حَلْب الشركات التقنية

لا يزال الاتحاد الأوروبي يسعى خلف عمالقة الشركات التقنية الأميركية، فبعد سنوات من ملاحقة هذه الشركات في قضايا الاحتكار، ومحاولات فرض الضريبة الرقمية، أصدر هذا العام قانوني الخدمات الرقمية والأسواق الرقمية، لتنظيم عمل الشركات التقنية في أوروبا، هادفاً إلى تطبيق هذين النظامين على النطاق العالمي. هذه المساعي جاءت هذه المرة من خلال الشركات الأوروبية المزودة لخدمات الإنترنت. فقد أصدرت جماعة الضغط الأوروبية لمشغلي الاتصالات (إنتو) تقريراً في مايو (أيار) الماضي وضحت فيه أن أكثر من نصف حركة الإنترنت العالمية تعود إلى ست شركات فقط، هذه الشركات هي (أبل) و(مايكروسوفت) و(فيسبوك) و(أمازون) و(غوغل) و(نتفليكس). مجموع القيم السوقية لهذه الشركات الست هو 8.25 تريليون دولار، أقل بقليل من نصف مجموع الناتج القومي لدول الاتحاد الأوروبي السبعة والعشرين (18 تريليون دولار). هذه الأرقام كانت وما زالت تسيل لعاب المفوضية الأوروبية التي لا تكل البحث عن وسائل لما قد يعبر عنه بـ(حَلْب) الشركات التقنية.
هذا المصطلح ليس قاسياً على ما يريده الاتحاد الأوروبي، فهو سيطلق العام المقبل مشاورات يناقش فيها إمكانية مشاركة الشركات التقنية العملاقة في تكاليف بناء شبكات الاتصالات في أوروبا. والمنطق هو أن هذه الشركات تستفيد من هذه الشبكات من خلال الوصول إلى المستخدمين، وعدم المساهمة في تكاليف بنائها تجعل الشركات التقنية أشبه بـ(الراكب المجاني) الذي ينتفع مادياً من البنى التحتية دون أي مساهمة. وزاد مشغلو الاتصالات الأوروبيين على ذلك أن الشركات التقنية لديها تعارض في المصالح، فهي تقدم خدمات صوتية وتلفزيونية منافسة لشركات الاتصالات، وتعتمد في ذلك على شبكات الاتصالات، ولا يحق لشركات الاتصالات منعها من تقديم هذه الخدمات، كما أنها لا تستطيع دفع الضرر عن نفسها من هذه المنافسة التي لا تبدو عادلة من وجهة نظر شركات الاتصالات.
وجهة نظر شركات الاتصالات فيها الكثير من المنطق، فهي من تستثمر في بناء وترقية شبكات الاتصالات، وهذه العملية مستمرة وغير منقطعة، فشبكات الجيل الرابع التي أنشئت قبل عقد من الزمن، بحاجة إلى ترقية إلى شبكات الجيل الخامس التي لن تستمر لأكثر من عشرة أعوام كذلك حين تنطلق خدمات الجيل السادس. في الوقت نفسه فإن الشركات التقنية مستفيدة بكل تأكيد من هذه الشبكات، ولم تكن لتحقق أرباحها دون مساهمة مشغلي الاتصالات في بناء شبكات التي مكنت الشركات التقنية تعظيم أرباحها ومضاعفة قيمها السوقية خلال سنوات قليلة.
ولكن المفارقة أن من يريد هذه المساهمة هي دول الاتحاد الأوروبي، التي تعد دولاً ثرية بالعديد من المقاييس، ولو كان لدول الحق في طلب هذه المساهمة فهي الدول الفقيرة مثل الدول الأفريقية والآسيوية التي تعاني فعلياً من ضعف القدرة على بناء شبكات الاتصالات رغم كل المنافع الاقتصادية التي قد تتحقق لها في حال امتلكت شبكات اتصالات قوية. والاتحاد الأوروبي يراهن كثيراً على عدد سكانه الذين (يفيدون) الشركات التقنية العملاقة، رغم أن سكانه لا يتعدون نصف مليار نسمة، مقارنة بالهند التي يزيد سكانها على 1.3 مليار نسمة! إذا لو كانت الأحقية بعدم القدرة المادية لكانت الدول الفقيرة أحق بهذه المساهمة، ولو كانت بالعدد لنافست دول عديدة مثل الهند والصين وإندونيسيا وغيرها من الدول ذات عدد السكان العالي.
ومشغلو الاتصالات الأوروبيين لديهم بالفعل مقترح لآلية جمع الأموال من الشركات التقنية، فهم يريدون تحديد حصة عادلة لحركة مرور الإنترنت، ومن ثم تحصيل الأموال من الشركات التي تزيد حركة مرورها على هذه الحصة العادلة، واستخدام هذه الأموال في بناء شبكات الاتصالات. وقد طلبت منهم المفوضية الأوروبية أدلة على أن حركة مرور الإنترنت لمواقع مثل (نتفليكس) و(يوتيوب) تزيد بالفعل على متوسط الحصة العادلة وذلك لاستخدامها في المشاورات التي ستبدأ في الربع الأول من العام القادم لمدة ستة أشهر.
هذه التوجهات الأوروبية تطرح سؤالاً، ماذا بقي لأوروبا؟ فهي مقارنة بالصين والولايات المتحدة تعد متخلفة تقنياً، وتعاني بشكل مستمر من نكبات اقتصادية، وقد استنفدت الكثير من مواردها الطبيعية أو كبلت نفسها بأنظمة تعيقها من الانتفاع بهذه الموارد، ووصلت مرحلة لا تستطيع حتى تدفئة شعوبها في الشتاء. ويبدو أنها الآن، وكما أنها في قرون سابقة تغذت على الموارد الطبيعية لدول أخرى، تستخدم المنهج نفسه، ولكن بأسلوب حضاري فرضه الزمن الحالي. ومحاولة تحصيل الأموال من الشركات التقنية هي محاولات يائسة، ولن تخضع لها الشركات التقنية بهذه السهولة، ولو خضعت فسوف تواجه موجات من المحاولات نفسها من دول لا مانع لديها من إيقاف خدمات الشركات التقنية داخل حدودها الجغرافية حتى تحصل على ما تريده.

