رغم انّ المسارات في الاسواق المالية ليست ثابتة دائماً، ولا يمكن الجزم باتجاهاتها على مدى طويل، انطلاقاً من متغيرات قد تطرأ بشكل مفاجئ وتخربط الحسابات، مع ذلك، يمكن رسم خط بياني مبدئي للتطورات، انطلاقاً من تجارب الاسواق المالية عبر التاريخ.
تتحرك الأسواق المالية مثل بعض العوامل الطبيعية، ضمن خمس مراحل. على سبيل المثال، تبدأ موجات التسونامي بموجة تحضيرية تليها فترة استراحة يخال خلالها المراقب بأنّ الأسوأ قد ولّى، وإذ بالموجة الكبيرة تضرب وتكون مدمّرة بآثارها التي لا تقل في أي حال من الأحوال عن تأثيرات الموجة الأولى. يلي ذلك عادة فترة استراحة ثانية قبل وصول الموجة الأخيرة.
في الأسواق المالية تُعرَف هذه المراحل بموجات اليوت (ELLIOTT WAVES).
حركة الدولار حالياً مقابل الليرة تُصَنَّف تقنياً ضمن الموجة الثالثة:
1983-1992: الموجة الأولى التحضيرية. ارتفع الدولار من 3,74 ليرات الى 2750 ليرة.
1993-2018: الموجة الثانية، الفترة التصحيحية للاستراحة واستيعاب الارتفاعات السابقة.
2019-2028: الموجة الثالثة الحالية، وهي الأقوى. قد تنتهي بين عامي 2025 و2028.
الموجة الرابعة: يتم تحديدها فور انتهاء الموجة الثالثة، وتكون تصحيحية لاستيعاب ارتفاعات الموجة الحالية.
الموجة الخامسة: تتخطى مستويات الموجة الثالثة.
مقارنة بين موجتين
تطبيقاً لذلك نقول انّ الموجة الأولى التحضيرية بدأت في العام 1983 واستمرت حتى العام 1992. تلتها فترة استراحة دامت 26 عاماً حتى العام 2018، وها انّ موجة التسونامي قد بدأت في العام 2019، فماذا تخبرنا «موجات إليوت» عن مداها؟
• الموجة الأولى: 1983 ارتفع الدولار 46%، 1984 ارتفع الدولار 63%، 1985 ارتفع الدولار 104%، 1986 ارتفع الدولار 381%، 1987 ارتفع الدولار 423%، 1988 ارتفع الدولار 16%، 1989 انخفض الدولار -5%، 1990 ارتفع الدولار 65%، 1991 ارتفع الدولار 1%، 1992 ارتفع الدولار 213%.
• الموجة الثالثة: 2019 ارتفع الدولار 46%، 2020 ارتفع الدولار 350% في الأشهر الستة الأولى، 2021؟ الخط الأحمر لاحتياطي مصرف لبنان سيكون مهدداً، 2022 الانتخابات النيابية والرئاسية، 2023 خطر الفراغ الرئاسي واستحقاق حاكمية مصرف لبنان، 2025-2028 انتهاء الموجة الثالثة ولكن على أي سعر؟
هكذا، تكون موجة اليوت الثالثة حكماً الأسرع والأقوى من بين المراحل الخمس. وبحسب التَسارع الحالي لارتفاع الدولار يبدو أنّ الموجة الثالثة الحالية بدأت تتجاوز النسَب المئوية المسجلة خلال فترة الحرب، حيث كان القطاع الخاص في حالة جيدة وأموال المودعين مصانة والدولار الورقي متوفر في المصارف. وكما تظهر المقارنة أعلاه، ارتفع الدولار في سنة 1984 بنسبة 63% فيما سجلت الأشهر الستة الأولى من سنة 2020 وحدها ارتفاعات بنسبة 350% والسنة ما زالت في منتصفها (ملاحظة: لو حاكت ارتفاعات سنة 2020 نسبة ارتفاعات 1984 لتوقف الدولار هذه السنة عند مستوى 3565 ليرة (63%)، لكنه تجاوز هذا المستوى بأشواط).
