أرشيف التصنيف: المقالات العامة

تداعيات أزمة الغاز في ألمانيا

انخفض الطلب على الغاز في ألمانيا خلال النصف الأول من هذا العام نحو 47 مليار متر مكعب (نحو 14.7 في المائة مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي)، ويعود السبب الرئيس لتدهور الطلب للارتفاع العالي في أسعار الغاز.
وقد أعرب وزير المالية الألماني، كريستين لندنير، عن مخاوفه من الآثار المترتبة على ارتفاع أسعار الغاز في أهم اقتصاد أوروبي، فالوضع الاقتصادي «هش» والتنبؤات الاقتصادية تخفض من معدلات النمو المستقبلية. كما حذر لندنير من ارتفاع مستوى التضخم إلى معدلات عالية، بحيث لا يستطيع الكثير من الناس تحمل الأسعار العالية للغاز والطاقة والطعام.
وبما أن ألمانيا، بصناعاتها الضخمة، تعد قاطرة الاقتصاد الأوروبي، فقد تغيّرت الصورة الآن، إذ تحول الاقتصاد الألماني ليصبح اليوم المركز الأضعف أوروبياً. إذ انخفضت معدلات النمو الاقتصادي في ألمانيا خلال الربعين الأول والثاني من عام 2022، في الوقت نفسه الذي ارتفع فيه النمو الاقتصادي في دول اليورو. كما قلّص صندوق النقد الدولي في الشهر الماضي توقعه للنمو الألماني لعام 2023 بنحو 1.9 في المائة إلى 0.8 في المائة، ليجعل منه أعلى نسبة تخفيض متوقعة لدول أوروبا في العام المقبل.
لعبت عوامل عدة دوراً في الانتكاسة الاقتصادية الألمانية، أبرزها فواتير الطاقة العالية، التي أدت إلى تقليص الاستهلاك والطلب المحلي. كما تأثرت سلباً حركة التجارة الخارجية؛ حيث تعتمد الكثير من المصانع على الشحن عبر نهر الراين المجاور لعديد من المصانع. لكن انخفاض مستوى النهر قلّص من حجم الصادرات، ناهيك عن الانخفاض الذي طرأ على التجارة الخارجية بسبب إغلاقات الجائحة، بالذات في أسواق الصين.
اعتمدت ألمانيا على روسيا لاستيراد 50 في المائة من حاجتها للغاز المستورد عبر شبكة الأنابيب بين البلدين. وآخر أنبوب هو خط «نورد ستريم – 2»، لذا فمقاطعة الغاز الروسي بسبب الحرب الأوكرانية وضع ألمانيا في وضع صعب جداً للحصول على إمدادات غازية بديلة بسرعة. وكان الأمر سيصبح أسهل لو استوردت ألمانيا الغاز المسال الذي يشحن بالناقلات المتخصصة، كما في جنوب أوروبا.
ذكرت صحيفة «فايننشال تايمز»، الأسبوع الماضي، أن «أسعار الغاز في أوروبا قفزت نحو 251 يورو لميغاوات/ساعة، أو ما يعادل أكثر من 400 دولار لبرميل النفط، نظراً للمنافسة الحادة لتأمين إمدادات غازية قبل حلول فصل الشتاء». وتضيف الصحيفة البريطانية أن «الأسعار قد تضاعفت مقارنة بالمستوى السعري العالي ليونيو (حزيران) الماضي». والأسباب هي نقص الإمدادات الروسية بسبب الحرب الأوكرانية، والمنافسة الحادة بين الأسواق الأوروبية والآسيوية لشراء الغاز قبل حلول فصل الشتاء المقبل.
الحال أن الحكومة الألمانية تعمل حالياً في المرحلة الثانية من برنامجها لتخفيض الطلب على الغاز نحو 20 في المائة، بالإضافة إلى الحصول على 4 ناقلات لتخزين الغاز ومراجعة الضرائب المفروضة على استهلاك الغاز، ناهيك عن إعادة العمل في مناجم الفحم التي تم إغلاقها، برغم الأضرار البيئية الناتجة عن ذلك، لتعويض استخدام الغاز لتوليد الكهرباء في بعض المحطات. هذا، بالإضافة للجوء للطاقات المستدامة، كالرياح، لتوليد الكهرباء.

وليد خدوري

الاقتصاد الذي أثبت صعوبته البالغة للخبراء

«الضوضاء» هي أحدث كلمة رنانة يجري استخدامها بين العديد من خبراء الاقتصاد والمستثمرين، حيث يجري استخدامها للإشارة إلى أي نوع من البيانات الاقتصادية التي لا تتناسب مع الرواية السائدة، وهو ما يحدث كثيراً هذه الأيام. لا تفهموني خطأ، فقد ثبت أن هذا النوع من الاقتصاد صعب الفهم. فهو قوي جداً في بعض النواحي وضعيف جداً في جوانب أخرى. فالبيانات الحكومية الرسمية تظهر أن الناتج المحلي الإجمالي انكمش لربعين متتاليين، بما يتوافق مع التعريف الفني للركود، لكنه لا يبدو وكأنه ركود حقيقي.
لم تكد وزارة العمل تذكر في وقت سابق من الشهر الحالي أن الاقتصاد أضاف 528 ألف وظيفة في يوليو (تموز)، أي أكثر من ضعف التوقعات، وتجاوز جميع تقارير واستطلاعات وكالة «بلومبرغ» للأنباء، حتى رفض خبراء الاقتصاد النتائج باعتبارها مجرد «ضوضاء». فقد تحدثوا مرة أخرى عندما قالت الحكومة في 10 أغسطس (آب) إن مؤشر أسعار المستهلك لم يتغير في يوليو عن الشهر السابق، وهي نتيجة توقعها جميع خبراء الاقتصاد البالغ عددهم 63 باستثناء أربعة توقعوا الزيادة.
الأسبوع الحالي فقط، سمعنا الكثير من خبراء الاقتصاد، وقد استجابوا بعمل «ضجيج» عندما قالت وزارة التجارة الأسبوع الحالي إن مبيعات التجزئة لشهر يوليو بين المجموعة الضابطة التي تُستخدم لحساب الناتج المحلي الإجمالي قد ارتفعت أكثر من المتوقع.
كان كل ذلك محيراً للغاية للكثيرين، وأنا أتفهم ذلك. لكن لمجرد أن البيانات لا تتناسب مع نماذج «وول ستريت» القديمة التي عملت في حقبة ما قبل الجائحة لا يعني أنها «ضوضاء». ربما يعني ذلك أن النماذج في حاجة ماسة إلى التحديث.
خذ بيانات التضخم كمثال. كان عدم وجود تغيير في مؤشر أسعار المستهلكين الشهري مفاجئاً، ولكن ربما لم يكن استثناء، حيث يقوم مكتب إحصاءات العمل بعمل رائع في جمع البيانات وتحليلها. إذا أظهر أن التضخم لم يتغير، فهذا يعني حقاً أن التضخم قد تباطأ، ويعني هذا أيضاً أنه لا يزال بإمكاننا النقاش حول سبب تباطؤ التضخم. نظريتي المفضلة هي أن التضخم الأسرع كان نتيجة للتأثيرات المتأخرة للحافز المالي استجابة لإغلاق الأيام الأولى للوباء، والآن بعد أن تحرك الحافز بعيداً في مرآة الرؤية الخلفية، فإن مكاسب الأسعار ستتباطأ. فالبيانات على ما هي عليه، ولكن لا يزال من الممكن أن تخضع للتفسير.
قد يتم أيضاً تجاهل رقم مبيعات التجزئة القوي باعتباره «ضوضاء». فقد ارتفعت مبيعات التجزئة باستثناء شراء السيارات بنسبة 0.4 في المائة في يوليو، مقابل انكماش متوقع بنسبة 0.1 في المائة في استطلاع «بلومبرغ». وارتفعت المبيعات بين المجموعة الضابطة 0.8 في المائة، أعلى بكثير من المتوسط الشهري لما قبل الوباء البالغ 0.3 في المائة. النتائج الأخيرة لا تتناسب مطلقاً مع الرواية القائلة إن الاقتصاد في حالة ركود.
لذلك فإن الخيارات هي إما رفض البيانات التي لا تتوافق مع الأرقام التي تبثها النماذج أو استخدام بعض القدرات العقلية لمعرفة السبب الذي يجعل النماذج تبدو خاطئة بدرجة كبيرة في الآونة الأخيرة. ربما لا يؤثر التضخم على المستهلكين بهذه الدرجة الكبيرة. وربما لا يزال المبلغ الهائل من المال موجوداً في حسابات المدخرات المنزلية بفضل التحفيز المالي غير المسبوق عندما يقترن بمعدل بطالة يبلغ 3.5 في المائة يعتبر أدنى مستوى له منذ 53 عاماً، مما يعني أن المستهلكين لا يعرقلهم ارتفاع الأسعار.
هذا لا يعني عدم وجود تقلب في البيانات الاقتصادية. فهناك حالات شاذة عرضية. ففي بعض الأحيان، يتم إيقاف الحسابات الموسمية بسبب حدث غير عادي، مثل إغلاق حكومي غير متوقع بسبب بلوغ سقف الديون أو حدوث كارثة طبيعية. وهذا هو السبب في أن العديد من خبراء الاقتصاد ينظرون إلى المتوسطات المتحركة وسلسلة البيانات على مدى فترة زمنية للحصول على صورة أكثر صدقاً للاتجاهات.
كل ما يحدث في الاقتصاد الآن يحدث لسبب – وهو سبب يكافح العديد من الاقتصاديين والمستثمرين لفهمه. وكما كتبت من قبل، لا تفيد أي من النماذج التي يستخدمها خبراء الاقتصاد في التنبؤ بآثار الاقتصاد الذي يتوقف عند عشرة سنتات، ويتخلص من حوالي 17 مليون شخص من القوى العاملة على مدار أسبوعين ويبرم تعاقدات بنسبة 31 في المائة لينتعش بالسرعة نفسها في عودة البرامج الحكومية ذات الأموال المجانية التي ضخت تريليونات الدولارات مباشرة في جيوب المستهلكين لتتماشى مع أسعار الفائدة الحقيقية السلبية وسياسات التيسير الكمي من البنك المركزي. علاوة على ذلك، تعطلت سلاسل التوريد العالمية بشكل كبير، مما أدى إلى نقص في السلع، مما أدى بدوره إلى ارتفاع أسعار السلع المتوفرة.
سوف يستغرق الأمر بضع سنوات قبل أن يتم حل كل هذا ونعود إلى شيء يشبه دورة العمل العادية. ومن المحتمل ألا يكون التباطؤ الاقتصادي الواسع الذي نشهده أكثر من تراجع عن الانتعاش الحاد المصطنع من عمليات الإغلاق. قد لا يتناسب مع نموذج دورة الأعمال التقليدية، ولكن بمجرد قبولك أن هذه ليست دورة عمل عادية وعرض البيانات من خلال عدسة مختلفة، فإن ما هو غير متوقع سيبدأ في أن يكون منطقياً وليس شيئاً يمكن تجاهله باعتباره مجرد «ضوضاء».

