أرشيف التصنيف: المقالات العامة

حربُ الرقائق الإلكترونية

الحروبُ التجارية ليست جديدة على العالم، وفي أغلبها حمائية الطابع، بهدف تحقيق أفضلية اقتصادية.بمعنى، أن الدول بغرض حماية منتجاتها وصناعاتها المحلية، وأسواقها الداخلية، وضمان مواطن عمل للقوى العاملة، تعلن حرباً على السلع المستوردة، عبر فرض رسوم جمركية عالية.وعلى سبيل المثال لا الحصر، لعلنا ما زلنا نذكر ما قام به الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، خلال فترة حكمه، من إجراءات حمائية تمثلت في فرض رسوم جمركية عالية، ضد السلع والبضائع المستوردة من الصين ومن دول الاتحاد الأوروبي، مما أدّى بتلك الدول إلى اتخاذ إجراءات مماثلة.الإجراءات الحمائية، تتسم بكونها مؤقتة، ولفترات محدودة، وعادة بقصد خدمة أغراض سياسية، يأتي في مقدمتها سعي القيادة السياسية إلى إرضاء فئات معينة في المجتمع، لضمان أصواتهم في الانتخابات.
أحياناً، تلجأ الدول إلى محاولة إلحاق الضرر بدولة أخرى، باتخاذ إجراءات تقلص من نسبة ما كانت تستورده منها من بضائع وسلع، أو تمنعها كلية.الهدف في هذه الحالة يكون بغرض مفاقمة الضغوط على تلك الدولة، لقاء الحصول على منافع سياسية أو اقتصادية أو كلتيهما.
في بعض الحالات، تسعى الدول إلى حظر ما تصدّره من منتجات استراتيجية إلى دولة أو دول معينة.وعادة ما يكون الهدف، في هذه الحالة، استراتيجيا أمنيا في المقام الأول.وهو الحفاظ على أفضليتها الأمنية.ويستتبع ذلك، تحمّل خزينة الدولة لكل الخسائر المالية التي تلحق بالمؤسسات والشركات المصنّعة لتلك السلع الاستراتيجية، لقاء توقفها عن التصدير.في هذا السياق، تتحولُ التجارة سلاحاً في حرب معلنة.وفي هذا السياق، أيضاً، يمكننا موضعة وقراءة ما أصدره الرئيس الأميركي جو بايدن من قرارات، في نهاية الأسبوع الأول من شهر أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، تتعلق بوضع ضوابط رقابية شديدة على تصدير منتجات التقنية العالية الأميركية إلى الصين، في محاولة لمنع الصين من تحقيق طموحها في أن تكون دولة عظمى.وعلى رأسها وأهمها الرقائق الإلكترونية (Semiconductors-Chips) الضرورية في العديد من الصناعات المدنية والعسكرية عالية التقنية.
الصين لن تقف مكتوفة اليدين أمام هذه الخطوة العدائية الأميركية، من دون اللجوء إلى إجراء مماثل في القوة ومخالف في الاتجاه، بمنع تصدير مواد خام ضرورية لعدد من الصناعات التقنية المهمة.المراقبون الغربيون يتفقون على أن قرارات الرئيس بايدن بمثابة إعلان حرب على الصين، وأطلقوا عليها اسم حرب الرقائق الإلكترونية.
أهمية الرقائق الإلكترونية بدت أكثر وضوحاً في أزمة توقف الإنتاج في مصانع السيارات الأوروبية، بعد رفع حالة الإغلاق العام في أزمة انتشار الوباء الفيروسي، والسبب أن السيارات الحديثة تعتمد في تقنيتها على الرقائق الإلكترونية، ونقص مخزونها من تلك الرقائق بسبب محنة الوباء الفيروسي، أدى إلى إرباك المصانع، وتوقف خطوط الإنتاج بها.
هذا التوجه الأميركي مؤخراً ليس اقتصادي الطابع، بل، يؤكد الخبراء، استراتيجي أمني.وهو دائم وليس مؤقتاً.قرارات الرئيس بايدن تؤكد كذلك على عودة المئات من المواطنين الأميركيين وحملة البطاقات الخضراء العاملين في صناعة الرقائق الإلكترونية في الصين.من المهم الإشارة هنا إلى أن الصين وضعت خطة وبدأت تنفيذها لتحقيق الاكتفاء الذاتي اقتصادياً من الرقائق الإلكترونية، واستعانت في ذلك بأعداد كبيرة من مهندسي التقنية في أميركا وأوروبا.
وتساءل المعلقون الغربيون عن الأسباب التي دفعت الرئيس الأميركي بايدن إلى اللجوء إلى هذا الإجراء الأحادي، ومن دون السعي إلى الاستعانة بالحلفاء الأوروبيين. ويقولون إن الحكمة تقتضي أنك إذا قررت الدخول في حرب فمن الأفضل ألا تذهب إليها وحيداً. ويوضحون أن الخطوة الأميركية هذه تقطع بالقوة الصلات بين القطاع التقني الأميركي ونظيره الصيني.
الجدير بالذكر، أن واشنطن حاولت إقناع الحلفاء الأوروبيين بضرورة التنسيق فيما بينها لوضع ضوابط رقابية على تصدير التقنية إلى الصين، شبيهة بسياسة فرض العقوبات على روسيا. إلا أن الأوروبيين يرون أن تلك الضوابط الرقابية يجب تطبيقها على المنتجات، وليس على النحو الموسع الذي اتخذته واشنطن.
المراقبون الغربيون يرون أن سد المنافذ أمام الصين ومنعها من الحصول على ما تحتاجه صناعاتها من تقنية، وخاصة تطوير صناعة الرقائق الإلكترونية محلياً، وعلى مسافة أقل من 100 ميل من تايوان، التي تعد أكبر مركز في صناعة الرقائق، سوف يجعل من تايوان هدفاً عسكرياً للصين أكثر من ذي قبل، ويسرّع في عملية اجتياحها. ويستشهدون بما حدث في عام 1940 عندما حظر الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت تصدير النفط والحديد الصلب إلى اليابان لمنعها من تطوير صناعاتها العسكرية. وكان رد الفعل الياباني التحرك سريعاً واحتلال الدول التي يتوفر بها النفط والحديد.