د. عبد الله الردادي

لماذا عدم استدراج مساهمات من الخارج؟

وم السبت المنصرم أي نهاية أسبوع إغلاق #المصارف اتقاءً للأضرار التي قد يواجهها الموظفون كان عدد هؤلاء على مختلف مسؤولياتهم نحو 17000 موظف بعدما هاجر ربما 6000 الى 8000 الى الخارج سعياً وراء تحقيق موارد تكفي عائلاتهم.

المودعون في #لبنان من اللبنانيين يتجاوز عددهم 1.5 مليون، وهؤلاء سواء منهم صغار المودعين أو أصحاب الادخارات الملحوظة والثروات الكبيرة معرّضة أموالهم المدّخرة بعرق الجبين والعمل في الخارج للتبخر بسبب سياسات المصارف غير القانونية، وتمنع القضاء عن الحكم في الدعاوى المقامة من أصحاب الودائع، وبالتالي إلغاء كل ثقة بالقطاع المصرفي.
قبل المسارعة للقول إننا نتعرّض لأهم قطاع في الاقتصاد، نسارع الى القول إن دور قطاع المصارف انحسر وأصبح مرتكزاً على أعمال الصيرفة لا غير، فليس هنالك مصارف تأخذ على عاتقها فتح اعتمادات للتجّار، وليس هنالك مصارف للاستثمار توظف مبالغ ملحوظة في توسيع مؤسسات قائمة أو ينوي بعض المؤمنين بالمستقبل من أصحاب ادخارات مقبولة فتح مجال المشاركة لمصارف الأعمال، ولم نشهد عملية من هذا النوع، وهذا النشاط هو المحرك الأساسي لأي اقتصاد في العالم.

 

بعد كل ذلك نقول إن المصارف لم تركز على استهلاك أموال المدخرين، وإن المصارف العالمية حينما واجهت مشاكل تمويلية عام 2008/2009 بسبب الإفراط في الاستثمار في شركات المضاربات المالية والمشاريع الخيالية تعرّضت لخسائر كبيرة وبالفعل أفلست لمدة قصيرة انقضت قبل إقبال البنوك المركزية في الاتحاد الاوروبي، وسويسرا، وبريطانيا، والولايات المتحدة على إنقاذها.

