إنفراجات الليرة موقّتة وتحذير من تقلّبات حادّة

وهْم تراجع الدولار يصطدم بحقيقة تغييب الإصلاحات المرّة

أعطى تراجع سعر صرف الدولار في نهاية الاسبوع الفائت جرعة أمل للمواطنين. فانهيار العملة الوطنية في غضون أيام، من حوالى 4 آلاف ليرة إلى حدود 10 آلاف، رفع معدلات التضخم إلى أكثر من 500 في المئة وأعدم قدرة المستهلكين في الحصول على السلع والخدمات. ليبقى السؤال، هل يقف التراجع عند حدود 7 آلاف ليرة أو ينخفض أكثر أم يعاود الدولار ارتفاعه مطلع هذا الاسبوع؟

 

الإجابة عن هذا السؤال تتطلب معرفة السبب وراء انخفاض الدولار. فان كان التراجع ظرفياً، فهذا يعني انتظار قفزات جديدة في سعر الصرف، أما إن كان جوهرياً فهذا يعني الاستقرار تمهيداً لمزيد من الانخفاض.

 

إحتمالات تراجع الدولار

 

مع الأسف، إن تحليل تراجع الدولار بمقدار ألفي ليرة أو أكثر، يقودنا إلى احتمالين ظرفيين لا علاقة لهما بالإصلاحات. الاول موضعي يتعلق بعودة المغتربين وإمكانية ضخّهم كمية من الدولار في السوق تزيد العرض، وانتظار إجراءات مصرف لبنان لتزويد المصارف بالدولار. أما الثاني فيرتبط بـ “لعبة” امتصاص الدولار. حيث يعمد المتلاعبون، عند إحجام المواطنين عن بيع الدولار بسبب تأملهم بارتفاعه أكثر، الى اطلاق اشاعات بانخفاض سعره، الأمر الذي يدفعهم الى بيع ما يملكون لتحقيق أكبر ربح ممكن. فيرتفع العرض وينخفض سعره.

 

الاحتمال الثاني لا ينفصل، بحسب الخبير الاقتصادي باتريك مارديني عن “النمط السائد المتكرر منذ بداية الأزمة، وتحرير سعر الصرف بشكل مبطن. حيث ينخفض الدولار مطلع كل شهر ليعود ويسجل ارتفاعات قياسية جديدة بعد ايام قليلة”.

 

بروباغندا تطمينية

 

العملية هذه ترافقت مع “بروباغندا” تطمينية، وتسويق أخبار إيجابية تتعلق بتدخل مصرف لبنان بقوة في سوق الصرف، ومكافحة السوق السوداء وبدء حلحلة الازمات، وانتظار تدفق الاموال من المغتربين والسياح بعد فتح المطار. فكانت النتيجة “تشليح” الدولار من الوافدين على سعر منخفض، ليعاد بعد ايام قليلة إلى طرحها بسعر أعلى بكثير، ما يؤمن للصرافين غير الشرعيين مبالغ طائلة. ومما يسهل هذه العمليات هو “سهولة التحكم في السوق السوداء نتيجة صغر حجمها. إذ انها لا تتضمن المصارف والصرافين الشرعيين”، يقول مارديني. “وبالتالي يبقى هذا التراجع تقنيا تكتيكياً وليس جوهرياً. فالاتجاه العام هو صعودي لسبب بسيط يتلخص بعدم انتفاء أسباب صعود الدولار”.

 

الصعود مستمر

 

تعليق كل المساعدات الدولية، ورفض صندوق النقد الدولي اعطاء لبنان دولاراً واحداً قبل البدء الجدي والعملي في الإصلاحات، يدفع بالمصرف المركزي إلى طباعة الليرة اللبنانية لتأمين متطلبات الدولة المتزايدة. وطالما طباعة الليرة مستمرة فان انهيارها محتوم، ومن غير المستبعد ان تحقق ارقاماً قياسية جديدة لم تكن في الحسبان في يوم من الايام.