أهمية المنافسة

هل سبق لك التذمر من وجود شركة واحدة فقط تقدم خدمة معينة أو منتجا معينا؟ قد يخطر ببالك عدد من الأمثلة على الشركات المحلية التي تستفرد بالسوق دون وجود منافس حقيقي لها، فتصبح لها السيطرة الكاملة على السوق دون وجود تهديد حقيقي على حصتها السوقية. تبعات هذه السيطرة سلوكيات تضر بالمستهلك والاقتصاد المحلي، بل وحتى بالشركات المسيطرة نفسها التي تميل إلى الكسل في حال غياب المنافسة، وهي نتيجة حتمية في حال غياب قانون المنافسة عن السوق المحلية، وهو ما فيه ضرر مباشر على الاقتصاد، ويمكن تلخيص أهمية المنافسة في السوق في خمس نقاط.
النقطة الأولى: هي الأوضح بالنسبة للمستهلك وهي أسعار المنتجات، فوجود عدد من الشركات تقدم نفس المنتج أو الخدمة يزيد المنافسة على الأسعار، وهو ما يتسبب بشكل كبير في انخفاضها، لكون السعر أحد أهم عوامل المقارنة بين المنتجات. ولذلك فإن ارتفاع أسعار المنتجات هو من أوضح نتائج الاحتكار، وفي زمن يشكل فيه التضخم مشكلة كبرى، يمكن فهم دور الاحتكار في تأجيج نار التضخم.
النقطة الثانية: هي جودة المنتجات، فمن دون المنافسة، لا تملك الشركات محفزا لتحسين جودة منتجاتها أو خدماتها. وقد يكون المثال الأوضح على ذلك هو خدمات ما بعد البيع، فقد تجد الشركات مبررا للتعامل الحسن مع العملاء قبل البيع لرفع أرقام المبيعات، ولكن المحفز الأكبر لخدمات ما بعد البيع هو ضمان عودة هذا العميل للشراء مرة أخرى، وفي حال عدم وجود منافس حقيقي للشركة، فإنها لا تحتاج إلى تحفيز العميل لإعادة الشراء لأنها وبكل بساطة خياره الوحيد.
النقطة الثالثة التي تضيفها المنافسة، هي زيادة الخيارات في المنتجات والخدمات. ففي السوق التنافسية، تحاول كل شركة جعل منتجاتها مختلفة عن الشركات الأخرى في محاولة لإيجاد سوق جديدة لمنتجاتها أو للابتعاد عن مساحة المنافسة في المنتجات شديدة التنافسية. وتعطي هذه النقطة تنوعا وخيارات أكثر للمستهلك للاختيار بين الخدمات والمنتجات.
النقطة الرابعة تتضمن الابتكار، فمن دون المنافسة في السوق تغيب أهمية الابتكار بشكل كبير، بالمقابل فإن المنافسة تدفع الشركات للابتكار في منتجاتها وخدماتها ومحاولة خلق فرص جديدة من خلال ابتكار منتجات وخدمات كثيرة. والابتكار تحديدا هو أهم نقاط الالتقاء بين المنافسة والنمو الاقتصادي، فالابتكار هو أحد أهم محركات النمو الاقتصادي، والمنافسة هي الدافع الأكبر للابتكار. ويمكن للقارئ التفكر في السوق المحلية والنظر في القطاعات التي تشهد تنافسا عاليا، وكيف لجأت شركات هذا القطاع للابتكار للمنافسة والبقاء في السوق.
النقطة الخامسة هي أن المنافسة العالمية تبدأ من المنافسة المحلية، وإن لم تجد الشركة منافسا محليا لها فهي في الأغلب لن تتطور لتصبح لاعبا عالميا في صناعتها. ولذلك فإن العديد من الحكومات تصمم أنظمة منافستها لتكون سببا في منافسة شركاتها على النطاق العالمي، وإحدى أدوات زيادة المنافسة العالمية هي أداة المحتوى المحلي والمشتريات الحكومية، حيث تحصر الحكومات مشترياتها على الشركات المحلية، وذلك لخلق سوق محلية تنافسية تتمكن في المستقبل من منافسة الشركات العالمية.
يقابل هذا التنافس، موجة من الاستحواذات والاندماجات، تقلل من عدد الشركات في السوق، وتجعلها شركات أكبر حجما وسيطرة على السوق. ورغم وجود مبرر في كثير من حالات الاستحواذات والاندماجات، فإن أثرها على المنافسة لا يمكن إغفاله. فعلى سبيل المثال، أظهر استطلاع أن الاندماجات تتسبب في زيادة الأسعار بمتوسط 7.2 في المائة، وتختلف هذه الزيادة بحسب القطاع، فأظهرت دراسة أن الأسعار تزيد في قطاع المستشفيات بنسبة 20 في المائة، بينما تزيد في قطاع الطيران بنسبة تتراوح بين 7 و29 في المائة.
إن المنافسة عنصر أساسي لا يمكن الاستغناء عنه في الأسواق، وهي سبب رئيسي للانتعاش الاقتصادي، ووجود منافسة قوية في السوق يحمي الشركات المحلية كذلك من سيطرة الشركات الأجنبية في حال دخولها، وكم من شركة أجنبية حاولت اختراق أسواق محلية ولم تستطع تحمل المنافسة، وهذا دليل على قوة هذه القطاعات. في المقابل فإن النظرة التفضيلية إلى الشركات العملاقة والتي تملك حصصا كبرى في السوق المحلية هي نظرة قاصرة، فهذه الشركات تنمو على حساب الشركات الصغيرة، ونموها يزيد من أرباحها وأرباح مستثمريها، بينما تزيد التكلفة على المستهلك والاقتصاد، وتقلل من خلق الفرص الوظيفية لارتفاع كفاءتها التشغيلية.

 

د. عبد الله الردادي

الاقتصاديات الملونة!

