أزمة لبنان المالية: أولوية إنقاذ المصارف حماية لأموال المودعين

كيف ندعّم قطاعاً تعوّدنا ان يكون دعامة إقتصادنا ككل؟ سؤال مقلق ما توقّعنا يوماً أن نطرحه على أنفسنا، بعد أن تغنينا بالقطاع المصرفي كعمود فقري للإقتصاد اللبناني ولميزة دور لبنان الاقتصادي في المنطقة ككل. ما هي التحدّيات الحالية للجهاز المصرفي اللبناني؟ كيف يمكن تحديد الخطوات الضرورية على المدى المنظور؟ وأي رؤيا مستقبلية لدور القطاع في الاقتصاد اللبناني على نطاق أبعد؟

في الخصوصية الاقتصادية اللبنانية وأبرز التحدّيات:

بداية لا بدّ من الإضاءة على تحدّيات أساسية تشكّل قيوداً للسياسة النقدية والمصرفية ومن ثم المالية والاقتصادية عموماً في لبنان وهي باختصار: الدين العام/ الناتج المحلي، الدولرة، ربط سعر الصرف والميزان الخارجي في ظلّ نظام اقتصادي حرّ للرساميل والتبادل التجاري.

فيتبيّن بداية، تنامي نسبة الدين العام الى الناتج المحلي، التي ما لبثت أن انخفضت من حدود 180% عام 2006 الى 130% عام 2011 ، حتى عاود خطّه التصاعدي الذي تخطّى فيه حدود الـ 150% في نهاية العام 2018 وأكمل صعوداً مع تدهور الأوضاع عام 2019 بالتزامن مع تدهور معدل النمو من 8.25 % الى أقل من 1 % للفترة عينها. فيما كان الدين العام يكبر بحجم كرة الثلج التي تنمو بسرعة تفوق أضعاف نمو الناتج المحلي، مع تراكم العجز المالي السنوي وصعوبة التحكّم بمكونات الإنفاق، الجاري في معظمه، وتستحوذ بشكل أساسي خدمة الدين العام (أي الفائدة على الدين) على أكثر من 40 % وتلامس كذلك رواتب وأجور القطاع العام الـ40 % من مجموع الإنفاق، وتبقى حصّة عجز الكهرباء بحوالى 11%، فلا يبقى ما يُذكر للاستثمار العام…

من هنا، تتظهّر لنا خصوصية الاقتصاد اللبناني والقيود التي تكبّل حركته وتجعل منه نموذجاً خاصاً غير قابل للمقارنات مع سواه، قبل البحث في المعضلات التي تُرهق نموّه أو تُعقّد ديونه أو تُتعب جهازه المصرفي، موضع البحث تحديداً.

أما هيكلية الدين العام، الذي لم يكن موجوداً إبّان أزمة الثمانينات، وبدأ بعدها مع إصدار سندات خزينة بالليرة اللبنانية، فقد تطوّرت هيكليته، وعرف دولرة بحدود ثلثه وتحديداً، أصبحت اليوم ديون لبنان بالعملات الأجنبية مع إصدارات اليوروبوند بنحو 30 مليار دولار، تحمل منها المصارف اللبنانية نحو 15 مليار دولار (قبل بيع جزء من سنداتها المستحقة في 9 آذار 2020)، مقابل 5.7 مليارات دولار يحملها المصرف المركزي (كان يحمل فقط 3.5 مليارات دولار، ولكن حصّته من الدين بالعملات الأجنبية زادت بعد أن اشترى السندات التي استحقت في تشرين الثاني 2019).

الانكشاف السيادي للمصارف اللبنانية:

أبعد من الانكشاف السيادي للجهاز المصرفي على اليوروبوند، التي تحملها المصارف اللبنانية بحوالى 15 مليار دولار أميركي والمصرف المركزي بقيمة 5.7 مليارات دولار أميركي، يظهر قلق الجهاز المصرفي من الانكشاف على شهادات الإيداع بالعملات الأجنبية للمصرف المركزي. وأفادت أرقام وكالة «بلومبرغ»، أنّ على مصرف لبنان إلتزامات بقيمة 52.5 مليار دولار على شكل ودائع بالعملات، وشهادات إيداع بالدولار، تحمل معظمها المصارف اللبنانية، أي أنّها توظيفات من مجموع مدخرات المودعين اللبنانيين بالعملات الأجنبية. علماً أنّ المصارف لها احتياطي الزامي بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان بمعدل 15 % من الودائع بالعملات الأجنبية لديها، أي 18 مليار دولار (15 % من مجموع 120 مليار دولار ودائع بالعملات الأجنبية).

في حين تُظهر ميزانية المصرف المركزي في شباط 2020 انّ إجمالي إحتياطاته بالعملات الأجنبية، غير الذهب واليوروبوند، لا يتخطّى حدود الـ 30 مليار دولار أميركي (هذا اجمالي إحتياطه وليس الاحتياطي الصافي بالعملات الأجنبية)، مما يثير قلق القطاع المصرفي والمودعين على حد سواء.