جاريد ديليان

إنه الاقتصاد يا…

قول «إنه الاقتصاد يا غبي» لجيمس كارفيل، مستشار حملة الرئيس الثاني والأربعين للولايات المتحدة (1993 – 2001) بيل كلينتون في 1992 (وقتها حاكم أركنسو وتكتب أركنساس 1983 – 1992) كان مناسباً انتخابياً لكل مكان، تاريخياً؛ لكن ما مدى ملائمته لبريطانيا اليوم؟
ومدى تأثيره على حظ المتنافسين على زعامة حزب المحافظين، وبالتالي رئاسة الحكومة بعد اثنين وعشرين يوماً، وهما وزيرة الخارجية ليز ترس، وخصمها وزير المالية السابق ريشي سوناك؟
الإجابة، في التعبير الإنجليزي «لا… ولكن»، أو لا المشروطة.
السبب أنها ليست انتخابات عامة، الخيار فيها لعموم مواطني المملكة المتحدة، وإنما يقتصر التصويت على أعضاء حزب المحافظين الحاكم (نحو 180 ألف). والأمر مماثل مهما كان لون الحزب الحاكم لأنه سيخضع للائحة الداخلية للحزب. في 1976. عندما قرر رئيس الحكومة العمالية (1974 – 1979) السير هارولد ويلسون (1916 – 1995) الاستقالة فور علمه بإصابته بالزهايمر (وكتم الأمر على كل من حوله)، انتخب أعضاء حزب العمال – حسب اللائحة الداخلية – وزير الخارجية وقتها، السير جيمس كالاهان (1912 – 2005) ليخلفه.
فالنظام السياسي في أقدم الديمقراطيات أساسه تمثيل الأحزاب المنتخبة عبر الدوائر البرلمانية الـ650 وليست بانتخاب مباشر لرئيس الدولة كحال فرنسا مثلاً. الحزب، أو الكتلة الائتلافية، الفائز بالعدد الأكبر من مقاعد مجلس العموم، تكلف الملكة زعيمه بتشكيل الحكومة باسمها (ولذا تعرف رسمياً، وفي المراسلات الداخلية والخارجية، بحكومة صاحبة الجلالة).
الإجرائيات المألوفة (التقاليد والأعراف البرلمانية، والسوابق وهي في قوة القانون وربما أكثر تأثيراً في الحياة السياسية وسير العدالة في المحاكم لغياب الدستور المكتوب؛ فالدستور، عرفياً، هو تراكمات السوابق والمواثيق والممارسات، والأحكام القضائية) لتغيير رئيس الحكومة في فترة بين انتخابين برلمانيين؛ ولذا فالقول: «إنه الاقتصاد يا غبي» يفترض محدودية تأثيره هنا. لكن «لا المشروطة» لعدة عوامل، أهمها، خروج المناظرات بين المرشحين (كانا زميلين في وزارة بوريس جونسون حتى الشهر الماضي)، عن الحلبة التقليدية في داخل الأحزاب البريطانية المعروفة بالهستينغ husting، والتي تقام أمام الجمعيات (أو معهد أو نادٍ حسب تسميات القاعدة الحزبية في الدائرة) إلى العلن على مستوى المملكة كلها (راجع مقالتنا نهاية الشهر الماضي في «الشرق الأوسط»). استجابة إدارة الحزب لإلحاح شبكات التلفزيون على بث المناظرات علناً، ينقلنا إلى عامل آخر، يلعب فيه الحظ العاثر (الذي أتت به رياح لم تشتهيها سفينة المحافظين) دوراً أقوى وأكثر تأثيراً من سياسات الحكومة التي كانت الأكثر نجاحاً في حكومات العقود الثلاثة الماضية. فبجانب تدهور الاحتياطي النقدي للخزانة بسبب دعم الاقتصاد أثناء إغلاق وباء «كوفيد – 19». وتسليح أوكرانيا وتأثير الحرب الاقتصادية على روسيا، فإن التوقيت (باستقالة جونسون ومنافسة اختيار زعيم جديد) أيضاً زاد طين المحافظين بلة.
المناظرات التلفزيونية تخرج تحديد الأجندة السياسية من يد الناخب دافع الضرائب الذي رتبها حسب أولوياته في مانيفستو الحزب الذي اختاره (بأغلبية ساحقة) في انتخابات 2019 (منح المحافظين قرابة 44 في المائة من الأصوات، ترجموا إلى 365 مقعداً في مجلس العموم)، إلى المؤسسات الصحافية، ويفقد الحزب الحاكم زمام المبادرة برسم استراتيجية مخاطبة الرأي العام. فالأولويات تتغير، حسب مزاج، أو تقديرات معد البرنامج ومقدميه، ورد فعل جمهور الاستوديو والتفاعل على منصات التواصل الاجتماعي، خاصة «تويتر» اللحظي، التي قد تغير اتجاه أسئلة المذيع أو المذيعة في إدارتهم للمناظرة.
وكانت الحملة الصحافية، واتهامات تعمد تضليل البرلمان، وما أعقبها من ضغوط باستقالة عدد من الوزراء، أدت إلى استقالة جونسون في وقت ليس لدى الحزب فيه برنامج انتخابي محدد باستراتيجية للاقتصاد، فالانتخابات المتوقعة هي خريف عام 2024 حسب قانون الانتخابات البريطانية المعدل بتثبيت الفترة البرلمانية بخمس سنوات.
وبينما أولويات أعضاء الحزب الحاكم، وأصواتهم فقط ترجح كفة أحد المتنافسين، هي البقاء في الحكم بالفوز في الانتخابات القادمة؛ فإن تعميم المناظرات على الوسائل التلفزيونية يؤثر، سلبياً، على المحافظين، بدفع كل مرشح، ومعسكره إلى الإسراع بارتجال سياسات أغلبها غير مدروس بدقة.
وهنا يظهر تأثير مقولة كارفيل عن الاقتصاد، حيث يحتل القلق على المستوى المعيشي، قبل الخدمات، قائمة أولويات الناخب، وهي لا تتجزأ عن ارتفاع أسعار الطاقة والوقود الذي أصبح أزمة حقيقية في الرأي العام البريطاني بصرف النظر عن التفضيل الحزبي للمواطن. بل إن الحرب بالنيابة ضد روسيا، لا تحفل باهتمام البريطانيين إلا من زاوية واحدة فقط، هي ارتباطها بارتفاع أسعار الوقود بأمل أن يؤدي حل الأزمة الأوكرانية الروسية إلى خفض أسعار الطاقة.
ترس، وسوناك، غيرا من سياستهما المعلنة في بداية المنافسة استجابة لردود فعل الرأي العام، وليس فقط أعضاء الحزب.
سوناك بدأ حملته مجادلاً بضرورة التقشف وزيادة الضرائب لدفع الديون للتحكم في معدلات التضخم (بجانب رفع بنك إنجلترا سعر الفائدة) مستدلاً بنجاحها أثناء ولاية الليدي ثاتشر (1979 – 1990) بدلاً من الاقتراض؛ لكنه تراجع، (في مقالته في التايمز أول من أمس،) معلناً أنه سيلجأ للاقتراض لتوفير الدعم للأسر محدودة الدخل لدفع فواتير الطاقة.
لكن التضخم هذه المرة ليس بسبب النشاط الاقتصادي الداخلي، بل لأسباب خارجية أهمها أسعار الوقود وحرب أوكرانيا، وهي عوامل خارج سيطرة حكومة بريطانيا سواء رفعت الضرائب أم خفضتها داخلية.
ترس تتبع نظرية آرثر لافر المستشار، الاقتصادي لإدارة ريغان، بأن تخفيض الضرائب يزيد من قدرة المواطن الإنفاقية، ويحفز الشركات والأعمال لجذب استثمارات تخلق وظائف يسهم شاغلوها بدفع ضرائب، وبالتالي يرتفع دخل الخزانة وينتعش الاقتصاد تدريجياً، وتجادل بأنه بدلاً من تحصيل الضرائب ثم دفع بعض الدخل كإعانة للفقراء، فلا داعي لتحصيلها أصلاً، وتعارض اقتراح الضرائب الاستثنائية على أرباح شركات البترول (بعكس سوناك). وقرابة أربعة ملايين لا يدفعون ضرائب أصلاً (فدخولهم أقل من 12750 جنيهاً أو 15500 دولار، وهي الرقم الحدي لبداية دفع الضرائب)، وبالتالي لن تؤثر سياستها على أزمة فواتير الطاقة أو مستوى معيشتهم، فتراجعت هي الأخرى قبل ثلاثة أيام عن سياستها المعلنة سابقاً بعدم تقديم دعم فواتير الطاقة وغلاء المعيشة لمحدودي الدخل.
إنه الاقتصاد… للأذكياء والأغبياء معاً!

 

عادل درويش

معلّق سياسيّ مصري مراسل في برلمان ويستمنستر وداوننغ ستريت، ومؤرخ متخصص فى السياسة الشرق اوسطية.

لبنان والعالم في مهبّ الـ «Shrink Flation»

بعد عامين ونصف على بدء جائحة كورونا التي شكّلت صدمةً اقتصاديةً عالمية دفعت بالمصارف المركزية، كالفدرالي الاميركي والمركزي الاوروبي والمركزي الصيني والمصرف المركزي الروسي … لطباعة عشرات تريليونات الدولارات وضخها في الاسواق المالية، ما خلق وفرة في النقد وأتاح تمويلات ميّسرة من دون فوائد، شكّلت الحرب الروسيه -الاوكرانية منعطفاً اكثر خطورة على استدامة النمو الاقتصادي، خصوصاً انّه لا يمكن توقّع نهايتها حتى الآن.

تزاوج فائض السيولة مع ارتفاع المخاطر وشح الإمدادات خصوصاً الطاقة والمواد الأساسية كالحبوب، فارتفعت أسعار المواد الاولية والسلع والخدمات في كافة أرجاء العالم بنسب كبيرة جداً وصلت إلى اكثر من 200% على معظم السلع، ومعها ارتفعت ايضاً اسعار الخدمات، في دوامة مستمرة منذ شباط، ولا أفق لحلها بعد.

عالمياً، مداخيل المستهلك عادة ما تكون ثابتة وتنمو بمعدل 3% إلى 5% سنوياً، بنسبة لم تعد تتماشى ومستويات التضخم المرتفعة، ما يُترجم تراجعاً في القدرة على شراء السلع والمنتجات. اقتصادياً، ارتفاع مستويات التضخم بشكل صاروخي في موازاة استقرار في الدخل، يعني تراجع الطلب على السلع، ومعها يتراجع تصنيع السلع والخدمات المرافقة، فتتأثر الدورة الاقتصادية التي تشهد ركوداً، فيما الاسعار ترتفع تدريجياً لتصل إلى مستويات قياسية. وهو بالتحديد ما يمكن تسميته «shrink flation».

ما هو shrink flation؟
المصطلح الجديد يحدّد وبوضوح ومن خلال عبارة «Shrink» التقليص المستجد في حجم وكمية المنتج بحسب الطلب، وتدريجياً لعدم خلق صدمة في الاسواق. أما مصطلح «flation» فيشير إلى الارتفاع في اسعار المنتجات او الخدمات.

مثال على ذلك: إذا كانت علبة البسكويت تحتوي على 100 غرام وكان سعرها 3$، يعمد المنتجون في اوقات الـ shrink flation إلى تخفيض وزنها الى 75 غراماً وزيادة سعرها إلى 3.50$، بذلك لا يشعر المستهلك بتقليل الكمية، كما انّه لا ينتبه كثيرًا إلى زيادة السعر، فيستمر المستهلك بشراء المنتجات التي اعتاد استعمالها او الخدمات، من دون الحاجة إلى تغيير نمط الاستهلاك.

واقع اقتصادي مستجد فرضته أحداث غير اعتيادية، ما دفع بالمصنّعين والمنتجين ومقدّمي الخدمات إلى التكيّف لإرضاء المستهلك بأقل الخسائر الممكنة.

واقع أثّر سلباً على كل دول العالم، وانما تأثيره تضاعف في لبنان. وإلى كل العوامل الاقتصادية الخارجية التي طبعت الاقتصاد اللبناني، تُضاف العوامل الداخلية، من الأزمة المالية إلى النقدية والاقتصادية. فتراجع سعر صرف الليرة وحده فرض تضخماً قياسياً في الاسعار لامس 1000% او اكثر في بعض الاحيان.

كما تأثر لبنان بارتفاع كلفة المحروقات مع رفع الدعم عنها، ليدخل في دوامة تقلّص الانتاج وارتفاع الاسعار بشكل اسوأ من الدول الاخرى. ولا بدّ من الاشارة، انّه بالرغم من لجوء المنتجين والمصنّعين ومقدّمي الخدمات الى تقليص حجم انتاجهم ومحاولة عرض اسعار تنافسية، الّا انّ نمط الاستهلاك في لبنان قد تغيّر.

فعلياً، لبنان امام أزمات اقتصادية ونقدية ومعيشية صعبة، تتفاقم يوماً بعد يوم، فيما لا يزال افق الحل غائباً. وفيما تصدّر لبنان بأزمته المراكز الاولى عالمياً، قد يصنع مرة اخرى العنوانين او يخلق واقعاً اقتصادياً مختلفاً على حساب الشعب والمواطن والرفاهية والعيش الكريم.

د. باسم البواب

«أوبك»: آثار التطورات العالمية على أسواق النفط

شرح «تقرير أوبك الشهري للأسواق النفطية» الصادر الأسبوع الماضي، منحى وحيثيات التقلبات في أسعار النفط الخام والمنتجات البترولية في ضوء ظاهرة «الكساد التضخمي» العالمي، وإعادة انتشار جائحة كورونا عالمياً، كما استمرار الحرب الأوكرانية دون هوادة منذ نهاية شهر فبراير (شباط) الماضي، والتشنجات الأميركية – الصينية على ضوء زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركية لتايوان.
فبحسب منظمة «أوبك»، استمرت العوامل الأساسية في أسواق النفط باسترداد عافيتها القوية لمستواها ما قبل نشوب الجائحة خلال النصف الأول لعام 2022. لكن رغم استرداد العافية هذه، فقد ظهرت في الوقت نفسه مؤشرات عن تباطؤ في النمو الاقتصادي العالمي، من ضمنها بعض الدول النفطية نفسها. ومما ترك بصماته على أسواق النفط أيضاً الانخفاض النسبي للاستثمارات في قطاع الإنتاج النفطي بسبب التشريعات لتصفير الانبعاثات بحلول 2050، ما أدى إلى محدودية إمكانية زيادة الإنتاج من الأقطار المنتجة للنفط من خارج منظمة «أوبك».
نتيجة لهذه التقلبات انخفضت أسعار سلة «أوبك» 9.17 دولار للبرميل، أو 7.8 في المائة بشهر يوليو (تموز)، مقارنة بشهر يونيو (حزيران)، ليسجل معدل سعر السلة خلال شهر يوليو 108.55 دولار للبرميل.
وانخفضت في الوقت نفسه مؤشرات النمو الاقتصادي العالمي نحو 3.1 في المائة لعامي 2022 و2023. وتعزو أسباب هذا إلى انخفاض ناتج الدخل القومي الأميركي خلال الربع الثاني من عام 2022. فقد انخفض ناتج الدخل القومي الأميركي 1.8 في المائة خلال الأشهر الماضية لعام 2022. ويتوقع استمرار انخفاضه إلى 1.7 في المائة في 2023. ويتوقع نمو اقتصاد منطقة السوق الأوروبية المشتركة لعام 2022 نحو 3.2 في المائة، فيما التوقعات بانخفاض هذا المعدل لدول السوق الأوروبية لعام 2023 نحو 1.6 في المائة.
وقد سجل الطلب العالمي على النفط خلال عام 2022 زيادة معتدلة مقدارها 3.1 مليون برميل يومياً، ما زاد من معدل الطلب العالمي إلى نحو 100 مليون برميل يومياً. وتشير التوقعات لعام 2023 إلى أن ارتفاع الطلب على النفط سيستمر بنحو 2.7 مليون برميل يومياً، ليسجل ارتفاع الطلب العالمي على النفط 102.7 مليون برميل بومياً.
ولتحديد مشهد الاستهلاك النفطي العالمي، يذكر تقرير «أوبك»، أنه بصورة عامة تهيمن العوامل السلبية على توقعات عام 2023، نظراً للنزاعات الجيوسياسية، واستمرار الجائحة، وزيادة معدلات التضخم، كما ارتفاع معدلات الديون السيادية في دول متعددة.