لكل زمن مقام ومقال، المقام يشير إلى حركة الكون وتوازناته المحسوسة والملموسة، وأحداثه العنيفة والسعيدة؛ أما المقال فهو: كيف يوصف الزمن كله بما فيه من تفاعلات فيها الكثير من الكلمة والسلاح؟
المقام كثيراً ما يأخذنا بعيداً حتى نستغرق فيه، وفي أوقات يبدو أمراً مثل الحرب الأوكرانية مستبداً بساعاتنا، ومن عجب أننا نصف كل شيء فيها في غدوِّه ورواحه، وفي دمه ومائه، بأنه يعبر عن حالة من «عدم اليقين» الذي بات عنواناً شائعاً في دوريات غربية. ولكنَّ المقال هو الآخر يزخر بالأوصاف الذي يفتننا كاملها إذا حدث، أما نقصها وقصورها فهو ذنب ومعصية. هذه المرة سوف أحاول أن أكون عادلاً في القول، وهو على أي الأحوال يقع في مجال لا أعرف فيه إلا القليل جاء قبل أكثر من نصف قرن في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة؛ ومن أحاديث مع اقتصاديين من الأصدقاء ومن أتاح لهم الزمن إدارة اقتصاد دولة. وحتى لا تزيغ الأقوال بعيداً عن المساحة المعهودة، فإن الأمر يتعلق بأوصاف الاقتصاد؛ وفي وقت من الأوقات كانت للمحاصيل الاقتصادية ألوان ذهبية. وفي مصر فإن قيمة القطن زادت في الخيال عندما أُطلق عليه «الذهب الأبيض»؛ وفي السعودية ربما كان الأمر صحيحاً عندما قام اقتصادها على النفط الذي صار «الذهب الأسود». وكان الظن أن الألوان سوف تنتهي ما بين الأبيض والأسود، وكلاهما فيه سحر، ومن الليل والفجر سهد ورجاء؛ ولكن ما حدث أنه خلال الأعوام الأخيرة تعددت الألوان والاقتصاد واحد: عرض وطلب.
لم يعد لون الاقتصاد قرين ندرة محصول أو سلعة، وإنما قرين شبكة من العلاقات والأنشطة الاقتصادية وشكل من أشكال الطاقة. أنظر لما بات يسمى الاقتصاد «الأخضر»، ومرادفاته «النظيف»، والصديق للبيئة؛ وأصله في الحقيقة ذهبي يعود إلى الطاقة الشمسية أو «السولار» التي يمكن تجميعها بحيث تدير نفسها إلى ما لا نهاية. وفي عام 2010 زرتُ اليابان، وكان من ضمن العجب الذي رأيته زيارة إلى المخترعات الجديدة لشركة «باناسونيك» فوجدت من بينها اختفاء شاشة التلفزيون التي باتت حائط المنزل، وتستطيع عن طريق يديك أن تتحكم في حجم الشاشة التي تريدها طولاً وعرضاً وبنفس الدرجة من وضوح وتركيز الصورة. وحينما سألت: كيف تم ذلك؟ قيل لي: لأننا –أي العلماء- أصبحنا أكثر بساطة الآن. ولكن الفكرة المغرقة في بساطتها كانت المنزل الذي يغذي نفسه بالطاقة، فهو يأخذ قدراً صغيراً من الطاقة الشمسية التي تمر فوق سطحه، ولكنه في النهاية يعيد تدوير الطاقة طوال الوقت عن طريق تحويل الضوء الذي يخرج من المصابيح والطاقة التي تخرج من الثلاجات والمواقد وأجهزة الكومبيوتر وشاشات التلفزيون لكي يتم استخدامها مرة أخرى في نفس البيت. «الاقتصاد الأخضر» لا يأتي فقط من الشمس وإنما يمكن أن يكون صنواً للهيدروجين كمصدر للطاقة التي تحرك السفن وربما تنير مدناً بأكملها.
«الاقتصاد الأزرق» تعلق دائماً بالبحار حيث تدور السفن العملاقة حاملة السلع والبضائع فيما يشبه مدناً عائمة؛ هو اكتشاف جديد نسبياً بعدما حلت العولمة بالكون كله، وأصبح للبحر ثرواته الخفية التي تكتشف نفطاً وغازاً وسياحة، والأخرى المعلنة في شكل نقل. شركة «ميرسك» العالمية الدنماركية تشكل جزءاً مهماً من الناتج المحلي لدولة الدنمارك، وفي الزمن القديم عندما تحركت الإمبراطوريات الكبرى للبرتغال وإسبانيا لاقتسام العالم قام ذلك على أساس محطات اقتصادية ينتقل بينها التجار ناقلين الحنطة والتوابل ومعها الأفيون أيضاً.
حديثاً في شرق البحر الأبيض المتوسط تَشكَّل منتدى شرق البحر المتوسط وضم سبع دول هي: مصر وفلسطين والأردن وإسرائيل واليونان وقبرص وإيطاليا. ورغم أن الغاز وتوليده وتصنيعه وتسييله هو الأساس الاقتصادي للمنتدى، فإن شرق البحر المتوسط هو الذي جعل الاقتصاد قائماً، فالجوار البحري الأزرق خلق الإمكانيات والتفاعلات التي باتت مؤثرة ليس فقط على اقتصاديات الدول المعنية، وإنما على دول أخرى توصلت هي الأخرى إلى اتفاق بين لبنان وإسرائيل، قد تكون سبباً في إنقاذ دولة تنهار مقوماتها، وخلق فرص «إبراهيمية» أخرى للاستقرار في المنطقة إذا ما جرى استخراج غاز غزة. الاقتصاد «الأزرق» هو إطار تعاوني في البحر، وكما حدث في شرق المتوسط يمكن أن يحدث في شمال البحر الأحمر، حيث السياحة والعمار هما مصدر اقتصادي مهم.
ألوان الاقتصاد تخلق فرصاً كثيرة بحكم ما تجمع من علاقات لا ترتبط بالضرورة بإقليم معين؛ «أوبك بلس» تجمع بين دول كثيرة جميعها تُنتج الذهب «الأسود».
هي علاقة اقتصادية حاولت الولايات المتحدة تجاوزها بلوم الجماعة لأنها عزمت على خفض الإنتاج النفطي الذي كان ضرورياً لإعادة التوازن لسوقٍ زعزعتْها حربٌ لم يردها أحد، ولم يصوِّت عليها أحد. وتداخل معها ليس فقط النفط، وإنما الغذاء أيضاً فبات هناك اقتصاد «ذهبي» للقمح الذي بات سلعة نادرة. لم تعد الحرب حرباً «جيوسياسية» خافت فيها روسيا من تمدد حلف الأطلنطي؛ ولا حرباً «جيواقتصادية» جرت فيها المقاطعة وقطع علاقات الغاز والنفط والطاقة، وإنما هي حرب على الغذاء، على الحياة. ظهر أن أوكرانيا مصدر أساسي للسلعة «الذهبية» التي تعتمد عليها دول كثيرة في الشرق الأوسط. الألوان صارت صورة أخرى من صور التعقيد الذي تتداخل فيه أو تتعارض المصالح فقط؛ وإنما الألوان أيضاً.
الموت والحياة ظهر مؤخراً أنهما يدخلان نوعاً من «الاقتصاد البنّي» الذي نبع من المومياوات المصرية القديمة التي عند طحنها يخرج منها لون متميز دخل في أعمال فنية كثيرة. في دورية «الأصول القديمة أو Ancient Origins» التي صدرت في 15 أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، عددٌ كامل عن هذه الثروة القادمة من الموت. لم تعد المومياوات مجرد أجساد محنطة يطل عليها البشر في متحف الحضارات بقاهرة الفسطاط، حيث ترقد آثار قادة عظام يزورهم سائحون من أركان المعمورة؛ أو تُستخدم للتسلية في أفلام مرعبة تعكس ما هو شائع عن لعنة الفراعنة. الآن أصبحت المومياوات نوعاً آخر من الاقتصاد غير السياحي أو حتى التاريخي، وإنما باتت مصدراً للدواء والأهم لنوع نادر من اللوحات الفنية «البُنية» التي قُدر الغِرام منها بمقدار الذهب. وحينما حلت البعثات الغربية على مصر في القرن التاسع عشر لم يكن كل القصد اكتشاف حضارات قديمة، أو حتى سرقتها من المسلات إلى المومياوات؛ وإنما كان فيها للفنانين نصيب وحظ عندما وجدوا أن طحن المومياوات يؤدي إلى استخراجٍ «بنّي» نادر ليس كمثله في «البنّيات» شيء.
ما حدث أنه بات يُستخدم في رسم لوحات عظمى لرجالات عظماء ونساء عظيمات، وبات معلوماً أن اللوحة التي يُستخدم فيها طحين المومياء سوف تكون الأعلى سعراً. أصبحت المومياوات صناعة فوق قيمتها السياحية والتاريخية، وقيمتها العظمى جاءت من لون طحينها الذي بات الغرام منه يساوي ثقله ذهباً. أصبح اكتشاف المومياوات صناعة في معظمها سرِّي، ولكنها باتت علنية في المتاحف الكبرى والدوريات الفنية.

عبد المنعم سعيد

كيف يمكن للدول التصدي لقوة الدولار الأميركي؟

منذ بداية عام 2022، لا يزال الدولار الأميركي عند أعلى مستوياته منذ عام ‏‏2000، فقد ارتفع بنحو ‏‎22%‎‏ مقابل الين الياباني، وبنسبة ‏‎13%‎‏ أمام اليورو، ‏وبنسبة ‏‎6%‎‏ مقابل عملات الدول الناشئة. ومما لا شك فيه، تسبب ارتفاع الدولار ‏في تداعيات اقتصادية ملحوظة على أغلب دول العالم مع الأخذ في الاعتبار هيمنة ‏العملة الأميركية على حركة التجارة الدولية.‏

وبرغم تراجع حصة الولايات المتحدة في صادرات البضائع العالمية من ‏‎12%‎‏ إلى ‏‎8%‎‏ منذ عام 2000، إلا أن حصة الدولار في الصادرات بلغت ‏‎40%‎‏.‏

وفي ظل معاناة الدول من ارتفاع التصخم، فإن ضعف عملاتها مقابل الدولار أدى ‏لتفاقم المشكلة خاصة في الاقتصادات الناشئة التي تعتمد على الواردات بالعملة ‏الأميركية.‏

ويتردد صدى ارتفاع الدولار أيضاً في موازنات الدول نتيجة الاقتراض وإصدار ‏السندات الدولارية، وهو ما يعني تراكم الديون على كاهل الدول النامية والناشئة، ‏وبالتالي، زيادة حالات التعثر في السداد.‏

ماذا يحدث؟

لا يجب إغفال تعرض العالم لبعض الصدمات المتتالية أبرزها جائحة كورونا وما ‏تسببت فيه من تعطل في سلاسل الإمداد والتوريد وضعف نشاط الاقتصاد العالمي. ‏

كما أن الصدمة العنيفة التي تلقاها العالم بسبب الحرب الروسية في أوكرانيا وما ‏ارتبط بها من أزمة نقص موارد الطاقة أدت إلى المزيد من الضغوط على كاهل ‏الاقتصاد العالمي.‏

وبالتزامن مع ذلك، يعاني العالم أيضاً من زيادة مطردة في معدلات التضخم تطلبت ‏سياسات تشديد نقدي بلجوء البنوك المركزية وعلى رأسها الاحتياطي الفدرالي ‏الأميركي إلى رفع الفائدة عدة مرات لكبح جماح التضخم.‏

كل ذلك أدى بالتبعية إلى تقوية مراكز الدولار الأميركي في الأسواق العالمية ‏باعتباره أحد الملاذات الآمنة.‏

وبالنظر إلى الجانب المشرق، فإن ارتفاع التضخم، أي زيادة أسعار السلع ‏والخدمات، قد يقلل الواردات مما يساعد بدوره في الحد من تراكم الديون الخارجية.‏

