للكورونا تأثيرات كبرى تغيّر وجه العالم. لن ينعكس التأثير على المواضيع الصحية فقط بل سيمتد الى كافة الأمور السياسية والاجتماعية والاقتصادية. كشفت الكورونا عجز الأنظمة الصحية العالمية التي كانت دون شك مقصرة وغير جاهزة لتحديات جدية حتى أقل من الكورونا. تبين التقصير والفساد في الانفاق الهائل على الصحة الذي لم يصمد لأسابيع قليلة. ليس فقط أهدرت ضرائب المواطنين وأموالهم من قبل الحكومات والجمعيات والمنظمات، بل نوعية الخدمات المقدمة ليست بمستوى طموحات المواطنين وآمالهم. أنفقت المجتمعات على الحاجات الصحية التي ربما لا يحتاج اليها المواطن بل تحتاج لها الشركات المستثمرة التي جنت الملايين بل المليارات من الأرباح. لا بد من مراجعة ما أنفق على الصحة لأن النتيجة ليست بمستوى الطموحات والحاجات. ما هو الحل الذي تقدمه الحكومات والمنظمات اليوم للمواطن؟ الحجر أو العزل ليس فقط لحمايته وانما لحماية المستشفيات والمستوصفات التي لا تستطيع استيعاب أعداد كبيرة من المرضى وبالتالي وجب حمايتها. فعلا، التقصير يفوق الوصف بل يدعو الى الخجل.
البؤس يولد الكراهية وهذا ما يحصل عالمياً، اذ نتج عنه وصول قيادات سياسية تعبر عن هذه الكراهية ليس فقط في أميركا بل في أوروبا والبرازيل وغيرها. ماذا يقصد الرئيس ترامب عندما يصف الكورونا بـ«الفيروس الصيني»؟ يسعى الى شد عصب المؤيدين له قبل الانتخابات أي عموما الرجال البيض الذين ما زالوا يشعرون بالحرمان والغضب من السياسات السابقة التي عززت بقية الأعراق كما الجنس الآخر. لم تكن المشكلة في الآخرين لو استطاع الاقتصاد توفير فرص العمل للجميع، لكن الضحية كان الرجل الأبيض في رأيه فانتفض. تشير الدراسات الى أن العمر المرتقب للرجل الأبيض في الولايات المتحدة ينحدر منذ أواخر التسعينات بسبب اليأس مما دفعه الى معاقبة الطبقة السياسية عبر ايجاد «ترامب» وارساله الى البيت الأبيض. في الاحصائيات أعطى الرجل الأبيض ترامب 67 مقابل 28 لهيلاري كلينتون.
الخطر الأكبر على استمرارية الأنظمة الديموقراطية يأتي اليوم عجباً في الدول الغربية ومنها. قال أرسطو «أن المجتمعات المؤلفة من أقلية أغنياء كبار وأكثرية فقراء لا يمكن أن تكون حرة. فهي مجتمعات مؤلفة من أسياد وأزلام وبالتالي لن تكون مستقرة». قال كارل بولانيي «أن انتصار المجموعات المتطرفة انتخابيا يعود الى رفض الأحزاب الديموقراطية تنفيذ الاصلاحات المرتكزة على التخطيط والرقابة والمحاسبة. يتابع أن ترك أنظمة السوق تعمل دون رقيب أو حسيب يؤدي الى قتل حرية الأسواق وشفافيتها». أتت الكورونا لتثبت للعالم أجمع أن ما بنته الحكومات كل الحكومات لم يكن كافيا بل هشا، وهذا ما تثبته اليوم التحديات الخطيرة التي نعيشها.
هنالك تغيرات كبرى في مجتمعات اليوم تؤثر كثيرا على السياسات الاقتصادية منها ما يحصل بشأن الكورونا. شباب اليوم أي الذين أعمارهم بين 24 و39 يرغبون في التقاعد باكرا وبالتالي يرغبون في الادخار وليس الاستهلاك تحضيرا للتقاعد. يؤثر هذا الواقع على نسب النمو التي هي أقل من الماضي حيث كان الاستهلاك سيد الموقف. هذا يعني أن تخفيض الفوائد كما يحصل من قبل المصارف المركزية لن يشجعهم على الاستهلاك لأنهم لا يريدونه. لذا السياسات النقدية غير فاعلة اليوم كما كانت في الماضي والمطلوب تحرك السياسات المالية كما فهمته ادارة الرئيس ترامب الذي سيرسل مباشرة أموالا الى الافراد الأميركيين. الفوائد في أميركا تقارب الصفر ولا تأثير لها يذكر، لذا سيقدم المصرف المركزي على شراء سندات الخزينة من الأسواق وضخ النقد. كذلك سيفعل المصرف المركزي الأوروبي للأسباب نفسها. السياسات المالية في أوروبا ما زالت وطنية وبالتالي تحركها المصالح الداخلية وليس الاقليمية.