هنالك شبه قناعة عامة بأن البنوك السويسرية هي الأكثر محافظة على أموال المودعين، والواقع أن أكبر بنكين في سويسرا حتى اليوم أي الكريدي سويس والـUnion De Banques Suisse كانا مفلسين تماماً، والامر العجيب أن هذين البنكين بعد إنقاذهما من قبل السلطات السويسرية بضخ الفرنكات المطبوعة حديثاً تابعا في السنوات الاخيرة سياسات غير محافظة والبرهان أن بنك الكريدي سويس خسر 14 مليار دولار بسبب تمويل شركات مضاربات على الاسهم والشركات تعمل من لندن. إن هذا الكلام في مجمله القصد منه القول إن البنوك اللبنانية، باستثناء مصرفين، لم تخاطر بأموال المودعين، بل بالتوظيف في سندات الخزينة أي ديون الدولة التي كانت لسوء الحظ مموّلة مع فوائدها بنسبة 65% من الدين العام الذي بلغ أكثر من 100 مليار دولار بنهاية العام المنصرم، وقد بيّن ذلك حاكم البنك المركزي في تصريح رسمي قبل شهر على الاقل، وما زال هنالك من يقول إنه مسؤول عن الدين العام، وليس له أي مسؤوليات في هذا الامر، بل عليه الاستجابة لقرارات الحكومات المتعاقبة حتى لو تجاوزت أصول المراقبة القانونية سواء خلال المناقصات العامة أو مراجعة أسباب طلبات التحاويل والتي أسهمت في تضخيم عبء الدين العام.

الامر الذي عجز عنه لبنان زيادة السيولة بليرة قابلة للتحويل دون تحديد أسعار تحويلها بالمضاربات، وأضيف الى ذلك عبء استيراد كميات كبيرة من مشتقات النفط وإعادة تصديرها الى سوريا دون أن نحصل على الأموال التي دفعتها مصارفنا سوى بجزء منها، وحيث إن هذه العمليات طاولت نسبة 40% من مستوردات المشتقات النفطية، واجه لبنان صعوبات المحافظة على سعر مستقر للعملة.

في المقابل، كانت هنالك مطالبات ملحة من قبل مروان مرشي بإعادة دين اليوروبوندز الذي كان يبلغ أساساً 34 مليار دولار، ولم يكن هنالك تجاوب من السلطات، وبالمناسبة ولأن السياسيين لا يدرسون المحاسبة القومية، سندات اليوروبوند كان قد سُدّد من أصلها نسبة 80% حينما أعلن لبنان عبر حكومة حسان دياب عن تمنعه عن التسديد ووقعت الواقعة.

على صعيد آخر، إهمال هذا الاقتراح أسهم بتعميق الازمة وكان قد اقترح الدكتور باتريك مارديني إنجاز مجلس للنقد Currency Board يحقق استقرار سعر العملة ويساعد على تبني سياسات مالية أفضل، وهذا الاقتراح الذي توافر مع كتيب يبيّن نجاح هذه العملية في عدد من البلدان.

ليس هنالك من تنبّه لدى المسؤولين الحكوميين إلى استدراج مساهمات من الخارج والاردن فعل ذلك واستدرج 3 مليارات دولار للتوظيف في رؤوس أموال البنوك الثمانية من السعودية.
الامر الوحيد الذي تحقق في لبنان نجاح البنك المركزي في الحصول على 1.3 مليار دولار من صندوق تابع لصندوق النقد الدولي يسمّى صندوق السحوبات الخاصة ولو توافرت أسباب انكباب الحاكم على تسيير الأمور دون عوائق لحصل على مبلغ مماثل منذ زمن.

مروان اسكندر

عن خطة هي «مثال للفشل» في الإصلاح؟!

خطة الدولة للخروج من الازمة المالية المعدلة الصادرة في 9 ايلول تستهدف مرة ثانية شطب وتحويل 83 مليار من الودائع البالغة 99 مليار دولار وتحتفظ فقط بـ 14 مليار دولار منها كودائع ويفترض سحبها خلال 7 سنوات.

مجدداً، تطلق حكومة تصريف الاعمال خطة مالية جديدة تعتبرها أكثر تطورا من الخطة السابقة الصادرة في أيار الماضي. من الواضح انها تبذل المزيد من الجهد لشطب او تحويل الودائع الى الليرة واخترعت وسائل جديدة للتوصّل الى ذلك. ومن أهمها التمييز بين الودائع المؤهلة وغير المؤهلة، الفوائد الفائضة، إصدار حقوق للمصارف مقابل ودائعها المشطوبة في مصرف لبنان، إنشاء شركات قابضة، وإنشاء صندوق استرداد الودائع من أرباح مؤسسات القطاع العام الوهمية.