كيف يمكن التصدي لقوة الدولار؟

في الأوقات المماثلة للظروف الحالية، تلجأ بعض الدول إلى التدخل في سعر ‏الصرف بدعم عملاتها أمام الدولار، لكن ذلك يلتهم من احتياطياتها النقدية الأجنبية ‏التي تحتفظ بها في أوقات الضرورة.‏

ويرى خبراء أن التدخل في سعر الصرف لا يجب أن يكون بديلاً عن إحداث ‏تعديلات في سياسات الاقتصاد الكلي وأن يكون التدخل مبرراً ومؤقتاً لعدم التسبب ‏في حالة من عدم الاستقرار المالي أو أضرار في قدرة البنوك المركزية بشأن ‏الحفاظ على استقرار الأسعار.‏

كما يجب استخدام السياسة المالية لدعم الفئات الأكثر ضعفاً دون تعريض أهداف ‏التضخم للخطر، وهناك حاجة أيضًا إلى خطوات إضافية لمعالجة العديد من مخاطر ‏الركود التي تلوح في الأفق. ‏

الأهم من ذلك، أننا قد نشهد اضطرابات أكبر بكثير في الأسواق المالية ، بما في ‏ذلك فقدان مفاجئ في الشهية لأصول الأسواق الناشئة مما يؤدي إلى تدفقات كبيرة ‏لرأس المال إلى الخارج، حيث يتجه المستثمرون صوب الأصول الآمنة.‏

وفي هذه البيئة الهشة، من الحكمة تعزيز المرونة. على الرغم من أن البنوك ‏المركزية في الأسواق الناشئة قامت بتخزين احتياطيات الدولار في السنوات ‏الأخيرة، مما يعكس الدروس المستفادة من الأزمات السابقة ، فإن هذه الاحتياطيات ‏محدودة ويجب استخدامها بحكمة.‏

بالتبعية، يجب على البلدان الاحتفاظ باحتياطياتها من العملات الأجنبية الحيوية ‏للتعامل مع الأزمات والاضطرابات التي يحتمل أن تكون أسوأ في المستقبل، وكذلك ‏وضع سياسات لإدارة الديون لتسهيل أوضاع السداد.‏

أزمة الديزل قنبلة تصخمية موقوتة للولايات المتحدة؟

على الرغم من عدم اليقين المحيط بإجراءات الرئيس الأميركي “جو بايدن” لمعالجة أزمة ارتفاع أسعار الوقود في السوق المحلي من خلال السحب من الاحتياطي النفطي الاستراتيجي تارة أو محاولات حث شركات الطاقة على ضخ المزيد من الخام تارة أخرى، إلا أن كل ذلك لا يجب أن ينسي الأسواق أن الأزمة الحقيقية ليست النفط أو الغاز، ولكنها الديزل.

ترجع الأزمة إلى أشهر طويلة سابقة لفصل الصيف حيث ارتفع الطلب بشكل ملحوظ في أميركا على الديزل، لكن في المقابل ظل المعروض عند أدنى مستوى موسمي على الإطلاق لذلك الوقت من العام.

والآن، وبحسب بيانات إدارة معلومات الطاقة، فإن الولايات المتحدة أمامها إمدادات تكفي فقط استهلك 25 يوماً، وهو المستوى الأدنى منذ عام 2008، لكن متوسط المعروض من مخزونات نواتج التقطير (التي تشمل وقود التدفئة والديزل) ارتفعت إلى أعلى مستوى موسمي منذ عام 2007.

ما ردة فعل البيت الأبيض؟

باختصار، فإن المعروض المنخفض بشكل قياسي يرجع إلى عدة أسباب من بينها اللوائح التنظيمية المعقدة في أميركا مما أدى إلى نقص تاريخي في طاقة التكرير لا يمكنه تلبية الطلب المرتفع.

وأصبح النقص في وقود الديزل المستخدم للتدفئة والشاحنات وقطارات الشحن والسفن بشكل عام للحفاظ على استمرار التجارة والشحن، مصدر قلق رئيسي لإدارة الرئيس الأميركي “جو بايدن” مع اقتراب فصل الشتاء.

ورغم ادعاءات البيت الأبيض بالشعور بقلق عميق حيال أزمة الديزل القادمة، إلا أنه لا يفعل شيئًا على الإطلاق إلى جانب استنزاف احتياطي النفط الاستراتيجي الذي لا يزيد حتى من إنتاج الديزل.

تأتي أزمة الديزل التاريخية قبل أسابيع فقط من انتخابات التجديد النصفي بالكونغرس الأميركي لتؤدي بالتأكيد إلى رفع الأسعار للمستهلكين الذين ينظرون بالفعل إلى التضخم والاقتصاد كقضية تصويت رئيسية.

فبحسب بيانات AAA، ارتفعت أسعار التجزئة للوقود بشكل مطرد لأكثر من أسبوعين عند 5.324 دولارًا للغالون، وهو ما يعني أن الأسعار أعلى بنسبة 50٪ من هذا الوقت من العام الماضي.

والأزمة الأكبر هنا تكمن في احتمالية نفاد الوقت وأن تكون الأمور خرجت عن السيطرة مع استنزاف الاحتياطيات خاصة مع دخول مصافي التكرير موسم الصيانة وكذلك استمرار الحرب الروسية في أوكرانيا وما يصاحبها من اضطرابات في سوق الطاقة.

الأزمة والحلول

ترجع الأزمة لعدة أسباب هي: أولاً، تعافى الطلب المحلي على الديزل بشكل يفوق الطلب على البنزين ووقود الطائرات بعد تضرر الطلب من تأثير الجائحة، مما أدى إلى استنزاف المخزونات.

ثانيًا، قوة الطلب الخارجي حيث ارتفعت صادرات الديزل الأميركية عند مستوى مرتفع بشكل غير عادي.

ثالثًا، أن الولايات المتحدة لديها طاقة تكرير أقل من ذي قبل، مما يقلل من قدرتها على إنتاج الوقود.

رابعاً، الحرب الروسية في أوكرانيا حيث كانت الولايات المتحدة تستورد كمية كبيرة من زيت الوقود الروسي قبل الحرب، والتي حولتها مصافي التكرير في خليج المكسيك إلى ديزل، وبعد فرض العقوبات ضد موسكو، توقفت تلك الإمدادات.

والآن بعد وقوع الأزمة بالفعل: ما الخيارات والحبوب أمام إدارة بايدن؟:

يمكن للبيت الأبيض السماح للسوق بمواصلة تقلباته بين العرض والطلب حيث من المحتمل أن يؤدي ارتفاع الأسعار إلى تقليل الاستهلاك وزيادة العرض، لكن تكلفة نهج عدم التدخل هي وجود تضخم أعلى وركود أسرع بكثير مع توقف بعض الصناعات نظرًا لأن الديزل يزيد من تكاليف النقل بالشاحنات، وبالتالي، فإنه يعد أحد مسببات ارتفاع التضخم.

وإذا اختار البيت الأبيض التدخل، فسيكون الإجراء الأقل ضرراً هو إطلاق احتياطي صغير من الديزل تحتفظ به الحكومة لحالات الطوارئ والذي يحتوي على احتياطي على مليون برميل فقط، لذلك سيكون، في أحسن الأحوال، بمثابة إسعافات أولية، لكنها أفضل من لا شيء.

وقد يكون للتدخل الأخرى عواقب وخيمة من بينها إلحاق الضرر بحلفاء الولايات المتحدة. في واشنطن، يفكر المسؤولون في تقييد أو حتى حظر صادرات الديزل، ولو تم إقرار ذلك، فإنه سيترك الجيران، بما في ذلك المكسيك والبرازيل وتشيلي، يعانون من نقص الديزل مع الأخذ في الاعتبار أن صادرات الديزل الأميركية إلى أميركا اللاتينية بلغت مستوى قياسياً عند 1.2 مليون برميل، أي ضعف الكمية قبل عقد من الزمن.

هناك خيار آخر هو إجبار شركات النفط على بناء مخزونات بسرعة قبل الشتاء من خلال تحديد مستوى أدنى للمخزون، على غرار ما فعله الاتحاد الأوروبي لمخزونات الغاز الطبيعي.