وليد خدوري
كاتب عراقي متخصص في شؤون الطاقة

نظرة على بريطانيا ما بعد «بريكست»

انتهى عهد بوريس جونسون لكن الاضطرابات بدأت لتوها. للمرة الثالثة في أقل من عقد من الزمان، أدت أزمة في قيادة حزب المحافظين إلى الإطاحة برئيس الوزراء من منصبه. ففي حين جرى إسقاط أسلافه بسبب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فقد انهار عهد جونسون بسبب سلسلة من الأزمات، بعضها، مثل نقص العمالة وارتفاع تكاليف المعيشة، كان ماديا، والبعض الآخر، ولا سيما قرار جونسون التغلب على الوباء، كان أخلاقيا. في النهاية، كانت المشكلة في الأساس انتخابية وتمثلت في سلسلة من الهزائم واستطلاعات الرأي البائسة التي أقنعت المشرعين المحافظين بأن قوة الجاذبية الانتخابية لجونسون قد انتهت.
ورغم ذلك، من غير المرجح أن يقدم المرشحان اللذان يتنافسان على استبداله أي بديل أفضل. فقد خدم كلاهما في حكومة جونسون – ريشي سوناك كوزير للخزانة، وليز تروس كوزيرة للخارجية – وهما متورطان، بشكل مباشر أو عن طريق الجمعيات، في الفضائح التي أسقطته. والأكثر أهمية أن أيا منهما عرض أي فكرة عن كيفية التعامل مع المشاكل الهيكلية لبريطانيا، سواء بتقديم تخفيضات في الضرائب أو في الإنفاق. لذلك، بالنسبة للدولة، كلا الخيارين سيئ. ولذلك فالفوضى في الأشهر الأخيرة لم تبارح مكاناها.
لكن استقالة جونسون ستساهم في وضع نهاية لشيء ما أيضا. لما يقرب العامين بعد انتخابه في ديسمبر (كانون الأول) 2019، تمتعت البلاد بفترة من السلم الاجتماعي النسبي والاستقرار السياسي. مدعومة بقرار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وإطلاق التطعيمات الناجحة لـ«كوفيد 19»، أحرزت الحكومة تقدما كبيرا على معارضة حزب العمال الضعيفة والمحبطة. علاوة على ذلك، بدا أن الدولة – في الفضاء الزمني الغريب والوباء – قد تضافرت جهودها. ففي هذه الفترة القصيرة البينية التي خلت فيها البلاد من رئيس للوزراء بدا أن بريطانيا، التي يغذيها حس الدولة القومية، كانت تعود إلى الحياة من جديد.
لكن هذا لم يعد موجودا. ففي ظل الركود الاقتصادي، والانقسام الاجتماعي، والانحراف السياسي، يجري تقليص حجم البلاد. فقد انتهى وهم وخيال خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي المتمثل في إنعاش بريطانيا، وتحررها من قيود أوروبا وقدرتها على تأكيد نفسها بثقة في الداخل والخارج.
على الرغم من إفساح المجال الآن لكابوس مألوف، بدا هذا الخيال لفترة من الوقت يسود البلاد. فقد جرى التقاط الشعور الثقافي والعاطفي الغريب لمذهب جونسون من خلال اثنين من أكثر البرامج الإذاعية مشاهدة في التاريخ البريطاني، وكلاهما حدث خلال فترة ولايته. الأول كان خطاب جونسون للأمة في 23 مارس (آذار) 2020، حيث أعلنت حالة الإغلاق الوطني. والثاني كان نهائي يورو 2020، حيث حظيت إنجلترا بفرصة واقعية للفوز على إيطاليا، في 11 يوليو (تموز) 2021. كلا الحدثان شهده عشرات الملايين من الناس وكانا سببا في ظهور لحظات من الحس الوطني. كلاهما أنذر بتعليق الحياة الطبيعية باسم النضال الوطني، وهي تجربة ارتبطت بشكل غامض بالذكريات الشعبية للحرب العالمية الثانية.
الهدوء المخيف للإغلاق – بشوارعه الفارغة، والرحلات للاستمتاع بالحياة البرية – كان يقابله هوس الحشود المكسوة بالأعلام والسكر والهذيان التي تتجول في الشوارع التجارية الفارغة وتردد بحماس، «عدنا إلى البيت» (عودة الجنود إلى ديارهم) كانت لحظات قومية واضحة، لكن الحدثين غير متطابقين. كان أحدهما يمثل القومية من أعلى إلى أسفل، والآخر على مستوى القواعد الشعبية. أحدهما كان «بريطانيا» القومية المؤسسية، والآخر «إنجليزيا» بلهجات أكثر بروليتارية. ومع ذلك فقد صنعا معا لفترة وجيزة شعورا بالأمة.
كانت بالطبع لحظات قومية شهدت وفاة عشرات الآلاف من كبار السن البريطانيين في المستشفيات جراء الوباء الذي اجتاح البلاد بسبب التأخير في إعلان الإغلاق. ارتفع استخدام بنوك الطعام إلى أعلى مستوياته، حيث تلقى أكثر من 2.5 مليون شخص طرودا تحوي طعاما. وبحلول نهاية عام 2020، شهدت تسع من كل 10 أسر متدنية الدخل تدهورا خطيرا في دخلها، وتضاعفت نسبة الأشخاص الذين أبلغوا عن اكتئاب وقلق كبير إكلينيكيا ثلاث مرات، حيث ارتفعت من 17 في المائة إلى 52 في المائة. ومع ذلك، نجح مشروع الوحدة الوطنية غير المستقر، المدعوم بالإنفاق العام الهائل لإدارة الوباء، لفترة وجيزة: تقدم المحافظون في استطلاعات الرأي وكانوا بمنأى عن الفضائح والاستياء.
في سبتمبر (أيلول) من العام الماضي، بدأ الاستقرار يتزعزع. بدأ نقص الوقود، الناجم عن ندرة سائقي شاحنات الوقود، ليساهم في تراجع شعبية ودعم جونسون. في ديسمبر (كانون الأول)، طفت على السطح أولى روايات عن إقامة حفلات غير قانونية في 10 داونينغ ستريت، المقر الرسمي لرئيس الوزراء. وبحلول فبراير (شباط)، أدى ارتفاع أسعار الطاقة إلى الضغط على مستويات المعيشة، وزاد الطلب المتزايد على بنوك الطعام. عانت المستشفيات – التي تعاني من ضغوط ونقص في التمويل في الأساس – في ظل تراكم أعداد المرضى لتبلغ حوالي ستة ملايين مريض، وألغت المطارات التي تعاني من نقص الموظفين الرحلات الجوية. في «وستمنستر»، تحولت الأزمة التي عمت البلاد إلى صخب متزايد يرغب في إزاحة جونسون، الذي تشبث بمكانه لبعض الوقت، لكن بحلول منتصف الصيف، انتهى الأمر.
يتجه الاقتصاد الآن صوب فترة سيئة: فأسعار الطاقة المرتفعة، والتضخم الجامح، والصادرات المتعثرة، وارتفاع أسعار الفائدة، بحسب تعبير الخبير الاقتصادي دنكان ويلدون، شكلت في النهاية «عاصفة رعدية». وردا على ذلك، وعدت السيدة تروس، المرشحة لتحل مكان جونسون، بخفض الضرائب – التي يتعين دفعها عن طريق تأجيل سداد الديون بدلا من خفض الإنفاق. وعلى النقيض من ذلك، سيستمر السيد سوناك على المدى القصير في سياسته الحالية المتمثلة في زيادة الضرائب مع الإشارة إلى أن تخفيضات الإنفاق تسير على الطريق الصحيح. لا يمكن لأي من المقاربتين، من اليمين المحافظ أو الخزانة، معالجة الأسباب الكامنة وراء أزمة تكلفة المعيشة بسبب الافتقار إلى الأفكار.
قد يكون الرضا عن النفس هنا أمرا قاتلا. فالتيارات المعارضة، التي احتوتها تعويذة جونسون، عاودت الظهور تدريجيا حيث تستعد اسكوتلندا مرة أخرى لإجراء استفتاء على الاستقلال، ومن المفترض أن يجري ذلك في أكتوبر (تشرين الأول) القادم. وفي إيرلندا الشمالية، أصبح الحزب الجمهوري الحزب الأكبر، مما أضعف المؤسسة الوحدوية. وفي إنجلترا، اندلعت موجة من الإضرابات ذات المغزى الرمزي – في السكك الحديدية ومراكز الاتصال والمطارات – مما أعطى الأمل للعمال الذين شهدوا انخفاض مستويات معيشتهم لأكثر من عقد من الزمان. وبلغ مستوى الرضا عن الحكومة أدنى مستوياته منذ ثلاث سنوات، ولم يعد هناك زعيم محتمل قادر على إلهاب حماس الجماهير، وأخذ حزب المحافظين البريطاني في التفكك.
لكن ما هي بريطانيا؟ يقول المؤرخ ديفيد إدجيرتون إن الأمة البريطانية لم تكن موجودة إلا لبضعة عقود بعد الحرب العالمية الثانية. حتى ذلك الحين، كانت الهوية البريطانية عالمية، مرتبطة بإمبراطوريتها. وقد أصبحت أمة فقط في سنوات ما بعد الحرب، عندما جرى تنظيم الرأسمالية من قبل الدولة وحظي المواطنون بالرفاهية «من المهد إلى اللحد». منذ ذلك الحين، مع مبيعات الصناعات الوطنية وتبوؤ لندن مركز الصدارة، أصبحت بريطانيا مجرد مركز الشركات متعددة الجنسيات، مجردة من أي صدى اجتماعي أو مدني واسع. كانت الأمة البريطانية النائمة في حقبة ما بعد الحرب هي التي كان من المفترض أن تعيد إحياء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
يمثل خروج جونسون، المشجع الأكثر سحرا لبريكست، نهاية لهذا الخيال. وها هي قد جاءت الأزمة التي لا لبس فيها ولا حدود لها.

ريتشارد سيمور

تقييم لاغارد قبل نهاية شهر تمّوز

عام 2013 كانت #اليونان تشكو من أزمة كبيرة على صعيد الاقتصاد والقدرة على التجاوب مع سياسات #البنك المركزي الأوروبي الذي كان يرأسه حينئذٍ ماريو دراغي الذي أعلن في حينه، رغم معارضة ممثلي الألمان في مجلس إدارة البنك المركزي الأوروبي، أن على البنك إقرار السياسات التي تسهّل تجاوز الأزمة المستحكمة في حينه باليونان، والى حدّ أقل، البرتغال والاقتصاد الايرلندي الذي نما بسرعة نتيجة خفض معدلات الضريبة على أرباح الشركات الكبرى واندفاع العديد من شركات المعلوماتية والمصارف الى تأسيس وحدات ناشطة في إيرلندا.

اليوم الوضع مختلف لأسباب متعدّدة. فالنموّ تراجع الى حدّ بعيد بسبب أزمة الكورونا التي تسببت باختناق وسائل توزيع المنتجات سواء منها المنتجات الزراعية أو قطع الغيار الأساسية لوسائل النقل والمصانع كما انخفضت نسب العمّال الناشطين في المؤسسات هرباً من العدوى. وهذه الوضعية دفعت العديد من البلدان الى الإجازة لموظفيها الرسميين إما العمل من المنزل اعتماداً على وسائل الاتصال الحديثة، أو اختصار أيام العمل في الاسبوع.

 

كل ذلك، إضافة الى انطلاق حرب روسيا على أوكرانيا، واستمرار واشتداد الحرب، أمور أسهمت في توتير الاوضاع الدولية ورفع أسعار النفط ومشتقاته بسرعة وارتفاع أسعار الغاز بصورة أكبر.

