نحن نعيش واحدة من تلك اللحظات التي يجدر بنا فيها طرح هذا السؤال، وهو: ما غاية الاقتصاد؟
لا يوجد الاقتصاد من أجل منفعة المشاركين في سوق الأوراق المالية ولا زيادة أموال الشركات. منذ حقبة الثمانينات على الأقل جعلت الولايات المتحدة الثروة الاقتصادية معادلاً لسوق متصاعدة، وأرباح شركات متزايدة باستمرار؛ إنها مكونات ضرورية لاقتصاد سليم وقوي، لكنها في النهاية لا تمثل سوى وسيلة لا غاية؛ فالغاية هي رفاهة المواطنين. يوجد الاقتصاد ليتيح للعمال وأسرهم أن يصبحوا في وضع أكثر رخاءً، وهذا ما ظل غائباً عن بال الكثير من الأميركيين قبل هذه اللحظة.
يفسد فيروس «كورونا» الاقتصاد الأميركي، مثلما يفعل باقتصاد باقي أنحاء العالم، فقد تم إلغاء كل فعالية تحتاج إلى جمهور، سواء كان مسرحاً، أو حدثاً رياضياً، أو مؤتمرات، بل وشمل ذلك المؤتمرات الجماهيرية السياسية أيضاً. مجال السفن السياحية يتداعى، وتتراوح خسائر شركات الطيران بين 63 مليار دولار و113 ملياراً على مستوى العالم، بحسب تقديرات اتحاد النقل الجوي الدولي. كذلك، أرسلت مئات الجامعات الطلبة إلى المنازل؛ مما يمثل ضربة قوية للمتاجر والمطاعم المحيطة بها، والتي تعتمد في عملها واستمرارها على حركة الطلبة. تم إصدار أوامر بإغلاق المقاهي والمطاعم في الكثير من المدن الكبرى، وهناك عدد لا يحصى من الأمثلة الأخرى الدالة على تباطؤ النشاط الاقتصادي بشكل كبير أو توقفه تماماً.
مع ذلك يبدو أن فيروس «كورونا» قد أيقظ المجتمع ونبّهه إلى ما يهم حقاً. صحيح أن الكثير من عناوين الصحف الرئيسية تتحدث عن انهيار السوق بشكل مفزع، لكني لا أسمع عن هوس الناس بالأمر مثلما حدث بعد فقاعة الإنترنت، أو انهيار مصرف «ليمان براذرز» عام 2008. للمرة الأولى تصبح لـ«قيمة حامل السهم» أهمية ثانوية، بل وما فاجأني بشكل كبير هو عدم استجابة الشركات لهذا الانهيار والكساد بالطريقة المعتادة خلال الأوقات العصيبة، أي القيام بتسريح العاملين، حيث يبدو أنهم قد أدركوا أن أهم شيء يمكنهم فعله لمساعدة البلاد في تجاوز الأزمة هو الإبقاء على تدفق المال إلى جيوب العاملين لديهم حتى إذا لم يكن بمقدورهم القيام بالكثير.
لذا؛ استمرت شركات الطيران، التي تأثرت بشدة، في دفع أجور موظفيها والعاملين لديها وإن علّقت عملية التوظيف. وتعهدت شركة «مايكروسوفت»، وشركات تكنولوجية كبرى أخرى، بالاستمرار في الدفع للبائعين الذين يوظفون عمالاً ينظفون مكاتبهم ويزودون الكافتيريات بما يلزمها من مواد. كذلك تواصل شركة «والت ديزني» دفع رواتب العاملين لديها في المتنزه. وذكرت صحيفة «يو إس إيه توداي» يوم الجمعة، أن الشركات الأميركية قد استغنت عن 893 وظيفة بسبب فيروس «كورونا»، ويعد هذا رقماً صغيراً بشكل ملحوظ.
كذلك، يتجه الرؤساء التنفيذيون نحو «التفكير في الحرص على الخروج من هذه الأزمة مع الحفاظ على سمعة طيبة»، بحسب ما صرح للويد بلانكفين، الرئيس التنفيذي السابق لمجموعة «غولدمان ساكس غروب إنكوربوريشن» لصحيفة «وول ستريت جورنال». وأضاف قائلاً «يريد المرء أن يتم النظر إليه كشخص يفعل الصواب». وذكر بلانكفين أنه ربما لا تجد الشركات، التي يهدد الفيروس بقاءها واستمرارها، خياراً سوى اللجوء إلى تسريح العاملين لديها، لكن ذلك لا يمثل مشكلة بالنسبة إلى أكثر الشركات الكبرى في الولايات المتحدة، حيث حققت أرباحاً هائلة خلال العقد الماضي؛ لذا لن تجد مشكلة في الإنفاق من تلك الأرباح أو الاعتماد على بعض القروض مثلما فعلت شركة «بوينغ» مؤخراً من أجل الإبقاء على موظفيها.