والخلاصة من كذلك أن أي حلول لمعالجة الأزمة لها ثمن باهظ يجب دفعه لحل المشكلة، ولكن مع إدارة تقف مكتوفة الأيدي، فإن أزمة الديزل ربما تكون في طريقها للتفاقم.

ماذا عن أزمة الطاقة في أوروبا؟

يؤدي ارتفاع تكلفة الطاقة إلى زيادة التضخم، وذلك بالتزامن مع استمرار الحرب الروسية في أوكرانيا وتضرر إمدادات الغاز الطبيعي ووقود التدفئة إلى أجزاء كبيرة من أوروبا مع اقتراب فصل الشتاء، وذلك ما يؤدي إلى زيادة فواتير استهلاك الطاقة على كاهل الأسر.

دفعت الحرب الروسية في أوكرانيا وما تبعها من نقص في إمدادات الغاز الطبيعي إلى أوروبا الأسعار العالمية إلى مستويات مرتفعة جديدة مع توقعات باستمرار اضطراب السوق في عام 2023 وفقاً لتقرير سوق الغاز ربع السنوي الأخير الصادر عن وكالة الطاقة الدولية. ويضيف التقرير أن الأسعار في الولايات المتحدة وصلت إلى أعلى مستوياتها على أساس موسمي في فصل الصيف منذ عام 2008.

لقد أدت الأزمة إلى انخفاض استهلاك الغاز الطبيعي في غالبية الدول والمناطق سواء في أوروبا أو في الدول التابعة لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وبلغت نسبة التراجع في الطلب على الغاز ما يقرب من 10٪ على أساس سنوي في الفترة من يناير كانون الثاني إلى أغسطس آب، كما انخفض الطلب من القطاع الصناعي على الغاز بنسبة 15٪ مما أدى إلى تراجع الإنتاج.

تضرر المستهلكين

تقول وكالة الطاقة الدولية إن اكتشاف التسريبات في شبكة خطوط أنابيب Nord Stream في سبتمبر أيلول أدى إلى الحد من إمدادات الغاز إلى أوروبا بشكل أكبر، ولا يمكن استبعاد الإغلاق الكامل لتدفقات الأنابيب الروسية إلى الاتحاد الأوروبي في المستقبل.

وأضافت الوكالة في تقريرها: “إن الغزو الروسي لأوكرانيا والتخفيضات الحادة في إمدادات الغاز الطبيعي لأوروبا يسببان ضرراً كبيراً للمستهلكين والشركات والاقتصادات بأكملها ليس فقط في أوروبا ولكن أيضاً في الاقتصادات الناشئة والنامية”.

وبالتبعية، لا تزال التوقعات لأسواق الغاز يسودها الغموض لأسباب أبرزها استمرار الحرب الروسية والتي أضرت بسمعة موسكو كمورد موثوق للطاقة.

ونتيجة لهذه العوامل، فإن دول الاتحاد الأوروبي حاولت العمل بشكل جماعي لتعزيز أمن إمداداتها هذا العام واتخذت خطوات من بينها زيادة تنويع مصادر الطاقة، وتحديد التزامات بملء المخزونات بحد أدنى، وتنسيق تخفيضات الطلب الموسمية في الأشهر الأخيرة. وتضيف وكالة الطاقة الدولية أن هذا يعني أنها تمكنت من ملء مخزوناتها من الغاز بنسبة 90٪.

الطلب على الغاز المسال

أدى اندفاع أوروبا في جهود خفض اعتمادها على الغاز الروسي إلى زيادة الطلب على الغاز الطبيعي المسال. وتتوقع وكالة الطاقة الدولية أن واردات أوروبا من الغاز الطبيعي المسال ستزيد بأكثر من 60 مليار متر مكعب هذا العام مما أدى إلى ارتفاع معدلات شحن الغاز بالسفن بشكل قياسي ونقص لاحق في عدد السفن اللازم لنقل الوقود.

لكن الوكالة تتوقع أن تظل واردات آسيا من الغاز الطبيعي المسال أقل من العام الماضي للفترة المتبقية من عام 2022.

ومع ذلك، قد ترتفع واردات الصين من الغاز الطبيعي المسال العام المقبل بموجب سلسلة من العقود الجديدة المبرمة منذ بداية عام 2021، وفي حالة التعرض لشتاء أعلى برودة من المتوسط ​، فإن ذلك سيؤدي إلى طلب إضافي من شمال شرق آسيا.

وترى الوكالة الحاجة إلى مزيد من التعديلات الرئيسية لتجنب تفاقم أزمة الغاز في أوروبا في حالة انخفاض التدفقات مثل الحاجة لخفض الطلب بنسبة 13٪ من أجل الحفاظ على مستويات التخزين أعلى من 33٪ حتى عام 2023.

أيضاً يجب تغيير سلوكيات استهلاك الغاز الطبيعي لخفض الطلب بمقدار 15 مليار متر مكعب خلال موسم 2022/23، وهو ما يعادل أكثر من 40٪ من الحد المطلوب بنسبة 13٪ لخفض الطلب.

وفي حالة حدوث موجات برودة أعلى من المعتاد، سيكون التضامن والوحدة وسلوك الأسر أمراً حيوياً وحاسماً لضمان أمن الإمدادات.

 