 

المحامي المتخصص في الشأن المصرفي عماد الخازن يرى ان “أسرع حل لوقف انهيار الليرة هو ضخ الدولارات الطازجة في الاقتصاد من بوابة المغتربين”. فانتظار تحقيق الإصلاحات يشبه ملاحقة سراب في الصحراء، وبالتالي “لا أمل امامنا لتعديل ميزان المدفوعات العاجز وتأمين الحد الأدنى من الاستقرار للعملة الوطنية الا استقطاب الحوالات المالية”، يقول الخازن.

 

مهلكة طباعة العملة

 

العجز الكبير في الميزان التجاري والذي فاق العام الماضي 17 مليار دولار يشكل الجزء الأهم من عجز ميزان المدفوعات. هذا العجز التاريخي كان يعوض في الماضي من التحويلات والاستثمارات المباشرة وتدفق الودائع إلى المصارف.

 

أما اليوم فانه حتى مع انخفاض الواردات فان الصادارت لن تستطيع تعويض الفرق بعدما أمعن القطاع العام في “شفط” الاموال لتمويل نفقاته وتحويل الاقتصاد إلى ريعي. وبالتالي فان “تراكم العجز في ميزان المدفوعات يعود الى نفقات الحكومة المرتفعة وارتفاع حجم الدين العام”، من وجهة نظر مارديني. و”ذلك بالرغم من التعمية المتمادية عن هذا الشق في تعليل أسباب العجز في ميزان المدفوعات”.

 

هذه الواقع ما زال مستمراً رغم حجم الأزمة مع فارق واحد، هو: استبدال الاستدانة لتمويل النفقات بطباعة العملة. فالعجز عن الاقتراض بعدما أعلنت الحكومة تخلفها عن دفع الديون، وتراجع الايرادات المالية بسبب الانكماش، وانخفاض مردود الضرائب والمرافق الحدودية، أفقد الدولة مداخيلها، ولم يبقَ امامها الا التمويل عبر طباعة مبالغ هائلة من الليرة، تصل شهرياً الى اكثر من 1.3 تريليون ليرة، وهو ما يؤدي الى تعمق انهيار سعر الصرف.

 

المجلس النقدي

 

أمام هذا الواقع المعقد يبرز طرح مجلس نقدي او ما يعرف بـ currency board وهو الحل الذي تحدث عنه ايضاً استاذ علم الاقتصاد في جامعة جون هوبكنز ستيف هانكي. هذا الطرح يعني عملياً طباعة ليرة لبنانية بمقدار تغطيتها بالدولار. فاذا دخل الى لبنان سنويا 10 مليارات دولار على سبيل المثال، نطبع مقابلها 15 ألف مليار ليرة، في حال كان سعر الصرف 1500. أو نطبع كمية أكبر أو أقل في حال تغير سعر الصرف. “هذه الطريقة لا تحد من التضخم فحسب، انما تفرض على الحكومة البدء بالإصلاحات الجوهرية، وتحديداً في القطاع العام المتضخم، لانها ببساطة لن تعود تستطيع طباعة المال من أجل تمويل النفقات”، يقول مارديني.

 

صحيح ان اتّكال الحكومة اليوم على طباعة العملة يؤمن تمويل نفقاتها المرتفعة ودفع الرواتب والاجور، انما يؤدي من الجهة الى الأخرى الى فقدان القيمة الشرائية. وهذا ما بدا أخيراً بشكل واضح من خلال وصول الحد الادنى للأجور الى 65 دولاراً، ورواتب كبار الموظفين الى أقل من 600 دولار.

 

الاستمرار بهذا النهج بعيداً من الإصلاح وعدم التوصل الى جرعة مساعدات فورية من صندوق النقد الدولي، سيفاقم المشكلة ويدفع الى فقدان الظروف الاستثنائية جدواها وفشل آليات دعم مصرف لبنان. وبالتالي يؤدي الى انخفاض الليرة اللبنانية وتآكل القيمة الشرائية كل يوم أكثر من الذي سبقه.​

خالد ابو شقرا.

