على الرغم من كل التحديات المحيطة به. ومثال الهند أكبر شاهد على ذلك، حيث توقعت «بوينغ» أن ينمو هذا القطاع في الهند بنسبة 7 في المائة سنويا حتى عام 2041. هذا التوسع قد يكون عن طريق زيادة حصتها السوقية، ولكنه كذلك نتيجة لنمو الاقتصاد العالمي، وبالتالي زيادة عدد المسافرين. ويوازي هذا التوسع فرصاً في الخدمات المرتبطة بقطاع الطيران، ومنها المطارات التي لا تبدو أن الطاقة الاستيعابية الحالية لكثير منها يلبي الطلب المتنامي في المستقبل.

د. عبد الله الردادي

أكبر إفلاس مصرفي أميركي منذ 2008: درس للمصارف اللبنانية

لم يستغرق الأمر أكثر من 48 ساعة: تهبط أسهم مصرف “سيليكون فالي” بنسبة 66% في البورصة. يفشل المصرف في تأمين 2.25 مليار دولار من السيولة لزيادة رساميله وتعويض خسائر سابقة متراكمة في الميزانيّة. يهرع المودعون إلى أبواب فروع المصرف في كاليفورنيا. تعلن مؤسسة ضمان الودائع إقفال المصرف ووضع اليد عليه (راجع “المدن”). خلال يومين فقط، تحوّل المصرف من مؤسسة ماليّة طبيعيّة، إلى أكبر إفلاس مصرفي أميركي منذ حصول الأزمة الماليّة العالميّة عام 2008، وإلى ثاني أكبر إفلاس مصرفي في تاريخ الولايات المتحدة الأميركي.

أمام كل تلك الأحداث المتسارعة، تُرك الأميركيون أمام سلسلة من الأسئلة البديهيّة: كيف تولد أزمة بهذا الحجم خلال يومين من الزمن؟ كيف ولدت “خسائر” هذا المصرف؟ وما علاقة ما يجري بأزمة سقف الديون الأميركيّة القائمة حاليًا، وبأزمة التضخّم وارتفاع الفوائد؟ وثمّة من راح يبحث خلف أسئلة أخطر: كيف يمكن أن تؤثّر هذه الأزمة على قيمة الدولار وموقعه في الأسواق العالميّة؟ وإذا كان العالم يترقّب الأزمة الماليّة المقبلة، وينتظر شرارتها من مكانٍ ما، هل يمكن لوادي السليكون وأبرز مصارفه أن يكونا مهد هذه الشرارة المنتظرة؟

كيف أفلست؟ تدريجيًّا.. ثم فجأة
البحث عن السؤال الأوّل، “لماذا”، قد يكون سهلًا ومتعذّرًا، في الوقت نفسه. ثمّة الكثير مما نعلمه عن أسباب الصعوبات الذي واجهت المصرف خلال الفترة الماضية، ومنها ما يتصل بمسألة ارتفاع الفوائد وأثرها على قيمة سندات الخزينة الأميركيّة. إلا أن ترتيب هذه الأحداث بشكل مفصّل، وتحديد أثر كلٍّ منها بالأرقام على الميزانيّة، سيحتاج إلى انتظار التدقيق الذي ستجريه مؤسسة ضمان الودائع.

لكن باختصار شديد، يشبه ما جرى الغالبيّة الساحقة من الانهيارات المصرفيّة الكبرى عبر التاريخ. ويمكن تلخيصه بعبارة شهيرة وردت في رواية “الشمس تشرق أيضًا” المشهورة: “كيف أفلست؟ تدريجيًا…ثم فجأة!”. بمعنى آخر، ما جرى لم يكن سوى حصيلة تراكم خسائر عبر سلسلة من الأحداث الصغيرة المتدرّجة، قبل أن ينكشف كل شيء خلال ساعات معدودة.

قيمة أصول المصرف تتجاوز 209 مليار دولار. لتبسيط المسألة للقارئ اللبناني أو العربي، توازي قيمة هذه الأصول نحو 2.2 مرّات قيمة كل ما تبقى من ودائع في القطاع المصرفي اللبناني. والجزء الأكبر والأساسي من موجودات المصرف الأميركي، تركّزت في سندات الخزينة الأميركي، أي في الدين العام الأميركي (هل يذكركم ذلك بشيء أيها اللبنانيون؟).