ووفقًا لـوكالة التصنيف العالمية Fitch ، بلغ إجمالي شهادات الإيداع للمصرف المركزي 20.9 مليار دولار، ليكون لدى مصرف لبنان المركزي أعباء تقدّر بنحو 52.5 مليار دولار في صورة ودائع بالعملة الأجنبية وشهادات إيداع. ورغم أنّ القليل من شهادات الإيداع يستحق هذا العام أو العام المقبل، فإنّ أكثر من 8 مليارات دولار تستحق في 2022 و 2023 وفق الجدول التالي.. ويتبيّن أنّ انكشاف المصارف الزائد على الدين السيادي ولاسيما بالعملات الأجنبية (بين يوروبوند وشهادت إيداع بالعملات الأجنبية) من شأنه أن يهدّد مجمل رساميل بعضها، مما يفسّر إلحاح المصرف المركزي على زيادة رساميلها الخاصة.

القروض المتعثّرة للمصارف وجمود النشاط الاقتصادي:

تواجه المصارف اللبنانية مخاطر إنعكاسات جمود النشاط الاقتصادي وتوجّه كثيرين الى ما يُعرف بأدوات الحماية من المخاطر، عبر شراء الذهب أو الاستثمار العقاري..علمًا أنّ للخيارالأخير إيجابيات كثيرة، ولاسيما في تسييل عقارات كانت مجمّدة بفعل الأزمة، فيما أصحابها مديونون للمصارف، ويهمّهم إطفاء أكبر جزء من دينهم ولو بشيكات مصرفية، بغض النظر عن إمكانية سحبها نقداً.

من هنا، تفتح الأزمة الاقتصادية باب مخاطر القروض المتعثّرة لدى المصارف، ولا سيما منها التسليفات المصرفية بالعملات الأجنبية للقطاع الخاص، وتتراوح بحدود الـ 32 مليار دولار.

وتُظهر الميزانيّات المجمّعة تراجعاً كبيراً في إجمالي موجودات المصارف اللبنانيّة من 249.48 مليار دولار في نهاية كانون الأول 2018 الى 216.78 مليار دولار في نهاية كانون الأول 2019 . وبذلك تكون موجودات المصارف اللبنانيّة قد انخفضت بنسبة 13.11 % خلال فترة سنة واحدة فقط. كما انخفضت القروض للمقيمين بنسبة 15.2%، والقروض لغير المقيمين بنسبة 21.7 %. كذلك خفّضت المصارف محفظتها من سندات الخزينة بالليرة بنسبة 15.8%، وسندات اليوروبوند بنسبة 13.9 %.

وقد أظهرت إحصاءات المصرف المركزي تراجعاً لودائع الزبائن (قطاع خاص وقطاع عام) بنسبة 8.29 % الى 246865 مليار ل.ل. في نهاية 2019 (163.76 مليار د.أ.) وتقلّصت ودائع الزبائن بالليرة اللبنانية بنسبة 22.53 % لتصبح 64.799 مليار ل.ل. (أو ما يعادل 42.98 مليار د.أ.) فيما انخفضت الودائع بالعملات الأجنبية بنسبة 1.87% لتصبح 182066 مليار ل.ل. (او ما يعادل 120.77 مليار د.أ.).

وارتفعت نسبة الدولرة في ودائع القطاع الخاص من 70.62% في نهاية عام 2018 الى 76.02% في نهاية عام 2019.

فيما ارتفعت حسابات رأس المال المجمّعة للمصارف التجارية من 20.15 مليار د.أ. في نهاية العام 2018 الى 20.72 مليار د.أ. في نهاية العام 2019 وسط مطالبة المصرف المركزي زيادة رأسمال الخاص بنسة 20 % مطلع العام 2020 و20 % في منتصف العام.

أزمة السيولة بالدولار وتراكم عجز ميزان المدفوعات وازدواجية سعر الصرف

تبيّن الميزانيّات المجمّعة للمصارف اللبنانيّة، أنّ المصارف اللبنانيّة خسرت خلال عام 2019 ما نسبته 43.56 % من قيمة حساباتها لدى القطاع المالي غير المقيم (أي المصارف المراسلة)، لتستقر قيمة هذه الحسابات عند مستوى الـ 6.77 مليارات د.أ. مع العلم أنّ هذه الأرقام تعكس أثر السحوبات النقديّة منذ 17 تشرين الأوّل ولغاية نهاية كانون الأوّل.

على خط موازٍ، وحتى قبل اتخاذ الإجراءات المكبّلة لحركة الرساميل، كان لبنان يعاني في السنوات الأخيرة، وتحديدًا منذ العام 2011 من انقلاب وضع ميزان المدفوعات وتحوّله الى سلبي بشكل مستمر.

وقد سجّل ميزان المدفوعات عجزاً في نهاية 2019 بقيمة 4351 مليون دولار، ليصبح العجز التراكمي منذ 2011 إلى اليوم ما قيمته 14515.9 مليون دولار (باستثناء عام 2016 الذي لم يسجّل عجزاً بسبب هندسات مصرف لبنان المالية التي استقطبت من خلالها المصارف رساميل من الخارج بالعملات الاجنبية لشراء اليوروبوند).