إليكم فكرة: ماذا لو ألغت لجنة الأوراق المالية والبورصة موسم العائدات الربع سنوية لشهر أبريل (نيسان)؟ سوف تكون الأرقام غير طبيعية إلى درجة تجعلها بلا معنى تماماً.
كل ما سبق كان من الأنباء السارة، فيما يلي بعض الأنباء السيئة؛ أولها هو وجود عدد هائل من العمال ذوي الأجور المتدنية والعاملين بدوام جزئي في البلاد، ويذكر دانييل ألبرت، الشريك المؤسس لمؤسسة «ويستوود كابيتال»، وكاتب العمود لدى موقع «بيزنس إنسايدر»، أن عددهم يفوق 31.5 مليون فرد؛ مما يجعلهم يمثلون 30 في المائة من القوى العاملة. وكتب ألبرت مؤخراً «من المنطقي أن يتم تسريح هذا العدد الكبير من العاملين طالما استمر الحجر الصحي للعملاء المحتملين، أو لم يتمكن العاملون أنفسهم من العمل في حالة المرض». حتى إذا لم يتم تسريحهم من العمل، من المؤكد أنه سوف يتم تقليص عدد ساعات عملهم مما يخفض أجرهم المتدني بالفعل، ويهدد وضعهم المعيشي المتدهور بشكل أكبر. ويخلص ألبرت إلى أن «انخفاض جودة أكثر الوظائف، التي ظهرت في الولايات المتحدة خلال السنوات اللاحقة للكساد، تصرخ مطالبة بتدخل حكومي أكبر».
يقودنا هذا إلى نبأ سيئ آخر، وهو أنه حتى إذا اتخذت الكثير من الشركات الكبرى خطوات ومواقف إيجابية، لم تفعل المؤسسات، التي تمتلك أكبر قدر من الموارد، والحكومة الفيدرالية، ذلك؛ فقد تحدث الرئيس دونالد ترمب عن خطط إنقاذ لمجال السفن السياحية، وشركات الطيران وقطاع الفنادق، وغير ذلك من مجالات، لكن عندما صاغ أعضاء الكونغرس من الديمقراطيين مشروع قانون يهدف إلى مساعدة المواطنين، أدانه ترمب قائلاً إنه مليء بـ«المزايا التي لم يتمكنوا من الحصول عليها طوال 25 عاماً».
رغم أن نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب الأميركي، كانت قادرة على جعل البيت الأبيض يوقع على مشروع قانون يرضي الطرفين، أدرجت طلباً مذهلاً قدمه الجمهوريون، وهو طلب بإلزام الشركات، التي لديها 500 عامل أو أقل، أي تلك الشركات التي ليس لها تأثير وثقل سياسي كبير، بمنح العاملين لديها إجازات مرضية مدفوعة الأجر، في حين يتم إعفاء الشركات الأميركية الكبرى كافة، التي توظف 54 في المائة من العاملين بشكل إجمالي، لكن لديها ثقلاً سياسياً، وهذه سياسة حكومية مريعة، لكنها ليست مستغربة بالنظر إلى موقف الإدارة القاسي تجاه مواطنيها.
وقد تبلور واتضح هذا الموقف من خلال لحظة شهدها كثيرون مؤخراً، وهي لحظة كيتي بورتر يوم الأربعاء الماضي، عبر موقع «تويتر». كيتي هي عضو ديمقراطي جديد عن مقاطعة أورانج بولاية كاليفورنيا، وأستاذة قانون سابقة، سرعان ما حصلت على سمعة بأنها مستجوبة قاسية للشهود التابعين للإدارة الأميركية، فقد سألت روبرت كادليك، مساعد وزير الصحة والخدمات الإنسانية، عن تكلفة اختبار فيروس «كورونا»، وكانت تعلم الإجابة على نحو أفضل منه، حيث تبلغ تكلفته 1.33 دولار حداً أدنى.
كما ذكرت من قبل، تتمثل الاستجابة الفاشلة للحكومة تجاه الأزمة المالية في اهتمامها باحتياجات الشركات أكثر من احتياجات الناس، حيث تكمن مأساة هذه الأزمة الاقتصادية، على الأقل حتى هذه اللحظة، في أن الشركات تعلمت ذلك الدرس على ما يبدو، في حين لم تفعل إدارة ترمب، ومن غير المرجح أن تفعل ذلك قريباً.
جو نوسيرا