إن شئت أن تعمل جمّالاً عليك أن تعلّي عتبة دارك

إن شئت أن تعمل جمّالاً عليك أن تعلّي عتبة دارك  – 27th November  2004

 
مثل عربي معروف ، فيه ما فيه من العبرة والتفكه  . ان ذكره اللبنانيون والسوريون قالوا : البدو يعمل جمّال بدو يعلي عتبة دارو .
خطا الاوروبيون خطوات جبارة في توحيد قارتهم ، وما ان وصلوا الى توحيد العملة حتى اشتدت المخاوف من احتمال الفشل ، وارتفع معيار التحدي ، إذ لا يجوز ل ” مسيو يورو – او – هارر يورو ” أن يكون اقلّ شأنا من ” مستر دولار ” .
قوة العملة هي  ،  ولا شك ، تعبير وانعكاس لقوة اقتصادية ، واستقرار سياسي ، وبحبوحة داخلية ، وثقة خارجية . عوامل تتضافر كلها لتخلق حالة من الهيبة التي يطمئن لها ااخاطر ويطرب بها الفؤاد .
الاوروبيون ، كلّ الاوروبيين في منطقة اليورو، عامة شعب وسياسييين ، طربوا وانتشَوا ، يوم انطلق اليورو مساويا للدولار ثم ارتفع بعد أيام قليلة ليبلغ ما يزيد على ال 1.1500 دولار. ولم يطل الامر على هذه الحالة حتى عاد الى التراجع واستمر فيه الى أن دقّ ابواب ال 0.7000 سنتا . يومها كانت التنهدات تسمع في منطقة اليورو ، وكان الترقب سيّد الموقف . وكان الخوف من الشماتة كبير .
ولاسباب لسنا الان في وارد تفصيلها بدأ  العد العكسي ، وعاد القطار الى المسار بالاتجاه الصحيح ، وها نحن اليوم على ابواب ال 1.3500 . فما ردّة فعل الاوروبيين على ذلك ؟
لا شكّ في أن عامة الناس ينظرون الى الوضع نظرة الافتخار والزهو ، فعملتهم قد تمكنت من التفوق على الدولار وقهره . عملتهم باتت اليوم تاخذ مكانها على المستوى العالمي بسمعة بيضاء نقيّة طاهرة ، هي تطمح ان تحتل المركز الاول عالميا كعملة احتياط . هي على وشك ان تسلب الورقة الخضراء  عرشا تربعت عليها الاخيرة عقودا كثيرة . ” منذ ولادته في العام 1999 ، تمكن اليورو من جذب ما يقارب خُمس  الاحتياط النقدي العالمي . فهو احتوى جزءا ارتفاع من 13.5% عام 1999 الى ال 19.5% العام 2003 ” . انه خبر مفرح ومبشر . ولكنه ياتي في وقت غير مستحب .
عملة احتياط عالمية ، ثقة فائقة باليورو على مستوى البنوك المركزية الدولية ، الكثيرون منهم يشيحون نظرهم عن الدولار ، يخرجون منه ، يميلون نحن عملة القارة الموحدة ، هي تستهويهم بما لها من بريق عذري لم يمَسّ . الروس ، الصينيون ، الكثير من بنوك الشرق الاوسط ، يعون خطورة الموقف . هم يريدون التحول بجزء من احتياطهم النقدي من الدولار الى اليورو . اجل بين ليلة وضحاها بات اليورو عملة احتياط عالمية .
ولكن ما الذي قد يعنيه هذا للاوروبيين ؟
عامة الناس فخورون . هذا نلمسه بالتحدث معهم . هم لا يقدرون خطورة الموقف . السياسيون قلقون ، يحذرون ، يطالبون البنك المركزي الاوروبي بعمل شيء ما . السيد تريشيه يحاول ، هو يحاول بوسائل عدة ، يحاول اقناع الاميركيين بعمل موحد لمنع هذا التحول المفاجئ في اسواق النقد . الاميركيون يشيرون بوجههم عنه . يقولون لا شأن لنا بذلك . لا مصلحة لنا بان نكون عملة الاحتياط العالمية الوحيدة ، شاركونا بهذا الفخر ، هم يقولونها وعلى الشفاه ابتسامة ساخرة .