 

ما تهدف له الخطة هو شطب الودائع بالدولار ورؤوس أموال المصارف وتحويلها الى الليرة وسندات وهمية، حسب الافتراضات التالية: افتراض قروض مدفوعة (13 ملياراً)، تحويل فائض عائد الفوائد منذ 2015 (12 ملياراً)، تحويل الودائع غير المؤهلة (16 ملياراً)، تحويل 25 % من الودائع المضمونة لغاية 100 الف دولار (5 مليارات)، وتحويل الى اسهم او سندات ودائع تسمّى محمية (7 مليارات)، وتحويل الباقي الى الصندوق الوهمي لاسترداد الودائع (30 مليار دولار).

 

فيبلغ مجمل المبالغ المشطوبة والمحوّلة الى الليرة وصندوق استرداد الودائع 83 مليار دولار من أصل 99 مليار دولار. فلا يبقى من الودائع الدولارية سوى 14 مليار بالدولار ومتوفّرة فقط خلال 7 سنوات او اكثر. الخسارة في المبالغ المشطوبة لن تُعوّض، كذلك معظم التحويلات الى الليرة ستكون خسارات ناتجة عن سعر الصرف الوهمي المعتمد المرتفع لليرة. هذه الخطة ستوجّه ضربة قاضية للاقتصاد والثقة.

 

وبالنسبة الى ما يخص صندوق استرداد الودائع فهو صندوق وهمي ايضا، يرتكز على تحصيل ايرادات غير مضمونة في المستقبل. حتى ان الحكومة لم تتبنّ هكذا وسيلة منذ البداية، وقد اعلنت سابقاً ان العائد السنوي لصندوق كهذا لن يتعدى مليار دولار. لذا، ستحتاج الى ما لا يقل عن 30 سنة لاسترداد الـ 30 مليار دولار من الودائع المُحوّلة الى هذا الصندوق إذا تكلل بالنجاح. مع العلم ان الخطة تقترح تعويض الودائع من صندوق الاسترداد هذا بالعائد الذي يتجاوز معايير محددة، ومن المستبعد جداً ان يكون له مردود فائض.

 

البديل عن صندوق استرداد الودائع هو خَصخصة ادارة مؤسسات القطاع العام ومن ثم عرضها كشركات مساهمة في بورصة بيروت ولا تعني انها ستعوض ودائع الأثرياء فقط كما يعتقد صندوق النقد، بل ستكون متوفرة للاستثمار لجميع اللبنانيين كلّ بحسب رغبته، مما سيوفّر دخلا وفيرا للدولة وقد يفيد الفقراء قبل الأغنياء من خلال خلق الوظائف وتحفيز الاقتصاد. أما الحفاظ على قطاع عام فاشل ويزيد من الفقر، فهذه أفكار اشتراكية تخلّت عنها كل الدول الناجحة.

 

إنّ هذه الخطة هي مثال للفشل في الإصلاح ولن تطبّق حتى ولو أقرّت من قبل الحكومة. فلا احد يدعم شطب اموال المواطنين وإقفال المصارف. ومن الواضح ان بعثة الصندوق تواجه صعوبات مع الدولة ومع المواطن لكي تتوصل الى حل لتدارك الازمة، فهي تعارض استخدام موارد الدولة لتغطية خسارات الدولة. وربما لا تدري ان كل المواطنين يعانون من الازمة، وحتى ان الـ 100 الف دولار المضمونة لن تتوفر بحسب هذه الخطة، وحماية صغار المودعين لا تنقذ البلد. كما ان قدرة الدولة على إتمام موازنات إصلاحية اضافة الى العديد من الإجراءات المطلوبة من قبل الصندوق بنجاح محدودة جدا. إنّ المسار مع صندوق النقد سيكون شاقاً ولن تكون له نتائج في القريب العاجل.

 

من الواضح انّ الكساد سيعمّ جميع المرافق اذا طبقت خطة دولة الرئيس ميقاتي الاخيرة، لأنها ستقضي على القدرة الشرائية للمواطن وستُفقر جميع اللبنانيين. ومن الواضح ايضا ان الحكومة وبعثة الصندوق لا يقومان بالواجب المطلوب بإطلاع النواب والوزراء وكذلك المواطنين على محتوى الخطة بأسلوب شفاف. فالغموض المتعمّد واضح في الخطة، فقد كُتبت بأسلوب غير سلس محاولة إخفاء نواياها.