الجوّ كان مختلفاً في شهر تموز وخلال انعقاد مؤتمر دولي لحكام البنوك المركزية في البرتغال، وقد شدد رؤساء البنوك المركزية على ضرورة مجابهة ضغوط التضخم وتقلص حجم الإنتاج وانخفاض توقعات النمو الى مستوى 1% في غالبية البلدان الاوروبية بعدما كان التوقع أن يكون النمو على مستوى 3-3.5%، وأصبح هنالك تفارق ما بين توجّهات الولايات المتحدة المتشددة تجاه روسيا والمساندة لأوكرانيا بما في ذلك منحة مالية تجهيزية على مستوى 44 مليار دولار إضافة إلى تجهيزات عسكرية تزيد قيمتها على 1.5 مليار دولار.

الألمان، والفرنسيون، والإيطاليون، بالتأكيد اعتبروا أن مصالحهم متضررة وقد سارعوا الى تبنّي خطوات لاختصار استهلاك الطاقة في أشهر الشتاء المقبل، كما أن اعتماد إيطاليا – التي تمر في أسوأ أزمة اقتصادية بين الدول الاوروبية – على الغاز الروسي لا يمكن إلغاؤه وتبدو الصورة مشابهة في ألمانيا، وفرنسا، وعلى العكس من الدول الاوروبية هنالك ثلاث دول تستفيد من استمرار القتال، واحدة منها النروج لأنها تصدّر كميات ملحوظة من الغاز والنفط، والمستفيد الأكبر هو الولايات المتحدة حيث نموّ العمالة مستمرّ، وسعر صرف الدولار مقابل اليورو ارتفع بنسبة 20% في وقت قصير، والمملكة العربية السعودية أكبر دولة مصدرة للنفط استفادت من ارتفاع أسعار النفط الخام والمشتقات وأصبحت شركة آرامكو السعودية أكبر شركة نفط في العالم برأسمال يتجاوز تريليوني دولار.

وسط هذه الاجواء، إضافة الى أن #كريستين لاغارد كانت قد نبهت منذ صيف 2021 الى أن مديونية البلدان الصناعية تتجاوز المردود المقبول وأن من الضروري ضبط عجز موازنات غالبية الدول الصناعية وتقليص توافر الدعم النقدي لدول الاتحاد الأوروبي واستمرار دعم الشركات بشراء أسهمها من قبل البنوك المركزية التي كل ما تفعله طبع العملة للإسهام في إصدارات سندات جديدة.

قبل نهاية شهر تموز كان المناخ قد تغير – ونذكر أن كريستين لاغارد – أشارات الى ضرورة ضبط التسهيلات المالية للدول الاعضاء في السوق قبل سنة.

المفاجأة كانت أن صندوق النقد الاوروبي رفع معدل الفوائد قبل نهاية شهر تموز بنسبة نصف من واحد في المئة ولم تكن الخطوة متوقعة لأن صندوق النقد الاوروبي حافظ دائماً على سياساته التسهيلية من عام 2013 وبالتالي ظهرت الخطوة وكأنها تمثل تبدلاً في فلسفة ومناهج صندوق النقد الاوروبي والواقع هو كذلك.

أكدت كرستين لاغارد أن سياسة البنك المركزي الاوروبي من الآن وصاعداً تستند الى الإحصاءات المتوافرة حول النشاطات الاقتصادية، وحسب تأكيد رئيسة صندوق النقد الأوروبي فإن القرارات ستراجع شهرياً وستقر خطوة خطوة بدراسة معمقة للتأثيرات الاوروبية والدولية.
استناداً الى مناخ التحليل والاوضاع الاقتصادية خاصة في أوروبا، فإن البنك الاوروبي في اجتماعه المقبل سيسعى الى تنسيق سياساته مع التوجهات الدولية العامة.

رأى عدد من المحللين الاقتصاديين والمصرفيين أن السياسة الجديدة للبنك المركزي الاوروبي لا تتناسب مع الانكماش الاقتصادي وارتفاع معدلات التضخم واستمرار مفاعيل القروض القائمة.

على سبيل المثال، كان ماريو دراغي قد حصل على التزام من البنك الاوروبي بقرض يبلغ 40 مليار يورو يوفر خلال مدة سنتين وقد توافر منه حتى تاريخه 19 مليار يورو، واليوم بعد استقالة دراغي من رئاسة الوزراء وفشله في الحصول على غالبية نيابية تساند مشاريعه، السؤال هو: الى أي حد ستؤثر الازمة الايطالية على الاتحاد الاوروبي وأوضاعه الاقتصادية التي تعاني من تأثيرات انتشار الكورونا وتراجعها ومخاوف الناس من الاوبئة؟ والجدير بالذكر أن الدول الاوروبية التي أقرت إجراءات وقائية كانت قليلة العدد. فألمانيا على سبيل المثال التي ودّعت ميركل بأجمل وداع وشكر جماهيري تأخذ على المستشارة السابقة أنها لم تشجع على تبنّي السياسات الوقائية المطلوبة، ولا شك في أن هنالك دولاً أوروبية تعاني من نتائج النقص في العلاج وأكلاف الاعتكافات لتفادي الاصابات على مستوى الأداء الاقتصادي والصحّي الإجمالي.

مروان اسكندر

الاستثمار الأكثر أماناً… لم يعد كذلك

في عام 2007، وبعد عامين من انتقال ملكية أسهم والدها إليها، أصبحت الصينية يانغ هيوان أغنى امرأة في آسيا وهي لا تزال ابنة 26 ربيعاً. وتمكنت يانغ من إدراج شركتها العقارية «كانتري غاردن» في سوق هونغ كونغ ورفعت بعدها القيمة السوقية للشركة من 19 مليار دولار عام 2007 إلى أكثر من 46 مليار دولار عام 2018، وذلك بفضل النمو المطّرد لقطاع العقار الصيني. ولكن الوضع لم يستمر على حاله ليانغ، فقطاع العقار الصيني تعرض لهزة عنيفة خلال العام الماضي، تسببت في خسارة يانغ أكثر من نصف ثروتها البالغة 23.7 مليار دولار، لتصل الآن إلى 11.3 مليار. خسارة ملياردير لنصف ثروته خلال عام واحد ليست بالحدث البسيط، وهي ناتج لأزمة عميقة في قطاع العقار الصيني، فكيف حدثت هذه الأزمة لقطاع يعدّه الكثيرون الاستثمار الأكثر أماناً؟ وما تبعات هذه الأزمة على بقية العالم؟
نمو الاقتصاد الصيني أدى إلى زيادة الطبقة المتوسطة، وهو ما رفع الطلب على المنتجات العقارية، ونتيجة لذلك زاد نشاط الشركات العقارية التي اتبعت نموذج عملٍ متهور هو أحد أسباب الأزمة اليوم. فكانت هذه الشركات تشتري الأراضي الشاسعة بسعر باهظ، ومن ثم تبيع المساكن للعملاء قبل البدء بأعمال البناء. وتُموّل هذه الشركات المشاريع من الدفعات الأولى للمشترين ومن القروض الميسّرة من البنوك. هذا النموذج زاد ديون الشركات العقارية وبالتالي زيادة معدل الخطر فيها، ولذلك، وعندما التفتت الحكومة الصينية إلى هذا السلوك الخطر بداية هذا العام وقررت إيقاف الديون الميسّرة على هذه الشركات وتحديد سعة ديونها، دخلت هذه الشركات في دوامة تسببت في عجز الكثير منها عن سداد ديونها، لتصل الديون المتعثرة لدى البنوك الصينية اليوم إلى أكثر من 430 مليار دولار.
الأثر الواقعي لهذه الأزمة كان إيقاف الأعمال على الكثير من المنشآت السكنية في الصين، وهو أمر أدركه المشترون، فقرروا قبل عدة أسابيع عدم سداد أقساط المساكن كنوع من الاحتجاج على الوضع الراهن، وهو ما فاقم أزمة الشركات التي لم تعد تجد السيولة الكافية لتسيير أعمالها وسداد ديونها. وما حدث لـ«كانتري غاردن» هو أمر مشابه لذلك، فلم تستطع الشركة الاقتراض من البنوك، ولم يشفع لها أن مالكتها هي أغنى امرأة في آسيا، ولذلك قررت الشركة بيع نسبة من الأسهم بسعر مغرٍ للحصول على سيولة تبلغ 343 مليون دولار، ولكن هذا الإجراء أكد للسوق أن الشركة لا تملك السيولة لتسيير أعمالها وسداد ديونها، فانخفض سعر السهم بنحو 15 في المائة، وانخفضت قيمة الشركة بـ1.7 مليار دولار في يوم واحد.
وقطاع العقار له نسبة لا يستهان بها في الناتج المحلي الصيني، فنسبته تشكل ما بين 18 و30 في المائة منه، أي أن ربع الناتج المحلي الصيني (في المتوسط) من قطاع العقار. والعالم لم ينسَ بعدُ كارثة 2008 المالية التي لم تختلف مسبباتها كثيراً عن الحال في الصين، وعلى الرغم من أن الأزمة الحالية قد لا تتفاقم إلى أزمة عالمية، حسب آراء الخبراء، فإن أثرها قد لا يكون بسيطاً في العالم بأسره، فحينما يتأثر قطاع حجمه يقترب من 4 تريليونات دولار، فإن العالم سيتأثر بلا أدنى شك من هذا التأثر. ويبدو أن الحكومة الصينية أدركت أن أثر احتجاجات الملّاك بعدم الدفع قد يزيد الوضع سوءاً، ولذلك فقد أعلنت عن حزم مساعدات للقطاع العقاري بنحو 44 مليار دولار على عدة مراحل، وهو أمر يصب في مصلحتها بشكل مباشر.
إن خسارة يانغ لنصف ثروتها ما هو إلا رمز على عمق أزمة الديون في العالم، وأزمة العقار في الصين بشكل خاص. وهو دليل على أن الاستثمارات المعتمدة على الديون بشكل كامل هي استثمارات خطرة على الاقتصاد، والدليل أن الأزمة الحالية هي أزمة لقطاع يعد أحد أكثر القطاعات أماناً من الناحية الاستثمارية، وأثره السلبي كان على ثاني أكبر اقتصاد في العالم. وهو إثبات على أن نفس الأثر قد يحدث على أي اقتصاد في العالم، ولأي استثمار يستند إلى الديون بشكل كلي. وها هي صورة يانغ أصبحت رمزاً لانهيار العقار، بعد أن كانت مثالاً للمرأة الآسيوية الناجحة.