عن قيادة الاقتصاد ومؤشرات الأزمة والمرايا المضللة

تقود سيارتك وتطالع لوحة القيادة والتحكم فتفاجأ بأن كل مؤشر يُفترض ارتفاعه في نقصان، وكل دليل يجب الحرص على انخفاضه في ازدياد. هذا هو وضع الاقتصاد العالمي بعد جائحة كورونا: فالنمو الذي كان يتباكى مقدروه على انخفاضه في أول العام لأنه سيقل عن 3 في المائة، لن يقل تراجعه عن 8 نقاط مئوية عما كان مقدراً له ليصل إلى سالب 5 في المائة، وفقاً لأفضل تقدير من المؤسسات الدولية الثلاث التي تحدث تقديراتها بانتظام وهي صندوق النقد الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية والبنك الدولي. وقد خفضت كل هذه المؤسسات تقديراتها في شهر يونيو (حزيران) عما قدرته منذ أسابيع معدودة في شهر أبريل (نيسان). وتشير منظمة العمل الدولية إلى خسارة سوق العمل لما يعادل 300 مليون فرصة عمل حول العالم، من العمالة المنتظمة، وهو أكثر بخمس عشرة مرة لخسائر البطالة عما سببته الأزمة المالية العالمية.
وقدرت منظمة التجارة العالمية تراجع التجارة العالمية بما قد يتجاوز 30 في المائة عما كانت عليه في العام الماضي. وذهبت منظمة الأنكتاد التابعة للأمم المتحدة إلى أن الاستثمار الأجنبي المباشر سينخفض بنسبة لن تقل عن 40 في المائة ليقل رقمه عن تريليون دولار لينحدر لما كان عليه منذ خمسة عشر عاماً في عام 2005. وفي هذه الأثناء تتراجع تحويلات العاملين بالخارج بأكثر من 20 في المائة مقارنة بالعام الماضي. أي أنه لم تسلم قناة من القنوات الثلاث للعولمة الاقتصادية، المتمثلة في التجارة والاستثمار وعوائد هجرة العمالة من ضرر بالغ.
وفي ظل هذه الأوضاع تتزايد أرقام الفقر المدقع ليضاف إلى من يعانون منه ما يقدر بحوالي 70 مليونا و100 مليون إنسان، وفقاً لتقديرات البنك الدولي، بما يجعل الرقم الكلي للفقراء وفقاً لهذا المعيار يقترب من مليار إنسان. ويحذر برنامج الغذاء العالمي في الوقت نفسه من تفاقم مشكلة شح موارد الغذاء لتطول 265 مليون من البشر.
وفي هذه الأثناء تطالعك أرقام البورصات المالية العالمية وهي في ارتفاع متراقص غير مبالية بركود أو بتهديد بكساد، فتعوض خسائر شهري فبراير (شباط) ومارس التي تكبدتها مع أنباء الوباء، وتتجاوزها ارتفاعاً. وفي حين يرى البعض أن مستثمري البورصات يرون في المستقبل ما لا يرى عموم الناس، فالواقع يدل على أن مرتادي شارع وول ستريت، حيث تقع بورصة نيويورك، قد انفصلوا عن شوارع أسواق الاقتصاد الحقيقي المصدومة، طلباً وعرضاً، والمواجهة لضغوط إعادة جدولة المديونيات والصلح الواقي من الإفلاس، لمن لم يفلس بالفعل، إذ لم يكونوا من المشمولين بحزم الدعم المعلنة.
فلا توجد هناك أدلة دامغة على أن البورصة مرآة للاقتصاد الحقيقي حتى في الأحوال العادية بعيداً عن الأزمات. فالبورصة سوق لتداول الأوراق المالية ومجال للاستثمار وللتمويل، وكذلك التوسع والتخارج لشركات مسجلة. وفي حالة البورصات العالمية قد تكون الشركات غير متواجدة أصلاً في الاقتصاد الحقيقي للدولة، أو أن أغلب نشاطها خارجها مثل حالة الشركات الأجنبية المسجلة في بورصتي لندن ووول ستريت. كما أن هناك أنشطة اقتصادية هادفة للربح غير ممثلة في البورصات. وفي الدول النامية ينشط القطاع غير الرسمي في الاقتصاد لا علاقة بينه وبين البورصات فهو غائب عن أي سجل معتمد أو تعداد.
