حول العلاقة بين الثقافة والاقتصاد

حين تنظر في الخريطة الاقتصادية للعالم العربي، ربما يلفت انتباهك الانحسار المتواصل للاقتصادات القديمة، والتوسع المتسارع لأنماط الاقتصاد الحديث. بعض هذه الأنماط يملك مقومات ذاتية أو موضوعية تسمح له بالتجذر في البيئة المحلية، وبعضها الآخر مجرد نسخ سطحي من أسواق العالم.

لو تأملنا حال أي مجتمع عربي في بداية القرن العشرين، من 1901 إلى 1920 مثلاً (هذا اختيار عرضي لمجرد المقارنة)، وتساءلنا عن مصادر الإنتاج الأكثر تأثيراً، ونمط المعيشة الذي يتبعه غالبية الناس، وبموازاة هذين، نظرنا في طبيعة الثقافة السائدة يومذاك. ثم وضعنا هذه المعلومات على طاولة المقارنة، مع نظيرتها في الفترة نفسها من القرن الجديد، أي الفترة من 2001 إلى 2020.

فما الصورة التي نتوقع أن تولد من تلك المقارنات؟ وفي الأساس، لماذا نحتاج هذه المقارنة وماذا نستفيد منها؟

أنا لست خبيراً في الاقتصاد، ولذا لا أطالع الموضوع من زاوية اقتصادية بحتة. لكني أعلم أن الاقتصاد ليس عالماً مستقلاً بذاته، بل هو جزء من المنظومة الحياتية الشاملة التي نسميها «النظام الاجتماعي»، الذي يلتزم بمقولاته وحدوده غالبية أعضاء المجتمع. من هنا، فإن السؤال عن مصادر الإنتاج وأنماط المعيشة، يشكل مدخلاً لفهم الثقافة السائدة وكيفية تفاعلها مع الحياة اليومية للأفراد، وكيف يعاد إنتاج تلك الثقافة أو بدائلها، بتأثير التحولات التي يمر بها المجتمع في جانبه الاقتصادي أو السياسي. أما مقارنة نظام الحياة بين زمن وآخر، فهي تساعدنا على فهم التحولات التي جرت في هذا المجتمع، والعوامل التي حركتها أو تلك التي تسهم في استمرارها وتحدد اتجاهاتها.

بديهي أن حديثنا يتناول الثقافة بالمعنى السوسيولوجي، أي بوصفها الخلفية الذهنية التي توجه 90 في المائة من السلوك اليومي للفرد، وهي بالتالي جزء مما نسميه العقل الجمعي. الثقافة العامة لأي مجتمع هي التي تحدد المقبول والمرفوض من أنماط العيش، ما يستحق التقدير وما يستوجب اللوم، وبالتالي فهي مؤثرة جداً في تحديد نوعية الحياة والإنتاج، أي الحياة الاقتصادية لهذا المجتمع أو ذاك. وعلى الجانب الآخر، فإن هذه الثقافة لا تبقى على حال واحدة، فهي أيضاً تتحول باستمرار، ولكن ببطء. وحين تتحول، سنرى انعكاس هذا التحول على شخصيات الأفراد وعلاقتهم ببعضهم، وعلى نوعية الأعمال التي يميلون إليها أو ينفرون منها.

لقد أثرت حتى الآن قضايا كثيرة، لا يتسع المجال لشرح أي منها، وهذا عيب معروف في تناول القضايا العامة. لكن يهمني الإشارة إلى أننا بحاجة فعلاً إلى دراسة الأنماط الاقتصادية المستمرة منذ القدم، في مقابل الأنماط التي كانت ثمرة للانفتاح على أسواق العالم. وفدت بعد اتصاله بالعالم أو تغير ظروفه الاقتصادية والسياسية.

دراسة هذه الأنماط مفيدة جداً في تحديد ما هو راسخ الجذور، ثم تطويره إن كان قابلاً للتطوير، بحيث يتحول إلى مصدر إنتاج رئيسي قابل للتطور المستمر اعتماداً على تفاعلات محلية.

يمكن أن نضرب مثالاً على هذا بالسياحة (بمختلف أغراضها) والزراعة والتعدين، إضافة إلى الصناعات التي كانت في الماضي متميزة.

