ثلاثية الضغوط على المصرف المركزي: صدقية السياسة النقدية على محك تمويل المالية

طالما أنّ علم الإقتصاد يربط مفهوم الصدقية للمصرف المركزي بمدى إستقلالية سياسته النقدية عن السياسة المالية للدولة، فمن المنطق أن يكون ضرب الصدقية واهتزاز الثقة متصلين تحديداً بمدى الترابط بين السياستين، أي بمدى اعتماد الدولة على تأمين تمويلها من المصرف المركزي، خصوصاً في ظلّ استمرار عجزها المالي في غياب الاصلاحات لضبطه، كما ضعف الأفق في تحسّن الإيرادات الضريبية وضعف القدرة على استقطاب المكتتبين بسنداتها الجديدة. كيف تدرّج وضع صدقية المصرف المركزي في لبنان، وسط ثلاثية الضغوط بين الدين العام الناتج من تراكم العجز المالي والدولرة، و22 سنة من ربط سعر صرف العملة الوطنية بالدولار، المستعمل بالتوازي معها في السوق المحلي؟ إشكالية الخلل تدرّجت منذ الأزمة النقدية في الثمانينات مروراً بمرحلة التثبيت وصولاً الى تزايد الأعباء حتى الانفجار..ولا مخرج من أزمة قبل تحديد مكامن الخلل..

من المعروف أنّ ذكرى الفترة التضخمية وانهيار سعر الصرف في الثمانينات شكّلا أساس خيارات مصرف لبنان، من حيث سياسة الاستقرار النقدي وتثبيت سعر الصرف، التي انتُهجت بين عامي 1997 و 2019. وقد أظهرت مختلف الدراسات، أنّ المكمن الرئيسي لأزمة الثمانينات كان على وجه التحديد التمويل النقدي لعجز الموازنة، من خلال التسليفات المباشرة من مصرف لبنان إلى الخزانة. في المرحلة الأولى، كانت فترة التمويل عن طريق التسليفات المباشرة من مصرف لبنان إلى الخزانة، أي طبع النقد، وكان النهج النظري، الذي جعل من الممكن تفسير هذه الأزمة هو «التضخم المفرط والمفاجئ» الناتج من التمويل النقدي لعجز ميزانية الدولة تحت – ضغوطات الحكومة المعروفة بمشكلة «التضارب الزمني» التي قدّمها كيدلاند وبريسكوت [1977] وبارو وجوردون [1983].

 

مع تطور الدين العام، أصبحت السياسة الأنسب للسلطة النقدية اللبنانية مرتكزة على الأسلوب الكلاسيكي الجديد Sargent and Wallace [1981]. وقد أبرز هؤلاء المؤلفون، أنّه حتى لو كان البنك المركزي يسيطر بصرامة على معدل نمو الكتلة النقدية على المدى القصير، فإنّ المديونية المتزايدة للدولة يمكن أن تؤثر على توقعات تحقيق الدخل، وبالتالي التوقعات التضخمية.

 

فكان اختيار العملاء الاقتصاديين هو «استيراد الصدقية النقدية» باللجوء إلى الدولرة. وكان اختيار مصرف لبنان هو السعي لتحقيق الاستقرار النقدي وفقًا للنهج التقليدي النقدي من خلال التحكّم بالتضخم بالارتكاز على سياسة نقدية مقيّدة، قبل التحرك تدريجيًا بشكل موازٍ لربط سعر الصرف. في ظلّ معدلات دولرة آخذة بالارتفاع، بحثاً عن ضمان القدرة الشرائية للمدخرات وتسهيلاً للتسعير والتداول للمنتجات.

 

إنطلاقاً من هنا، ومنذ فترة التضخم والانخفاض وتحفيز الدولرة في الثمانينات، اعتُمدت سياسات استقرار مختلفة، وتطورت نتائج كل منها في فترات مختلفة أيضاً. وقد أدّى التضخم الناشئ عن التمويل النقدي لعجز الموازنة إلى قيام مصرف لبنان بتطبيق سياسة استقرار قائمة على ضبط السيولة المتداولة في السوق بالعملة الوطنية، نظراً لعدم تمكّنه من التحكّم بالسيولة بالعملات الأجنبية، الأمر الذي أثبت ضعف فعاليته، لأنّ السيولة التي كانت متوفرة ومتداولة بالعملات الأجنبية كانت حينها الأكثر سيطرة. كان مصرف لبنان في وضع متناقض، إذ عليه من جهة أن يحدّ من السيولة المتداولة بالليرة اللبنانية، في الوقت الذي كان هو نفسه من ساهم في نموّها، من خلال تمويله النقدي لعجز الموازنة. منذ الثمانينات، حاول مصرف لبنان الحدّ من تسليفاته المباشرة للخزينة العامة، والحدّ أيضاً من تحويل مكاسبه من إعادة تقييم احتياطيات من الذهب إلى الخزينة العامة، كونه لم يقم لا بعملية بيع ولا إدارة لاحتياطي الذهب، حتى يعتبر أنّه حقق منه أرباحاً.

