أزمة لبنان المالية:معركة الحكومة لإقناع «ســـيريزولا» مُعقّدة جداً.

ظهرت في الايام الماضية، ومن قلب المشهد الاسود، اشارات فيها نذرٌ من ضوء، أوحت للبعض بأنّ الانهيار السريع قد يتوقف عند حدٍ معيّن. هل توجد فعلاً بوادر تغيير يمكن التعويل عليها للقول إنّ المأساة قد تتوقّف عند المستوى الذي بلغته؟

يصعُب الادّعاء انّ التفاؤل بالإنقاذ مسموح في هذه الحقبة، حيث تبدو الحكومة اكثر من عاجزة، وتبدو المنظومة السياسية مستمرة في التفاعُل مع الصراعات والمهاترات، وكأنّه لا توجد عاصفة تضرب البلد وتهدّد باقتلاعه من جذوره.

مع ذلك، ظهرت بعض العلامات التي تحتاج الى متابعة، للتأكّد اذا ما كانت صالحة للبناء عليها، ام انّها مجرّد زوبعة في فنجان، من أبرزها ثلاثة مؤشرات:

اولاً- هبوط سريع نسبياً لسعر صرف الدولار في السوق السوداء، جرى تفسيره بحصول عرضٍ للعملة الخضراء مرتبط ببدء عودة اللبنانيين، وتراجع في الطلب مرتبط بتريّث التجار في شراء الدولار، بانتظار ضخِّه في المصارف، كما وعد حاكم مصرف لبنان.

ثانياً – تحرُّك تفاعلي بين الحكومة ومصرف لبنان من جهة، وبين الحكومة والمصارف من جهة أخرى، في محاولة لتوحيد الأرقام وتوحيد مقاربات الحلّ، وهذا هو الأهم، بحيث يمكن التوصّل الى خطة موحّدة متوافقٌ عليها بين الحكومة والمركزي والمصارف، للعودة الى التفاوض في شأنها مع صندوق النقد.

ثالثاً – وضع ملف الكهرباء على نار ساخنة، من خلال تنفيذ الوعود التي قطعها لبنان منذ سنوات ولم ينفذّها حتى الآن، لجهة تعيين مجلس ادارة وهيئة ناظمة للقطاع. وكانت الدول المانحة طالبت الحكومة اللبنانية في مؤتمر «سيدر» بمجموعة اصلاحات، تبدأ بإنجاز هذه التعيينات في الكهرباء، كبادرة حسن نية للبدء في تقديم الدعم. لكن لبنان الرسمي «قاوم» هذا الطلب، واستمر قطاع الكهرباء بلا تعيينات حتى الآن.

هل يمكن البناء على هذه الاشارات للقول إنّ المشهد المظلم قد يكون في طور التغيير، ولو البطيء نحو الأفضل؟

في الواقع، تحتاج الإشارات الثلاث الآنفة الذكر، الى تدقيق ومتابعة قبل إصدار التوقعات. في مسألة هبوط الدولار، يمكن الحديث عن تفاؤل ما، فقط في حالة وحيدة، عندما يتحوّل المنحنى (curve) من حقبة التقلّب (volatily) الى مرحلة الاستقرار النسبي. وهذا الأمر لم يحصل بعد، وقد لا يحصل قبل وضع خطة الإنقاذ على مسار التنفيذ. وبالتالي، مشهد التقلبات السريعة والحادّة صعوداً ونزولاً سيكون طاغياً في المرحلة المقبلة، بحيث يصبح الهبوط مثل الارتفاع، مؤذياً للاقتصاد وللناس.

في موضوع توحيد الارقام، توجد مرحلة من المحادثات الداخلية قبل الانتقال لعرض النتائج على صندوق النقد. وستكون هناك مرحلة تفاوض مع الصندوق على الارقام والمقاربات. لكن، ما هو مؤكّد، انّ موقف المفاوضين من قِبل الصندوق، وعلى رأسهم الارجنتيني مارتن سيريزولا (Martin Cerisola) سيكون اكثر تفهماً وليونة، في حال باشرت الحكومة في تنفيذ خطوات اصلاحية مُقنعة. ومن المعروف أنّ سيريزولا من «المتعصبين» لأولوية الاصلاحات في أي برنامج لمساعدة اقتصاديات الدول. هذا الموقف كان واضحاً في العام 2016 ابّان مهمته في الجمهورية الاسلامية الايرانية، حيث وضع تقريراً لتوصيف الوضع الاقتصادي الايراني، عقب الاتفاق النووي في 14 تموز 2015، والذي قضى برفع جزئي للعقوبات الدولية على ايران. في حينه ركّز سيريزولا على ضرورة إنجاز اصلاحات بنيوية في الاقتصاد الايراني، الذي يعاني من مكامن فساد شبيهة في بعضها بالفساد اللبناني، مثل التهرّب الضريبي، والهدر، وهيمنة فئات على جزء من المال العام. كما دعا الى الكف عن تجميل الارقام، من خلال خطوات اصطناعية، مثل خفض الفوائد من دون توفّر معطيات اقتصادية تسمح بهذا الخفض. كما طالب بتحسين وتحصين صلاحيات البنك المركزي الايراني، ليتمكّن من الاشراف على وضع النقد، وعلى عمل المصارف، التي دعا ايضاً الى إعادة هيكلتها.