الذي أرى أن كثيراً من المجتمعات العربية يميل إلى التفريط في هذه الموارد، ثم يعيد استيراد وسائل إنتاجها أو منتجاتها من السوق الدولية. نحن الآن نستورد مفاهيم صناعة السياحة والفنادق، كما نستورد أساليب الزراعة وعناصر إنتاجها، وأمثال ذلك من البدائل الحديثة لقطاعات الإنتاج القديم، البدائل التي تطورت في مجتمعات مختلفة، وكان الأمثل تطويرها كجزء من نظام الحياة في مجتمعاتنا.

هل أدى هذا السلوك المزدوج إلى إضعاف روحية الإنتاج في ثقافتنا العامة (العقل الجمعي)؟ هل عزز ميلنا للاستهلاك والتفاخر بالاستهلاك؟ أم ساعدنا في التحرر من عقلية قديمة؟

 

توفيق السيف

إعادة إدراج لبنان على القائمة الرمادية ضربة قاضية لاقتصادنا

 

كانت هناك مخاوف ومخاطر وتهديدات جدية من المجتمع الدولي لإعادة لبنان وإدراجه على «القائمة الرمادية»، لعدم التنفيذ الجدي لمحاربة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، وتمويل تجارة المخدرات. في آخر لحظة، مُنح لبنان فترة سماح قصيرة المدى، بِعَون اليد الإلهية التي تحميه.

مصير لبنان معلّق بخيط رفيع جداً: فمِن جهة يُمكن تمكينه بإصلاحات وتنفيذ المطالبات الدولية، ومن جهة أخرى قَطعه وفَصله نهائياً عن الدورة الإقتصادية والمالية والنقدية الدولية، والتي ستكون الضربة القاضية للبنان واقتصاده وشعبه.

بعد اندلاع ما أُطلِق عليها من قبل صندوق النقد الدولي، أكبر أزمة إقتصادية وإجتماعية في تاريخ العالم، منذ نحو ثلاث سنوات ونصف السنة، كانت الدولة اللبنانية المسؤولة المباشرة عن هذا التدمير الذاتي، أسوأ بإدارة الأزمة، وعدم اتخاذ أي عملية إصلاح، أو إعادة هيكلة، لوَقف النزف ومحاولة إعادة لبنان على السكة الصحيحة، لا بل سَرّعت في الإنهيار وباتت تحفر في الخندق عينه، العميق جداً نحو القعر.

على الصعيد الدولي، فقد صبرَ المجتمع الدولي ووكالات المراقبة وحتى أنها غَضّت النظر، عن اقتصادنا الذي أصبح عشوائياً، من دون ضوابط ومراقبة والذي تحوّل إلى إقتصاد الكاش وهو أخطر اقتصاد في العالم. فاقتصادنا النّامي والمُراقب الذي كان يجذب المبتكرين والرياديين والمستثمرين، تحوّل إلى اقتصاد أسود وغامض، يجذب المروجين والمهربين والمُبيّضين. فدول العالم فضلت إعطاءنا فترة سماح دامت ثلاث سنوات ونصف السنة، جراء مواجهتنا لهذه الأزمة الإقتصادية والإجتماعية الفريدة من نوعها، المتزامنة مع ثالث أكبر انفجار في العالم، والآتية في ظل محاربة جائجة كورونا، التي هزّت كل اقتصادات العالم.

لكن بعد ثلاث سنوات ونصف السنة من دون إظهار أي رؤية أو نية جدية من قبل السياسيين اللبنانيين، وغياب أي خطة جدية لإعادة الهيكلة والإصلاح، ومتّبعة الإنزلاق نحو الأسوأ وتشجيع التهريب وتبييض الأموال، بدأت المنظمات الدولية تفقد الصبر ودقت آخر ناقوس الخطر قبل فصل لبنان نهائياً عن الدورة الإقتصادية الدولية.