فالقول إذن بأن البورصة مرآة للاقتصاد ومؤشراتها تعبر عن أدائه الكلي لا يستند إلى دليل إلا إذا أخذنا في الاعتبار أن من المرايا أنواعا غير مستوية مقعرة ومحدبة، وهناك أخرى مكسورة ومشوهة. وتظل العلاقة بين الشارع المالي والشارع الاقتصادي أكثر تعقيداً واختلافاً عما يصوره أصحاب المرايا. فما يجب أن تعكسه البورصات هو أداء الشركات المسجلة وتوقعات نشاطها وهذا هو المطلوب من مؤشراتها؛ لكن في الأزمة العالمية الحالية تضطرب المعايير، خاصة مع وجود تمويل رخيص متاح لبعض المستثمرين وضخ غير مسبوق للنقد من البنوك المركزية التي مدد أكبرها قوائمها لتشتري أصولاً تجاوزت 6 تريليونات دولار بما في ذلك من أصول مالية عالية المخاطرة. ويتزايد مع التمويل الرخيص نشاط المقامرين، وليس المضاربين فقط، وأنماط شرحتها، في مقال سابق في هذه الصحيفة الغراء، عن «بونزي وشركائه» ونماذج التمويل الهرمي يفوز فيها من يدخل السوق ويخرج منها مبكراً قبل موجات الانخفاض الحاد أو انفجار الفقاعات المالية مثلما حدث مراراً من قبل في أزمات مالية سابقة. لكن ذاكرة الأسواق تتبدد مع سيطرة سلوكيات الأزمة بين جشع لمحترف قديم وطمع لمستجد غشيم.
والواجب هو الدفع بتطوير سوق المال بالعمل على تنويع محافظ شركاتها المدرجة مع تدعيم الرقابة وإتاحة المعلومات المدققة عن أوراقها المتداولة وتبصير المستثمرين بالمخاطر والعوائد، وحبذا لو اتخذت هذه الإجراءات قبل وقوع الأزمة لا أن تأتي في شكل عظات بعد اندلاعها.
أما الاقتصاد الحقيقي فله محدداته ومؤشراته التي ظهر مدى تأثرها بالأزمة ولا تحسن لها إلا باستكمال إجراءات التصدي لأزمة الوباء الصحية وتداعياتها الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية:
وفي هذا أميز بين ستة مجالات للسياسات العامة وتنفيذها بالمشاركة مع قطاع الأعمال والمجتمع المدني:
أولاً، اتخاذ تدابير التعايش مع فيروس كورونا وتكاليف توفير وسائل الوقاية وتدابير التباعد الاجتماعي وتوفير العلاج ومستلزماته، خاصة مع غياب وجود لقاح ضد الفيروس.
ثانياً، مكافحة الركود ومنع تحوله لكساد من خلال الإنفاق الاستثماري في تطوير رأس المال البشري من خلال الرعاية الصحية والتعليم، وتدعيم البنية الأساسية والتكنولوجية، الاستثمار في التوقي من آثار تغيرات المناخ وتمتين قدرة المجتمع على احتواء الصدمات؛ ولا يوجد تناقض بين هذه الاستثمارات وأولوياتها فهي متكاملة يمسك بعضها من أجل التنمية بعضاً.
ثالثا، التصدي لمشكلات زيادة الديون خاصة في شقها الخارجي قبل تحولها لأزمة كتلك التي شهدتها بلدان أميركا اللاتينية في الثمانينات وجنوب شرقي آسيا في أواخر التسعينيات.
رابعاً، تبني التحول الرقمي وتكنولوجيا المعلومات وتطبيقاتها كأسلوب حياة وإنتاج وتطور وليس مجرد قطاع منفصل.
خامساً، توطين التنمية المستدامة بدفع الاستثمارات المحلية في أركان اقتصاد الدولة بدأ من الأقل دخلاً ورفاهاً.
سادساً، التعامل المتوازن بين أدوار مؤسسات الدولة الحكومية والخاصة وتلك المرتبطة بالمجتمع، فلكل مجاله وشأنه لا يجب الافتئات عليه، مع ضرورة مواكبة القواعد الرقابية لمستلزمات العصر وشدة تغير معطياته.
وعلى صناع السياسات في المجالات الستة المذكورة مراعاة تأثر إجراءاتها وكفاءة تطبيقها بفعل عاملين من عوامل أزمة الجائحة يدفعان بعضهما دفعاً. فبعدما جاءت الأزمة كاشفة لمواطن القوة والوهن في الاقتصاد والمجتمع ومؤسسات الدولة، ترى العامل الأول كمعجل لحدوث ما كان ينتظر وقوعه في سنوات فيصير حدوثه في أشهر معدودة. أما العامل الثاني فيرجع لتأثير القصور الذاتي يدفع الأمور لمسارها القديم، ويتصدى للتغيير كأن أزمة لم تقع. ويدفع العاملان بعضهما بعضاً حتى يصير الأمر لواقع جديد في عالم شديد التغير.