في الأصل، لم يكن هناك ما يدعو للقلق بالنسبة إلى توظيف بنك “سيليكون فالي” أموال المودعين في الدين العام الحكومي الأميركي، طالما أن المقترض هو حكومة الولايات المتحدة، وطالما أنّ الولايات المتحدة هي من يقبض على مفاتيح مطبعة الدولار (ولو أنّ سيناريو تخلّف الحكومة عن سداد إلتزاماتها بات احتمالًا يتردد ذكره بقوّة اليوم).

لكن مصاعب المصرف بدأت مؤخرًا مع تتالي قرارات رفع الفوائد، الصادرة عن الاحتياطي الفيدرالي الأميركي منذ العام الماضي. وقد لا يعرف ذلك كثيرون من الذين لا يتابعون أخبار أسواق المال ودهاليزها، لكن سندات الدين تصدر في العادة بقيم ثابتة يفترض أن يدفعها المقترض عند الاستحقاق، فيما تتذبذب قيمة هذه السندات الراهنة عند تداولها بيعًا وشراءً في السوق. وبمجرّد ارتفاع الفوائد، تنخفض تلقائيًا قيمة التداول السوقيّة الراهنة لهذه السندات، لزيادة الفارق بين القيمة الراهنة والقيمة التي سيتم دفعها عند الاستحقاق، وإعطاء المستثمر الربح الذي يتناسب مع الفوائد الجديدة المرتفعة.

لن يكون صعبًا على القارئ هنا تخيل سلسلة الأحداث التي جرت بعد ذلك: منذ بدء ارتفاع الفوائد الأميركيّة خلال العام الماضي، بدأت قيمة سندات الدين العام التي يملكها مصرف “السيليكون فالي” بالانخفاض، وبدأت قيمة المحفظة الاستثماريّة للمصرف بأسرها بالانخفاض. وعلى مدى الأشهر الماضية، كانت تتراكم بصمت كتلة من الخسائر، هي الفارق بين قيمة الأصول وقيمة الإلتزامات المتوجّب دفعها للمودعين (مجددًا: هل يذكركم ذلك بشيء، أيها اللبنانيون؟).

في الوقت نفسه، ومع النزاع الحاصل بين الجمهوريين والديموقراطيين حول رفع سقف اقتراض الولايات المتحدة الأميركيّة، بدأت ترتفع الأصوات المحذّرة من احتمال تخلّف الحكومة الأميركيّة عن دفع السندات عند الاستحقاق. وهذا تحديدًا ما ساهم بدوره في خفض قيمة سندات الدين العام الأميركي في الأسواق، فازدادت خسائر المصرف.

الهلع ورد فعل السلطات
ما تبقى من أحداث جرت خلال الساعات 48 الأخيرة، قبل إفلاس المصرف، كان مجرّد انكشاف لكل ما تراكم في الأشهر السابقة. تتوالى أخبار الخسائر، فيزداد ضغط سحوبات المودعين من المصرف. يحاول المصرف التعامل مع الوضع، فيقوم ببيع ما قيمته 21 مليار دولار من الاستثمارات التي يملكها، وأغلبها من سندات الدين العام الأميركيّة، للحصول على السيولة. فيتكبّد المصرف خسائر إضافيّة نتيجة اضطراره لبيع السندات بخصومات كبيرة، نظرًا لقيمتها المتدنية اليوم، ونظرًا لمعرفة الأسواق بحراجة موقف المصرف. خلال يومين فقط، دخل المصرف دوّامة الهلع والسحوبات والخسائر المتكررة (مجددًا، يبدو كل ذلك مألوفًا للبنانيين، بما فيه بيع محفظة السندات).

ما سيحصل لاحقًا، لن يكون مألوفًا لأي لبناني. لن يشبه ما جرى منذ العام 2019 هنا. بعد 48 ساعة فقط من بدء الأزمة، أي يوم الجمعة الماضي، وضعت مؤسسة ضمان الودائع الفيدراليّة يدها على المصرف، وأقفلت فروعه. كل وديعة مضمونة لغاية 250 ألف دولار، من السيولة الموجودة بحوزة المؤسسة، وبإمكان المودع سحب المبلغ ابتداءً من يوم الإثنين (أي غدًا، في أوّل يوم عمل بعد إقفال المصرف، بلا أي مبالغة!).

