من بين الأفكار الخبيثة التي تجد رواجاً هذه الأيام واحدة تتعلق بأنه يتعين على المجتمعات التدخل طواعية لإيقاف نموها الاقتصادي. وفي مقالة نشرتها مجلة «نيويوركر» الأسبوعية الأميركية يسرد جون كاسيدي ظهور حركة تراجع النمو المزعومة. وتجد هذه الفكرة اهتماماً من جانب دعاة حماية البيئة الذين تساورهم المخاوف بشأن تدمير الكوكب، ودعاة المساواة الذين يخشون من النمو الذي يقضي على الفقراء في طريقه، ودعاة المستقبل الذين يتصورون المجتمع الترفيهي المثالي، وما إلى ذلك. وربما يكون تراجع النمو وسيلة من وسائل المواطنين الأثرياء، والبلدان المتدهورة للحفاظ على فخرهم من خلال ملاحقة ركب المجتمعات الصاعدة، حيث إنها تضفي طابع الفضيلة المثالية على التباطؤ الاقتصادي.
وعلى الرغم من أن حركة التراجع الاقتصادي تشتمل على بعض شذرات من الحكمة، إلا أنها تستند بالأساس إلى عدد من المفاهيم الخاطئة بشأن ماهية النمو الاقتصادي الحقيقية ولماذا يعتبر مرغوباً فيه على الدوام.
أولاً، من المهم أن نتفهم اهتمام الساسة الهائل بالنمو الاقتصادي. بالنسبة إلى الدول النامية، يتعلق الأمر برفع مستويات المعيشة. لكن بالنسبة إلى البلدان الغنية مثل الولايات المتحدة، فإن السبب الكبير في اهتمام الساسة المنتخبين بالنمو الاقتصادي يكمن في ارتباطه بانخفاض معدلات البطالة. فإن النمو السريع يعني المزيد من الاستهلاك والاستثمار، ويعني زيادة الطلب على العمالة، مما يعني أيضاً المزيد من الوظائف وارتفاع الأجور. لذلك، عندما يتحدث رؤساء الولايات المتحدة أو المشرعون عن النمو الاقتصادي، فلا يتعلق الأمر بارتفاع مستويات المعيشة وإنما يتعلق بالوظائف في المقام الأول.
والمفهوم الخاطئ الثاني بشأن تراجع النمو يتعلق بأن النمو يتطلب استهلاك المزيد من الموارد الطبيعية الخام لتغذية الصناعات التحويلية والنهم الذي لا يشبع. وفي واقع الأمر، يعني النمو في المعتاد صناعة الكثير بالقليل من الموارد. وفي العقود الأخيرة، وحتى مع النمو المستمر في اقتصاد الولايات المتحدة، ظل استخراج العديد من الموارد الطبيعية على منوال ثابت تقريباً وربما منخفض بعض الشيء. على سبيل المثال، ارتفع استخدام المعادن في الصناعات الأميركية وبلغ ذروته القصوى مرتين فقط خلال العشرين عاما الماضية.
ويحدث هذا الأمر لعدة أسباب. تتحول طلبات المستهلكين من السلع المادية إلى الخدمات، بما في ذلك الخدمات الالكترونية عبر الانترنت. ويسمح الابتكار بالمزيد من الاستخدامات الفعالة للموارد. ويمكن للتقنيات المستدامة مثل الطاقة الشمسية أن تحل محل التقنيات الملوثة للبيئة وغير المتجددة مثل استخدامات الفحم والغاز الطبيعي. وفي بعض الأحيان يكون النمو هو السبب الرئيسي في انخفاض الاعتماد على الموارد، مثلما يقوم المزارعون بتطبيق تقنيات الري الحديثة أو عندما يجري استبدال المصانع التي تعمل بالطاقة الشمسية بأخرى تعمل بالفحم.
وذلك هو السبب في أن فكرة عدم استمرار النمو الاقتصادي إلى الأبد هي فكرة خاطئة بالأساس. فسوف تنفجر الشمس في نهاية الكون، ولكن قد يستمر النمو لفترات طويلة جداً حتى حدوث ذلك.
ولكن لا تعني إمكانات استدامة النمو أن محاولات تعظيمه للغاية من الأفكار الحكيمة على الدوام؛ إذ يعد الناتج المحلي الإجمالي من المقاييس العديدة لحساب رفاهية الإنسان، وغالباً ما يكون من المنطقي أن يركز المجتمع على تحسين الصحة، أو مكافحة عدم المساواة، أو تشجيع الترفيه. وكما يوضح أحد خبراء الاقتصاد، فإن تباطؤ النمو قد يكون علامة على النضج الاقتصادي بدلاً من الضعف. وفي الاقتصاد العالمي السليم، تميل الدول المتقدمة إلى النمو البطيء أكثر من البلدان النامية. والخدمات مثل الرعاية الصحية والتعليم، التي يميل الناس في البلدان الغنية إلى الزيادة فيها، يكون نموها الإنتاجي منخفضاً في البلدان النامية.
ومع ذلك، هناك سبب مهم للغاية في متابعة النمو الاقتصادي البلدان الفقيرة في حاجة إليه. وعلى الرغم من أن أغلب العالم قد نجا من الفقر المدقع بصورة من الصور، فإنه لا يزال موجوداً بعض الشيء، ويتركز في بلدان مثل نيجيريا التي تعاني من النمو الاقتصادي البطيء. ولا يزال العديد ممن يعيشون في مثل تلك البلدان لديهم مستويات معيشية يمكن اعتبارها منخفضة بصورة غير معقولة من زاوية البلدان المتقدمة، فربما يملكون ما يكفي من الموارد الغذائية، ولكنهم غالباً ما يفتقرون إلى المياه الصالحة للشرب، وإلى الكهرباء، والسكن المناسب، والرعاية الصحية، ووسائل النقل الفعالة، والعديد من الأمور الأخرى.
لذلك، ومن أجل الشعوب، تحتاج البلدان النامية إلى مواصلة النمو الاقتصادي. ومن أجل البيئة أيضاً، يسهل على البلدان الغنية تحمل تكاليف انخفاض التلوث، والتوقف عن حرق الغابات، وحظر استخدام المواد الكيماوية التي تسمم الحياة البحرية، وما شابه ذلك. ومن المفارقات، أنه كلما انخفضت ثروة أي بلد، ارتفعت الاحتياجات الاقتصادية وتأخذ الأولوية على حساب حماية الموارد البيئية.
لكن البلدان الفقيرة لا تنمو في الفراغ، إذ توفر الاقتصادات المتقدمة المصدر الحيوي للطلب على السلع المنتجة في البلدان الفقيرة مثل بنغلاديش، وفيتنام، وإثيوبيا، الأمر الذي يساعد هذه البلدان على زيادة الإنتاجية والانتقال إلى مصاف الدول الغنية. كما أن النمو في البلدان المتقدمة يخلق التقنيات الحديثة – مثل الطاقة الشمسية، والبطاريات، والمواد الكيميائية الصديقة للبيئة – والتي تسمح للبلدان النامية بإنتاج المزيد بأقل الخامات والموارد.
نوح سميث.