د. محمود محي الدين.

لاغارد: أزمة كورونا ستؤدي إلى تحوّلات اقتصادية عميقة

اعتبرت رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاغارد أنّ الأزمة الاقتصادية التي تسبب بها تفشي وباء كوفيد-19 ستدخل “تحوّلات عميقة” في الاقتصاد العالمي، لافتة في الوقت نفسه إلى أنّ أوروبا تتمتع بـ”وضع ممتاز”.
ورأت لاغارد خلال مشاركتها عبر الفيديو في اللقاءات الاقتصادية لايكس-اون-سين في باريس، أنّ هذه الأزمة ستؤدي إلى “تسريع التحولات التي كانت كامنة في اقتصاداتنا”.
وأضافت أنّه على مستوى “التصنيع، العمل، التجارة، فإنّ ما نعيشه سيسرّع التحولات وسيقود ربما نحو أسلوب حياة أكثر قابلية للاستمرار وأكثر مراعاة للبيئة”.
ورأت أنّ العمل من بعد من شأنه أن “يغيّر أساليب العمل لجميع العاملين”، على  الأقل في البلدان المتقدمة، و”تسريع اللجوء إلى الأنظمة الرقمية على مستوى قطاع الخدمات أو إلى التشغيل الآلي للمصانع”.
وقالت لاغارد “نقدّر حاليا أن تسفر الأزمة عن انكماش على مستوى سلاسل الإمداد  بنسبة 35% وزيادة التعويل على الروبوتات في المصانع بنسبة 70 إلى 75%”.
وأبدت رئيسة البنك المركزي الأوروبي اعتقادها أن يتسارع هذا المسار “على حساب  التجارة الأكثر تقليديةً”.