 

منذ بداية التسعينات، استبدل مصرف لبنان والحكومة التسليفات المباشرة بإصدار سندات خزينة، وطبّقوا سياسة أسعار الفائدة المرتفعة لتشجيع الاكتتابات فيها. وكانت هذه السياسة فعاّلة في الحدّ من التضخم، حتى عام 1997 عندما بدأنا في اكتشاف تأثير «الإزاحة» لهذا التقييد النقدي الزائد. منذ عام 1993، تبنّى مصرف لبنان سياسة التقدير التدريجي لليرة اللبنانية، حتى التثبيت الاسمي لسعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي عند 1507.5 كمعدل متوسط من عام 1997. وأظهرت هذه السياسة فعاليتها في ضبط استقرار سعر الصرف، خلال فترات الأزمات. ورغم ذلك، فقد تبيّن، لا سيما مع انفجار الأزمة منذ أشهر وبدء احتساب خسائر المصرف المركزي، كم كان هذا الخيار مكلفاً من حيث تدخّل مصرف لبنان المستمر في سوق الصرف، بالاعتماد على احتياطيات من النقد الأجنبي وكذلك من حيث أسعار الفائدة المرتفعة.

 

إنّ المراجع النظرية لدراسة سياسات التثبيت النقدي هي تلك التي لدى Guillaumont-Jeanneney [1994] التي تميّز بين سياسات التثبيت القائمة على المال، وسياسات التثبيت القائمة على سعر الصرف، في حالتين للاقتصاد التقليدي، لعملة واحدة والاقتصاد الدولاري. وتتيح هذه الدراسات فهم النتائج وفقًا لما إذا كانت السياسة النقدية للبنك المركزي موثوقة أم لا. وفي حالة لبنان، تظلّ فعالية سياسات التثبيت النقدي محدودة بسبب قيود مختلفة: بالتحديد الدين العام، وربط سعر الصرف والدولرة.

 

فالدين العام يمثّل تقييداً للسياسة النقدية ويؤثر على صدقية المصرف المركزي في أعين العملاء الاقتصاديين (الذين يتوقّعون عن حق لجوء الدولة اليه لتمويل الدين العام)، كذلك يشكّل معدّل الدولرة المرتفع تقييداً أيضاً للمصرف المركزي وسياسة تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي، والتي كانت مكلفة للاقتصاد، دون ضمان الاستقرار الفعلي، والبرهان استمرار معدّل الدولرة بحدود 76% بعد 22 عاماً من تثبيت سعر الصرف، فيما كان يمكن الانتقال التدريجي إلى نظام أكثر مرونة ومتماه مع مؤشرات ميزان المدفوعات، وطبعاً بأقل كلفة من العجز الفجائي عن التدخّل وترك الساحة للسوق الموازي.

 

من المعلوم أنّ الدين العام قد ازداد بـ «تأثير كرة الثلج» منذ بداية فترة إعادة الإعمار في التسعينات. إلّا أنّ الدين العام شهد تغيرًا جذريًا في هيكليته في عام 2002. وحتى العام 2002 ، كانت الحصة أصل الدين العام بالليرة اللبنانية. منذ عام 2002 ، وبعد مؤتمر باريس -2 بالتحديد للدعم الدولي للبنان ، بدأت تكبر حصة الدين العام المقومة بالعملات الأجنبية، ولا سيما بالدولار الأميركي، بنسبة 50% من إجمالي الدين العام.

 

كان الهدف من هذا التغيير في هيكلية الدين العام هو تخفيض خدمة الدين العام ونمو الدين العام (حيث أنّ أسعار الفائدة على سندات الخزينة بالدولار الأميركي أقل طبعاً من معدلات الفائدة على سندات الخزينة بالليرة اللبنانية)، وتشجع أصحاب رأس المال المقيم وغير المقيم على الاكتتاب فيها.