من الواضح لهم أنّ هناك خسائر كبيرة، لكن الأموال غيّرت ملكيّتها وتحوّلت من الإقتصاد الأبيض المراقب ومن الودائع الشريفة المكتسبة بعرق الجبين، إلى الإقتصاد الأسود المدمر، وإلى الأرباح الفادحة للمافيات التي تنمو في ظل الأزمات. فحتى إذا لم ينزل على حدود «القائمة الرمادية»، فقد أصبح لبنان في عين العاصفة وتحت المجهر، في كل تحويلاته، وكل عمليات التصدير والإستيراد التي ستخضع لتدقيق مفصل، وسيكبد الإقتصاد خسائر أكبر. إضافة إلى ذلك، إن هذه المخاطر سيكون لها مردود ونتائج مباشرة على القطاع العقاري وتجميده، لأنّ أي عملية بيع أو شراء ستكون بالكاش، وهذا الأخير لن تقبل به المصارف الداخلية ولا الإقليمية أو الدولية، وحتى بتحويله أو استعماله في أي مكان.

إنّ إدراج لبنان على «القائمة الرمادية» سيكون المحطة الأخيرة قبل إدراجه على «القائمة السوداء»، ليصبح رسمياً بلد المافيات والتهريب والتبييض، ومنبع المخدرات.

في ظل هذه المخاطر الجدية والمخيفة، وإعادة إدراج لبنان على هذه القائمة، ومخاطر عقوبات جديدة علينا، لن نتوقع أي ردة فعل جدية من السياسيين الذين برهنوا في الماضي أنهم غير مُكترثين وغير مهتمين بهذه التصنيفات. وقد مررنا بالتجربة عينها منذ بضع سنوات، عندما تراجعنا في تصنيفات «ستاندرد أند بورز» (S&P)، و«موديز»، عندما أعادت إدراج لبنان من المرتبة الـ B-، إلى –B، ومن ثم إلى C+، ومن ثم C-، وصولاً إلى «التعثر المالي»، Restricted Default – RD ولم يرفّ لهم جفن، وبرهنوا في الماضي أنهم غير معنيين وغير مهتمين بتصنيف لبنان، وأولوياتهم هي توزيع المقاعد وتوزيع المشاريع وتوزيع المكاسب، وخلافاتهم الظاهرة وتحالفاتهم من وراء الستارة.

في المحصّلة، إن فترة السماح، التي مُنحت للبنان استثنائياً، لن تدوم وهي فقط محطة قبل عقوبات صارمة، ستقطع جذورنا، وأدوات تنفّسنا الإصطناعية، فنحن على مفترق طرق، فإمّا نعود إلى اقتصاد مراقَب دولياً يلحق كل المتطلبات الدولية، أو نكرّس وضعنا كبلد المافيا والمافيات، المُنعزِل عن الدورة الإقتصادية الدولية، وأخذ شعبنا رهينة هذه الجماعات الفاسدة والسوداوية.

د. فؤاد زمكحل

مسيرة خبير نفطي عراقي

واجه تسويق النفط الخام العراقي، بعد تأميم شركات النفط الامتيازية في عام 1972، تحديات متعددة: التأميم، ومحاولات الشركات الدولية عرقلة تسويق وتكرير النفط المؤمم، والحروب وما أدت إليه من تخريب العديد من المنشآت النفطية، ووجود بعض موانئ التصدير في دول مجاورة، مما عرَّض البلاد لضغوط عدة، والاعتماد الكبير على الريع النفطي، مما جعل الاقتصاد الوطني تحت رحمة معدلات ارتفاع أو انهيار الإنتاج والأسعار.

قررت الحكومة العراقية تأميم صناعة النفط في يونيو (حزيران) 1972 بعد عقود من المفاوضات مع الشركات النفطية، تم على أثرها إنشاء مؤسسة تسويق النفط «سومو» لتسويق النفط في الأسواق المحلية والعالمية، وتعيين المهندس النفطي الدكتور رمزي سلمان مديراً عاماً للمؤسسة، حيث استمر بمسؤوليته هذه حتى مطلع عام 1991 عندما التحق بمنظمة «أوبك» نائباً للسكرتير العام. أسس د. سلمان «سومو» في ظروف داخلية صعبة وحساسة جداً، وطوَّر «سومو» لتصبح واحدة من المؤسسات التسويقية المهمة والمحترمة لشركات أقطار «أوبك».