د. عبد الله الردادي

الركود لن يطال شركات التكنولوجيا الكبرى

عندما أصرّ الرئيس الأميركي ووزير الخزانة ومسؤولون آخرون في إدارة بايدن الأسبوع الحالي على أن الاقتصاد الأميركي حالياً لا يعاني من الركود، تعرضوا للسخرية لتمكنهم من درء الأخبار السيئة عن أنفسهم فقط لأسباب إجرائية، كمن أفلت من العقاب لنقص في الإجراءات. فقد أعلنت وزارة التجارة، الخميس، أن المقياس الأوسع للنشاط الاقتصادي، الناتج المحلي الإجمالي، انخفض للربع الثاني على التوالي خلال العام، في إجماع لتعريف واسع الانتشار، وإن كان غير رسمي، على حدوث الركود. صحيح، بحسب المحيطين بالرئيس بايدن، أن الحَكم الرسمي للركود في البلاد، «المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية»، لم يعلن حدوث الركود صراحة لأنه يعتمد على العديد من المؤشرات الأخرى، فقد بدا الأمر كما لو أن فريق بايدن يبحث عن حجج ولو واهية لتعزيز موقفه.
على الرغم من ذلك، فقد قضيت خلال الأيام القليلة الماضية وقتاً أطول من اللازم في الاستماع إلى شرح الرؤساء التنفيذيين عن أعمالهم خلال بيانات أرباح الشركات الفصلية. (ماذا يمكنني أن أقول؟ كنت سعيداً لقضاء وقت ممتع.)، لكنى فوجئت بما سمعت. أقنعني المديرون التنفيذيون أن طاقم بايدن لديهم وجهة نظر، ناهيك عن جاي باول، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي، الذي قال أيضاً الأسبوع الحالي، إن الركود ربما لم يبدأ بعد.
الاقتصاد في وضع غريب حقاً. فهناك بالتأكيد مؤشرات تدل على المشاكل. ففي بعض أكبر الشركات في البلاد – لا سيما في صناعة التكنولوجيا – يكاد يصل الوضع إلى حد الكآبة. وعلى العكس، ففي الشركات التي تعاني حقاً، لم تكن الأرقام بالسوء الذي كان يخشاه المستثمرون.
في بداية الأسبوع، أبلغت المسؤول عن تحرير مقالاتي، أنني سأكتب عن الكيفية التي قد تواجه بها صناعة التكنولوجيا واحدة من أسوأ حالات التباطؤ منذ عقدين. بحلول نهاية الأسبوع، وجدت نفسي أتراجع عن أي شيء مثير. نعم، تمر بعض الشركات بأوقات عصيبة بشكل غير معتاد؛ نماذج الأعمال تتفجر، المنافسة تحتدم، المنظمون يزدادون صرامة، التوظيف يتباطأ، يُطلب من العمال أن يفعلوا المزيد بموارد أقل. وكل هذا نراه على «فيسبوك» فقط.
ولكن هناك أيضاً دلائل على أن بعض الشركات الضخمة تبحر ببراعة وسط أمواج عاتية في «بيئة اقتصاد كلي صعبة» دفعت الرؤساء التنفيذيين لتبني إجراءات جعلتني أقول إنهم ربما اعتمدوها في اجتماع سري.
لنأخذ في الاعتبار بعض النقاط الأكثر إشراقاً: ذكرت شركة «كوالكوم»، عملاق صناعة الرقائق، أنه على الرغم من «بيئة الاقتصاد الكلي الصعبة»، فقد نمت الأرباح بأكثر من 50 في المائة مقارنة بالعام الماضي بسبب المبيعات القوية لمعالجاتها المستخدمة في الهواتف والسيارات. وذكرت شركة «فورد»، أن المبيعات الضخمة لسيارات الدفع الرباعي و«الكروس أوفر» دفعت أرباحها المعدّلة قبل الضرائب والفوائد إلى أكثر من ثلاثة أضعاف مقارنة بالعام الماضي. وفي الوقت نفسه، أفادت شركات «فيزا» و«ماستركارد» و«أميركان إكسبرس» بأن الأميركيين ما زالوا ينفقون كما لو أنه ليس هناك غد. وذكر فاسانت برابهو، كبير المسؤولين الماليين بشركة «فيزا»، أمام المستثمرين «لا نرى أي دليل على تراجع إنفاق المستهلكين».
كان الكثيرون في «وول ستريت» قلقين بشكل خاص بشأن النتائج من الشركات العملاقة، مثل «أبل» و«بيغ تيك» و«مايكروسوفت» و«أمازون» و«ألفابيت» و«ميتا»، وهي الشركات الأم لـ«غوغل» و«فيسبوك». هذه الكيانات من بين الشركات الأميركية الأكثر قيمة، وقد ارتفعت قيمها خلال فترة الوباء. لكن نمو الشركات الكبرى للتكنولوجيا تباطأ العام الحالي، وانهارت أسعار أسهمها. في هذا الصدد، قال دان آيفز، المحلل في مؤسسة «ويدبوش سيكيوريتيز» الذي كان متفائلاً بشأن عمالقة التكنولوجيا، إن المشاعر بين مستثمري التكنولوجيا كانت الأكثر سلبية منذ عام 2009.
ثم حدث الثلاثاء أن أعلنت شركتا «مايكروسوفت» و«ألفابيت» أرقامهما وقلبتا الأمر رأساً على عقب، حيث ذكرت «ألفابيت»، أن إيراداتها نمت بواقع 13 في المائة مقارنة بالعام الماضي – أقل من المعتاد لشركة مثل «غوغل» التي تدر مكاسب باهظة، ولكن ليس أقل بكثير مما توقعه المحللون وأفضل مما كان يخشى الكثيرون. قال آيفز، إن نتائج «غوغل» غير السيئة تشير إلى أن سوق الإعلان عبر الإنترنت كانت متماسكة.
كانت نتائج «مايكروسوفت» أيضاً أقل مما توقعه المحللون، لكن المستثمرين كانوا سعداء بهذه النتائج، لا سيما النمو بنسبة 40 في المائة في أعمال الخدمات السحابية لشركة «مايكروسوفت». في هذا السياق، قال آيفز «نظراً لأن عمل (مايكروسوفت) الأساسي يتمثل في توفير خدمات تقنية للشركات الكبيرة، فقد ألقى الرقم السحابي القوي الخاص بها ضوءاً إيجابياً على الاقتصاد بأكمله»، مضيفاً «ربما كانت هذه واحدة من أهم نقاط البيانات منذ سنوات لقطاع التكنولوجيا».
الأربعاء الماضي، ذكرت «ميتا» سبب وجود بعض الأرقام الكئيبة للغاية. فمن بين أمور أخرى، سجلت الشركة لأول مرة انخفاضاً في الإيرادات الفصلية مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي. لكن التوقعات كانت منخفضة للغاية بالنسبة لـ«فيسبوك»؛ إذ انخفض سهم الشركة العام الحالي بعد أن ذكرت، أن ميزات الخصوصية الجديدة لشركة «أبل» قد أعاقت قدرتها على جمع البيانات عن المستخدمين. لقد واجهت أيضاً منافسة مستمرة من «تيك توك». ولأن مارك زوكربرغ، مؤسس «فيسبوك» والرئيس التنفيذي، ينفق المليارات لتحويل الشركة من شبكة اجتماعية إلى عالم «ميتافيرس» الافتراضي – لا تزال قيد التطوير ويعتقد أنها ستكون يوماً ما في قلب تجربتنا الحاسوبية – فإن مستقبل شركته يبدو أكثر من مجرد كئيب. لكن كان هناك ضوء مشرق في تقرير «ميتا» الكئيب؛ إذ قال زوكربرغ، إن شركة «ريلز»، منافسة «تيك توك» والتابعة لـ«غوغل»، تكتسب شعبية بين المستخدمين والمعلنين، كما أن أرقام مستخدميها لا تزال صامدة. كانت «ميتا» تتعامل مع الكثير من الأخبار السيئة – أعلنت «لجنة التجارة الفيدرالية» الأسبوع الحالي، أنها ستقاضي لمنع الشركة من شراء شركة صغيرة ناشئة في الواقع الافتراضي – وبالكاد يمكن أن تنخفض التوقعات. وقال آيفز «كان الشارع يتوقع كارثة أسطورية مؤكدة». لكن بالمقارنة مع الإعصار المتوقع للأرباح الرهيبة، فإن أرقام «فيسبوك» كانت أشبه بـ«عاصفة مطيرة صغيرة»، على حد قوله.
بعد إغلاق الأسواق، الخميس، أبلغت «أمازون» و«أبل» عن أرقامهما الفصلية. خمّن ماذا قالت؟ هم أيضاً في الغالب يبلون بلاء حسناً، حيث ذكرت «أمازون»، أن أعمالها السحابية نمت بنسبة 33 في المائة مقارنة بالعام الماضي. وصرح المدير التنفيذي لشركة «أبل» لشبكة «CNBC» الإخبارية، بأن الشركة تتوقع «تسريع» الإيرادات في الربع المقبل.
جادلت العام الحالي، بأنه على الرغم من التباطؤ الأخير، كان عهد شركات التكنولوجيا الكبرى في بدايته. ومع تراجع الاقتصاد على مدار العام، بدأت أشك في صحة توقعاتي الجريئة. لكني الآن أصبحت أضاعف من توقعاتي. قد يواجه عمالقة التكنولوجيا، شأن باقي قطاعات الاقتصاد، أوقاتاً عصيبة قريباً. لكن «أمازون»، و«أبل»، و«مايكروسوفت»، و«غوغل»، وحتى «فيسبوك»، تتغلب على الأوقات الصعبة بشكل أفضل بكثير مما كان متوقعاً.
لن تختفي شركات التكنولوجيا الكبيرة في أي وقت قريب.

معاناة أسواق المال من تداعيات زيارة بيلوسي لتايوان ستستمر

رغم أن التأثير الفوري لزيادة رئيسة مجلس النواب الأمريكية نانسي بيلوسي لتايوان أول قد يتلاشي، فإنها جعلت مديري صناديق الاستثمار في العالم يعيدون التفكير في كيفية التعامل مع العلاقات المتوترة بين الولايات المتحدة والصين، أكبر اقتصادين في العالم.
وفي تحليل نشرته وكالة بلومبرغ للأنباء، قال المحللان روث كارسون وشارلوت يانغ إن “أسواق المال وخبراء الاقتصاد يحاولون حالياً رصد التداعيات المحتملة لزيارة بيلوسي لتايوان، وتصاعد المواجهة بين واشنطن وبكين بدءاً من تراجع العلاقات الاقتصادية بينهما، ثم زيادة الضغط على سلاسل الإمداد العالمية الهشة أو حتى احتمال استخدام بكين لحصيلتها الضخمة من سندات الخزانة الأمريكية كسلاح لضرب الاستقرار المالي للولايات المتحدة”.
وفي الوقت نفسه، سلطت زيارة بيلوسي لتايوان الضوء مجدداً على المخاطر التي تهدد الأسواق المالية نتيجة تصاعد المنافسة بين الولايات المتحدة والصين، وكيف يمكن أن يؤثر ذلك على الاستثمارات الاستراتيجية في الأسواق الصينية، وسوق السلع العالمية والملاذات الاستثمارية الآمنة، إذا ما تدهورت العلاقات بين القوتين الاقتصاديتين العظميين.
ويقول ميشيل إيفري خبير الأسواق العالمية في رابو بنك إن “تداعيات الأزمة سوف تستمر لفترة أطول من قدرة الأسواق على تركيز الاهتمام عليها”، مضيفاً أن هناك توافقاً بين الخبراء الجيوستراتيجيين على أن العالم يقترب بشكل مثير للقلق، من أزمة مضيق تايوان الرابعة.
وتراجعت أسعار الأصول الاستثمارية الآمنة أمس الأربعاء فور تراجع المخاوف من نشوب مواجهة مسلحة بين تايوان والصين على خلفية زيارة بيلوسي للأولى، في حين تراجعت سندات الخزانة الأمريكية عقب التصريحات المتشددة من جانب مسؤولي مجلس الاحتياط الاتحادي (البنك المركزي) الأمريكي بشأن السياسة النقدية.
ويتركز اهتمام المستثمرين على تحليل العناوين الرئيسية للأزمة الحالية بحثاً عن أي إشارة إلى طبيعة الرد الصيني على التحدي الأمريكي وإتمام زيارة بيلوسي لتايوان رغم الرفض الصيني، وهل يمكن أن يتجاوز الرد حدود التدريبات العسكرية التي تجريها بكين، وفرض بعض القيود التجارية على تايوان، وكان ارتفاع العائد على سندات الخزانة الأمريكية يوم الثلاثاء الماضي قد دفع البعض إلى الحديث عن احتمال لجوء الصين إلى استخدام حصيلتها الضخمة من السندات الأمريكية التي تبلغ قيمتها تريليون دولار تقريباً للضغط على واشنطن.
ويقول إيان لينجن المحلل الاقتصادي في بي.إم.أو كابيتال ماركت بنيويورك إنه “في ضوء عمليات البيع الكثيف للسندات الأمريكية (يوم الثلاثاء) لم يكن الأمر يحتاج إلى وقت طويل حتى يبدأ الحديث عن قيام الصين ببيع كميات من هذه السندات للضغط على الاقتصاد الأمريكي”، وأضاف “في حالة حدوث هذا السيناريو الذي نشك فيه، فسيكون التأثير محدوداً لآن التدفقات النقدية قصيرة المدى ستغطي على التأثيرات السلبية على النظرة المستقبلية لأوضاع لاقتصاد الكلي على مستوى العالم”.
ويقول روث كارسون وشارلوت يانغ في تحليلهما إن “الحجم الضخم لسندات الخزانة الأمريكية التي تمتلكها الصين يكشف المدى الكبير للتداخل بين أكبر اقتصادين في العالم”، ورغم التغيير الذي طرأ على العلاقات بين البلدين خلال السنوات الست الماضية، مع الخلافات التجارية والمنافسة التكنولوجية والأمنية واحتمالات شطب الشركات الصينية المدرجة في البورصات الأمريكية.
وقال شيادونغ باو مدير صندوق استثمار في شركة إدموند دي ورتشيلد أسيت مانجمنت لإدارة الأصول إن “العودة الرسمية للنفوذ الأمريكي في منطقة آسيا والمحيط الهادئ ستؤدي حتماً إلى تسارع وتيرة التباعد بين أمريكا والصين في ضوء تطور الأحداث، سيكون على المستثمرين الاستعداد لمواجهة اختبار أعصاب يمكن أن يؤدي إلى إلى تقلبات شديدة التعقيد في سوق المال على المدى القصير”.
ويقدم محللون آخرون تصورات أطول مدى لما يمكن أن تمثله أحداث الأسبوع الحالي من لحظات فارقة في تاريخ آسيا والمحيط الهادئ، واحتمالات إعادة النظر في تخصيص الأصول والموارد في المنطقة، حيث تعتبر تايوان مصدراً حيوياً لأشباه الموصلات والأجهزة المتطورة في العالم.
ويشير هوانغ هويمنغ مدير صندوق استثمار في شركة نانجينغ جينغ هينغ إنفستمنت مانجمنت، إلى احتمال لجوء الصين إلى ما يعرف باسم “استراتيجية السلامي” فتسعى إلى تقسيم المعارضة التي تواجهها إلى شرائح منفصلة مع ما لذلك من تداعيات على سلاسل الإمداد العالمية المضطربة بالفعل.
ويضيف “بالنظر القريب على مناطق التدريبات العسكرية الصينية الحالية نجد أنها أقرب ما يمكن من أراضي تايوان، وتطوقها من جميع الجهات، وتيدو وكأنها عمليات عسكرية متخفية في صورة تدريبات، فإذا استمرت هذه الأنشطة العسكرية لفترة أطول، أو أصبحت اكثر كثافة، فقد تؤثر بالسلب على عمل سلاسل الإمداد، لكن لا توجد أي إشارة إلى احتمال حدوث هذا السيناريو في الوقت الراهن”.
وتقول جيسكا أمير المحللة الاقتصادية في ساكسو كابيتال ماركيت إنه “في ظل حالة الغموض الشديد الحالية، يصبح الرهان أكبر على الأصول الآمنة مثل سندات الخزانة والدولار”، مضيفة أن التوترات الحالية بين واشنطن وبكين ستؤدي إلى تزايد توتر المستثمرين وتعزز جاذبية الأصول الأمنة على حساب الأصول ذات العائد الأعلى، وأضافت “التوترات الجيوسياسية ستتزايد، ونرى أيضاً العودة إلى الملاذات الاستثمارية الآمنة، وسيتزايد شراء الدولار”.
ويؤيد شين أوليفر كبير المحللين الاقتصاديين في أيه.إم.بي كابيتال ماركت هذه الرؤية، ويقول إنه “في حالة استمرار التواتر ستتزايد مكاسب السندات مقابل الذهب، وعلى المدى الطويل نرى مؤشرات على تصاعد توترات الحرب الباردة بين الغرب وكل من الصين وروسيا، وهو ما يعني تزايد المخاطر التي تهدد أسواق المال”.
وفي زيوريخ يقول جيان شي كورتيزي مدير صندوق استثمار في شركة جي.أيه.إم إنفستمنت مانجمنت إن “هناك تشابهاً بين نتائج زيارة نوت جنينجريتش رئيس مجلس النواب الأمريكي الأسبق لتايوان عام 1997 وزيارة بيلوسي لها خلال الأسبوع الحالي”، ويضيف أنه في ذلك الوقت تراجع مؤشر هانج سينج الرئيسي لبورصة تايوان للأوراق المالية قبل زيارة جينجريش، لكن سرعان ما ارتفع المؤشر بعد الزيارة، والآن تراجعت بورصات الصين وهونغ كونغ وتايوان قبل زيارة بيلوسي.
وأوضح أن التدريبات العسكرية الصينية بالقرب من تايوان “قد تبقي المستثمرين على أهبة الاستعداد، لكن الأسواق ستتعافى بمجرد انتهاء التدريبات العسكرية”.