أميركا والصين وإنعاش الاقتصاد العالمي

تزيد جائحة وباء كورونا المستجد من كثافة الاتجاهات الأكثر تدميراً في التجارة العالمية. ولقد أفسح مجال دعم التجارة الحرة الأجواء للحديث عن الانفصال التجاري والانفكاك عن العولمة. وذلك في ظل تصاعد المواجهات التجارية – وغيرها – ما بين الولايات المتحدة والصين، فضلاً عن كثافة الدعوات المنادية بالحمائية وإعادة توطين سلاسل التوريد العاملة في الخارج. ولم تعد محاولات دمج البلدان التي تملك الأنظمة الاقتصادية أو الآيديولوجيات الفكرية من الأمور المرغوب فيها، وإن حتى الممكنة على أي صعيد يُذكر.
ومن شأن محاولات عكس تلك التوجهات أن تستلزم اتخاذ إجراءات مصيرية كبيرة. فمن شأن قرار واحد أن يحدث فارقاً حقيقياً، وذلك بالنسبة إلى الصين من حيث الانضمام إلى معاهدة التجارة الكبرى في المحيط الهادئ، التي تصدرت الولايات المتحدة زعامتها في حين، ثم تخلت تماماً عنها في حين آخر.
وقبل عام ونصف العام من الآن، دخلت «معاهدة الشراكة التقدمية والشاملة عبر المحيط الهادئ» – وهي المعاهدة التي ورثت «اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ» الأكثر اختصاراً قبلها – إلى حيز التنفيذ الفعلي. ووصفت حينذاك بأنها الاتفاقية التجارية من «الجيل الثاني»، وذلك من أجل اعتمادها للمعايير العالية وتركيزها بالأساس على القطاعات التجارية والاقتصادية الناشئة. وتغطي تلك المعاهدة 11 دولة، وما يقرب من نصف مليار نسمة، وأكثر من 13 تريليون دولار من الناتج المحلي الإجمالي لكل تلك الدول الأعضاء.
ويُشهد للاتفاقية قدرتها على استيعاب النظم الاقتصادية والأنظمة السياسية المختلفة للغاية. وتضم بين دولها الأعضاء والبلدان الديمقراطية الصناعية الغربية، على غرار كندا وأستراليا، فضلاً عن الأسواق الاقتصادية الناشئة في قارتي أميركا اللاتينية وآسيا، مع دولة فيتنام الاشتراكية.
وفي الوقت المفعم بالكثير من التحديات غير المسبوقة على صعيد التجارة العالمية، تمهد التزامات «معاهدة الشراكة التقدمية والشاملة عبر المحيط الهادئ» العميقة والمتشابكة الأجواء لتعزيز النمو الاقتصادي والإقلال من حالة عدم اليقين الراهنة. ولقد أبدت العديد من البلدان اهتمامها بالانضمام إلى تلك المعاهدة. كما شكلت تايلند لجنة معنية بتقدير ما إذا كان ينبغي على الحكومة السعي وراء الانضمام إلى تلك المعاهدة من عدمه. ومن شأن المملكة المتحدة أن تشرع في وقت قريب في مفاوضات تجارية ثنائية مع اليابان، وهي التي تعدها حكومة رئيس الوزراء بوريس جونسون بمثابة دفعة انطلاق إلى الأمام على مسار الانضمام إلى «معاهدة الشراكة التقدمية والشاملة عبر المحيط الهادئ».
ومع نهاية مايو (أيار) الماضي، كان السيد لي كي تشيانغ – رئيس مجلس الدولة الصيني – قد اقترح على حكومة بلاده التفكير في الانضمام إلى «معاهدة الشراكة التقدمية والشاملة عبر المحيط الهادئ». وما يزال ذلك المقترح يكتسب المزيد من الزخم عبر العديد من المناقشات والمداولات في دوائر صناعة القرار السياسي في الحكومة الصينية.
وهناك عقبتان واضحتان على طريق حصول الحكومة الصينية على عضوية تلك المعاهدة: أولاً، أن النظام الاقتصادي في الصين لا يتسق مع معايير العضوية المقررة للانضمام إلى المعاهدة. على سبيل المثال، لا بد من تحديث، وربما تعديل، اللوائح الصينية ذات الصلة بالدعم المادي للشركات والمؤسسات المملوكة للحكومة الصينية، فضلاً عن مراجعة القيود المفروضة على نقل البيانات عبر الحدود الدولية.