هذا التراجع في استقطاب العملات الاجنبية وعجوزات ميزان المدفوعات، كان يضغط بشكل متزايد على سوق القطع، الذي يعتمد منذ عام 1997 على ربط سعر صرف الليرة اللبنانية بالدولار الأميركي على أساس 1507.5 ليرات للدولار.

تراجع أرباح القطاع المصرفي:

كذلك شهدت المصارف العاملة في لبنان تراجعاً في أرباحها من 2.234 مليار د.أ. في نهاية عام 2018 الى 522 مليون د.أ. في نهاية عام 2019، ذلك بشكل عام من دون الدخول في الفوارق من جهة بين المصارف ذات الحصة الأساسية الصامدة في الحد الأدنى من الأرباح وتلك التي باتت تعاني الخسائر، ومن جهة أخرى بين المصارف المحصورة في السوق اللبناني وتتلقى تداعيات أزمته والمصارف الأخرى التي تتنفّس من نشاطها خارج الحدود اللبنانية والتي لم تدرج بعد نتائج الخارج في المجموع.

في الإجراءات الضرورية الملحّة:

تخفيض الفوائد:

بعد أن أرهق ارتفاع معدلات الفوائد القطاع المصرفي والاقتصاد الوطني وخزينة الدولة على حد سواء، كان لا بد من تدخل المصرف المركزي لوضع سقوف لمعدلات الفوائد إن على الودائع أو على القروض.

فقد صدر عن مصرف لبنان تعميم جديد ينص على خفض الفوائد المصرفية والتقيّد بالحد الأدنى لمعدّل الفائدة الدائنة على الودائع كما على التسليفات بالدولار الأميركي وبالليرة اللبنانية.

فضلاً عن التعميم الوسيط رقم 545 للمصرف المركزي القاضي بتخفيض معدلات الفوائد لمختلف القروض السكنية وغير السكنية الممنوحة من المؤسسة العامة للاسكان او المدعومة من المصرف المركزي، إن كان ذلك للسكن او للقطاعات الانتاجية.

هذه الإجراءات في موازاة التخفيض الكبير للفوائد على الودائع تسمح للمصارف بالاستفادة من الفارق الناتج عن الانخفاض المزدوج للفوائد الدائنة والمدينة، بما يزيد هامش ربحها وإمكانية زيادة رسملتها.

وتظهر أرقام المصرف المركزي أنّ لبنان شهد مساراً تصاعدياً لارتفاع الفوائد، تسارع بعد فترة وجيزة من استقالة رئيس الوزراء المؤقتة في تشرين الثاني 2017 والفراغ الحكومي الذي دام 9 أشهر، مما دفع المصارف إلى إطلاق برامج ادخار بفوائد جذابة.

أمّا بشأن زيادة قيمة ضمان الودائع فهذه الخطوة ضرورية، ليس فقط عبر رفع السقف من 5 ملايين الى 75 مليون ليرة لبنانية على أهميّتها، إنما بالتعامل مع صندوق متخصّص يتمتع بمصداقية دولية، خاصة بعد تبيان انغماس مؤسسة ضمان الودائع أيضاً بتمويل الدولة بالاكتتاب بسندات الخزينة بما يجعلها شريكة في اشتباك التمويل بين الدولة والقطاع المصرفي الذي يفترض أن تضمن ودائعه.

إعادة الرسملة:

يجمع الخبراء الاقتصاديون والماليون على ضرورة إعادة هيكلة القطاع المصرفي وإعادة رسملته، مع التشديد على ضرورة الضخّ المباشر للأموال في رؤوس أموالها من المساهمين.

فضلاً عن تحديد المصارف الصامدة ضمن مجموعات مصرفية متمكّنة وذات رسملة جيدة ولو استعانت بمساهمة من كبار مودعيها لتعزيز رسملتها ومكانتها في السوق ووضع الآلية المناسبة لإيفاء الدولة الالتزامات تجاههها بعد وضع أطر إعادة هيكلة الدين طالما من المرجّح أن تكون لا تزال تحمل سندات خزينة وشهادات إيداع لدى المصرف المركزي.

وذلك يكون من خلال برامج إشراك المصارف في المرافق العامة لاستعادة كامل الأموال المستثمرة من قبلها لدى الدولة، وهي أموال وحقوق المودعين، فيكون بذلك تحقق الإصلاح باتجاهين: الاتجاه الأول هو عبر وضع برنامج واضح لإعادة حقوق المودعين. والثاني هو إنقاذ المرافق العامة عبر إشراك القطاع الخاص فيها بما يحسّن خدماتها ومردوديتها.

هذا الطرح هو طبعاً مناقض تماماً لأيّ بحث في تأميم المصارف الذي لا تتوفّر أي عناصر مشجّعة له بعد الفشل الواضح للقطاع العام في إدارة كافة المؤسسات والمرافق العامة والتوظيف العشوائي فيها الذي ضاعف كلفة أجور القطاع العام… فاقد الثقة لا يعطيها وبالتالي من المستحيل البحث في إغراق المصارف أكثر بالقطاع العام، بل من الضروري إشراك القطاع الخاص لتعزيز الثقة بمرافق الدولة.