د.ب.أ

عن غسل أخضر وإفصاح مضلل وعلاج مؤذٍ

أفردت مجلة الإيكونيميست البريطانية غلاف عددها الأخير وموضوعها الرئيسي وصفحات لملف خاص لثلاثة حروف باللغة الإنجليزية ESG (إي إس جي) ملخصة للاستثمار الذي ازداد شيوعاً وفقاً لمؤشرات، غير مالية، تخضع للاعتبارات البيئية والاجتماعية، فضلاً على الحوكمة. وتندرج تحت الاعتبارات البيئية موضوعات تغيرات المناخ والانبعاثات الضارة به، وتلوث المياه والهواء والتنوع البيئي وكفاءة إدارة المخلفات، وغيرها من الموضوعات ذات العلاقة. وتضم الاعتبارات الاجتماعية معايير العمل وإدماج النوع الاجتماعي في سياسات التعيين وتنوع قوة العمل في الشركة وحقوقها وتكافؤ الفرص بين العاملين والعاملات ورضا المتعاملين مع الشركة وخصوصية معلوماتهم. أما حوكمة الشركة فتشمل تمثيل مجلس الإدارة وفاعليته ولجان الرقابة والمراجعة الداخلية والخارجية وكفاءتها، فضلاً على معايير إثابة ومكافأة الإدارة العليا، وممارساتها بشأن الضغوط السياسية للترويج لأعمال الشركة والمساهمات في الحملات الانتخابية والإفصاح عنها وفقاً للقوانين المعمول بها، وقواعد تعارض المصالح ومنع الرشوة والفساد.
وتذهب مجلة الإيكونيميست إلى أن الاستثمار وفقاً للاعتبارات البيئية والاجتماعية، وما يتعلق بالحوكمة على النحو المتقدم يعاني من ثلاث مشكلات جوهرية:
أولاً، إنها تحمل في طياتها أهدافاً متعارضة عملياً فقد تخفق الشركة في اعتبارات الحوكمة، بينما تحقق إنجازاً في مجال حماية البيئة والمناخ فإلى أيهما يجنح المستثمر في تفضيله؟
ثانياً، إن هناك افتراضاً قد لا تسانده الممارسة العملية من أنَّ الاستثمار وفقاً للحوكمة والأبعاد البيئية والاجتماعية يأتي مصاحباً بعوائد مالية عالية للمستثمرين؛ وهو ما يفترض أن النظم الرقابية والمجتمعية تجبر الشركات كافة على إدراج مخرجاتها السلبية أو ما يطلق عليه الاقتصاديون الوفورات السلبية في نشاط الشركة الداخلي، بدلاً من تحميله على المجتمع. فكم من شركة حملت المجتمع بمخلفاتها الضارة من ملوثات للهواء والمياه أو مواد تغليف مدمرة للبيئة كالبلاستيك؟
ثالثاً، تعاني الاستثمارات وفقاً للمؤشرات البيئية والاجتماعية والحوكمة أو «إي إس جي» من معضلة قياس تسهم في ظاهرة الغسل الأخضر التي تضلل الأسواق والمستثمرين بتشتت المقاييس، وعدم اتساقها من حيث المفهوم ومكونات المقارنة. ففي حين تتسم مؤشرات التصنيف الائتماني، مثل فيتش وستاندارد أند بورز وموديز، بمعامل ارتباط إحصائي قوي بين تصنيفاتها للشركات يبلغ 99 في المائة، إلا أن التصنيف وفقاً لمؤشرات البيئة وأخواتها لا يحقق معامل ارتباط يتجاوز 50 في المائة في أفضل الأحوال.
ووفقاً لهذا توصي مجلة الإيكونيميست بالتركيز على مؤشر واحد. وهي لا تكتفي بالتوصية باستبعاد الاعتبارات الاجتماعية وحوكمة الشركات أيضاً معها، ولكن توصي بالتركيز على مكون واحد للاعتبارات البيئية وهو الانبعاثات الضارة بالمناخ وحدها دون غيرها، وهي بالمصادفة تختصر بحرف «إي» أيضاً باللغة الإنجليزية. أي أن التوصية تستبعد الاسترشاد الاستثماري وفقاً لاعتبارات بيئية واجتماعية ومعها الحوكمة، وأن يُختزل الأمر كله في بعد واحد هو البيئة أو المناخ وبمؤشر وحيد لهما لرصد التطور المأمول وهو الانبعاثات الضارة وبتركيز فقط على الانبعاثات الكربونية. وفي هذا الاختزال ضرر بالغ ينبغي توضيحه بقدر من التفصيل:
في البداية أشير إلى ما كتبته في هذه الصحيفة الغراء في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 2018، تحت عنوان «عن مسؤولية الشركات» متسائلاً: هل تهدف فقط إلى تحقيق الربح أم أن لها، أو بالأحرى عليها، التزامات اجتماعية؟ وأوردت رأي الاقتصادي الأشهر ميلتون فريدمان، الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد، في مقاله الصادر في عام 1970؛ ويذهب فيه إلى أن هدف وجود الشركة هو تحقيق الربح فقط، وأن مديري الشركات لم يمنحهم ملاك أسهمها صلاحية لينفقوا من مواردها على خدمات اجتماعية، وأن هذا من شأن الحكومة التي تحصل ضرائب من أرباح الشركات لتنفقها على هذه الأغراض. ويستند أنصار هذا الرأي لافتراضات عن اقتصاد تحكمه قواعد السوق التي تنظمها رقابة فاعلة حصيفة ومنافسة عادلة، وفي هذا الاقتصاد تختص الشركات بشؤونها وتنفرد الحكومات بمسؤولياتها. وقد أشرت إلى أن العلاقة بين الشركات والمجتمعات التي تعمل فيها قد مرت بثلاث مراحل للتطور، وفقاً لمايكل بورتر أستاذ استراتيجيات الشركات بجامعة هارفارد، تراوحت بين تبرع الشركة لبعض الأنشطة الخيرية أو فرض نوع من الالتزامات المالية الإجبارية عليها، بخلاف الضرائب، توجه لأنشطة تحددها السلطات، ثم أتت المسؤولية الاجتماعية للشركات متزامنة مع إعلان الأمم المتحدة في مطلع القرن الحالي لتطبيق الأهداف الألفية للتنمية، التي انتهت في عام 2015. وقد حلت محلها أجندة التنمية المستدامة، والتي توافقت الآراء على أهمية مشاركة القطاع الخاص في تحقيق أهدافها الطموحة والتي ينبغي الانتهاء منها مع حلول عام 2030. هذه الأهداف الجديدة تستوجب إدماج عناصر الاستدامة، المتمثلة في تحقيق النمو الشامل، والتنمية الاجتماعية، وحماية البيئة والمناخ، والحوكمة، في النشاط الأساسي للشركات وليس مجرد وجودها كواجهة تعبر عن حسن النوايا تجاه المجتمع. ومع ذلك تبقى أهمية مضمون ما ذهب إليه فريدمان من ضرورة تحقيق الشركة للربح، فبدونه ستزول الشركة من الوجود، ولو بعد حين، إفلاساً أو إدماجاً، ولكن تأتي المعايير الجديدة للاستدامة لترسخ «كيفية» حصول الشركة على هذا الربح.
وكثيراً ما يتجاوز مديرو الشركات فيقولون إن من أهداف شركاتهم تحقيق أهداف التنمية المستدامة؛ ووجه التجاوز في تقديري هو أن أهداف التنمية المستدامة قد صيغت أصلاً لتقع تحت مسؤولية الدول وحكوماتها، وأن الشركات ومؤسسات الإنتاج بصياغات ملكيتها المختلفة عليها أن تسهم فقط في تحقيقها، وفقاً لمجالات عملها وأن الشركات ستجد لزاماً عليها التوافق مع معايير بيئية واجتماعية، فضلاً على الحوكمة ليس تفضلاً منها، ولكن وفقاً لقواعد العمل بالسوق المراقبة بفاعلية ومحفزاتها وألخصها في أربعة:
أولاً، قواعد رقابية ملزمة تتجاوز التزام البديهيات مثل دفع الضرائب ورسوم الجمارك والتزام مواصفات جودة السلع وتحري السلوك الأمثل في السوق كمنع الممارسات الاحتكارية، إلى ضوابط العمل اللائق وفقاً لمنظمة العمل الدولية والاعتبارات البيئية وأحكام العمل وفقاً لقوانين الشركات.
ثانياً، تستلزم قواعد المنافسة غير السعرية بين الشركات تسويق نفسها وفقاً لمعايير مساندة المجتمع وقيمه، للحفاظ على مكانتها وسمعتها كشركة لا تنتج سلعاً عالية الجودة ومتنافسة السعر فحسب، ولكنها تساند المجتمع في تحقيق مساعيه.
ثالثاً، هناك شركات أنشأها مؤسسوها وفقاً لقناعات تتوافق في عقيدتهم السلوكية بأن تحقيق الربح لا يتعارض مع فعل الخير للمجتمع المحيط بها. كما أن من نماذج الشركات ما أخذ كياناً تعاونياً لا يوزع صافي الإيراد على المساهمين بل يراكم ليزيد من نشاطها، ومنها ما يوجه جانبا من الإيراد للمجتمع في شكل وقف أو إسهام في مؤسساته الاجتماعية كدور العلم والرعاية الصحية. بل إن من صناديق الثروة السيادية ما جعل إنفاق جانب من أرباحها لضرورة أو بنسبة محدودة، وأن يظل جل الفائض لحماية الأجيال القادمة.
رابعاً، إن من الشركات الحصيفة ما تحسب لما هو قادم فجعلت من أولوياتها إيجاد مخصصات تتوقى من تغيرات في القوانين والقواعد الرقابية ولوائح الإفصاح مستقبلاً، وفقاً لضغوط مجتمعية مبررة للحفاظ على المناخ الذي تؤكد التقارير العملية مزيداً من تدهوره رغم كثرة الوعود والتعهدات المتكررة بالحفاظ عليه.
وقد أشرت من قبل إلى أن الشركات في اليابان، على سبيل المثال، تقدم نموذجاً جديراً بالتدبر والانتفاع به، إذ تقود اتحادات الشركات منافسة فيما بينها في إطار التزام عقدته على احترام صارم للقوانين المنظمة لأعمالها، واتفقت الشركات من خلال اتحاداتها ومنظماتها المركزية والإقليمية على مبادئ للعمل والتنافس تتبنى مسلكاً جديداً نحو الاستدامة وسلوكاً مختلفاً في الإدارة يهدف إلى: تطوير منتجات وخدمات مفيدة اجتماعياً وذات نوعية عالية من خلال الابتكار مع حماية خصوصية البيانات؛ واحترام قواعد المنافسة الحرة والعادلة؛ والإفصاح عن نشاط الشركات وفقاً للمعايير الملزمة؛ وتسيير العمل في نشاط الشركات في الداخل والخارج بما يتوافق مع حقوق الإنسان ومواثيقها؛ وتقديم معلومات تفصيلية واضحة للمستهلكين تسمح لهم بالاختيار؛ وتوفير بيئة عمل صالحة لكافة العاملين مراعية أسس عدالة الفرص والأجور، واعتبارات السلامة والصحة؛ وتطبيق إجراءات حماية البيئة، ومنع التلوث، وتخفيض انبعاثات الكربون الضارة؛ وتدوير المخلفات والتعاون مع السلطات المعنية ومؤسسات المجتمع المدني في تطوير المجتمع المحلي من خلال أنشطة ذات نفع حقيقي ومتوافقة مع النشاط الرئيسي للشركة؛ وإعداد نظام متكامل لإدارة الأزمات بالتعاون مع جهات الاختصاص للتصدي لأخطار الإرهاب والجريمة المنظمة وتهديد نظم المعلومات والكوارث البيئية.
وتتعهد الشركات بقيام الإدارة العليا بالشركات بمتابعة تنفيذ الإجراءات والمعايير السابقة، باعتبارها مسؤولية تقع على عاتق الإدارة العليا تحديداً، مع الإدراك التام بأن أي تهاون بشأنها، يضر بالشركة وبالثقة بها، بما يستدعي فوراً إعلان الشركة عن تحمل المسؤولية واتخاذ التدابير المناسبة للتعرف على سبب المشكلة وحلها ومنع تكرارها.
وفي التعهدات السابقة تجد ترجمة تفصيلية وتفعيل الاعتبارات البيئية والاجتماعية والحوكمة التي يجري الاستثمار في الشركات وفقاً لها؛ فأي نصيحة تلك التي تسديها مجلة الإيكونيميست لمجتمعات الأعمال؟ وما فائدة أن تختزل المعايير غير المالية واجبة الاتباع في واحدة تتعلق بالانبعاثات الكربونية مهدرة لمقومات أخرى لا تقل أهمية للعمل البيئي والمناخي، ومستبعدة أبعاداً حيوية للأثر الاجتماعي ومقللة من شأن الحوكمة التي ما زالت تصارع من أجل ترسيخ مبادئها؟ ومن عجب أنها تدفع بتغليب عنصر واحد وهو تسعير الكربون وما زالت نظم تسعيره المتباينة لا تشمل أكثر من 23 في المائة من إجمالي الانبعاثات الضارة عالمياً وفقاً لما أوردته.
حقاً لا يحتمل هذا العالم استمراءً في ممارسات الغسل الأخضر بتضليل في التقارير أو تضارباً في المعايير، ولكنه لا يحتمل أيضاً اختزال الاستدامة في معيار واحد مهما بلغت أهميته. والدعوة الأجدى نفعاً أن تكون بالتوافق على المعايير الأساسية الحرجة للأبعاد البيئية والمناخية والاجتماعية فضلاً على الحوكمة وتفنيدها والالتزام بها تطبيقاً وإفصاحاً على النحو المعمول به في المؤشرات المالية المعتمدة لمحاسبة الشركات ومراجعتها وتصنيفها، وهي ذاتها محل تقييم وتطوير مستمرين.