وبالتالي، لا تزال المسافة بين امكانية الوصول الى أرقام موحّدة، ومن ثم الاتفاق مع الصندوق على هذه الارقام أو سواها بعد التفاوض والمساومة، طويلة وشاقة.

في موضوع الكهرباء، ورغم انّ تعيين مجلس ادارة وهيئة ناظمة خطوة اولى مهمة، وبانتظار الغد ليتبيّن ماذا سيحصل في مجلس الوزراء، إلّا أنّ العبرة تبقى في نوعية وطريقة التعيين أولاً، وفي استكمال خطة اقفال هذا الملف المفتوح على نزف مالي كبير منذ عشرات السنين، ثانياً.

لكن المشكلة تبقى في القدرة على تنفيذ الاصلاحات الضرورية لإقناع سيريزولا بالتعاون. فهل يحق لأي لبناني بأن يأمل بأنّ الحكومة ستوقف التهرّب الضريبي، وستصلح القطاع العام، وتوقف مزاريب الهدر والسرقة، وتمنع التهريب عبر المعابر الشرعية وغير الشرعية، وهي في قسم منها تحت سيطرة «حزب الله» لضرورات استراتيجية غير قابلة للمساومة وفق قناعات الحزب؟

الى كل ذلك، وفي الوقت الذي تحاول فيه الحكومة أن توحي بأنّها بدأت العمل على تمهيد الطريق لاتفاق مع صندوق النقد، يفتح الباب امام مساعدات دولية أخرى، من ضمنها ما هو مُقرّر في «سيدر»، تقوم بحركات بهلوانية وعراضات سخيفة، للإيحاء بأنّ مروحة خياراتها واسعة، ومن ضمنها ركوب قطار الشرق. والمشكلة انّ الشرق بمفهومه الواسع، قد ينتهي عند حدود سوريا وايران، حيث المساعي ناشطة لتجنيب الايرانيين والسوريين كأس المجاعة، وكل ما عدا ذلك طموح غير مبرّر.

انطوان فرح.

إنفراجات الليرة موقّتة وتحذير من تقلّبات حادّة

وهْم تراجع الدولار يصطدم بحقيقة تغييب الإصلاحات المرّة

أعطى تراجع سعر صرف الدولار في نهاية الاسبوع الفائت جرعة أمل للمواطنين. فانهيار العملة الوطنية في غضون أيام، من حوالى 4 آلاف ليرة إلى حدود 10 آلاف، رفع معدلات التضخم إلى أكثر من 500 في المئة وأعدم قدرة المستهلكين في الحصول على السلع والخدمات. ليبقى السؤال، هل يقف التراجع عند حدود 7 آلاف ليرة أو ينخفض أكثر أم يعاود الدولار ارتفاعه مطلع هذا الاسبوع؟

 

الإجابة عن هذا السؤال تتطلب معرفة السبب وراء انخفاض الدولار. فان كان التراجع ظرفياً، فهذا يعني انتظار قفزات جديدة في سعر الصرف، أما إن كان جوهرياً فهذا يعني الاستقرار تمهيداً لمزيد من الانخفاض.

 

إحتمالات تراجع الدولار

 

مع الأسف، إن تحليل تراجع الدولار بمقدار ألفي ليرة أو أكثر، يقودنا إلى احتمالين ظرفيين لا علاقة لهما بالإصلاحات. الاول موضعي يتعلق بعودة المغتربين وإمكانية ضخّهم كمية من الدولار في السوق تزيد العرض، وانتظار إجراءات مصرف لبنان لتزويد المصارف بالدولار. أما الثاني فيرتبط بـ “لعبة” امتصاص الدولار. حيث يعمد المتلاعبون، عند إحجام المواطنين عن بيع الدولار بسبب تأملهم بارتفاعه أكثر، الى اطلاق اشاعات بانخفاض سعره، الأمر الذي يدفعهم الى بيع ما يملكون لتحقيق أكبر ربح ممكن. فيرتفع العرض وينخفض سعره.

 

الاحتمال الثاني لا ينفصل، بحسب الخبير الاقتصادي باتريك مارديني عن “النمط السائد المتكرر منذ بداية الأزمة، وتحرير سعر الصرف بشكل مبطن. حيث ينخفض الدولار مطلع كل شهر ليعود ويسجل ارتفاعات قياسية جديدة بعد ايام قليلة”.