صدر عن د. سلمان كتاب بعنوان «مسيرتي» في بيروت عام 2023 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر. يرسم الكتاب صورة للماضي، فهو ليس مذكرات أو سيرة حياة، لكنه يدوّن وقائع مهمة ذات صلة بالسياسات النفطية والعامة العراقية لمسؤول عراقي كبير المسؤولية.

ومن أهم هذه الوقائع، تدوين التطورات التي أدت إلى غزو الكويت في عام 1990. ويذكر د. سلمان: «كتب الكثير عن علاقات الكويت والعراق، والتاريخ حافل بالقصص والحقائق عن الموضوع، ولا أنوي هنا التطرق إلى ذلك، وإنما الاكتفاء بسرد ما لمسته أو شاهدته شخصياً بما يخص غزو الكويت، والفترة التي تلت الحرب العراقية الإيرانية. ولا بد أن أذكر أنه بعد توقف الصادرات العراقية عبر سوريا، كانت الكويت والسعودية قد خصصتا من نفطهما ما يعادل الصادرات المتوقفة عبر الخطوط السورية، وكنت شخصياً المسؤول عن توقيع وتنفيذ العقود النفطية مع الدولتين، وعلى أساس أنها عقود تبادل زمني، أي أن على العراق إعادة ما يوازي قيمتها بالنفط الخام حال عودة منافذه التصديرية إلى العمل الاعتيادي. كان التعامل مع الإخوة في السعودية والكويت وبقدر تعلق الأمر بهذه العقود وتنفيذها سلمياً وأخوياً».

ويضيف الكاتب: «لا بد وأنه كان للبعض أجنداتهم لموضوع الكويت والعراق، وهنا لا أقصد على الجانب العراقي فقط؛ بل جهات عديدة إقليمية ودولية، ولا شك أن للترسبات التاريخية دورها، وأسلوب تعامل العراق مع العلاقات الكويتية، وخاصة بعد انتهاء الحرب الإيرانية، لم يعكس أي امتنان لموقف الكويت تجاه وخلال تلك الحرب».

وتابع المسؤول العراقي السابق: «لاحظت ولمست الكثير من محاولات التصعيد لخلافات لم تكن مهمة، بحيث تقود إلى غزو وتدمير وحرب، وكالمعتاد ليس هناك رابح لأي حرب، وإنما هناك طرف أقل خسارة من الآخر. فموضوع اتهام الكويت سرقة النفط العراقي بحفر آبار مائلة تحت الحدود إلى الحقول العراقية في منطقة غير محددة الحدود كان أمراً تافهاً، وكذلك موضوع اتهام الكويت بإغراق الأسواق النفطية لخفض الأسعار، الذي اعتبر حرباً لما يسببه من انخفاض في عوائد العراق من مبيعاته».

وفي نقطة مثيرة، يقول الكاتب: «قام العديد ممن يسمون خبراء بحساب كميات النفط، التي تنتجها الكويت من الحقول العراقية خلسة، بل إنهم كانوا يحسبون قيمتها شهرياً باعتماد 18 دولاراً للبرميل، وهو مستوى نفط الإشارة، الذي اعتمدته «أوبك» هدفاً، في الوقت الذي كان فيه النفط العراقي يباع بسبعة دولارات للبرميل فقط. ولتاريخه لم يثبت أن الكويت كانت تنتج نفطاً عراقياً خلال تلك الفترة. أما موضوع قيام الكويت بإغراق السوق لخفض الأسعار للنيل من العراق، فهو أمر لم يذكره أو يعترض عليه أي من الدول المنتجة، خليجية أو غيرها، وكلهم متضررون من انخفاض صادراتهم وتدني أسعارها. وعليه استمر التصعيد بلا هوادة، وتبرع كثيرون مع الأسف الشديد لتشجيع العراق في نهجه، كل حسب أجندته، وكذلك مساعدة الكويت باتهام العراق بنكران الجميل، والعراق بمشاكله الكثيرة التي أراد إبعادها عن الواجهة، والاستفادة من زخم نشوة النصر، واتخاذ موقف منقذ الجبهة الشرقية وحامي الكويت ودول الخليج من التوسع الإيراني».