 

لعب هذا التغيير في هيكلة الدين العام دورًا حاسمًا في الحفاظ على سياسة سعر الصرف، وزاد من تعقيد قيود الدولرة. وصندوق النقد الدولي، الذي دعا سابقاً إلى تخفيض قيمة العملة، عاد وأيّد سياسة ربط سعر الصرف، بعد أن تبيّن له أنّ أي تخفيض في قيمة العملة سيؤدي إلى زيادة الدين بالعملات الأجنبية، وسيؤثر على ملاءة الدولة وسيخاطر بإحداث أزمة خطيرة في النظام المصرفي كالتي نعيشها اليوم..

 

إنّ دولرة نصف الدين العام، بالإضافة إلى ضعف القدرة التنافسية للمنتجات اللبنانية (بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج ومكوّناتها المستوردة بمعظمها) يجعل أي تخفيض في قيمة العملة غير فعّال، لأنّ الاقتصاد لن يكون قادرًا على الاستفادة من ذلك، إن لجهة تحرير نفسه من دينه العام أو لجهة زيادة صادراته.

 

أما أبرز المقترحات التي طُرحت لضمان الاستقرار النقدي في لبنان، فكانت ترتكز على التوسع التدريجي لهامش سعر الصرف، وفقًا لنهج ويليامسون للاقتصادات النامية، مقارنة بالحالة في لبنان، مما يسمح بالانتقال التدريجي من نظام التثبيت الجامد لسعر الصرف إلى نظام أكثر مرونة، يسمح بتحديد أولويات هدف التضخم وفقًا لتحليلات غولدشتاين. وفي الوقت نفسه، تعلّق هذه الدروس أهمية كبيرة على تنفيذ الإصلاحات المالية الموصى بها، للحدّ من وزن الدين العام، الذي يتحمّله البنك المركزي والمصارف التجارية، أي الجهاز المصرفي ككل، وبالتالي تجنّب التوقعات التضخمية المرتبطة بتوقعات تسييل الدين العام.

 

أما اليوم، فلم يعد بمقدور السياسة النقدية الاستمرار في دعم إخفاقات السياسة المالية، وحان وقت الأخذ في الاعتبار مخاطر استمرار تمويل القطاع العام وتدابير «القدرة على تحمّل ديون الدولة»… أما الاستمرارا بالاعتماد على المصرف المركزي وتكرار النهج ذاته دون أي إصلاحات في المالية العامة، فما هو الّا إعادة للسيناريو المؤسّس للأزمة، وطبعاً بشكل أشدّ أذى للاقتصاد الوطني…

 

فهل نأخذ العبرة لتحويل الأزمة الى فرصة باتجاه أكثر إنسجاماً بين السياستين النقدية والمالية، على أسس سليمة لكل منها، تعيد الثقة للحفاظ على ما تبقّى من رساميل في البلاد وتخفّض الدولرة عن قناعة وليس بشكل قهري في الاقتصاد اللبناني؟