البعد النفطي لقرار «أوبك بلس» تخفيض الإنتاج

قرر وزراء الطاقة في مجموعة «أوبك بلس» تخفيض الإنتاج مليوني برميل يومياً من النفط الخام. ويتوقع أن التخفيض سيكون في نهاية المطاف نحو مليون برميل يومياً، أو نحو واحد في المائة من مجمل الإنتاج النفطي العالمي البالغ 100 مليون برميل يومياً تقريباً، والسبب أن بعض الدول ستنتج بكامل طاقتها للاستفادة من الأسعار والمحافظة على بعض أسواقها ودعم موازناتها. من ثم، فحجم الإمدادات المخفضة ضئيلة جداً.
لماذا اتخذت «أوبك بلس» قرار تخفيض الإنتاج في هذا الوقت الاقتصادي المضطرب عالمياً وارتفعت الضجة على الآثار المترتبة على هذا القرار؟
تدل الإحصاءات والتوقعات الاقتصادية المتوفرة أن هناك عدة أسباب نفطية للقرار، أهمها، المؤشرات والتوقعات الاقتصادية السلبية للنصف الثاني لعام 2022 ولعام 2023. مما يدل على انخفاض الطلب على النفط خلال هذه المرحلة وضرورة تقليص الإنتاج لوقف التراجع في الأسعار للحفاظ على المصلحة الاقتصادية للدول المنتجة.
فمعدل سعر سلة نفوط أوبك قد انخفض خلال شهر سبتمبر (أيلول) 6.58 دولار للبرميل عن شهر أغسطس (آب)، ليصبح معدله 95.32 دولار للبرميل.
تعود أسباب هذا الانخفاض السعري خلال الأشهر الماضية إلى التدهور في أسعار أسواق البورصات العالمية وزيادة أسعار الفوائد من قبل البنوك المركزية الكبرى، بالإضافة إلى القلق والمخاوف من القلاقل الجيوسياسية نتيجة الغزو الروسي لأوكرانيا والصراع حول تايوان والاضطرابات المستمرة في الشرق الأوسط وما صاحبها من ارتفاع أسعار النفط الآجلة التي تقرر في بورصات النفط في نيويورك ولندن.
كما تدل المؤشرات أن النمو الاقتصادي العالمي قد دخل في نفق مظلم، مليئاً بعدم اليقين والشكوك، من تصاعد معدلات التضخم العالمية، ارتفاع أسعار الفوائد واستمرار المشاكل والتأخير في سلسلة تزويد السلع والبضائع، الناتج عن صرف العمال والموظفين من وظائفهم أثناء الجائحة وصعوبة إعادة تعيينهم بالسرعة اللازمة لاحقاً. بالإضافة إلى كل هذا، هناك إمكانية عودة انتشار الجائحة في الصين خلال فصل الشتاء المقبل، مما أربك الأمور كثيراً، بالذات لانخفاض الطاقة الإنتاجية الإضافية العالمية.
وانخفضت المؤشرات والتوقعات السلبية للنمو الاقتصادي العالمي 2.7 في المائة لعام 2022 و2.5 في المائة لعام 2023. وفي حال الولايات المتحدة، انخفضت التوقعات لنمو الناتج الدخل القومي لعام 2022 نحو 3 في المائة، وكذلك المؤشرات لانخفاض النمو لعام 2023 نحو 0.3 في المائة. كما انخفضت التوقعات لنمو الناتج الدخل القومي لمنطقة اليورو في عام 2022 نحو 3 في المائة، وانخفضت المؤشرات بنحو 0.3 في المائة لعام 2023. وقد أعيد تقييم النمو الاقتصادي في اليابان لعام 2022 ليرتفع 1.5 في المائة ولينخفض في عام 2023 نحو 1.0 في المائة. وتوقعت الدراسات انخفاضاً للنمو الاقتصادي الصيني في عام 2022 إلى 3.1 في المائة، بينما التوقعات لعام 2023 تدل أن النمو سيكون بحدود 4.8 في المائة. وفي الهند، خفضت التوقعات لعام 2022 إلى نحو 6.5 عام 2022 ولعام 2023 نحو 5.6 في المائة. أما في البرازيل، فتوقعات النمو الاقتصادي لعام 2022 لم تتغير، مستمرة على معدل 1.5 في المائة، إلا أنها متوقعة أن تنخفض لعام 2023 إلى نحو 1 في المائة. والتوقعات لروسيا قد عدلت لتشير إلى تقلص لعام 2022 نحو 5.7 في المائة، مع توقع نمو 0.2 في المائة لعام 2023.
وفيما يتعلق بالطلب على النفط، فقد تم تخفيض معدل الطلب المتوقع لعام 2022 نظراً للتوقعات الاقتصادية والجيوسياسية الآتية: إعادة انتشار «كوفيد – 19» في الصين خلال فصل الشتاء المقبل. والتحديات الاقتصادية في أوروبا بسبب حظر البترول الروسي. وضغوط التضخم العالمية.
من ثم، وعلى ضوء التطورات العالمية السلبية المتعددة والتوقعات بانخفاض الطلب على النفط نحو 0.5 في المائة خلال النصف الثاني لعام 2022. بينما التوقعات للطلب على النفط في عام 2023 قد خفضت إلى معدل 2.3 مليون برميل يومياً.
هناك سبب أساسي آخر لارتفاع الأسعار مرده الانخفاض الحاد في الطاقة الإضافية العالمية لزيادة إنتاج النفط الخام. ويعود السبب الرئيس لهذا الانخفاض إلى قوانين وتشريعات البيئة التي تم تبنيها منذ عام 2015 التي قلصت الاستثمارات العالمية في قطاع إنتاج النفط كجزء من الحملة لتقليص الاستثمارات في القطاعات الأحفورية. والمعروف في الصناعة النفطية هو أنه كلما تقلصت الطاقة الإضافية إلى حدود أدنى، ترتفع في الوقت نفسه أسعار النفط الخام، والسبب تخوف الشركات من عدم توفر إمدادات كافية عند ضرورة الحاجة إليها. وهناك تخوف من هذا النوع في الأسواق الآن نظراً إلى التقلص في الاقتصاد الصيني لإغلاقات الجائحة والتساؤل إذا كانت هناك طاقة إنتاجية إضافية في حال عودة الاقتصاد الصيني إلى عافيته عند انتهاء الجائحة هناك. وتشير المعلومات إلى أن استثمارات الشركات العالمية في قطاع الإنتاج قد تقلصت نحو الثلث منذ منتصف العقد الماضي.
وقد ركز على هذا الأمر الرئيس التنفيذي لشركة «أرامكو السعودية»، أمين الناصر، في كلمة له في مؤتمر بترولي عقد في لندن مؤخراً. أشار الناصر إلى أن الطاقة الإنتاجية الإضافية العالمية تبلغ حالياً 1.5 في المائة من الطلب العالمي. ومن جانبه، ذكر الرئيس التنفيذي لشركة «شل» بن فان بيردن، خلال المنتدى نفسه، أنه «لا يمكننا العيش في هذا العالم دون طاقة إضافية».
كما طرأت صعوبات أخرى في الصناعة النفطية العالمية. إذ نجد، بسبب التشريعات البيئية المستعجلة تقلص تشييد مصاف تكرير جديدة. وفي الولايات المتحدة مثلاً، أعلن الرئيس التنفيذي لشركة «شيفرون» أنه لم يتم بناء مصفاة جديدة في الولايات المتحدة منذ عقد السبعينات رغم الزيادة السنوية هناك في استهلاك المنتجات البترولية، بالذات البنزين. ونجد في الوقت نفسه الولايات المتحدة تصدر المنتجات البترولية إلى الأسواق العالمية رغم الأسعار القياسية لأسعار البنزين الأميركية حالياً. من ثم، فإن ارتفاع أسعار البنزين الأميركية لا علاقة لها بإمدادات «أوبك»، بل نتيجة عدم قدرة المصافي القديمة هناك على تلبية الطلب المتزايد سنوياً، وللعب أميركا دور المصدر منذ الإنتاج الواسع للنفط الصخري في منتصف العقد الأخير.

 

هل يُلبي قانون “نوبك” الأهداف الأميركية أم يُزيد التقلبات بأسواق الطاقة؟

 

عبر خطوة أثارت حفيظة الإدارة الأميركية مطلع الشهر الجاري، قررت أوبك+ خفض الإنتاج النفطي بنحو مليوني برميل يومياً.

وبعد القرار الأخير لـ أوبك+، أعلن البيت الأبيض أن إدارة بايدن ستتشاور مع الكونغرس حول الأدوات والسلطات الإضافية لخفض سيطرة أوبك على أسعار الطاقة.

ووصف بايدن القرار بأنه غير ضروري، فيما صرحت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين بأن القرار يضر بالاقتصاد العالمي.

كما فتح القرار باب التكهنات أمام خطوات عديدة قد تلجأ إليها إدارة جو بايدن وفي مقدمتها ورقة “نوبك”، وهو تشريع يمنح القضاء الأميركي الحق في النظر في دعاوى مكافحة الاحتكار ضد منتجي أوبك والحلفاء.

وكانت اللجنة القضائية بمجلس الشيوخ مررت بالفعل مشروع القانون في مطلع مايو أيار الماضي، ويستهدف ما وُصف بحماية الشركات والمستهلكين في أميركا من ارتفاع أسعار الخام.

وجاءت تلك الخطوة بعد سنوات من الإخفاق في كل مرة تحاول فيها الولايات المتحدة الخروج بهذا القانون إلى النور.

كيف سيعمل قانون نوبك؟

من شأن التشريع أن يسهم في تعديل قانون مكافحة الاحتكار الأميركي لإلغاء ما وصف بـ “الحصانة السيادية” التي تحمي أوبك والحلفاء وشركات النفط الوطنية بالدول الأعضاء من الدعاوى القضائية.

ولذلك فإنه في حالة تمرير القانون، سيحصل المدعي العام الأميركي على خيار مقاضاة التكتل أو أعضائه في محكمة فدرالية.

ورغم ذلك، فإنه من غير الواضح بالضبط كيف يمكن لمحكمة فدرالية أن تنفذ قرارات قضائية لمكافحة الاحتكار ضد دول أجنبية.

كما أن مشروع القانون لا بد له أن يجتاز كل من مجلس الشيوخ والنواب بكامل هيئته، ثم تمريره إلى الرئيس ليصبح قانوناً.

وأشارت ClearView Energy Partners إلى أن “نوبك” في حالة تقديمه إلى مجلس الشيوخ سيحصل على عدد الأصوات التي يحتاجها وهي 60 صوتاً.

لماذا فشلت المحاولات السابقة لتمرير القانون؟

المحاولات السابقة لتمرير “نوبك” باءت بالفشل وسط مقاومة من قبل مؤسسات للصناعات النفطية، بما في ذلك معهد البترول الأميركي.