إستراتيجية إصلاحية مستقبلية

يبقى من الضروري رسم خطة إنقاذ حكومية تنعكس إيجاباً على القطاعات الاقتصادية كافة، ومنها بشكل أساسي القطاع المصرفي، العمود الفقري للاقتصاد اللبناني كما سبق وشرحنا، نظراً لكوننا في «اقتصاد استدانة يعني أنّ المسثمرين يعتمدون بشكل رئيسي على التمويل المصرفي، كما أنه المموّل الأساسي أيضاً للدولة اللبنانية.

وعلى الرغم من إيجابيات انتشار مصارف لبنانية في الخارج ومساعدة ذلك في تحقيقها بعض الأرباح للتعويض عن جمود السوق اللبناني، إلّا أنّ العديد منها يمكن أن يتّجه لبيع جزء من أصوله في الخارج على أقل تقدير، لتعزيز وضعه أكثر في لبنان والتمكّن من الاستحواذ على مصارف أخرى قد لا تتمكّن من الصمود بعد الأزمة طويلاً.

إشراك القطاع الخاص الدائن للدولة بممتلكاتها ومرافقها وتحسين إدارة موجوداتها:

لدى الدولة اللبنانية العديد من الأصول التي يمكنها استخدامها كشراكة بين القطاعين العام والخاص لاحتواء مطالبات السداد من دائنيها، ولاسيما النظام المصرفي اللبناني من أجل سداد ديونها من جهة وتحسين الإدارة المؤسسات والخدمات المعنية (كازينو لبنان، قطاع الاتصالات الهاتفية، الميناء، المطار والشرق الأوسط، قطاع الكهرباء والمياه …).

ووفق «معهد التمويل الدولي»، فإنّ لبنان بين البلدان العشرين الأولى في العالم الأكثر استحواذاً على الذهب، كونه يملك نحو 286.6 طناً من الذهب بقيمة 16 مليار دولار أميركي، وقد بدأ بتجميع الذهب بعد سنوات قليلة من نيله الاستقلال عام 1943، واستمر حتى عام 1971، وقد أرسل لبنان إلى الولايات المتحدة الأميركية جزءاً من احتياطي الذهب لحمايته، وقد يكون مفيداً وضع خطة لإدارة موجودات لبنان الخارجية من الذهب وحسن الاستفادة منها ضمن استراتيجية واضحة وشفافة لإدارة ترسم أفق إعادة تكوين مخزون الذهب تدريجاً مع تحسّن الأوضاع.

كذلك تبدو الخصخصة الموعودة منذ الورقة الاصلاحية التي تقدّم بها لبنان عام 2002 لمؤتمر باريس 2، باتت اليوم خشبة إنقاذ حتمية مطلوبة لاستعادة حقوق الناس في المصارف عبر إشراك الأخيرة ببعض المؤسسات العامة والمؤسسات المملوكة من الدولة، مثل الاتصالات أو طيران الشرق الأوسط (MEA) أو Casino du Liban، والتي ستجلب أكثر من 10 مليارات دولار. بما من شأنه تخفيض رصيد الدين العام وخدمة الدين في نهاية المطاف إزاء المصارف، وبالتالي أموال المودعين فيها.

لطالما كان القطاع المصرفي مصدر الثقة الأساسي بالإقتصاد اللبناني في ظل أشد الأزمات السياسية والاقتصادية الاجتماعية، وحتى خلال ظروف الحرب وإعادة الاعمار وفترات انعدام الاستقرار والاستحقاقات الكبرى التي شهدها لبنان منذ العام 2005، وربما هنا هول الوضع غير المألوف الذي تمثّل باهتزاز الثقة بالقطاع المصرفي نفسه ممّا أضاع البوصلة بكل ما حوله! إلّا أنّ هذه التجربة على شدّتها أكّدت على مكان البوصلة، وعلى عدم إضاعة قيمتها بحصرها بمهام تمويل الدولة على حساب الاقتصاد وتسنيد سقف الهيكل بدل تمتين أركان بنيانه، بل ضوّت هذه الأزمة على ضرورة تصويب دور القطاع المصرفي وحتمية نهوضه بالشكل السليم والآمن والواعد على أسس واضحة، وضمن استراتيجية إصلاحية شاملة ووعي أوضح لمكامن المخاطر ولأجهزة الأمان.

د. سهام نصرالله.

تخلّف الدولة اللبنانية عن سداد ديونها: مقاربة قانونية للمنازعات بين المستثمرين والدول

بتاريخ ٩ اذار ٢٠١٠، أصدرت الجمهورية اللبنانية سندات يوروبوند بقيمة ١،٢مليار دولار أميركي مدّتها عشر سنوات مع قسيمة (فائدة) بنسبة ٦،٣٧٥% تستحق في شهر آذار ٢٠٢٠، و ذلك من ضمن برنامج سندات عالمية متوسطة الأجل (“البرنامج”) بقيمة ٢٢ مليار دولار أميركي.