وابتداءً من هذه اللحظة، وضعت المؤسسة جميع الخيارات على الطاولة: بيع الأصول والتصفية، أو بيع المصرف بأسره، أو دمجه أو إعادة رسملته..إلخ. الخيارات المطروحة اليوم، يفترض أن تستند إلى التدقيق الذي سيجري في قيمة الأصول المتبقية، وتوزيع الخسائر يفترض أن يستند إلى أسباب الخسائر وتسلسل الأحداث، بما فيها قيمة الحوافز والمكافآت التي حصلت عليها إدارة المصرف، المسؤولة عن الإفلاس.

لم يتحدّث أحد عن قدسيّة الودائع، ولا عن “الثقة” بالنظام المصرفي الأميركي. لم يطرح أحد شعارات عن القطاع الذي “صنع مجد الاقتصاد” الأميركي. لم يطرح “اليمين” صندوقاً سيادياً، يحمّل الدولة مسؤوليّة إعادة رسملة المصرف، بحجّة أن سبب الخسائر سندات الدين العام وارتفاع الفوائد.

في الواقع، كان ميت رومني، المرشّح الجمهوري السابق لرئاسة الجمهوريّة، يقولها بصريح العبارة: المساهمون والمدراء سيخسرون كل شيء، كما يفترض أن يكون الحال. هذه مسألة بديهيّة. أما المودعون من أصحاب النيّة الحسنة (ضعوا خطّين تحت عبارة “النيّة الحسنة”)، فيجب أن يحصلوا مما تبقى وسريعًا على الأموال الضروريّة والكافية لتأمين الرواتب والدفع للمورّدين. وبطبيعة الحال، لم يتهم أحد رومني بكونه يساريًّا متطرّفًا أو سوفياتيًّا، كما اتهمت أوساط جمعيّة المصارف اللبنانيّة كل من عارض طروحاتها في لبنان.

المسألة واضحة إذًا، معايير التعامل مع المصارف المفلسة ستُحترم في قضيّة مصرف “سيليكون فالي”. ويرّجح كثيرون اليوم أن تكون خسائر مودعي المصرف محدودة جدًا، أو قد تكون هامشيّة، طالما أن السلطات التفتت للخسائر وفرملت عمل المصرف سريعًا، في وقت مبكر. فقبل إقفال المصرف بساعات، كان حجم السيولة المطلوبة لإنقاذ المصرف لا يتجاوز 2.5 مليار دولار، مقابل أصول تناهز قيمتها 207 مليار دولار. أمّا أهم ما في الأمر، فهو أن السلطات لم تترك –بتحرّكها السريع- هامشًا لأي نوع من العمليّات الاحتياليّة، التي تجري في العادة خلال الانهيار المصرفيّ، تمامًا كما حدث في لبنان.