 

بروباغندا تطمينية

 

العملية هذه ترافقت مع “بروباغندا” تطمينية، وتسويق أخبار إيجابية تتعلق بتدخل مصرف لبنان بقوة في سوق الصرف، ومكافحة السوق السوداء وبدء حلحلة الازمات، وانتظار تدفق الاموال من المغتربين والسياح بعد فتح المطار. فكانت النتيجة “تشليح” الدولار من الوافدين على سعر منخفض، ليعاد بعد ايام قليلة إلى طرحها بسعر أعلى بكثير، ما يؤمن للصرافين غير الشرعيين مبالغ طائلة. ومما يسهل هذه العمليات هو “سهولة التحكم في السوق السوداء نتيجة صغر حجمها. إذ انها لا تتضمن المصارف والصرافين الشرعيين”، يقول مارديني. “وبالتالي يبقى هذا التراجع تقنيا تكتيكياً وليس جوهرياً. فالاتجاه العام هو صعودي لسبب بسيط يتلخص بعدم انتفاء أسباب صعود الدولار”.

 

الصعود مستمر

 

تعليق كل المساعدات الدولية، ورفض صندوق النقد الدولي اعطاء لبنان دولاراً واحداً قبل البدء الجدي والعملي في الإصلاحات، يدفع بالمصرف المركزي إلى طباعة الليرة اللبنانية لتأمين متطلبات الدولة المتزايدة. وطالما طباعة الليرة مستمرة فان انهيارها محتوم، ومن غير المستبعد ان تحقق ارقاماً قياسية جديدة لم تكن في الحسبان في يوم من الايام.

 

المحامي المتخصص في الشأن المصرفي عماد الخازن يرى ان “أسرع حل لوقف انهيار الليرة هو ضخ الدولارات الطازجة في الاقتصاد من بوابة المغتربين”. فانتظار تحقيق الإصلاحات يشبه ملاحقة سراب في الصحراء، وبالتالي “لا أمل امامنا لتعديل ميزان المدفوعات العاجز وتأمين الحد الأدنى من الاستقرار للعملة الوطنية الا استقطاب الحوالات المالية”، يقول الخازن.

 

مهلكة طباعة العملة

 

العجز الكبير في الميزان التجاري والذي فاق العام الماضي 17 مليار دولار يشكل الجزء الأهم من عجز ميزان المدفوعات. هذا العجز التاريخي كان يعوض في الماضي من التحويلات والاستثمارات المباشرة وتدفق الودائع إلى المصارف.

 

أما اليوم فانه حتى مع انخفاض الواردات فان الصادارت لن تستطيع تعويض الفرق بعدما أمعن القطاع العام في “شفط” الاموال لتمويل نفقاته وتحويل الاقتصاد إلى ريعي. وبالتالي فان “تراكم العجز في ميزان المدفوعات يعود الى نفقات الحكومة المرتفعة وارتفاع حجم الدين العام”، من وجهة نظر مارديني. و”ذلك بالرغم من التعمية المتمادية عن هذا الشق في تعليل أسباب العجز في ميزان المدفوعات”.

 

هذه الواقع ما زال مستمراً رغم حجم الأزمة مع فارق واحد، هو: استبدال الاستدانة لتمويل النفقات بطباعة العملة. فالعجز عن الاقتراض بعدما أعلنت الحكومة تخلفها عن دفع الديون، وتراجع الايرادات المالية بسبب الانكماش، وانخفاض مردود الضرائب والمرافق الحدودية، أفقد الدولة مداخيلها، ولم يبقَ امامها الا التمويل عبر طباعة مبالغ هائلة من الليرة، تصل شهرياً الى اكثر من 1.3 تريليون ليرة، وهو ما يؤدي الى تعمق انهيار سعر الصرف.

 

المجلس النقدي

 

أمام هذا الواقع المعقد يبرز طرح مجلس نقدي او ما يعرف بـ currency board وهو الحل الذي تحدث عنه ايضاً استاذ علم الاقتصاد في جامعة جون هوبكنز ستيف هانكي. هذا الطرح يعني عملياً طباعة ليرة لبنانية بمقدار تغطيتها بالدولار. فاذا دخل الى لبنان سنويا 10 مليارات دولار على سبيل المثال، نطبع مقابلها 15 ألف مليار ليرة، في حال كان سعر الصرف 1500. أو نطبع كمية أكبر أو أقل في حال تغير سعر الصرف. “هذه الطريقة لا تحد من التضخم فحسب، انما تفرض على الحكومة البدء بالإصلاحات الجوهرية، وتحديداً في القطاع العام المتضخم، لانها ببساطة لن تعود تستطيع طباعة المال من أجل تمويل النفقات”، يقول مارديني.

 

صحيح ان اتّكال الحكومة اليوم على طباعة العملة يؤمن تمويل نفقاتها المرتفعة ودفع الرواتب والاجور، انما يؤدي من الجهة الى الأخرى الى فقدان القيمة الشرائية. وهذا ما بدا أخيراً بشكل واضح من خلال وصول الحد الادنى للأجور الى 65 دولاراً، ورواتب كبار الموظفين الى أقل من 600 دولار.

 

الاستمرار بهذا النهج بعيداً من الإصلاح وعدم التوصل الى جرعة مساعدات فورية من صندوق النقد الدولي، سيفاقم المشكلة ويدفع الى فقدان الظروف الاستثنائية جدواها وفشل آليات دعم مصرف لبنان. وبالتالي يؤدي الى انخفاض الليرة اللبنانية وتآكل القيمة الشرائية كل يوم أكثر من الذي سبقه.​

خالد ابو شقرا.