وفيما يتعلق بالسياسة التسويقية، يذكر د. سلمان أن «المبدأ الأساسي الذي اعتمد سياسةً للتسويق هو تصدير أكبر كمية ممكنة وبأعلى مردود ممكن، مع المحافظة على أكبر عدد من المشترين، واستهداف تغطية أكبر عدد من الدول المستهلكة، وإعطاء الأولوية إلى الشركات الوطنية في الدول ذات السياسة المساندة للعراق والقضايا العربية». ويضيف أن «أهم أسباب نجاح السياسة التسويقية كان الالتزام الكامل والمطلق بنصوص العقود المبرمة، بغض النظر عن التطورات قصيرة الأمد في الأسواق العالمية. فعندما كانت الأسعار تحدد من قبل (أوبك) كانت العقود كافة تبرم بالأسعار الرسمية المقررة، وتنفذ كذلك بالرغم من ارتفاع الأسعار في الأسواق الفورية، كما حدث مطلع السبعينات، حتى في وقت كان فيها السعر الفوري ضعف السعر الرسمي، نفذ العراق عقوده بالكامل بالأسعار المتعاقد عليها وللمدة المتعاقد عليها».

وليد خدوري

فوضى المالية العامة والدولرة منذ الحرب… الليرة والعدالة الاجتماعية تدفعان الثمن

 

عندما بدأت الحرب في لبنان، كانت جميع الموازنات تعاني عجزاً، باستثناء الأعوام 1971 و 1972 و1974 عشية اندلاع حرب 1975. ومنذ عام 1975 وحتى اليوم، أصبحت الموازنات اللبنانية المتتالية تعاني عجزاً مالياً… أول غياب لقطع حسابات الموازنات العامة وحسابات المهمة كان بين عامَي 1979 و1993. وحديثاً، تكرّر الأمر بوقف قطع الحسابات المستمر منذ عام 2004 مع توقّف إقرر الموازنات طيلة 12 سنة بين عامي 2005 و2017… وما أتت موازنة عام 2017 إلا بفوضى احتساب النفقات والايرادات وتكاليف سلسلة الرتب والرواتب وسُبل تمويل إلّا لِتطفح كَيل الفوضى المالية المتمادية منذ الحرب.

أمّا سابقة اللجوء الى طباعة العملة الوطنية والضغط على المصرف المركزي لتمويل عجز الدول وما نتج عنه من تضخّم مفرط عام 1987 وهروب الناس عفوياً من الليرة اللبنانية واستبدالها بالدولار الأميركي في التسعير والدفع والادّخار على شكل دَولرة غير رسمية شبه شاملة، ولو غير مُعلنة، فكان أيضاً في السنة نفسها 1987 حين بلغت ذروة الدولرة 92% من مجموع الودائع… وتَمَسّك المواطنين بالمستوى المرتفع للدولرة بالاقتصاد، هو ما اضطر لبنان الى التخلي عن نظام سعر الصرف العائم الحر وتَبنّي الثبات الزاحف بين 1993 و1998 من التثبيت المتشدّد على سعر صرف 1507.5 منذ حينها، كَون نظام الصرف الذي تدعو له كل الأدبيات الاقتصادية في حال الدولرة المرتفعة الثابتة.

وفي الحرب نفسها عرف لبنان أولى تجاربه في ضرب العدالة الاجتماعية بين حاملي الدولار وذوي الدخل المحدود بالليرة اللبنانية ونَسف الطبقة الوسطى، وهي أساس ديناميكية كل اقتصاد ومجتمع بكلّ ما تحمل من اجتهاد في العمل ونشاط في القطاعات وأصالة في الدفاع عن قيمة «أكل الخبز من عرق الجبين»… خلافاً لمفاهيم أصحاب الثروات المبنية على المضاربة والربح السريع بفرق العملة… وما ظَواهِر اليوم سوى تكرار مشاهد سابقة من المسار ولكن بأكثر شراسة نتيجة انغماس المصارف بتمويل انهيار القطاع العام وتدفيع الثمن للمودعين السابقين… مقابل استفادة المقترضين خاصة بالدولار!