علي نور الدين

اقتصاد الابتكار والمسائل الأخلاقية

منذ وصف جيمس واتسون وفرانسيس كريك البنية اللولبية المزدوجة للحمض النووي لأول مرة، ناقش العلماء إمكانية تكوين أطفال معدلين وراثياً. ففي عام 2018، أعلن عالم صيني، يدعى هي جيانكوي، أنه نفّذ ذلك بالفعل، إذ استخدم أداة للتعديل الجيني تُسمى «كريسبر» لتعديل أجنة الفتيات التوائم، على أمل جعلها مقاومة لفيروس نقص المناعة البشرية.
كانت قوانين الصين الحاكمة للطب الإنجابي وتعديل الجينات مُحددة بصورة غير جيدة في ذلك الوقت. لكن الغضب بين العلماء والجمهور أدى إلى الحكم على الدكتور جيانكوي بالسجن 3 سنوات بتهمة «الممارسة الطبية غير القانونية»، بموجب قانون واسع النطاق، ونُدّد به بصفته ساعياً إلى «الشهرة الشخصية والربح».
شددت الصين، منذ ذلك الحين، من قوانينها الحاكمة لتعديل الجينات وطب الخصوبة. كان الدكتور جيانكوي قد تحرك في أبحاثه بسرعة كبيرة، وفشل في إثبات حمايته الفعلية للتوائم من فيروس نقص المناعة البشرية. لذلك ينبغي على الحكومات والمجتمع العلمي تطوير أطر قانونية واضحة لمنع العلماء المارقين من تتبع خُطاه.
ألفتُ كتاباً عن تجربة الدكتور جيانكوي، وكنت أحادثه بانتظام منذ إطلاق سراحه من سجنه في مارس (آذار) 2022. قال لي: «التأمل في هذه الانتقادات ألهمني رؤى جديدة». ومع ذلك، شرع الدكتور جيانكوي مؤخراً في مشروعات جديدة ضمن مجال التقنية الحيوية تعكس إشارات على تكرار زلاته الأخلاقية الماضية. يمنح هذا الجدل الفرصة لمناقشة أكثر قوة بشأن مستقبل تقنيات تعديل الجينات في عيادات الخصوبة.
وتوضح قصة الدكتور جيانكوي مشكلة غير محلولة في اقتصاد الابتكار. وتتصادم قيم السوق (المُحبذة للسرعة، والأرباح، والطفرات) مع قيم أساسية أعمق تتعلق بصحة الإنسان، والإنصاف، والتنوع.
تلقى الدكتور جيانكوي تدريباً لمدة عام في جامعة ستانفورد، في قلب وادي السيليكون، حيث «يتحرك التقنيون بسرعة عالية ويعصفون بالأشياء». ثم عاد إلى الصين بفضل الحوافز الحكومية في عام 2012. وأنشأ هناك مختبراً في مدينة شينزين، المدينة المعروفة صينياً بالسرعة والإبداع. بعد تأسيس شركة ناشئة، بقيمة 312 مليون دولار، أنفق بعض أسهم الشركة لتمويل مشروعه «كريسبر».
كان مسؤولو الحزب الشيوعي الحاكم قد دعموا في البداية أبحاث «كريسبر» للدكتور جيانكوي، في سياق الحلم الصيني للرئيس شي جينبينغ، وهي سياسة داعمة «للتقنيات المتطورة» لجعل «الصين بلد المبتكرين». وهكذا، قال الدكتور جيانكوي إنه ظن أنه سوف يُصبح بطلاً وطنياً، ثم تفاجأ عندما صار منبوذاً.
دفع أكاديميو أخلاقيات علم الأحياء بأنه لا ينبغي السماح للدكتور جيانكوي بنشر أبحاثه، لانتهاكه المبادئ والمعايير الأساسية للعلم. أنا لا أوافق على ذلك، فلا يزال هناك كثير مما يمكن أن نتعلمه من زلاته الأخلاقية الخاطئة، فضلاً عن بياناته العلمية.
وينبغي إخضاع مزاعمه بشأن المقاومة الهندسية لفيروس نقص المناعة البشرية للتفحص النقدي الذي يقترن مع المراجعة العلمية للنظراء. ويجب نشر بياناته الأصلية حتى يتمكن المجتمع العلمي من التعرف على إمكانات ومشكلات «كريسبر» في الطب الإنجابي.
إذا ما نجح أسلوبه، فلا بد من معالجة التساؤلات الأخلاقية واسعة النطاق، وليس دسّها أسفل البساط، إذا كان بوسعنا تعديل الحمض النووي للأجنة البشرية بصورة فعالة، فهل ينبغي لنا ذلك حقاً؟
استخدام «كريسبر» على الأجنة البشرية يمكن أن يُغيّر التركيب الجيني للأجيال القادمة بطرق متنوعة. ربما نستهدف بعض أشكال الصمم والعمى بأدوات تعديل الجينات قبل ولادة الأطفال. وربما يستخدم الأطباء تقنيات تعديل الجينات في الأجنة لإصلاح الأمراض الخلقية، مثل «فقر الدم المنجلي» و«التليف الكيسي».