ما هي التأثيرات المباشرة للكورونا عالميا، اذ أثبتت التطورات الأخيرة مدى ترابط العالم بعضه ببعض. يدخل العالم في فترة ركود قاسية ستدوم طويلا خاصة وأن أسلحة المعالجة المناسبة غير متوافرة. سقوط الأسواق المالية بالسرعة التي نشهدها يؤشر الى عمق المشكلة وصعوبة المعالجة. نحن نعيش في قرية صغيرة تعاني نفس المشاكل ومقصرة بالمواضيع نفسها:
أولا: تبين للعالم أن الأنظمة الصحية غير جاهزة لمواجهة المخاطر وبالتالي نتج عنه خوف كبير من قبل المواطن على صحته ومستقبله. الخوف يوتر الأعصاب ويدفع الانسان الى التصرف بعنف ويفقده ثقته بدولته ومستقبله. ما شهدناه في ايطاليا خاصة هو عدم قدرة المصاب على رؤية عائلته قبل الموت خوفا من نقله الفيروس لهم. هذا في غاية الظلم والأسى والحزن.
ثانيا: تبين للعالم أهمية الصين في الاقتصاد العالمي. اصابة الصين من الكورونا أضعف نموها وطلبها على السلع والخدمات. أهم الاصابات كانت السوق النفطية حيث انحدر سعر البرميل الى حدود منخفضة جدا. هذا مفيد للمستهلك والمنتج عموما لكنه مسيء الى الدول النفطية وفي مقدمها دول الأوبيك وروسيا حيث النزاع على أشده بينهما. من غير المتوقع أن يتعزز الاستهلاك كما الانتاج بسبب الخوف أي العامل النفسي. لذا تسقط الأسواق خوفا وليس بسبب العوامل العادية التي تؤثر على الاستهلاك أو الاستثمار.
ثالثا: تبين للعالم عدم جهوزيته لمواجهة أزمات جدية. الحكومات غير جاهزة بمالياتها واداراتها لمعالجة الكارثة الصحية. الشركات العملاقة عموما غير جاهزة بسبب الديون الكبيرة الباهظة التي تحملها والتي تحتاج الى سنوات جديدة للمعالجة. التعليم غير جاهز للانتقال الى التنفيذ عبر شبكات الاتصالات والانترنت. الطلاب في المنازل يهدرون الوقت والأهل غير مجهزين عموما للتدريس. لذا القلق الكبير على المستقبل.
رابعا: أكبر الخاسرين من الكورونا هي السياحة والطيران والفنادق والمطاعم وغيرها والتي تعاني جميعها من الاقفال وربما تضطر لخسارة عمالها وموظفيها. ستسعى الماليات العامة للمساعدة، لكن موازنات الدول هي مهترئة وبالتالي من يساعد من ومن ينصح من؟
خامسا: هل هنالك جوانب ايجابية للكورونا بالرغم من سوء التناسب مع السلبيات. من الايجابيات تخفيف حجم التلوث الذي كانت تصدره الطائرات والسيارات والمصانع وغيرها. انحدار الحركة الاقتصادية عموما سيؤثر ايجابا على نظافة البيئة ويساعد الانسان على تحسين نوعية الحياة المستقبلية.
سادسا: هنالك شركات عدة استفادت من انحدار الحركة لتنظف أو تصحح نفسها من الداخل. فقامت بترشيد الإنفاق كتخفيف نفقات السفر وتحسين الانتاجية عبر الإنفاق أكثر على الاتصالات والالكترونيات والذكاء الاصطناعي وتقنيات المعلومات وغيرها، وبالتالي تحضر نفسها للمنافسة القادمة بعد الكورونا. ظروف اليوم الصعبة تساعد الأذكياء على التحضير الجدي والصامت للمنافسة الكبيرة الآتية بعد المصيبة.
سابعا: هنالك قطاعات لا بد وأن تستفيد مما يحصل اليوم فتنتج ما يحتاج اليه الانسان. هذا هو حال شركة «أمازون» التي ستوظف مئة ألف شخص يقومون بتوصيل السلع الى المنازل لصعوبة انتقال المواطن بسبب الكورونا. مَن يخسر وظيفته اليوم في قطاع السياحة مثلا ربما يجد فرصة عمل له في أمازون وهذا مفيد جدا.
تبقى الصحة أهم شيء في حياة الانسان، ومن دونها لا معنى للمزايا الاخرى التي تبقى دون جدوى أو حتى مضرة في بعض الأحيان. يتبين للعالم اليوم ان صحته غير مضمونة وبالتالي كل ما قام ببنائه في العقود الماضية غير كاف أو ناقص أو هش وبالتالي وجب اعادة البناء. هذا الشعور المنطقي مؤذ ويحطم معنويات الانسان لكن في نفس الوقت يعطيه أملاً بمستقبل أفضل للأجيال القادمة التي نأمل أنها ستؤسس بشكل أفضل.
د. لويس حبيقة.