وكان معهد البترول الأميركي يرى أن القانون قد يضر بمنتجي النفط والغاز في أميركا.

ووفقاً لتصريحات مايك سومرز الرئيس التنفيذي لمعهد البترول الأميركي، فإن “نوبك” سيخلق المزيد من عدم الاستقرار في السوق، كما سيفاقم التحديات الحالية في التجارة الدولية.

وأضاف: مثل هذا التشريع لن يكون مفيداً في أي ظروف سوقية سواء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل.

ومن ضمن المخاوف أن القانون قد يؤدي في النهاية إلى إفراط في الإنتاج من جانب أوبك، مما يخفض الأسعار.

ما الذي تغير الآن؟

لكن ما تغير هذا العام هو الغضب المتصاعد داخل الكونغرس بسبب زياد أسعار البنزين التي دفعت التضخم في أميركا لأعلى مستوى في عقود.

كما أن قرار أوبك+ الأخير بزيادة الإنتاج بأكبر وتيرة منذ بداية جائحة كورونا أسهم في زيادة هذا الغضب.

وصرح تشارلز شومر زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ الأميركي بأن مشروع القانون هو من بين الأدوات التشريعية التي يتم النظر إليها رداً على قرار أوبك+ الأخير.

تداعيات القانون قد تتجاوز أسواق النفط

هناك مخاوف من أن تتجاوز تداعيات القانون سوق النفط، وتمتد إلى أسواق أخرى.

وصرح بعض المحللين بأن نوبك قد يدفع بعض الدول لاتخاذ إجراءات مماثلة ضد الولايات المتحدة بسبب حجب الإنتاج الزراعي لدعم الزراعة المحلية.

كما أن دول أوبك قد ترد بطرق أخرى، إذ هددت السعودية في 2019 ببيع نفطها بعملات أخرى غير الدولار في حالة تمرير القانون، وهي خطوة ستتسبب في تقويض مكانة الدولار كعملة احتياطية رئيسة في العالم وتقلل من نفوذ واشنطن.

وتشير تكهنات أخرى إلى أن السعودية قد تتجه لشراء بعض الأسلحة من دول أخرى غير أميركا مما يضرب تجارة مربحة لمتعاقدي الدفاع الأمريكيين.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن للمملكة ومنتجي النفط الآخرين تقييد الاستثمارات الأميركية في بلدانهم أو رفع أسعار النفط المباع إلى أميركا، وذلك في وقت تواجه في الولايات المتحدة وحلفاؤها تحديات كبيرة في تأمين إمدادات طاقة موثوقة خاصة بعد الحرب الروسية الأوكرانية.

حَلْب الشركات التقنية

لا يزال الاتحاد الأوروبي يسعى خلف عمالقة الشركات التقنية الأميركية، فبعد سنوات من ملاحقة هذه الشركات في قضايا الاحتكار، ومحاولات فرض الضريبة الرقمية، أصدر هذا العام قانوني الخدمات الرقمية والأسواق الرقمية، لتنظيم عمل الشركات التقنية في أوروبا، هادفاً إلى تطبيق هذين النظامين على النطاق العالمي. هذه المساعي جاءت هذه المرة من خلال الشركات الأوروبية المزودة لخدمات الإنترنت. فقد أصدرت جماعة الضغط الأوروبية لمشغلي الاتصالات (إنتو) تقريراً في مايو (أيار) الماضي وضحت فيه أن أكثر من نصف حركة الإنترنت العالمية تعود إلى ست شركات فقط، هذه الشركات هي (أبل) و(مايكروسوفت) و(فيسبوك) و(أمازون) و(غوغل) و(نتفليكس). مجموع القيم السوقية لهذه الشركات الست هو 8.25 تريليون دولار، أقل بقليل من نصف مجموع الناتج القومي لدول الاتحاد الأوروبي السبعة والعشرين (18 تريليون دولار). هذه الأرقام كانت وما زالت تسيل لعاب المفوضية الأوروبية التي لا تكل البحث عن وسائل لما قد يعبر عنه بـ(حَلْب) الشركات التقنية.
هذا المصطلح ليس قاسياً على ما يريده الاتحاد الأوروبي، فهو سيطلق العام المقبل مشاورات يناقش فيها إمكانية مشاركة الشركات التقنية العملاقة في تكاليف بناء شبكات الاتصالات في أوروبا. والمنطق هو أن هذه الشركات تستفيد من هذه الشبكات من خلال الوصول إلى المستخدمين، وعدم المساهمة في تكاليف بنائها تجعل الشركات التقنية أشبه بـ(الراكب المجاني) الذي ينتفع مادياً من البنى التحتية دون أي مساهمة. وزاد مشغلو الاتصالات الأوروبيين على ذلك أن الشركات التقنية لديها تعارض في المصالح، فهي تقدم خدمات صوتية وتلفزيونية منافسة لشركات الاتصالات، وتعتمد في ذلك على شبكات الاتصالات، ولا يحق لشركات الاتصالات منعها من تقديم هذه الخدمات، كما أنها لا تستطيع دفع الضرر عن نفسها من هذه المنافسة التي لا تبدو عادلة من وجهة نظر شركات الاتصالات.
وجهة نظر شركات الاتصالات فيها الكثير من المنطق، فهي من تستثمر في بناء وترقية شبكات الاتصالات، وهذه العملية مستمرة وغير منقطعة، فشبكات الجيل الرابع التي أنشئت قبل عقد من الزمن، بحاجة إلى ترقية إلى شبكات الجيل الخامس التي لن تستمر لأكثر من عشرة أعوام كذلك حين تنطلق خدمات الجيل السادس. في الوقت نفسه فإن الشركات التقنية مستفيدة بكل تأكيد من هذه الشبكات، ولم تكن لتحقق أرباحها دون مساهمة مشغلي الاتصالات في بناء شبكات التي مكنت الشركات التقنية تعظيم أرباحها ومضاعفة قيمها السوقية خلال سنوات قليلة.
ولكن المفارقة أن من يريد هذه المساهمة هي دول الاتحاد الأوروبي، التي تعد دولاً ثرية بالعديد من المقاييس، ولو كان لدول الحق في طلب هذه المساهمة فهي الدول الفقيرة مثل الدول الأفريقية والآسيوية التي تعاني فعلياً من ضعف القدرة على بناء شبكات الاتصالات رغم كل المنافع الاقتصادية التي قد تتحقق لها في حال امتلكت شبكات اتصالات قوية. والاتحاد الأوروبي يراهن كثيراً على عدد سكانه الذين (يفيدون) الشركات التقنية العملاقة، رغم أن سكانه لا يتعدون نصف مليار نسمة، مقارنة بالهند التي يزيد سكانها على 1.3 مليار نسمة! إذا لو كانت الأحقية بعدم القدرة المادية لكانت الدول الفقيرة أحق بهذه المساهمة، ولو كانت بالعدد لنافست دول عديدة مثل الهند والصين وإندونيسيا وغيرها من الدول ذات عدد السكان العالي.
ومشغلو الاتصالات الأوروبيين لديهم بالفعل مقترح لآلية جمع الأموال من الشركات التقنية، فهم يريدون تحديد حصة عادلة لحركة مرور الإنترنت، ومن ثم تحصيل الأموال من الشركات التي تزيد حركة مرورها على هذه الحصة العادلة، واستخدام هذه الأموال في بناء شبكات الاتصالات. وقد طلبت منهم المفوضية الأوروبية أدلة على أن حركة مرور الإنترنت لمواقع مثل (نتفليكس) و(يوتيوب) تزيد بالفعل على متوسط الحصة العادلة وذلك لاستخدامها في المشاورات التي ستبدأ في الربع الأول من العام القادم لمدة ستة أشهر.
هذه التوجهات الأوروبية تطرح سؤالاً، ماذا بقي لأوروبا؟ فهي مقارنة بالصين والولايات المتحدة تعد متخلفة تقنياً، وتعاني بشكل مستمر من نكبات اقتصادية، وقد استنفدت الكثير من مواردها الطبيعية أو كبلت نفسها بأنظمة تعيقها من الانتفاع بهذه الموارد، ووصلت مرحلة لا تستطيع حتى تدفئة شعوبها في الشتاء. ويبدو أنها الآن، وكما أنها في قرون سابقة تغذت على الموارد الطبيعية لدول أخرى، تستخدم المنهج نفسه، ولكن بأسلوب حضاري فرضه الزمن الحالي. ومحاولة تحصيل الأموال من الشركات التقنية هي محاولات يائسة، ولن تخضع لها الشركات التقنية بهذه السهولة، ولو خضعت فسوف تواجه موجات من المحاولات نفسها من دول لا مانع لديها من إيقاف خدمات الشركات التقنية داخل حدودها الجغرافية حتى تحصل على ما تريده.