كما أن تعديل الجينات يُغذي المناقشات بشأن مبحث تحسين النسل (أو علم الوراثة البشرية). وكما ذكرت مجلة «بيزنس إنسايدر»، فإن أصحاب رؤوس الأموال المتجاسرين وأهل الرؤى التقنية الذين يطلقون على أنفسهم مسمى «المؤيدين للإنجاب»، يريدون إنقاذ الحضارة عبر إنجاب أطفال متفوقين وراثياً. ويبدو أن بعض أصحاب الرؤى المثالية يعتقدون أنهم يمتلكون بالفعل جينات جيدة، في حين يسعى آخرون إلى التحسينات الوراثية. ويعمل رواد الأعمال في وادي السيليكون على استقطاب علماء «كريسبر» ضمن مساعيهم لتصميم جينات الأطفال المثاليين.
نظراً لإمكانية إساءة استخدام هذه التقنية، فإن فوائد استخدام «كريسبر» في طب الخصوبة قد لا تفوق المخاطر. وبصفة جماعية، يمكننا اتخاذ القرار بنقل هذه التقنية إلى المحفوظات، لأن تعديل «كريسبر» للجينات لصالح الاستخدامات الإنجابية يمكن أن يسير في سبيل الاستنساخ البشري، ومن ثم حظره، أو قد يُقرر أساتذة العلم وزعماء المجتمع المدني أن بعض استخدامات تعديل الجينات مسموح به في الأجنة البشرية، إذا كان «كريسبر» قادراً على طرح حلول للمشكلات الطبية المنتشرة، على سبيل المثال. لكن هناك حاجة إلى مبادئ توجيهية أخلاقية وقواعد قانونية جديدة لتنظيم هذه التقنية في عيادات الخصوبة.
لتنفيذ ذلك بصورة جيدة، نحتاج إلى فهم المخاطر التقنية، فضلاً عن المخاطر الاجتماعية.
لقد ضلّل الدكتور جيانكوي الجماهير عندما أصدر إعلانه عام 2018 على موقع يوتيوب قائلاً: «جاءت فتاتان صينيتان صغيرتان جميلتان، اسمهما لولو ونانا، إلى هذا العالم بصحة جيدة مثل أي طفل آخر، قبل بضعة أسابيع».
في الواقع، أمضى التوأمان الأسابيع الأولى في وحدة العناية المركزة لحديثي الولادة في المستشفى. فقد ولدت لولو ونانا قبل الأوان، بعملية قيصرية طارئة في الأسبوع 31، وكانتا تُعانيان في البداية من صعوبة في التنفس.
يمكن أن تكون المشكلات الصحية التي واجهتها لولو ونانا عند الولادة ناتجة عن المخاطر المعروفة للحمل بالتوائم وعلاجات الإخصاب التقليدية في المختبر، أو قد تكون نتيجة لمخاطر غير معروفة مرتبطة بتعديل الجينات بتقنية «كريسبر». واليوم، يُقال إنهما تتمتعان بصحة جيدة، لكن مستقبلهما غير معروف.
يقول الدكتور جيانكوي إنه يجب استخدام «كريسبر» لأسباب طبية فقط، برغم أنه يمكن القول إن تجربته الخاصة أسفرت عن طمس الحدود ما بين الطب الإكلينيكي والتحسين البشري. جاء في ورقة بحثية بشأن أخلاقيات تعديل الجينات، شارك الدكتور جيانكوي في تأليفها (وسُحبت الدراسة لاحقاً): «ليس لأحد الحق في تحديد الخصائص الوراثية للطفل إلا بغرض الوقاية من المرض». لكن الدراسة تابعت: «كل شخص يستحق التحرر من المرض الوراثي».
كما يمكن للمبادئ المجردة بشأن الوقاية من الأمراض في المستقبل أن تسفر عن حدوث مشكلات غير مقصودة. ويشعر كثير من الصُمّ والمكفوفين بالقلق من أن أشخاصاً مثلهم سيجري تعديلهم (استبعادهم) من الوجود، بدلاً من أن يتعلم المجتمع كيفية استيعابهم بصورة أفضل. في الوقت نفسه، تحتشد بعض جماعات الدفاع عن المرضى مؤيدةً لعلاجات «كريسبر».
كما أن الحصول على هذه التقنية في المستقبل هو مصدر قلق أيضاً. إن تعديل الجينات في الأجنة قد يكون باهظ التكاليف بالنسبة لأغلب الأزواج. وتتراوح دورة واحدة من الإخصاب المختبري في الولايات المتحدة من 15 ألفاً إلى 30 ألف دولار، اعتماداً على احتياجات المريض، في حين أن تكاليف العلاجات الجينية المعتمدة للبالغين باهظة بالفعل.
القوانين ذات الصلة بتعديل الجينات في الولايات المتحدة غامضة حالياً، على الأقل مقارنة باللوائح الصارمة التي أقرتها الصين. وقد حظر الكونغرس الأميركي التمويل الفيدرالي لأي تجربة إكلينيكية تتعلق بتعديل جينات الأجنة البشرية، غير أن هذا الحظر يخضع لإعادة التفويض بصفة دورية.

إيبن كيركسي