د. سهام رزق الله.
أستاذة مُحاضرة في كلية العلوم الاقتصادية لجامعة القديس يوسف

أميركا وتداعيات الوباء على الأسواق

في الوقت الحالي، يبدو أن الولايات المتحدة تقف في الجانب المهزوم في حربها ضد فيروس «كوفيد – 19».
لم ينتهِ منتصف العام بعد، والمؤكد أن تاريخ فيروس «كوفيد – 19»، والسبيل المثلى لمحاربته، لن تجري كتابتهما قبل وقت طويل من الآن. وحتى هذه اللحظة، شهد عام 2020 بالفعل ظهور تكهنات حول أن الوباء سيكتب سطور النهاية للنظام الشيوعي في الصين، وأن نظام الرعاية الصحية الذي يتسم بطابع اشتراكي أو وطني أثبت فشله المؤكد أثناء الكارثة التي ضربت شمال إيطاليا في الشتاء.
وأنا هنا أقول هذا كمقدمة للتحول نحو الحديث عن أزمة فيروس «كورونا» المستجد. في حقيقة الأمر، أنه في هذه النقطة من مسيرة الوباء، يبدو أن الولايات المتحدة ونموذجيها الاقتصادي والسياسي، هم من أخفقوا. والتساؤل الآن: هل هذا صحيح؟ وما التداعيات الاقتصادية والمالية لذلك؟
جدير بالذكر هنا أنه في مارس (آذار)، بالغ الرئيس دونالد ترمب كثيراً في الحديث عن حكمة قراره بمنع دخول الأفراد القادمين من الاتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة، وذلك على أساس السجل الرديء للاتحاد الأوروبي في التعامل مع أزمة فيروس «كورونا» المستجد. وحتى هذه اللحظة، لا يزال الحظر سارياً. إلا أنه بدءاً من الشهر المقبل، ربما يحين الوقت المناسب لاجتياح موجة من مشاعر الشماتة أرجاء العواصم الأوروبية، مع احتمالات أن ينقلب الموقف والحظر إلى العكس تماماً.
وفي تلك الأثناء، بدأت تداعيات الإخفاق الأميركي في التصدي للفيروس في الظهور على النشاطات الاقتصادية الجارية. والآن، تميل قدرة الأوروبيين على التنقل إلى الاقتراب من معدلاتها الطبيعية على نحو يفوق بكثير الحال مع الأميركيين.
والتساؤل الآن: هل يمكن أن يؤثر ذلك على الأسواق؟ بالتأكيد هذا أمر محتمل. جدير بالذكر أن أسواق الأسهم الأميركية لطالما فاقت وبفارق واضح في أدائها نظيراتها داخل الاتحاد الأوروبي على مدار أكثر من عقد. وبالنظر إلى نجاح الولايات المتحدة في إنتاج الشركات التي توفر حالياً المنصات المهيمنة بشبكة الإنترنت، وقدرتها على تعزيز نظامها المصرفي بكفاءة تفوق بكثير قدرة الاتحاد الأوروبي، لا يبدو هذا الوضع مثاراً للدهشة.
وينبغي هنا أن نوضح أنه ما من صلة مباشرة بين الوباء وأداء أسواق الأسهم، من الناحيتين النسبية والمطلقة. كما أن هناك كثيراً من العوامل المختلفة الأخرى المؤثرة على هذا الصعيد.
ومع هذا، ثمة مؤشرات توحي بأن مشاعر القلق حيال تفشي الوباء عبر ما يعرف بـ«حزام الشمس الأميركي» تخلق ضغوطاً على الأسهم الأميركية. وإذا نظرنا إلى كيفية أداء شركات الطيران والفنادق وشركات الرحلات البحرية – القطاعات الأكثر تضرراً من الوباء – مقارنة بباقي قطاعات السوق، سنجد أن هناك مشاعر قلق واضحة بدأت في التراكم إزاء فكرة أن إجراءات إعادة فتح الاقتصاد لا تجري وفق خطة واضحة المعالم. وتأتي مشاعر القلق هذه بعد فترة وجيزة في البداية ساد خلالها التفاؤل منذ ثلاثة أسابيع.
من ناحية أخرى، أبدت السوق بوجه عام تردداً إزاء الاستجابة للارتفاع الواضح في أعداد الحالات، الأمر الذي يحمل وراءه مبررات؛ منها أن أحد الأسباب وراء هذه الزيادة يكمن في إجراء الاختبارات على نطاق أوسع، وتراجع معدلات الوفيات بدرجة بالغة عما كانت عليه من قبل.
وبغض النظر عما يحدث من الناحية المطلقة، فإن من الصعب اليوم توقع كيف يمكن أن تحافظ السوق على أداء أفضل بكثير عن نظيرتها الأوروبية، في وقت أظهرت فيه أوروبا قدرتها على إنجاز ما تعجز الولايات المتحدة عن فعله، ونجحت في السيطرة على الفيروس.