بالإضافة إلى هذه السندات، تستحق في شهري نيسان وحزيران من هذا العام، مجموعتين إضافيتين من السندات التي اصدرتها الجمهورية اللبنانية بقيمة اجمالية تبلغ ١،٣ مليار دولار أميركي.

في ظل الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة التي يمرّ بها لبنان، يدور النقاش في الشهور الأخيرة حول ما إذا كان ينبغي على الجمهورية اللبنانية سداد سندات اليوروبوند المستحقة في شهر اذار ٢٠٢٠ (و/أو سندات اليوروبوند الأخرى المستحقة في وقت لاحق من هذا العام). لهذه المسألة أهمية كبيرة إذ أن أكثر من ٢٥٪ من السندات المستحقة في اذار ٢٠٢٠ هي مملوكة من غير اللبنانيين وفقاً لتقارير غير رسمية.

إن الغاية من هذا المقال هي دراسة أثر تخلف الدولة اللبنانية عن سداد الديون بالاستناد الى قانون الاستثمار الدولي وبشكل خاص ايضاح الإجراءات القانونية التي قد يلجأ إليها بعض حاملي السندات غير اللبنانيين ضد الدولة اللبنانية في حال عدم سداد السندات المستحقة في ظل هذه القوانين.

نظراً لندرة الأحكام القضائية والقرارات التحكيمية الدولية في المنازعات الناشئة عن الديون العامة (ديون الدول)، لا يزال يشوب القانون الدولي المتعلق بهذا الموضوع الكثير من النواقص حيث انه لا وجود لإجراءات قانونية محددة مسبقاً يمكن ان تلجأ إليها الدول لأجل إعادة هيكلة ديونها. نتيجة لهذا الفراغ القانوني، لجأت الدول الى الحلول التعاقديّة لدعم اجراءات إعادة الهيكلة خاصةً عبر استخدام ما يسمى “بنود اجراءات جماعية” Collective Action Clauses CACs على الرغم من أنه لم يتم تقييم فعالية هذه الاجراءات بعد.

يتضمن البرنامج” الذي تم بموجبه إصدار سندات اليوروبوند المستحقة في شهر اذار ٢٠٢٠ “بنود إجراءات جماعية” يمكن بموجبها تعديل شروط السندات (بما فيها شروط الدفع والمبالغ المستحقة) وذلك شرط موافقة حاملي السندات الممثلين لـ٧٥٪ على الاقل من القيمة الاجمالية للإصدار على أي تعديل، و يكون القرار المتخذ في هذا السياق ملزماً لجميع حاملي السندات.

في الوقت الذي يتبين مما سبق أنه بالإمكان الارتكاز على بنود الاجراءات الجماعية للتوصل إلى حل حبي أو بالتراضي مع مجموعة حاملي السندات قبل التخلف عن سداد الديون، إلا أن ذلك لا يمنع أن يصار إلى الاتفاق على هذه البنود في مرحلة لاحقة على التخلف عن السداد.

بالتالي، تهدف “بنود الاجراءات الجماعية” الواردة في سندات اليوروبوند المستحقة في شهر اذار ٢٠٢٠ إلى تفادي احتمال رفض أقلية من الدائنين المشاركة في إعادة هيكلة السندات وأن تختار عوضاً عن ذلك تنفيذ شروط السندات بأي وسيلة كانت، من ضمنها البدء في الإجراءات القانونية ضد الدولة المدينة.

في حال اختارت الدولة اللبنانية التخلف عن تسديد سندات اليوروبوند المستحقة في شهر اذار ٢٠٢٠، تصبح أمام خيار من إثنين: (١) إما ان تنجح في التفاوض مع ٧٥٪ او اكثر من حاملي السندات على إعادة هيكلة لاحقة لهذه السندات تكون ملزمة لسائر الدائنين، و (٢) إما ان تفشل بالتفاوض، وعندها قد تضطر لمواجهة الاجراءات القانونية التي قد يقيمها بوجهها دائنوها.

يبقى السؤال: ما هي الإجراءات القانونية التي يجب على الدولة اللبنانية توقّعها من حاملي السندات غير اللبنانيين في حال عدم سداد سندات اليوروبوند؟

بداية، تجدر الإشارة الى أن هذه السندات كانت قد نصت على أن الإصدار خاضع لقوانين ولاية نيويورك في الولايات المتحدة الأميركية، كما نصت على الاختصاص غير الحصري لمحاكم ولاية نيويورك أو أي محكمة اتحادية أخرى يكون مركزها ضاحية منهاتن في هذه المدينة، للنظر بأي نزاع ينشأ بين الدولة اللبنانية وحاملي السندات.