يُخطئ ويبتعد عن الموضوعية العلمية كلّ من يُقارب المأزق المالي-النقدي المصرفي بشكل إستنسابي لفترة معينة: مثلاً اختيار البحث فقط بفترة ما بعد عام 1993 بغضّ النظر عن الخيارات الاقتصادية وكلفة إعادة الإعمار، أو منذ العام 2005 بالنظر حصراً للمشهد السياسي الجديد الذي تَبعَ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري والضغوط المالية-النقدية التي رافقته، لا سيما منها إبقاء لبنان طيلة 12 سنة بدون إقرار موازنة وما نتج عنها من إغراق النظام المصرفي بتمويل الدولة، وتغطية ذلك بقرارات تخطّي سقف الانفاق العام مُصدّق عليها من مجلس النواب نَسَفت بنود قانون النقد والتسليف الذي كان يفترض أن يحفظ بالنصوص الحد الأدنى من استقلالية المصرف المركزي… كما يُخطئ من يحصر بحثه في الفترة التي ترجمت تدهور مؤشرات قدوم الانهيار منذ العام 2011 (في المالية العامة والدين العام/النمو الاقتصادي، وانقلاب ميزان المدفوعات واستنزاف الاحتياطي بالعملات الأجنبية…) وتم تأجيله عام 2016 عبر شراء الوقت من خلال الهندسات المالية (لإعطاء فرصة إصلاح لم تحصل) حتى انفجر الوضع في خريف 2019.

في نهاية العام 1992 كان مجموع الدين العام الثابت، المُتوجّب على الخزينة اللبنانية، يُعادل حوالى ثلاثة مليارات دولار أميركي، منه 327.5 مليون دولار أميركي والباقي بالليرة اللبنانية. وباحتساب كلفة خدمة هذا الدين العام على أساس معدلات الفائدة السنوية المعتمدة من قبل مصرف لبنان على مدى السنوات 1992 -2011 والمدفوعة من قبل الخزينة اللبنانية، فإنّ تلك المبالغ المتوجّبة في نهاية العام 1992 وبعد إضافة الفائدة المتجمّعة على مدى كل سنة بين عامي 1992 و2001 بلغت 30 ألف مليار ليرة لبنانية. كذلك زاد الدين بالدولار الأميركي بفِعل تَراكم الفوائد، ليصبح رصيد الدين العام حوالى ملياري دولار أميركي وليتخطى مجموع الدين المقوّم بالدولار حدود 22 مليار دولار.

إرتفع الدين العام إلى 7 مليارات دولار بحلول عام 1994، وهو ما يمثّل نموًا سنويًا بنسبة 67%. بين عامي 1993 و2001، اعتمدت الحكومة اللبنانية في البداية على الاقتراض الكبير من السوق المحلية. وقد شكّل الدين العام بالليرة اللبنانية في تلك المرحلة 81.3% من إجمالي الدين بشكل متوسط مع ارتفاع تكاليف الاقتراض نظراً لعامل المخاطرة.

وتمّ إجبار المصارف على الاكتتاب بسندات الخزينة حتى 60% من إلتزاماتها بالليرة اللبنانية، وخُفِّض المعدل إلى 40% عام 1994 ثم أُلغِي عام 1997.

أما عن ارتفاع معدّلات الفوائد على الاقتراض، فلا بد من لفت الانتباه الى جملة العوامل المؤثرة فيها، لا سيما «مخاطر البلد». كذلك ارتفاع الفوائد الاسمية مع ارتفاع التضخم كي يبقى معدل الفوائد الفعلية إيجابياً… فضلاً عن سعي الدولة في السنوات الأخيرة الى رفع الفوائد لاجتذاب الرساميل ثم العمل على توظيف جزء كبير منها في تمويل الدولة المديونية على شكل كرة ثلج، فضلاً عن رفع المصرف المركزي الأميركي معدلات الفائدة لعام 2017، كلّ ذلك زادَ الضغط على معدلات متوسطة الأجل.