د. عبد الله الردادي

الفاشية الاقتصادية

فازت (جورجيا ميلوني) بالانتخابات الإيطالية لتصبح بذلك أول امرأة تتولى رئاسة الوزراء في إيطاليا. حزب (إخوة إيطاليا) الذي تقوده (ميلوني) هو كذلك أول حزب يميني متطرف يقود الحكومة منذ منتصف القرن الماضي، وكان آخر من تولى الحكومة الإيطالية من اليمين المتطرف هو (موسوليني)، مؤسس وقائد الحركة الفاشية في إيطاليا، الذي انتهى به المطاف إلى الإعدام على أيدي المقاومة الإيطالية. و(ميلوني)، التي يضم حزبها اثنين من أحفاد (موسوليني)، لم تخفِ إعجابها بـ(موسوليني) وقد سبق لها أن صرحت بأنه (فعل كل ما فعل لأجل إيطاليا)، فهل تنتهج (ميلوني) النهج الفاشي نفسه الذي اتبعته إيطاليا قبل قرن من الزمن؟
قامت الحركة الفاشية التي أسسها موسوليني قبل أكثر من مائة عام على فكرة (الطريق الثالث)، هذا الطريق يأتي وسطاً بين الرأسمالية الفردية، والاشتراكية الجماعية. إضافة إلى ذلك، فقد مزج (موسوليني) الفكر القومي إلى هذا المزيج، ولا يمكن إنكار أن حزب (إخوة إيطاليا) ورث الكثير من الحزب الفاشي، بل إن حزب (ميلوني) يحتوي على الشعلة الثلاثية ذاتها التي يحتويها شعار حزب (موسوليني). وهناك تشابه لا يمكن إنكاره بين فكر الحزبين، من ناحية المنهج القومي أو الشعوبي، والسياسة تجاه الهجرة، وغيرها.
تنعكس هذه الآيديولوجية على السياسة الاقتصادية الفاشية، فيشجع الاقتصاد الفاشي على المزج بين الملكية الخاصة والعامة، فهناك تركيز وتحفيز على الربح الخاص، ولكن المصلحة الوطنية هي الأهمية العليا في نهاية المطاف. لذلك فقد اعتمد الاقتصاد الفاشي على مساهمة الشركات في اقتصاد البلد، ودعم بشدة الشركات الوطنية التي تساهم في أهداف بلادها المهمة مثل الاكتفاء الذاتي. ولم يشجع الاقتصاد الفاشي على التجارة الدولية كما نبذ اقتصادات الأسواق الحرة والاستدانة من الخارج، وذلك في انعكاس واضح للفكر القومي. في المقابل، فإن الاقتصادات الفاشية اقترضت الكثير من الداخل لمشاريع البنى التحتية والمشاريع الاجتماعية وانخفضت معها معدلات البطالة إلى نسب قياسية. ويؤمن العديد من الاقتصاديين بوجود منهج اقتصادي فاشي، وأن الفكر الاقتصادي الفاشي لم يصل إلى مرحلة النضوج، وهو رأي طبيعي في هذا الزمن، بالنظر إلى أن الرأسمالية استغرقت عشرات السنين للنضوج، بينما لم يدم الاقتصاد الفاشي لأكثر من ثلاثة عقود.
ورغم أن مفردة (الفاشية) تستخدم اليوم كنوع من الإهانة، فإن هذا لم يكن شائعاً في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، حين كانت الحركة الفاشية في بداياتها مؤسسة أحزاباً في دول عديدة مثل فرنسا وبريطانيا، إضافة إلى إيطاليا التي استمر فيها الحزب بقيادة (موسوليني) وألمانيا بقيادة (هتلر). بل إن الولايات المتحدة حاولت آنذاك تطبيق السياسات الفاشية الاقتصادية، وما تزال تطبق العديد من هذه السياسات، وإن كان اسمها اختلف إلى (الرأسمالية المخطط لها) أو (السياسات الصناعية). ولا غرابة في ذلك، فقد انتعشت العديد من الصناعات في ألمانيا وإيطاليا إبان الحقبة الفاشية، ولعل شركة (فولكس فاجن) هي أبرز نجاحات تلك الحقبة، واسم (فولكس فاغن) يعني بالألمانية (سيارة الشعب)، وكان الهدف من إنشائها هو صنع سيارة بثمن مناسب للشعب، وهو انعكاس للنفَس الاشتراكي القومي للحزب الفاشي.
وقد أبدى العديد من السياسيين والمثقفين – خاصة الغرب – حينها إعجابهم الشديد بالفكر الفاشي وبقائده (موسوليني)، وذلك قبل أن تنقلب الفاشية عليهم. فقد كتبت صحيفة «نيويورك تايمز» حينها أن «(موسوليني) هو (روزفلت) إيطاليا، فهو يتصرف أولاً، ومن ثم يسأل عن الأمور القانونية، وهو بذلك يقدم خدمة رائعة لإيطاليا». كما وصفه (غاندي) بأنه أحد أعظم رجال السياسة في عصره. وقال عنه الأديب البريطاني برنارد شو: «يجب أن يسعد الاشتراكيون أخيراً بالعثور على اشتراكي يفكر كما يفعل المسؤولون». ويوضح ذلك أن اختلاف العالم مع الفكر الفاشي لم يكن لأسباب اقتصادية، بل لأسباب آيديولوجية بحتة.
وبعد أن انقلبت الآراء على الفاشية، أصبح الاقتصاد الفاشي يوصف بهشاشته، وأن الفاشية ترى الاقتصاد وسيلة لتحقيق أهدافها الفكرية، وليس غاية لحد ذاتها. وقد يحمل هذا الوصف بعض الصحة، ولكن، أليس ذلك ما تفعله العديد من الدول اليوم؟ فالاتحاد الأوروبي نفسه، الذي يبغض الفاشية ويخشى أن تتحد (ميلوني) مع الأحزاب اليمينية الأخرى في أوروبا مثل المجر وبولندا، يضع التوجهات الفكرية نصب عينيه قبل أي قرار اقتصادي، حدث ذلك مع المجر حينما أوقف الاتحاد الأوروبي معونات الجائحة عنها بسبب موقفها تجاه المثلية الجنسية.
إن فوز (ميلوني) لا يعني أبداً عودة (الفاشية) إلى إيطاليا وأوروبا، فهذه الحركة انتهت وأصبحت وصمة لا يريد أي حزب أن يوصم بها، إلا أن أفكار هذه الحركة مطبقة اليوم في العديد من الحكومات التي تدعي معاداة الفاشية. ولكن وصول حزب يميني متطرف لرئاسة إيطاليا مقلق جداً لأوروبا المنقسمة اليوم، فإيطاليا ليست المجر أو بولندا، فهي ثالث اقتصاد أوروبي، وعضو مجموعة السبع ومجموعة العشرين. إلا أن غالبية المؤشرات تشير إلى أن (ميلوني) لن تحيد كثيراً عن الاتحاد الأوروبي، لأسباب منها حاجة الاقتصاد الإيطالي الماسة إلى معونات الاتحاد الأوروبي التي تقدر بـ200 مليار يورو، لا سيما في الوقت الذي تصل فيها ديون إيطاليا إلى أكثر من 150 في المائة من ناتجها القومي.

د. عبد الله الردادي