هنا، يتبين من عدد من الحالات المماثلة أن لجوء الدائنين إلى محاكم دول غير تلك التابعة للدولة المصدّرة للسندات كان غير ذي فعّالية ولم يؤد إلى النتيجة المرجوة والتي هي عادةً التنفيذ على ممتلكات الدولة المتخلفة خاصةً تلك الممتلكات الموجودة خارج الدولة المعنية. خاصةً ومن المعلوم أن الدولة اللبنانية تملك عدداً محدوداً من الأصول والأموال خارج اراضيها حيث لا يمكن استبعاد أن تقوم بالتذرع بالحصانة السيادية من أجل عرقلة تنفيذ القرارات القضائية المؤيدة للدائنين من حاملي السندات.

وبالفعل، جاءت الفقرة الأولى من المادة ٨٦٠ من قانون أصول المحاكمات المدنية لتمنع الحجز على اموال الدولة وسائر الأشخاص المعنويين ذوي الصفة العامة مما يعني عملياً أن أي قرار يستحصل عليه حاملو السندات أمام محاكم نيويورك أو أي محاكم أخرى لا يمكن تنفيذه في لبنان. وقد نصت السندات على ذلك بوضوح حيث ورد فيها: “يجب على المستثمرين التنبه إلى أنه من الأرجح أن التنازل عن الحصانة هو اجراء غير فعال فيما يتعلق بالأصول والممتلكات التي تقع ضمن حدود الجمهورية اللبنانية”.

من هنا، ونظراً لعدم فعالية الإجراءات القضائية أمام المحاكم الوطنية، ظهر التحكيم الاستثماري كخيار محبّذ للمستثمرين وحاملي السندات السيادية وذلك عقب الركود الاقتصادي الذي ضرب الارجنتين بين عامي ١٩٩٨ و٢٠٠٢.

لا بد من الإشارة إلى أنه لكي يتم اللجوء إلى التحكيم الاستثماري ضد أي دولة متعثرة، يجب أن تكون الدولة المدعى عليها قد تخلفت عن سداد ديونها العامة، إضافةً إلى انها فشلت في التقيد بالتزاماتها الدولية لجهة حماية الاستثمارات الأجنبية على أراضيها.

وفي هذا الإطار، طرح السؤال ما إذا كان شراء سندات سيادية يعتبر “استثمارا أجنبياً” بحد ذاته حيث أن اجتهادات التحكيم الدولي لا تجمع بعد على ذلك. إلا أنه يتبين أن عدداً متزايداً من المحكمين الدوليين يتجهون نحو اعتبار هذه العمليات استثمارا أجنبياً جديراً بالحماية مثله مثل أي استثمار أجنبي آخر.

وبالفعل، فقد رفعت العديد من الدعاوى التحكيمية خلال العقدين الماضيين من قبل حاملي سندات اجانب ضد دول متعثرة، مثل الارجنتين، فنزويلا، ومؤخراً اليونان، وقبرص حيث غالباً ما كان آلاف من حاملي السندات يتّحدون في هذه الدعاوى التحكيمية فيما يمكن اعتباره “دعاوى جماعية (Class Action Suit). في هذا الإطار، صدر قرار تحكيمي حديث في شهر شباط ٢٠٢٠ اعتبرت فيه هيئة التحكيم انها مختصة للنظر في دعوى رفعها (٩٥٦) مستثمراً يونانياً ضد دولة قبرص لاسترداد (٣٠٠) مليون يورو من السندات والودائع المصرفية التي تمت مصادرتها من قبل المؤسسات الاوروبية كجزء من الخطة المالية لإنقاذ الدولة القبرصية. ويتطابق هذا القرار مع قرار سابق صدر ضد الارجنتين قررت بموجبه هيئة التحكيم، بالأغلبية، أنها مختصة للنظر في “دعاوى جماعية” رفعها أكثر من (٦٠) الفاً من حاملي السندات من الجنسية الإيطالية.

في هذا السياق، يعد المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار (ICSID) الهيئة القضائية الأمثل لإقامة دعاوى التحكيم ذات الطابع الاستثماري وذلك كونه مؤسسة تحكيم دولية تابعة لمجموعة البنك الدولي وقد تأسست عام ١٩٦٦ بموجب ما يعرف باتفاقية واشنطن للعام ١٩٦٥. وتظهر أحدث البيانات ان ١٥٣ دولة متعاقدة (بما فيها لبنان) قد وافقت على تنفيذ قرارات التحكيم الصادرة وفقاً لاتفاقية ICSID والتقيد بها.

يقترن عادةً انضمام الدول إلى اتفاقية ICSID بمعاهدات استثمار ثنائية (Bilateral Investment Treaties) تكون مبرمة بين دولتين منضمتين إلى معاهدة واشنطن. تحدد هذه المعاهدات الشروط والأحكام التي ترعى الاستثمار الخاص من قبل مواطني وشركات الدولة الاولى (دولة المنشأ) في الدولة الثانية (الدولة المضيفة). بحكم معاهدات الاستثمار الثنائية هذه، توافق كل من دولة المنشأ والدولة المضيفة على تسوية أي نزاع ينشأ عن استثمار المستثمر الأجنبي عن طريق التحكيم. حتى تاريخه، ابرمت الجمهورية اللبنانية معاهدات استثمار ثنائية مع حوالي خمسين دولة مختلفة منها سويسرا وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا والمانيا والكويت والامارات وغيرها من الدول.