د. محمود محيي الدين

اقتصادي مصري

الصين وأزمة الدين العالمي

عندما أطلقت الصين مبادرة طريق الحرير أو ما يسمى بـ(الحزام والطريق) عام 2013 كانت أهدافها واضحة، وهي الارتقاء بالبنى التحتية لعدد كبير من الدول، بما يخدم أهداف هذه الدول، دون إغفال أهداف ومصالح الصين. وهذا المشروع هو أكبر مشروع أطلقته الصين على الإطلاق، وهو أكبر مشروع تطلقه دولة واحدة للارتقاء بالبنى التحتية على مستوى العالم. ولا تستغرب زيادة المخاطر في هذا النوع من المشاريع العملاقة، خاصة مع مشاركة العديد من الدول النامية التي لا تملك تصنيفا ائتمانيا عاليا، ولكي تدعم الصين هذه المبادرة، توجب عليها توفير الأدوات لهذه الدول، مدركة أن أي احتمالية بعدم سداد القروض ترتفع فيها مقارنة بغيرها من الدول. ولكن الصين مولت هذه الدول بقروض مختلفة، بهدف المضي قدما في هذه المشاريع، ولم تشتك هذه الدول ولا غيرها آنذاك، ولكن الآن ومع أزمة الديون العالمية، بدأت أصابع الاتهام تتوجه إلى الصين، بما يسمى بـ(توريطها) للدول النامية والفقيرة بديون لا تستطيع سدادها.
بداية يجب توضيح مصالح الصين في تمويلها للدول النامية في مبادرة طريق الحرير، وهي مصالح متعددة وتختلف باختلاف الدول والقروض ولم يسبق للصين أو لأي دولة أخرى إنكارها. أولى هذه المصالح هي نجاح مبادرة طريق الحرير، وهو الذي يهدف إلى ربط الصين بدول العالم، سواء كانت هذه الدول سوقا للمنتجات الصينية، أو مصدرا للمواد الخام للصناعات الصينية. الفائدة الثانية هي أن العديد من المشاريع الممولة قامت بها شركات صينية، في وقت تشبعت فيه السوق الصينية ولم تجد هذه الشركات مشاريع تمكنها من العمل، فأوجدت الحكومة الصينية بهذه المبادرة مشاريع شغلت شركاتها وأضافت لاقتصادها بطريق غير مباشر. الثالثة هي الفوائد من القروض التي تعطيها الحكومة الصينية لهذه الدول، والصين متضررة بلا شك من تعثر الدول في السداد. هذه النقطة مهمة جدا، لأن البعض يروج إلى أن الصين ورطت الدول في قروض لا تستطيع سدادها، وذلك لكي تتمكن من الاستحواذ على منشآتها كالمطارات والموانئ وغيرها، والواقع أن فائدة الصين أكبر في حال سددت هذه الدول قروضها، بدلا من الاستحواذ على أصول قد تكلف الكثير لإدارتها بشكل فعال.
والمشكلة التي حدثت مؤخرا، هي عدم قدرة العديد من هذه الدول على سداد قروضها، لأسباب لا تخفى على الجميع، ومنها الجائحة وارتفاع مستوى التضخم مؤخرا. وهناك أسباب أخرى تتعلق بارتفاع معدل الفساد في بعض الدول، وغياب الحكمة في اتخاذ القرارات حول بعض الاستثمارات، والمثل المتداول في هذا حاليا هو سريلانكا التي مولتها الصين بـ12 مليار دولار في العقدين الأخيرين، وحيث بُنيت أبراج وملاعب دون وجود عوائد ذات قيمة مضافة للبلد. هذه المشكلة لا تنفي وجود مشاريع ذات جدوى في مبادرة طريق الحرير، لعل أبرزها هو خط سكة الحديد بين إثيوبيا وجيبوتي، والذي يمتد لـ750 كيلومترا، مختصرا الوقت المستغرق بين المحطتين من 3 أيام إلى 12 ساعة.
ويتضح من بعض الحالات، أن المشكلة تكمن في عدم تأكد الصين من جودة المشاريع أو جدواها قبل منح القروض، بل قامت بإعطاء قروض دون التأكد بشكل كامل من إمكانية السداد أو العوائد التي تساهم في السداد. ولذلك فإن العديد من الدول اليوم تواجه مشاكل في الإيفاء بديونها، مما قد يتسبب في أزمة ديون في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. ووصلت قيمة القروض التي يتم التفاوض فيها لعامي 2020 و2021 إلى 52 مليار دولار، وهو ثلاثة أضعاف الرقم في العامين اللذين سبقاهما (16 مليار دولار). وهذا مثال على التدهور في القروض الصينية الخارجية التي وصلت إلى 118 مليار دولار في القروض الصينية منذ عام 2001.
لقد استخدمت الصين قوتها الاقتصادية في تمويل العديد من الدول، بالنظر إلى مصلحتها الشخصية أولا، وتوجهت إلى دول في حاجة لهذا التمويل وإلى مشاريع البنى التحتية، ولكنها الآن في مأزق قد يؤثر كثيرا على الاقتصاد العالمي. فهي تطالب هذه الدول بسداد ديونها، ولكنها قد تواجه مصاعب تماما كما حدث مع سريلانكا. والمثال الأقرب والذي سيتابع عن كثب في الأيام القادمة هو زامبيا، حيث تزيد القروض الصينية على ثلث الديون الخارجية للبلد. وسوف تتابع الدول النامية كيف ستتعامل الصين مع زامبيا لأنها قد تكون مثالا لما قد تفعله مع بقية الدول النامية. فهل ستتمكن الصين من معالجة هذه الأزمة بنفس الأسلوب الذي اتبعته حين قدمت هذه القروض؟ أم ستتمسك بحقها في السداد، معرضة العالم بأسره لأزمة ديون لم يواجهها منذ الثمانينات الميلادية؟

 

د. عبد الله الردادي

باحث سعودي متخصص في الإدارة المالية

الخيال وخلق الثروة

إنّ موضوع خلق الثروة والرهان على الاستثمار ودوران عجلة التنمية من الموضوعات الرئيسية المطروحة على طاولات العالم العربي والإسلامي، حتى ولو كان ذلك بشكل متفاوت من حيث التركيز والاستعداد. والغالب على خطاب كيفية خلق الثروة التشديد على المال والإطارات المتخصصة والبنية التحتية للبلد من طرقات وشبكات اتصال ووسائل نقل… وطبعاً كل هذه المسائل أساسية وعلى غاية من الأهمية، ومن ثم فإن عدم توفرها سيشكل عائقاً للتنمية والاستثمار وخلق الثروة.
غير أنه في مقابل ذلك هناك معطى لا نطرحه فوق طاولات رسم المقاربات وتحديد استراتيجيات خلق الثروة، وهو معطى يتعلق بعلاقة الخيال بخلق الثروة.
نعم، للخيال دور كبير جداً في خلق الثروة لأن خلق الثروة فكرة خلاقة ومبدعة أيضاً، وكي تنبثق الفكرة لا بد من خيال حر ومبدع يولّد الأفكار الجديدة والبصمة الفريدة الخاصة التي تجعل بلداً ما قِبلةً العالم أكثر من بلد آخر.
لا تقدُّم ولا تنمية ولا استثمار من دون خيال خلّاق ومبدع. وأول ما يشدّنا في أي منتج وخدمة إنما هي اللمسة الإبداعية الخاصة التي أنتجها خيال أصحابها.
صحيح أن العولمة أوقعتنا في الفخ وكبحت جماح الخيال وغرست في أذهاننا فكرة أن أقصى ما هو مطلوب هو أن تكون شبيهاً للغير المتقدم الذي استحق فرض خياله الخاص على الجميع، ولكنّ هذا الفخ يجب أن نغادره إذا أردنا فعلاً التميز والبحث في ذواتنا عن ذاتنا. وفي هذا السياق تتأكد أهمية تحرير العقل الذي يتبعه تحرير للوجدان والخيال، الأمر الذي يتيح للفرد التحليق في خياله وإنتاج الأفكار الخلاقة التي هي أصل التقدم… فكل شيء بدأ فكرة غير مألوفة.
ولنضرب مثالاً على دور الخيال في خلق الثروة وهو المجال السياحي؛ فالسياحة هي مصدر للاستثمار في الجمال والراحة والترفيه والخدمات ذات الجودة والتراث المادي والرمزي والاستثمار أيضاً حتى في نمط العيش والأخلاق والقيم، إذ الشعوب التي تتميز بمنسوب مرتفع في العنف لا تكون وجهة الباحثين عن الاستمتاع بالحياة والاستجمام. كما أن السياحة أيضاً تمثل استثماراً في كل ما هو إيجابي في البلد بدءاً من الطقس والفنادق وصولاً إلى الاستقرار وتوفر مستلزمات أنموذج بلد يحلو فيه العيش، أي إنه قبل أن يكون أي بلد وجهة الغير من المنطقي أن يشعر فيه أصحاب البلد ومواطنوه وسكانه بحلاوة العيش.
وكما نعلم فإن السياحة باتت رئة أساسية تتنفس من خلالها اقتصادات بلدان عدة، لذلك فإن المنافسة على أشدها إلى درجة يمكن الحديث فيها عن حرب أسواق في مجال السياحة ومَن الأقدر على تقديم الأفضل للأفواج السياحية. ويبدو لنا أن المنافسة تتطلب إطلاق العنان للخيال ليُنتج الأفكار الفريدة ويحقق التميز الذي يساعده في تحسين الأداء في المنافسة وافتكاك النصيب من الثروة.
ما نلاحظه أن غالبية الفنادق في بلداننا باتت على شاكلة الفنادق الأوروبية من حيث المعمار والهندسة الواحدة المتكررة مع فارق التصنيف من حيث عدد النجوم. وهنا نتساءل عن دور الخيال في توظيف المعمار العربي وتعدد إبداعاته في البلدان العربية.
فعندما نبني فنادق حاملة لخصوصية المعمار والبناء في بلداننا فذاك أكثر جاذبية للسياح الذين يأتون إلينا لاكتشاف ثقافتنا ومطبخنا وطريقة حياتنا لا ليجدوا نسخة من فنادقهم وأكلاتهم، وحتى الموسيقى المرافقة في مقاهي الفنادق هي أيضاً أوروبية كأن قانون الفندقة يمنع وضع الموسيقى المحلية المعبِّرة عن روح البلد.
هناك إهمال كبير للخيال وللخصوصية وإقصاء غير مفهوم لرأس المال الرمزي الخاص بنا والذي لا يخلو من جمال، وهو القصد من السياحة في العالم؛ فالسياحة لاكتشاف العوالم الأخرى وأنماط العيش الأخرى والمطابخ الأخرى وأنواع الجمال الأخرى.
وما ذكرناه بخصوص مجال السياحة ينطبق إلى حد كبير على مجالات كثيرة، وهو ما يصنع الفرادة، أي العملة الصعبة الحقيقية التي لا تتأثر بتقلبات البورصة العالمية.
إن قرار الانخراط في خلق الثروة والاستثمار والسعي إلى الخروج من بوتقة استهلاك منتجات الغير والتقليد، من المهم أن يوازيه أو يسبقه قرار تحرير الخيال في بلداننا وتمكين الأطفال والشباب من الأطر التي تساعدهم على تحرير الخيال وتشكيله وفق الحرية كي يبدعوا الأفكار ويبتكروا وتكون قدرتهم على إنتاج الحلول كبيرة ومتنوعة. لذلك فإن الاستثمار وخلق الثروات عادةً ما يرتبط بالشباب لجرأته ومعاصرته واستعداده للتغيير أكثر من الفئات العمريّة الأخرى.
بين الخيال والاستثمار لخلق الثروة عالم شاسع من الأفكار الأولى من نوعها في صورة تجسيدها على الجذب والاستقطاب. فالفكرة هي الخالقة للثروة وباقي العناصر تعد آليات تحقيق الفكرة وتأمين مسار التحقق.
كلما كان الخيال غنياً وحراً كان خلق الثروة عناءً ومتعةً.