 يميل السيد تريشه الى الاسيويين ، يريد منهم شراكة فعلية للتدخل في السوق شراء للدولار ، من اجل منع هذا التراجع المتعب للجميع . الآسيويون يفتشون مثله عن دواء ، ولكنهم جربوا الكيّ في الماضي ، أوجعهم الكيّ كثيرا ولم يجدِ نفعا . اليابانيون كلفتهم التدخلات السابقة في السوق ما يقارب المئتي مليارا من الدولارات ، النتيجة كانت خيبة وراء خيبة . في كل مرة كان اليابانيون يتدخلون شارين للدولار ، كان السوق يهلع صعودا بحركة جنونية مرعبة ، ثمّ ، وبكل برودة اعصاب يبرز على الساحة من يعاود بيع ما اشتراه اليابانيون فيعود السعر الى أعماق أكثر آيلاما من السابقة .
ماذا جنى اليابانيون ؟ جنَوا امتلاكهم لمئتي مليار من الدولارات ، اشتروها باسعار يزيد نصفها عن ال    110.10  ، وهم الان يحملونها ، عارفين ان الدولار سيتراجع الى ما دون ال 100.00 ، وعارفين ايضا ان الخسارة التي تكبدوها  لا بد من الانتظار طويلا لتعويضها . لذا لا بد من استبعاد امكانية التفاهم بين الاوروبيين واليابانيين على تدخل مبرمج ومدروس في السوق ، فاليابانيون لن يعرضوا انفسهم للدغ من الجحر مرتين .
ماذا بقي امام السيد تريشه ؟
تخفيض الفائدة . هي حلّ من الحلول المطروحة . ولكن هل سيقوى هذا الحل على وقف ارتفاع اليورو ؟
نعتقد انه سيقوى على تبريد الحماوة الحالية ، ولكنه لن يكون الحل الناجع على المدى المتوسط والبعيد . وهو الى ذلك ينطوي على مخاطر كثيرة ان تم الاقدام عليه وسط اجواء غير تضخمية تستدعيه . اذ لا يضمن احد اذذاك عدم الانزلاق شيئا فشيئا الى باحة الركود الاقتصادي ، فالدواء المعطى لم يكن المناسب للداء الموجود .
وباختصار فان التدخل في السوق مستبعد حاليا ، وتخفيض الفائدة على اليورو مستبعد ايضا ، للامرين محاذير كثيرة ، ولا بد من اخذ الامور بالتروي  .
اجل ، انه لمن المستحب ان يرى المواطنون عملتهم تتحول الى عملة احتياط عالمي . انه لمدعاة للفخر ان يرى الاوروبيون هدفهم و قد تحقق بسنوات قليلة جدا  ، هدفهم المتمثل باعادة شيء من التوازن الى النظام المالي العالمي ، وبانتزاع جزء من العزّ الذي احتفظ به الاميركيون لانفسهم طيلة عقود . انه لمن دواعي السرور ان تتحول العملة الى عملة احتياط دولي وتتدفق اليها الرساميل من كل حدب وصوب ، فتساهم في تمويل العجز ، بل تقف حاجزا دون حدوثه . هذا كان الحلم الاكبر للاوروبيين ، سياسيين  واقتصاديين .
وها هي الامنية تتحقق ، الرساميل تتدفق ، فاذا بها تصير عبئا . تدفقت الرساميل في وقت غير مناسب . الدولار يتراجع بقوة ، الرساميل تتدفق على اوروبا ،  يساعد هذا  على ازدياد تدحرج الدولار . إذن ما كان بالامس أمنية ، صار اليوم عبئا .
والمقلق في الامر ان اليورو يرتفع دون ان يعكس في ارتفاعه وضعا اقتصاديا وسياسيا اوروبيا مطمئنا ، فالنمو الاوروبي لا يشكل الا نصف النسبة الذي يقدر بها النمو الاقتصادي الاميركي .
نعم أراد الاوروبى ان يدخل حلبة النقد الدولية من بابه العريض . فتح له الاميركي اليوم الباب على مصراعيه . دخل ، ويبدو انه يتوه في هذه الارجاء الواسعة . يبدو انه سيستغيث  ، الاميركي يتفرج ، ويبتسم . الاسيوي لن يقوَ على الاغاثة .
كان على الاوروبي أن يعرف ، كان عليه أن يقرأ الامثال العربية : “من يريد ان يعمل جمّالاً عليه أن يعلّي عتبة داره ” .