تمنح معاهدة الاستثمار الثنائية، بفضل الحماية الممنوحة للاستثمارات الأجنبية وخيارات التقاضي المدرجة فيها، خياراً قضائياً بديلاً عن المحاكم الوطنية يمكن لحاملي السندات اللجوء إليه من أجل تحصيل ديونهم، وهذا ما يفسر ازدياد اللجوء إلى هذه الهيئات التحكيمية البديلة عن المحاكم الوطنية حيث تمنح قرارات ICSID فرصة جديّة للتنفيذ ضد الدول المتخلفة عن سداد ديونها.

في الواقع، يجوز للدائن أن ينفذ اي قرار صادر عن ICSID في أي دولة متعاقدة، كما يجوز له التنفيذ في نفس الوقت في أكثر من دولة. تاريخياً، كان امتثال الدول لقرارات ICSID مرتفعا بسبب مخاطر المس بسمعتها، وبسبب الضغوطات الديبلوماسية والسياسية من قبل البنك الدولي والمجتمع الدولي كي تبادر الدولة المتعثرة بإيفاء موجباتها تجاه المستثمر الأجنبي. لذا، عندما رفضت مثلاً الأرجنتين الامتثال لقرارات ICSID الصادرة ضدها، علّقت الولايات المتحدة وضعها التجاري ضمن نظام الأفضليات المعتمد في الولايات المتحدة وهددت بعرقلة اتفاق مع أعضاء نادي باريس لإعادة هيكلة ديون الأرجنتين. بالإضافة إلى ذلك، قام البنك الدولي ومصرف التنمية للبلدان الأميركية بالتوقف عن اعادة جدولة القروض. ان هذه التدابير أرغمت الأرجنتين على الدخول في اتفاقات تسوية مع العديد من دائنيها.

في الخلاصة، هناك احتمال كبير أن يلجأ الدائنون حاملي السندات من غير اللبنانيين، والذين ترتبط دولهم باتفاقيات استثمار ثنائية مع لبنان، إلى تطبيق اتفاقية ICSID وإقامة دعاوى تحكيم استثماري ضد الدولة اللبنانية، نظراً إلى أن الدولة اللبنانية تمتلك عددًا محدودًا جدًا من الأصول التي يمكن التنفيذ عليها في حال مقاضاتها أمام المحاكم الوطنية، بينما هي مرغمة للامتثال لقرارات ICSID الصادرة ضدها. بالتالي، في حال السير في دعاوى التحكيم الاستثماري، يمكن لحاملي السندات من غير اللبنانيين التنفيذ على أموال الدولة اللبنانية وسائر الأشخاص المعنويين ذوي الصفة العامة وهذا ما يجب أن تحتاط منه الدولة اللبنانية نظراً لجديّة وخطورة الانعكاسات الاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية التي قد تصيب لبنان واللبنانيين.
المصدر: المركز اللبناني للدراسات