 

المطلوب من اي خطة اعادة السيولة للمصارف وليس اعادة الودائع بمجملها، فقد ذكرت خطة الحكومة بحد ذاتها: انّ اي اقتصاد لا يستطيع اعادة كل الودائع في آن واحد. لذا فتوفير السيولة المصرفية وإعادة الثقة بالمصارف يجب ان يَكونا الهدف الاول لخطة الإصلاح. ولكن نرى انّ الخطة تستهدف عكس ذلك وتُوجه نحو حذف الودائع وفقدان الثقة.

 

إنّ السيولة تتأمّن بتحرير سعر الصرف كلياً. والآن، الثقة تُستعاد بتحقيق التوازن المالي والادارة السليمة لموجودات الدولة، وكذلك بإعادة جدولة كل المستحقات والالتزامات المالية وتكلفتها. أمّا الآراء القائلة انّ تحرير سعر الصرف يجب ان يكون من خلال برنامج متكامل ويجب الانتظار لا تدري ضرورة التسلسل في الإصلاح.

د. منير راشد

الفاشية الاقتصادية

فازت (جورجيا ميلوني) بالانتخابات الإيطالية لتصبح بذلك أول امرأة تتولى رئاسة الوزراء في إيطاليا. حزب (إخوة إيطاليا) الذي تقوده (ميلوني) هو كذلك أول حزب يميني متطرف يقود الحكومة منذ منتصف القرن الماضي، وكان آخر من تولى الحكومة الإيطالية من اليمين المتطرف هو (موسوليني)، مؤسس وقائد الحركة الفاشية في إيطاليا، الذي انتهى به المطاف إلى الإعدام على أيدي المقاومة الإيطالية. و(ميلوني)، التي يضم حزبها اثنين من أحفاد (موسوليني)، لم تخفِ إعجابها بـ(موسوليني) وقد سبق لها أن صرحت بأنه (فعل كل ما فعل لأجل إيطاليا)، فهل تنتهج (ميلوني) النهج الفاشي نفسه الذي اتبعته إيطاليا قبل قرن من الزمن؟
قامت الحركة الفاشية التي أسسها موسوليني قبل أكثر من مائة عام على فكرة (الطريق الثالث)، هذا الطريق يأتي وسطاً بين الرأسمالية الفردية، والاشتراكية الجماعية. إضافة إلى ذلك، فقد مزج (موسوليني) الفكر القومي إلى هذا المزيج، ولا يمكن إنكار أن حزب (إخوة إيطاليا) ورث الكثير من الحزب الفاشي، بل إن حزب (ميلوني) يحتوي على الشعلة الثلاثية ذاتها التي يحتويها شعار حزب (موسوليني). وهناك تشابه لا يمكن إنكاره بين فكر الحزبين، من ناحية المنهج القومي أو الشعوبي، والسياسة تجاه الهجرة، وغيرها.
تنعكس هذه الآيديولوجية على السياسة الاقتصادية الفاشية، فيشجع الاقتصاد الفاشي على المزج بين الملكية الخاصة والعامة، فهناك تركيز وتحفيز على الربح الخاص، ولكن المصلحة الوطنية هي الأهمية العليا في نهاية المطاف. لذلك فقد اعتمد الاقتصاد الفاشي على مساهمة الشركات في اقتصاد البلد، ودعم بشدة الشركات الوطنية التي تساهم في أهداف بلادها المهمة مثل الاكتفاء الذاتي. ولم يشجع الاقتصاد الفاشي على التجارة الدولية كما نبذ اقتصادات الأسواق الحرة والاستدانة من الخارج، وذلك في انعكاس واضح للفكر القومي. في المقابل، فإن الاقتصادات الفاشية اقترضت الكثير من الداخل لمشاريع البنى التحتية والمشاريع الاجتماعية وانخفضت معها معدلات البطالة إلى نسب قياسية. ويؤمن العديد من الاقتصاديين بوجود منهج اقتصادي فاشي، وأن الفكر الاقتصادي الفاشي لم يصل إلى مرحلة النضوج، وهو رأي طبيعي في هذا الزمن، بالنظر إلى أن الرأسمالية استغرقت عشرات السنين للنضوج، بينما لم يدم الاقتصاد الفاشي لأكثر من ثلاثة عقود.