د. آمال موسى

 

عن المناخ وثالوث أزمات الركود والغلاء والديون

يشهد العالم منذ أكثر من سنتين أحداثاً لم يشهدها مجتمعة منذ وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها. فقد سببت أزمة «كورونا» أكبر حالة لركود اقتصادي منذ عام 1945، وتبعتها موجة تضخم حادة لا يوجد ما يضاهيها ارتفاعاً إلا ما شهدته الاقتصادات الأميركية والأوروبية في سبعينات القرن الماضي. وقبل نشوب أزمتي الركود والتضخم تواترت تحذيرات للدول النامية من أنها تواجه ارتفاعاً في المديونية الخارجية لمستويات حرجة تجعلها أكثر عرضة لتقلبات أسعار الفائدة والصرف الأجنبي وصدمات الارتفاع المفاجئ في تكاليف الاقتراض، وزيادة احتمالات التعثر في السداد.
ويشكل تراجع تقديرات النمو الاقتصادي العالمي في هذا العام والعام المقبل أيضاً إلى حدود تتراوح بين 2.5 في المائة و3 في المائة انخفاضاً حاداً عما كان عليه معدل النمو في عام 2021، ويتزامن ذلك مع ارتفاع في معدلات التضخم عن متوسطاتها العالمية لتبلغ 7.8 في المائة في أبريل (نيسان) الماضي، وفقاً لتقرير البنك الدولي عن آفاق الاقتصاد العالمي الصادر في الشهر الماضي، الذي يرصد أيضاً ارتفاع معدلات التضخم في الدول النامية والأسواق الناشئة لتتجاوز 9.4 في المائة لأول مرة منذ الأزمة المالية العالمية في 2008، وهذا التزامن بين انخفاض متوالٍ في معدلات النمو وزيادات في معدلات التضخم أعلى من متوسطاتها المستهدفة بما سبب حالة من الركود التضخمي، وأدى إلى انخفاض في متوسطات الدخول الحقيقية عن مستوياتها قبل أزمة «كورونا» في حوالي نصف عدد البلدان النامية؛ فاقتصاداتها مضارة مرتين؛ مرة بانحسار فرص النمو وزيادة البطالة التي تقلل من فرص التفاوض على أجر أعلى، كما أنها تتضرر من عدم زيادة أجور العاملين بمعدلات تفوق زيادة التضخم.
وقد بات لزاماً على صانعي السياسة الاقتصادية في الدول المتقدمة العودة إلى سجلات عقود مضت للتعرف على ما كان من أوجه التعامل مع ارتفاعات التضخم المتتالية في السبعينات، وما كان مجدياً منها وغير مجدٍ. وفي أحاديث مع مشاركين في مؤتمر دافوس الذي عُقد في شهر مايو (أيار) الماضي تبين أن التضخم الحاد يمثل تحدياً عمرياً للمديرين التنفيذيين للشركات ومؤسسات الإنتاج في البلدان المتقدمة، فمن يشغلون هذه المناصب تتراوح أعمارهم بين العقدين الرابع أو الخامس من العمر، أي أنهم كانوا في مراحل التعليم قبل الجامعي عندما كان التضخم ظاهرة تشغل بال الأسواق، وعليهم أن يتمرسوا التعامل مع هذه المتغيرات وثقافتها. هذا طبعاً على عكس الحال في الدول النامية التي لم تنقطع عن أكثرها تحديات ارتفاع الأسعار تزيد بها معدلات التضخم السنوية أو تحلق ارتفاعاً مسببة لموجات غلاء شديدة لا تطيقها دخول عموم الناس. ولكن مما لا شك فيه أن مجرد اجترار الذكريات عن التضخم وكيفية التعامل معه لن يجدي شيئاً مع تعقد الأزمات الاقتصادية وتشابكها.
مع شدة الأزمات المحتدمة تشابكاً من غلاء وركود وديون، تلوح فرص ترتبط بالعمل المناخي في التصدي الناجع لهذا الثالوث، إذا ما أحسن إدراج جهود التصدي لأزمات المناخ في السياسات العامة. ويأتي هذا باتباع نهج شامل للتصدي لتغيرات أولى من الاختزال المخل الذي جعل العمل المناخي يجتزئ إجراءات بعينها انحرافاً عن حسن إدارة العملية الانتقالية نحو الحياد الكربوني وفق اتفاق باريس وتعهداته الملزمة.
أولاً، أن سياسات إدارة الطلب بزيادة أسعار الفائدة لن تخفض التضخم بمفردها في البلدان المتقدمة اقتصادياً، وضررها بالغ على البلدان النامية، كما أوضح جوزيف ستيجليتز الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد، في مقال مشترك مع الاقتصادي دين بيكر، أن مصدر ارتفاع الأسعار في الولايات المتحدة يرجع إلى صدمات في جانب العرض مثل الارتفاعات الحادة في أسعار الطاقة والغذاء والخامات التي انخفض عرضها بفعل «كورونا» وارتباك سلاسل الإمداد وتداعيات حرب أوكرانيا، فزيادات أسعار الفائدة لن تزيد المعروض من المنتجات، بل على العكس ستجعل تكلفة الاستثمار أكثر ارتفاعاً وتعوق جهود تنشيط جانب العرض. وفي مقال لاقتصادي مرموق حائز أيضاً جائزة نوبل في الاقتصاد، وهو مايكل سبنس، يحذر من مغبة الرفع المتزايد لأسعار الفائدة من قبل البنوك المركزية الرئيسية بدفعها للاقتصاد العالمي تجاه ركود أعمق. وفيما يتجاوز الأثر السلبي للأزمة الأوكرانية، يوضح سبنس أن هناك معوقات في جانب العرض وإنتاجية العمل والأجور النسبية تحتاج لعلاجات لن يجدي رفع أسعار الفائدة معها نفعاً. كما أن هناك تحديات جيوسياسية ورغبات في إعادة تشكيل سلاسل الإمداد بدوافع تحقيق أمن الحصول على منتجات أساسية بتوطين عمليات الإنتاج أو من خلال التعاقدات مع مصادر أكثر تنوعاً للطاقة وأقل تركزاً من حيث المخاطر، ومرة أخرى لن تحقق ارتفاعات أسعار الفائدة أي تحسن في وفرة المعروض من المنتجات التي ارتفعت أسعارها، بل ستعيد تسعير الأصول المالية والعقارية والعملات. أما عن آثارها على البلدان النامية فستزيد من اضطرابات أسواق النقد الأجنبي والتدفقات المالية مع مزيد من التعثر في سداد الديون الخارجية.
ثانياً، دفع جانب العرض بزيادة الإنتاج والإنتاجية في قطاعات الطاقة والغذاء وإدارة المياه من خلال الاستثمار. جانب كبير من التضخم يرجع لزيادة أسعار الطاقة والمواد الغذائية التي زادتها سوءاً الحرب الأوكرانية. في الأجل القصير تأتي إجراءات انفعالية كرد فعل كاستخدام مولدات الكهرباء المستخدمة للفحم في أوروبا، ولجوء أكثر من 30 دولة لإجراءات حمائية ومانعة لتصدير منتجاتها الزراعية. ولكن في الوقت ذاته تتولد دوافع للاستثمار في الطاقة المتجددة وتطوير القطاع الزراعي ومنظومة الإنتاج الغذائي وكفاءة استخدام المياه بالتوافق مع إجراءات التخفيف والتكيف المناخي مع التوسع في استخدام مستحدثات التحول الرقمي والذكاء الصناعي، وما يتطلبه ذلك كله من استثمارات جديدة. ولعل أهم ما أسفرت عنه اجتماعات مجموعة السبع هو تعهدها في البيان الصادر عنها الشهر الماضي باستثمار 600 مليار دولار في مشروعات في البلدان النامية خلال السنوات الخمس المقبلة في مجالات العمل المناخي والصحة العامة والبنية الرقمية والمعلوماتية والعدالة بين الجنسين. وهذه المجالات تأتي في إطار اتفاق باريس وأهداف التنمية المستدامة السبعة عشر؛ وهي تتطلب تعاوناً فنياً وتكنولوجياً مع الدول النامية لا يقل أهمية عن التمويلات الموعودة، الذي أكد الرئيس الأميركي جو بايدن أنها ليست منحاً أو معونات، لكنها استثمارات. بافتراض تدفق هذا التمويل فإن الفجوة التمويلية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة ستظل في حاجة إلى المزيد لتجسيرها، إذ تصل تقديراتها إلى 4.2 تريليون دولار سنوياً، وفقاً لتقارير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. ومن خلال الاستثمارات الموجهة للدول النامية ذات النفع المتبادل، يمكن التعامل مع تحديات الركود بدفع نمو قطاعات الإنتاج وتيسير الحصول على طاقة نظيفة والتعامل مع أزمة الغذاء وأسعاره التي استعرت، خصوصاً بعد الأزمة الأوكرانية.
ثالثاً، تخفيض الديون من خلال مبادلتها بالاستثمار في العمل المناخي، باعتبار أن درء مفسدة الديون المتفاقمة يقدم على جلب المنح والهبات، فهناك ضرورة تحتم إعادة النظر في المديونية الدولية، وأوجه الخلل فيها، ومنع انتشار أزمات التعثر في السداد والإعسار، وما يرتبط بها من مشكلات ويترتب عليها من تداعيات واختلالات اقتصادية في البلدان النامية، ولنا في الموجات الثلاث للديون، التي انتهت كل واحدة منها بأزمة كبرى، عظات. وباعتبار أننا لا نشهد تدفقاً مالياً يذكر للعمل المناخي رغم التعهدات، فمن مجالات العمل الممكن للتعاون الدولي تطوير وسائل جديدة من مبادلة الديون ويكون بمقتضاها استفادة الدولة المدينة بتخفيض ديونها الخارجية المستحقة، سواء كانت لمدينين رسميين أو تجاريين، من خلال تنفيذ مشروعات، كما فعلت دولتا بليز وسيشيلز، وإن كان من الأفضل أن يكون ذلك مقابل إجراءات تنفذها الدولة المعنية بالتوافق مع تعهداتها وفق اتفاق باريس، سواء في مجالات التخفيف أو التكيف بمنظومة محددة فنياً وزمنياً؛ وهو ما سأقوم بتوضيحه بتفصيل وأمثلة في مقال مقبل.
ولحسن التعامل مع الأزمات الراهنة يظهر بجلاء أن الاكتفاء بافتراضات سخية عن تماثل الأزمات الراهنة، أو تشابهها، مع أزمات سابقة لن يضعها على مسار حل سحري. كما أن لوم مصدر الأزمة بكونه من مسببات خارجية أو من مخلفات عهود بائدة، لن يفيد إلا لوقت وجيز يتلقى خلاله مدير الأزمة كلمات للتضامن أو التشجيع لا ينبغي أن تشغله عن مهمته الأساسية في التصدي للأزمة، فشأنه بعدها لن يكون مثلما كان قبلها بحال. وأفضل ما ينفع مما سبق من دروس الأزمات الفائتة أنها جميعاً إلى انقضاء، وهو ما قد يطمئن، ولكنها لا تنتهي تلقائياً ولكن بما يبذل في مواجهتها من جهد منظم بفريق محترف يقود مؤسسات ذات كفاءة بسياسات واضحة الرؤية. ومن دروس التعامل مع الأزمات أن لها تكلفة تزيد بإهمال التصدي الفوري لها، وأنها ليست عادلة في توزيع أعبائها، وهو ما ينبغي إدراجه في تصميم برامج التصدي لها، فكثير من أنواع الدواء الموصوف قد يكون أشد من الأزمة شراً. وسيتبين بعد نهاية الأزمة أنها، ككثير من سابقاتها، كان من الممكن التوقي من شرورها أو على الأقل من أغلبها. وهذا هو الدرس الأكبر من دروس تاريخ الأزمات بلا منازع، إذ أننا لا نتعلم منه شيئاً، بما يجعل الأزمات تتكرر بملل مزعج في كثير من مسبباتها.

د. محمود محي الدين