وضع حد للنمو الاقتصادي من الأخطاء الفادحة

من بين الأفكار الخبيثة التي تجد رواجاً هذه الأيام واحدة تتعلق بأنه يتعين على المجتمعات التدخل طواعية لإيقاف نموها الاقتصادي. وفي مقالة نشرتها مجلة «نيويوركر» الأسبوعية الأميركية يسرد جون كاسيدي ظهور حركة تراجع النمو المزعومة. وتجد هذه الفكرة اهتماماً من جانب دعاة حماية البيئة الذين تساورهم المخاوف بشأن تدمير الكوكب، ودعاة المساواة الذين يخشون من النمو الذي يقضي على الفقراء في طريقه، ودعاة المستقبل الذين يتصورون المجتمع الترفيهي المثالي، وما إلى ذلك. وربما يكون تراجع النمو وسيلة من وسائل المواطنين الأثرياء، والبلدان المتدهورة للحفاظ على فخرهم من خلال ملاحقة ركب المجتمعات الصاعدة، حيث إنها تضفي طابع الفضيلة المثالية على التباطؤ الاقتصادي.
وعلى الرغم من أن حركة التراجع الاقتصادي تشتمل على بعض شذرات من الحكمة، إلا أنها تستند بالأساس إلى عدد من المفاهيم الخاطئة بشأن ماهية النمو الاقتصادي الحقيقية ولماذا يعتبر مرغوباً فيه على الدوام.
أولاً، من المهم أن نتفهم اهتمام الساسة الهائل بالنمو الاقتصادي. بالنسبة إلى الدول النامية، يتعلق الأمر برفع مستويات المعيشة. لكن بالنسبة إلى البلدان الغنية مثل الولايات المتحدة، فإن السبب الكبير في اهتمام الساسة المنتخبين بالنمو الاقتصادي يكمن في ارتباطه بانخفاض معدلات البطالة. فإن النمو السريع يعني المزيد من الاستهلاك والاستثمار، ويعني زيادة الطلب على العمالة، مما يعني أيضاً المزيد من الوظائف وارتفاع الأجور. لذلك، عندما يتحدث رؤساء الولايات المتحدة أو المشرعون عن النمو الاقتصادي، فلا يتعلق الأمر بارتفاع مستويات المعيشة وإنما يتعلق بالوظائف في المقام الأول.
والمفهوم الخاطئ الثاني بشأن تراجع النمو يتعلق بأن النمو يتطلب استهلاك المزيد من الموارد الطبيعية الخام لتغذية الصناعات التحويلية والنهم الذي لا يشبع. وفي واقع الأمر، يعني النمو في المعتاد صناعة الكثير بالقليل من الموارد. وفي العقود الأخيرة، وحتى مع النمو المستمر في اقتصاد الولايات المتحدة، ظل استخراج العديد من الموارد الطبيعية على منوال ثابت تقريباً وربما منخفض بعض الشيء. على سبيل المثال، ارتفع استخدام المعادن في الصناعات الأميركية وبلغ ذروته القصوى مرتين فقط خلال العشرين عاما الماضية.
ويحدث هذا الأمر لعدة أسباب. تتحول طلبات المستهلكين من السلع المادية إلى الخدمات، بما في ذلك الخدمات الالكترونية عبر الانترنت. ويسمح الابتكار بالمزيد من الاستخدامات الفعالة للموارد. ويمكن للتقنيات المستدامة مثل الطاقة الشمسية أن تحل محل التقنيات الملوثة للبيئة وغير المتجددة مثل استخدامات الفحم والغاز الطبيعي. وفي بعض الأحيان يكون النمو هو السبب الرئيسي في انخفاض الاعتماد على الموارد، مثلما يقوم المزارعون بتطبيق تقنيات الري الحديثة أو عندما يجري استبدال المصانع التي تعمل بالطاقة الشمسية بأخرى تعمل بالفحم.
وذلك هو السبب في أن فكرة عدم استمرار النمو الاقتصادي إلى الأبد هي فكرة خاطئة بالأساس. فسوف تنفجر الشمس في نهاية الكون، ولكن قد يستمر النمو لفترات طويلة جداً حتى حدوث ذلك.
ولكن لا تعني إمكانات استدامة النمو أن محاولات تعظيمه للغاية من الأفكار الحكيمة على الدوام؛ إذ يعد الناتج المحلي الإجمالي من المقاييس العديدة لحساب رفاهية الإنسان، وغالباً ما يكون من المنطقي أن يركز المجتمع على تحسين الصحة، أو مكافحة عدم المساواة، أو تشجيع الترفيه. وكما يوضح أحد خبراء الاقتصاد، فإن تباطؤ النمو قد يكون علامة على النضج الاقتصادي بدلاً من الضعف. وفي الاقتصاد العالمي السليم، تميل الدول المتقدمة إلى النمو البطيء أكثر من البلدان النامية. والخدمات مثل الرعاية الصحية والتعليم، التي يميل الناس في البلدان الغنية إلى الزيادة فيها، يكون نموها الإنتاجي منخفضاً في البلدان النامية.
ومع ذلك، هناك سبب مهم للغاية في متابعة النمو الاقتصادي البلدان الفقيرة في حاجة إليه. وعلى الرغم من أن أغلب العالم قد نجا من الفقر المدقع بصورة من الصور، فإنه لا يزال موجوداً بعض الشيء، ويتركز في بلدان مثل نيجيريا التي تعاني من النمو الاقتصادي البطيء. ولا يزال العديد ممن يعيشون في مثل تلك البلدان لديهم مستويات معيشية يمكن اعتبارها منخفضة بصورة غير معقولة من زاوية البلدان المتقدمة، فربما يملكون ما يكفي من الموارد الغذائية، ولكنهم غالباً ما يفتقرون إلى المياه الصالحة للشرب، وإلى الكهرباء، والسكن المناسب، والرعاية الصحية، ووسائل النقل الفعالة، والعديد من الأمور الأخرى.
لذلك، ومن أجل الشعوب، تحتاج البلدان النامية إلى مواصلة النمو الاقتصادي. ومن أجل البيئة أيضاً، يسهل على البلدان الغنية تحمل تكاليف انخفاض التلوث، والتوقف عن حرق الغابات، وحظر استخدام المواد الكيماوية التي تسمم الحياة البحرية، وما شابه ذلك. ومن المفارقات، أنه كلما انخفضت ثروة أي بلد، ارتفعت الاحتياجات الاقتصادية وتأخذ الأولوية على حساب حماية الموارد البيئية.
لكن البلدان الفقيرة لا تنمو في الفراغ، إذ توفر الاقتصادات المتقدمة المصدر الحيوي للطلب على السلع المنتجة في البلدان الفقيرة مثل بنغلاديش، وفيتنام، وإثيوبيا، الأمر الذي يساعد هذه البلدان على زيادة الإنتاجية والانتقال إلى مصاف الدول الغنية. كما أن النمو في البلدان المتقدمة يخلق التقنيات الحديثة – مثل الطاقة الشمسية، والبطاريات، والمواد الكيميائية الصديقة للبيئة – والتي تسمح للبلدان النامية بإنتاج المزيد بأقل الخامات والموارد.

نوح سميث.