للتذكير، ارتفع الدولار في الثمانينات وأوائل التسعينات من 3,74 ليرات الى 2750 ليرة، أي 735 ضعفاً. وإذا طبّقنا نفس النسب على سعر 1500 ليرة ستبدو الارقام حكماً صادمة لأيّ مراقب حيث ستتجاوز المليون ليرة للدولار الواحد بعد بضع سنوات. في كل مرة يستهجن بها أحد أصدقائي هذه الأرقام أطرح عليه السؤال التالي: لو قال لك أحدهم في العام 1983 حين كان سعر الدولار 3,74 ليرات أنه سيرتفع إلى 2750 ليرة أما كنت قلت انه يَهذي؟ وأذكر يومها أنه حتى رقم 10 ليرات كان يبدو لنا مستغرباً، تماماً كما أنّ رقم 10000 ليرة كان يبدو للكثيرين ضرباً من الخيال حتى الأمس القريب.
في بداية مسيرة ارتفاع الدولار في الثمانينات صدم الرئيس كميل شمعون اللبنانيين بتوقّعه الشهير لسعر الدولار رافعاً ورقة الخمسين ليرة، عندها ساد الاستهجان والاستنكار فإذا بالحقيقة تتجاوز التوقعات ويصبح الرقم 2750 ليرة رقماً كغيره من التسعيرات المتداولة في العام 1992.
يتساءل كثيرون كيف سيتعامل اللبنانيون مع هذا الواقع الجديد؟ تخبرنا معظم التجارب العالمية أنه لا بد للسعر الرسمي بأن يلاقي سعر السوق السوداء عاجلاً أم آجلاً (وليس العكس). والتجربة المصرية الأخيرة تظهر بأنّ السلطات النقدية المصرية كانت تقوم برفع السعر الرسمي للجنيه لدى المصارف ليشكل ما لا يقل عن 50% من السعر في السوق السوداء، ثم تعود إلى رفعه مجدداً كلما ارتفع السعر في السوق السوداء، إلى أن استقر الوضع في النهاية على ملاقاة السعر الرسمي للسوق السوداء، مع فوارق مقبولة نسبياً.
هل يعني ذلك أنّ الأزمة الحالية ستدوم 10 سنوات؟ هذا احتمال غير مؤكد، إذ كما يتبيّن أعلاه أنّ الموجة الثالثة هي دائماً الأقوى ولكنها الأسرع، وبالتالي قد يصل الدولار الى ارتفاعاته القصوى ما بين عامي 2025 و2028.
هل ستوازي الارتفاعات القادمة نسب ارتفاعات الدولار خلال الحرب أم ستتجاوزها؟ للأسف يبدو اننا قد تجاوزنا هذه النسَب حتى الآن ولا يمكن التكهّن بنسَب التسارع المستقبلية. إنّ احتمال بلوغ مستويات خيالية يبقى وارداً، لا بل مُرَجَّحاً. المرحلة القادمة ستكون صعبة ومؤلمة ولكن التأقلم سيكون سيّد الموقف.
هل سيسترد اللبنانيون ودائعهم؟ نعم، سيقبض اللبنانيون دولاراتهم بالليرة اللبنانية على سعر سيرتفع دورياً، وسيتم رفع الرواتب تحت الضغط المعيشي. ولكن القدرة الشرائية للمواطن لن تشكل أكثر من 20% من تلك التي تنعَّمَ بها حتى العام 2018. لتبيان ذلك يكفي مراقبة الحد الأدنى للأجور مُقَيَّماً بالدولار خلال الحرب، حيث انخفض الحد الادنى بنسبة 80% رغم الزيادات المتتالية التي أُعطِيَت ما بين عامي 1982 و1992.
الحد الأدنى للأجور مُقيَّماً بالدولار الأميركي
1982 242,8 دولارا
1983 200,4 دولار
1984 140,6 دولارا
1985 81,5 دولارا
1986 25,3 دولارا
1987 18,7 دولارا
1988 47,2 دولارا
1989 49,5 دولارا
1990 53,4 دولارا
1991 136,5 دولارا
1992 43,6 دولارا
في الخلاصة، وفيما كنت أنهي مقالي هذا، أطلّ عبر شاشة التلفزيون مجموعة شباب من بلادي ينشدون «لبنان رح يرجع». تذكرت تلك الأيام التي غنّينا فيها «راجع يتعمّر لبنان» و«رح يرجع لبنان أحلى ممّا كان»… يا ليتنا، وبينما كنا نُغَنّي بَنينا وطناً، فها نحن اليوم نترحَّم على الماضي فيما مستقبلنا تتقاذفه موجات إليوت. وحذار ثم حذار من نتائج الموجة الثالثة…
د. فادي خلف.