عجوزات مؤسسة الكهرباء

كما ساهم تراكم العجز السنوي لمؤسسة كهرباء لبنان على مدى الفترة الممتدة من نهاية العام 1992 وحتى العام 2011، والذي اضطرت الخزينة اللبنانية إلى تغطيته وتسديده عن المؤسسة، بزيادة حجم الدين العام وخدمته إذ سجّلت مؤسسة كهرباء لبنان عجوزات مالية سنوية كانت تتراوح بين ما يوازي مليار ونصف الى ملياري دولار أميركي، ما عدا تراكم كلفة فوائد الديون عليها…

وفي عام 2018، أظهر تقرير قُدِّم إلى مجلس الوزراء عن أوضاع قطاع الكهرباء أنّ إجمالي العجز على مدى 26 عامًا بلغ 36 مليار دولار، منها 20.6 مليار ديون مؤسسة كهرباء لبنان، و 15.4 مليار فوائد متراكمة على هذا الدين…

كلفة القطاع العام من رواتب وأجور

وفي الانفاق الجاري الذي يسيطر على مجمل الموازنة العامة في لبنان، لا بد من التوقف عند حجم القطاع العام، وعدم تحقيق الاصلاح المالي والاداري فيه يُثقِل الخزينة حتى تخطّت كلفته ثلث الموازنة في حين لا تتجاوز حصته 10 الى 15% من الموازنة في مختلف بلدان العالم.

ومنذ عام 1993، بدأت تَتنامى الفجوة النمو الودائع بالعملات الأجنبية والأصول الخارجية للنظام المصرفي وأخذت تتسع تدريجاً. تم إنشاء غرفة المُقاصّة للشيكات بالدولار الأميركي بدءاً من عام 1994. وبعدها، تطوّرت الدولرة باتجاه أجهزة الصراف الآلي التي أخذت تمتلئ بالدولار الأميركي، خلافاً لما هي حال جميع البلدان التي تخشى التداول الورقي بالعملة الأجنبية واستخدامها لتبييض الأموال والمضاربة على العملة الوطنية في السوق السوداء… وأدى استخدام العملة كأداة دفع إلى تطوير منح قروض مصرفية للقطاع الخاص بالدولار الأميركي للسوق الداخلية ومنحها حتى لِمَن كان مَدخولهم بالليرة اللبنانية، بما في ذلك من مخاطر تقلّب سعر الصرف وعدم إمكانية السداد كما حصل بعد 2019 حتى تم السماح لهم بالتسديد بالليرة اللبنانية وعلى سعر الصرف الرسمي، وهذه خيارات تؤدي في جميع مصادرها الى خلق المزيد من النقد عن طريق «مضاعف الائتمان»… حيث يتبيّن أن الودائع كانت تتزايد بالدولار، وهي مجرّد تحويل ودائع من الليرة الى الدولار من دون غطاء دخول دولار فِعلي، وتحديداً مِن تراكم عجوزات ميزان المدفوعات منذ عام 2011. وكذلك عمدت الدولة اللبنانية الى دولرة متنامية للدين العام بما في ذلك من مخاطر صعوبة التسديد، وتَوّجَهتها من خلال «الهندسات المالية» التي كان من أهدافها تخفيض وَهمي لخدمة الدين العام، لأنّ الفوائد على الأوروبوند أقل من الفوائد على سندات الخزينة بالليرة اللبنانية (بفِعل فرق عامل المخاطرة بين العملتين)، فضلاً عن محاولة تسويق الأوروبوند في الأسواق المالية الدولية.

تمّ الحفاظ على الستاتيكو طالما كان ميزان المدفوعات فائضًا. لكن منذ عام 2011 اتسعَت الفجوة بطريقة بارزة بين الودائع بالدولار الأميركي، التي كانت تتزايد بوتيرة متسارعة، والأصول الخارجية للنظام المصرفي التي بدأت في الانخفاض، ما قَلّل تدريجاً من القدرة على تلبية جميع طلبات سَحب ودائع العملاء بالعملة الأجنبية في عام 2019، وسَلّط الضوء على انهيار نظام 2019، فتَعَدّد سعر الصرف، ودخلَ البلد في دوامة سياسة الدعم ومن ثمة منصة «صيرفة»…