ومع ذلك، تقترب الإصلاحات الحكومية المحلية في الصين مع «المرحلة الأولى» من الصفقة التجارية مع الولايات المتحدة من جبر هذه الفجوة. وعلى مدار السنوات الثلاث الماضية، تسارعت الجهود الصينية على مسار تحسين البيئة الداخلية لصالح الاستثمارات الأجنبية. وتشتمل هذه الجهود على سن قانون جديد معني بالاستثمارات الأجنبية في البلاد، فضلاً عن فتح الأسواق المحلية أمام الخدمات المالية والصناعات التحويلية، وكذلك توفير الحماية القوية للملكية الفكرية في البلاد.
ويمكن انتظار المزيد من هذه الإصلاحات الهيكلية في الصين. إذ أعلنت الحكومة الصينية في الآونة الأخيرة عن تعهدها بتقليص القائمة السلبية، التي تضم القطاعات المغلقة من الاقتصاد الوطني في وجه الاستثمارات الأجنبية بصورة أكبر، مع تفكيك الحواجز غير الرسمية القائمة أمام وصول مثل هذه الاستثمارات إلى البلاد. وفي الثاني من يونيو (حزيران) الجاري، جرى نشر خطة صينية جديدة بهدف بناء أكبر ميناء للتجارة الحرة في قارة آسيا، وذلك على جزيرة «هاينان»، الأمر الذي سوف يكون بمثابة اختبار حقيقي للتحرر الاقتصادي المزمع في الصين. وتأتي هذه الخطوة في أعقاب إصدار المخطط الاقتصادي الجديد الذي يشمل اتخاذ التدابير الموسعة المؤيدة للأسواق مع إصلاح الشركات والمؤسسات الوطنية المملوكة للدولة.
وبطبيعة الحال، ينبغي ترجمة تلك الأقوال إلى أفعال في أرض الواقع.
لكن، ومع انسحاب الحكومة الأميركية من المعاهدة، تراجعت مثل تلك المزاعم إلى زاوية النسيان. ولكن ينبغي علينا إمعان النظر في أمر مهم: من شأن قواعد «معاهدة الشراكة التقدمية والشاملة عبر المحيط الهادئ» تحفيز الحكومة الصينية على اتخاذ وتنفيذ العديد من الإصلاحات الهيكلية الداخلية التي طالما طالب بها المسؤولون الأميركيون من قبل الانسحاب، وذلك مثل إخضاع الشركات والمؤسسات المملوكة للحكومة الصينية إلى القواعد الحاكمة لانضباط السوق مع تحسين لوائح حماية الملكية الفكرية. ومن شأن الانضمام إلى تلك المعاهدة أن يعزز من مواقف أنصار الإصلاح الاقتصادي داخل الصين، والذين يمكنهم المجادلة بأن التعديلات والتغييرات التي يطلبها ميثاق المعاهدة تتسق مع أهداف التنمية الوطنية في الصين، بما في ذلك الابتكار ثم الكفاءة، وحتى حماية البيئة.
ذلك، ومن شأن انضمام الحكومة الصينية إلى «معاهدة الشراكة التقدمية والشاملة عبر المحيط الهادئ» أن يفيد الدول الأعضاء كما يفيد الاقتصاد العالمي بنطاقه الأوسع؛ إذ سوف تنضم إليه السوق الاستهلاكية الأضخم على مستوى العالم التي فقد مثيلتها مع انسحاب الحكومة الأميركية من المعاهدة قبلا. وفي ظل الوجود الصيني، من شأن المعاهدة أن تغطي أكثر من 28 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. ومن شأن ذلك أن يزيد بمقدار أربعة أضعاف المكاسب العالمية المحققة من وراء المعاهدة إلى 632 مليار دولار، وذلك وفقاً للتوقعات الصادرة عن معهد بيترسون للاقتصاد الدولي. ومن شأن الانضمام الصيني أن يجلب المزيد من الاقتصادات الإقليمية تحت مظلة مجموعة رسمية من القواعد المعتبرة المدفوعة بتوافق العديد من الأطراف، الأمر الذي يدعم ويؤيد النمو الاقتصادي والاستقرار السياسي.
أما بالنسبة إلى الصين، فإن المكاسب المحققة هي على القدر نفسه من الوضوح. فمن شأن الانضمام إلى «معاهدة الشراكة التقدمية والشاملة عبر المحيط الهادئ» أن يتيح للشركات الصينية مقدرة الوصول الأكبر إلى الأسواق الواسعة ذات الدينامية العالية.
ومن شأن الانضمام للمعاهدة أيضاً أن يعزز من الدور الاقتصادي الصيني في قلب قارة آسيا في الوقت الذي تشهد فيه الأوضاع الاقتصادية للمنطقة تغيرات كبيرة ومتسارعة.
وعلى المدى الطويل، من شأن «معاهدة الشراكة التقدمية والشاملة عبر المحيط الهادئ» الموسعة تهيئة الأجواء لإجراء إصلاحات مطلوبة في منظمة التجارة العالمية، وإعادة ضبط مسار أجندة الأعمال التجارة الحرة على مستوى العالم.

وانغ هوياو.