ورغم أن مفردة (الفاشية) تستخدم اليوم كنوع من الإهانة، فإن هذا لم يكن شائعاً في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، حين كانت الحركة الفاشية في بداياتها مؤسسة أحزاباً في دول عديدة مثل فرنسا وبريطانيا، إضافة إلى إيطاليا التي استمر فيها الحزب بقيادة (موسوليني) وألمانيا بقيادة (هتلر). بل إن الولايات المتحدة حاولت آنذاك تطبيق السياسات الفاشية الاقتصادية، وما تزال تطبق العديد من هذه السياسات، وإن كان اسمها اختلف إلى (الرأسمالية المخطط لها) أو (السياسات الصناعية). ولا غرابة في ذلك، فقد انتعشت العديد من الصناعات في ألمانيا وإيطاليا إبان الحقبة الفاشية، ولعل شركة (فولكس فاجن) هي أبرز نجاحات تلك الحقبة، واسم (فولكس فاغن) يعني بالألمانية (سيارة الشعب)، وكان الهدف من إنشائها هو صنع سيارة بثمن مناسب للشعب، وهو انعكاس للنفَس الاشتراكي القومي للحزب الفاشي.
وقد أبدى العديد من السياسيين والمثقفين – خاصة الغرب – حينها إعجابهم الشديد بالفكر الفاشي وبقائده (موسوليني)، وذلك قبل أن تنقلب الفاشية عليهم. فقد كتبت صحيفة «نيويورك تايمز» حينها أن «(موسوليني) هو (روزفلت) إيطاليا، فهو يتصرف أولاً، ومن ثم يسأل عن الأمور القانونية، وهو بذلك يقدم خدمة رائعة لإيطاليا». كما وصفه (غاندي) بأنه أحد أعظم رجال السياسة في عصره. وقال عنه الأديب البريطاني برنارد شو: «يجب أن يسعد الاشتراكيون أخيراً بالعثور على اشتراكي يفكر كما يفعل المسؤولون». ويوضح ذلك أن اختلاف العالم مع الفكر الفاشي لم يكن لأسباب اقتصادية، بل لأسباب آيديولوجية بحتة.
وبعد أن انقلبت الآراء على الفاشية، أصبح الاقتصاد الفاشي يوصف بهشاشته، وأن الفاشية ترى الاقتصاد وسيلة لتحقيق أهدافها الفكرية، وليس غاية لحد ذاتها. وقد يحمل هذا الوصف بعض الصحة، ولكن، أليس ذلك ما تفعله العديد من الدول اليوم؟ فالاتحاد الأوروبي نفسه، الذي يبغض الفاشية ويخشى أن تتحد (ميلوني) مع الأحزاب اليمينية الأخرى في أوروبا مثل المجر وبولندا، يضع التوجهات الفكرية نصب عينيه قبل أي قرار اقتصادي، حدث ذلك مع المجر حينما أوقف الاتحاد الأوروبي معونات الجائحة عنها بسبب موقفها تجاه المثلية الجنسية.
إن فوز (ميلوني) لا يعني أبداً عودة (الفاشية) إلى إيطاليا وأوروبا، فهذه الحركة انتهت وأصبحت وصمة لا يريد أي حزب أن يوصم بها، إلا أن أفكار هذه الحركة مطبقة اليوم في العديد من الحكومات التي تدعي معاداة الفاشية. ولكن وصول حزب يميني متطرف لرئاسة إيطاليا مقلق جداً لأوروبا المنقسمة اليوم، فإيطاليا ليست المجر أو بولندا، فهي ثالث اقتصاد أوروبي، وعضو مجموعة السبع ومجموعة العشرين. إلا أن غالبية المؤشرات تشير إلى أن (ميلوني) لن تحيد كثيراً عن الاتحاد الأوروبي، لأسباب منها حاجة الاقتصاد الإيطالي الماسة إلى معونات الاتحاد الأوروبي التي تقدر بـ200 مليار يورو، لا سيما في الوقت الذي تصل فيها ديون إيطاليا إلى أكثر من 150 في المائة من ناتجها القومي.

د. عبد الله الردادي

بورصة انفو: الموقع الرائد لأخبار الذهب ، العملات ، البورصات. مع تحليلات