ومع بداية عام 2023 أصبح من الواضح تأقلم الاقتصاد مع الدولرة المرتفعة وانعدام العدالة الاجتماعية بعد الانخفاض الحاد في قيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي في بلد يستورد قرابة 80%، حيث انقسم المجتمع الى ثلاث فئات:

• فئة تنخفض قوتها الشرائية كل يوم لأنّ دخلها حصري بالليرة اللبنانية. هؤلاء هم في الأساس موظفون في القطاع العام، يسحبون الآن رواتبهم بالدولار الأميركي عبر منصة «صيرفة» الي تم إنشاؤها لهذا الغرض، ما يسمح بالتحويل التلقائي لرواتبهم إلى الدولار الأميركي بسعر صرف أقل من سعر السوق، ولكن التي تكون قيمتها بالدولار الأميركي أقل بكثير مما كانت عليه قبل تشرين الأول 2019.

• فئة يتم الحفاظ على قوتها الشرائية إلى حد ما نظرًا لأنّ أقله جزءًا من مدخولها بالعملة الأجنبية.

• فئة تزداد قوتها الشرائية لأنّ كل دخلها بالعملات الأجنبية (معدل التضخم لا يزال أقل من معدّل تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية).

يبقى القول انّ الحكم استمرارية، والأزمات المتراكمة لها أسباب وتداعيات وأحياناً كثيرة نتائج يصعب الخروج منها (كما هي الحال تحديداً بالدولرة منذ الثمانينات).

اليوم، وبغياب الاصلاح المالي، تأقلم السوق نقدياً على دَولرة شبه شاملة غير رسمية لتسيير القطاعات… لكنّ التأقلم لا يغني عن ضرورة معالجة جوهر الأزمة والعناية بالفروقات الاجتماعية التي وَلّدتها وتفادي تكرارها…

د. سهام رزق الله

الداو جونز يرتفع بنسبة 0.34%.. وناسداك يسجل أرباحًا للأسبوع السابع على التوالي

ارتفع مؤشر S&P 500 بشكل طفيف في تعاملات الجمعة 10 يونيو حزيران، حيث لامس المستوى 4300 للمرة الأولى منذ أغسطس 2022 حيث يتطلع المستثمرون إلى بيانات التضخم المرتقبة وإعلان توجه أسعار الفائدة المقبل للفدرالي الأميركي.

وارتفع مؤشر السوق بنسبة 0.11% ليغلق عند 4،298.86. وارتفع مؤشر ناسداك المركب بنسبة 0.16% ليغلق عند 13259.14. وتداول المؤشر داو جونز الصناعي مرتفعاً 43.17 نقطة أو 0.13% ليغلق على 33،876.78 نقطة. وكان الارتفاع المسجل في جلسة الجمعة ه الرابع على التوالي لمؤشر داو جونز المكون من 30 سهماً.

وعلى أساس أسبوعي، ارتفع مؤشر S&P 500 بنسبة 0.39%. وكان هذا هو الأسبوع الرابع على التوالي الذي يسجل فيه مؤشر السوق ارتفاعًا- وهو إنجاز تم تسجيله آخر مرة في أغسطس. وارتفع مؤشر ناسداك بنحو 0.14% ، مسجلاً أسبوعه السابع على التوالي من الأرباح، وارتفع مؤشر داو جونز بنسبة 0.34%.

وانخفض راسل 2000 بشكل طفيف خلال اليوم ، لكنه حقق مكاسب أسبوعية بنسبة 1.9%.

يتطلع السوق أيضًا إلى أرقام مؤشر أسعار المستهلكين الأسبوع المقبل واجتماع اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة. وتتوقع 71% من الأسواق أن يتوقف الفدرالي الأميركي مؤقتًا عن رفع أسعار الفائدة في اجتماع يونيو ، وفقًا لأداة CME FedWatch Tool.

متابعة قراءة الداو جونز يرتفع بنسبة 0.34%.. وناسداك يسجل أرباحًا للأسبوع السابع على التوالي

بورصة انفو: الموقع الرائد لأخبار الذهب ، العملات ، البورصات. مع تحليلات