يبدو إننا دخلنا في واحدة من أصعب فترات الإضطراب في العملة، وحيث يبدو وفي كثير من الأوجه، اننا أشبه بفنزويلا والأرجنتين، وقد يكون من أهم الأسباب عجز دائم في ميزان المدفوعات وعدم قدرة البنك المركزي على التدخّل في سعر الصرف، من أجل إبقائه ضمن معدلات مقبولة.
من المعروف في الاقتصاد، انّ أموراً ثلاثة لا يمكنها أن تتواجد في الوقت نفسه: سعر صرف ثابت – حرّية إنتقال الأموال وسياسة مالية. ولطالما إستفدنا في السنوات الثلاثين الماضية من سعر صرف ثابت، وتمتّعنا بحرّية إنتقال الأموال، ما يعني إننا وللأسف لم يكن لدينا سياسة مالية. وكان همّ البنك المركزي الوحيد تثبيت سعر صرف العملة، دون الأخذ في الأعتبار أي شيء آخر.
ولكن، وعلى ما يبدو الآن، أصبحنا في أزمة عملة، حيث نلاحظ التراجع المخيف في سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار، علماً أنّ البنك المركزي أستنفد قدرته على التدخّل- أو أنه لا يريد- لإنقاذ ما تبقّى من الليرة. وعكس ما ندرسه في مادة الاقتصاد، ما زال البنك المركزي يطبع العملة، الأمر الذي يساهم الى حدٍ بعيد في زيادة التضخم الذي فاق كل التوقعات وتراجعت معه القدرة الشرائية، وبات أكثر من 50 بالمائة من الشعب اللبناني في حالة اقتصادية مزرية.
من الواضح هنا، وجود تواطؤ بين السياسيين والمصارف والمركزي، ولا أحد يعلم ما هي رهاناتهم، والأكيد دخلنا في المجهول، وما يُنشر عن تدهور سعر الصرف الى مستويات مخيفة، منطقي، كون الدولة عاجزة عن فعل أي شيء، وما زالوا مختلفين على جنس الملائكة، وما إذا كانت الشركات تتعاطى مع إسرائيل، أو تبيان ما إذا كانت ميول صندوق النقد الدولي أميركية بإمتياز.
وإذا ما قارنا وضعيتنا ببعض الدول مثل فنزويلا والأرجنتين والبرازبل وتركيا، نرى أننا قد نكون أشبه في وضعيتنا الحالية الى الأرجنتين، لا سيما من ناحية زيادة مخاطر الاقتراض السيادي وتراجع البيزو مقابل الدولار، في فترة لا تتعدى الـ8 أشهر، الأمر الذي أدّى الى زيادة التضخم وإرتفاع مخيف لأسعار الفوائد – ومع فارقين مهمين: لا يمكننا رفع أسعار الفوائد مع إنهيار القطاع المصرفي، ولم نحصل على رزمة المساعدات التي حصلت عليها الأرجنتين، وبلغت 50 مليار دولار في حزيران الماضي، وهي أكبر رزمة مساعدات يقدّمها صندوق النقد الدولي في تاريخه.
هذا وقد تصبح عملتنا مثل البيزو غير محصّنة، إلا إذا أستطاعت الدولة إعادة هيكلة ماليتها العامة ودفع مستحقاتها من «اليوروبوند» وغيرها. أما بالنسبة للمستثمرين الأجانب، فلا يمكننا إدخالهم في أية معادلة، لا سيما وأنّ ما يحدث في القطاع المصرفي هو سرقة منظمة لأموال المودعين من لبنانيين ومغتربين، مما يعني إنعدام الثقة مع قطاع كان يشكّل العمود الفقري للاقتصاد اللبناني، كون المغتربين غير مستعدين لإرسال أموالهم الى بلد مسروق منهوب لا ثقة بقادته ولا بحكومته ولابسياسييه ولا بمصارفه. وعادة ما تتعلم الدول من التاريخ ومن خبراتها او خبرات غيرها من الدول. وإذا ما عدنا الى العام 1990 نرى أنّ الأرجنتين اعتمدت ولغاية العام 2001 مجلس النقد، وهذا ساعدها كثيراً في الخروج من أزمتها المالية السابقة. وبإعتراف الجميع، إنّ وقف العمل بمجلس النقد، ساهم الى حدٍ بعيد في إعادة الأرجنتين الى الوراء، لا سيما وانّ التخلّي عنه جاء طوعياً في خضم أزمة مصرفية خانقة، وقد تكون هذه الفكرة سيئة للغاية.
في الواقع، قد تكون أفضل طريقة لتحاشي أزمة عملة هي سياسة مالية حكيمة للبنك المركزي، حيث يلجم التدخّل في سعر الصرف ويبقي طبع العملة في أدنى مستوياته، ويبدو انّ البنك المركزي اختار عكس ذلك تماماً، أي انّه ما زال يطبع العملة، الأمر الذي ساهم الى حدٍ بعيد في سرعة انهيارها.
قد يكون الحل على المستوى الطويل المدى تشكيل مجلس للنقد، اذ في مقدوره، أن يُلزم الدولة بتحسين ميزان مدفوعاتها، لا سيما وانّه في هذه الوضعية لا يمكنها الاستدانة من البنك المركزي.
هكذا تبقى الأرجنتين خير مثال للدولة اللبنانية، علماً انّ اقتصاد الأرجنتين منتج، إنما يعاني من الفساد المستشري. وبالمختصر، دول عدة شهدت تراجعاً كبيراً في سعر صرف عملتها مقابل الدولار، والحل يكون عبر الاصلاحات، لا سيما تخفيف العجز في الميزان التجاري وميزان المدفوعات ووقف الهدر، من خلال جملة اصلاحات تبدأ البارحة قبل اليوم، وأن يترافق ذلك مع وقف النزف الحاصل عبر طباعة العملة الوطنية.
الدروس كثيرة، وما علينا سوى أخذ العِبَر. وبإنتظار الاصلاح، وما سوف يحدث، يُعتبر لبنان دولة منهارة مفلسة، تتحكّم بمفاصلها حكومة ما زالت تفتش عن الحلول، وتقوم برهانات خاطئة غير مستوفية للحد الأدنى من الشروط الاقتصادية المطلوبة.
بروفسور غريتا صعب.