ولننتقل الآن إلى مسألة أخرى: كيف سيؤثر هذا الوضع على الانتخابات الأميركية التي تقف اليوم على بعد أشهر قليلة؟ يكشف تحليل وضعه «معهد التمويل الدولي» أن أكثر الولايات المتضررة اقتصادياً هي تلك الواقعة تحت النفوذ السياسي للحزب الديمقراطي. وأوضح المعهد أن هذا التأثير كان كافياً للقضاء على حالة عدم توازن تاريخية استمرت لفترة طويلة بين الولايات الخاضعة لنفوذ الحزب الجمهوري والأخرى التي تميل سياسياً إلى الحزب الديمقراطي. في الواقع، عادة ما كانت معدلات التوظيف تميل لأن تكون أعلى داخل الولايات الداعمة للديمقراطيين، حتى ضرب وباء «كوفيد – 19» البلاد.
إلا أن هذا الوضع بدأ في التغير الآن. وكشف تحليل صدر حديثاً عن «دويتش بانك» أن الولايات الداعمة للجمهوريين أبدت قدرة أسرع على العودة إلى المعدلات الطبيعية لإمكانية التنقل، لكن هذا المسار بدأ في التحول في الاتجاه المعاكس الآن.
في الواقع، يبدو الواقع الاقتصادي قبيحاً في الوقت الراهن داخل عدد من الولايات الأكبر من «حزام الشمس»، في الوقت الذي تبدو فيه الأوضاع أشد سوءاً داخل بعض الولايات الجنوبية الأصغر، حيث تتعرض مجتمعات الأميركيين من أصول أفريقية لأضرار أكبر عمن سواها.
وينبغي هنا توضيح أن هذا الوضع لا يمكن إيعازه فقط إلى مسألة إجراء مزيد من الاختبارات. في الواقع، داخل أريزونا تبدو نسبة الاختبارات الإيجابية للإصابة بفيروس «كوفيد – 19» مخيفة، وتوحي أن ثمة موجة تفشي للوباء أخطر بكثير في الطريق.
والآن لم يعد من الممكن الشك في أننا نواجه مشكلة مثيرة للقلق. ومع انحسار معدلات الوفيات، وظهور حالات أكثر الآن بين فئات عمرية أصغر أقل احتمالاً لأن تتضرر بشدة من فيروس «كورونا»، فإن النبأ السار هنا أنه لا يزال من الممكن تجنب حدوث تكرار كامل للمشاهد التي سبقت لنا معاينتها داخل ووهان وميلانو ومدينة نيويورك. ومع ذلك، فإن إخفاق السياسات التي انتهجتها الولايات المتحدة وفشل قيادتها يبدو أنه قد أصبح نهائياً داخل أريزونا، التي كانت ذات يوم واحدة من معاقل تأييد الحزب الجمهوري، وطرحت مرشحين رئاسيين جمهوريين؛ هما باري غولدووتر وجون ماكين.
بجانب ذلك، تشهد أريزونا كذلك انتخابات لنيل عضوية مجلس الشيوخ هذا العام، حيث ستسعى السيناتورة الجمهورية مارثا مكسالي للدفاع عن مقعدها. ويرى موقع «بريديكتلت» المعني بالتوقعات أنها في حكم المهزومة بالفعل من الآن.
وفيما يخص معركة الرئاسة، يرى الموقع ذاته أن فرص إحراز الديمقراطيين للفوز أصبحت الآن قرابة من اثنين إلى ثلاثة، ما يعتبر أقوى معدل على الإطلاق. وبالنظر إلى حجم التغييرات التي طرأت على الساحة على مدار الشهور الأربعة الماضية، يبدو من المحتمل للغاية أن نشهد قدراً مكافئاً من التغييرات خلال الشهور الأربعة المقبلة. وفي تلك الأثناء، يبدو الرئيس في مأزق حقيقي.
والآن، كيف يمكن أن يؤثر هذا الوضع على الأسواق؟ بالتأكيد التأثير سيكون سلبياً. تجدر الإشارة هنا إلى أن الأسهم في الوقت الراهن تقدم مستوى أداء أسوأ بعض الشيء عما تحققه عادة خلال السنوات التي تشهد هزيمة الرئيس الموجود بالبيت الأبيض. ويوحي الأداء الرديء لسوق الأسهم بأن الرئيس سيجابه صعوبة أكبر في الترويج لحزبه خلال الانتخابات. وفي الوقت ذاته، فإن وجود مشكلات سياسية أمام الرئيس القائم يعني خلق مزيد من الشكوك، الأمر الذي لا يروق للأسواق بطبيعة الحال.

جون أوثرز.

“خريطة حل”… والبديل: “الشلل والانحدار الى وضع أسوأ من فنزويلا”!

أكدت مصادر اللجنة النيابية للمال والموازنة لـ”الجمهورية” انّ خطة التعافي مطلوبة شرط ان تُحاكي الوضع الاقتصادي والمالي كما هو، وليس بافتراضات وتخيّلات غير واقعية.

 

واشارت المصادر الى انها سبق وعرضت على الجانب الحكومي مجموعة من الافكار التي من شأنها ان تخفف من وطأة الازمة، وتفتح الآفاق نحو الحلول، وبالتالي وضع لبنان فعلاً على سكة الانقاذ والتعافي. وجاءت هذه الافكار على شكل خريطة طريق تقوم على ما يلي:

 

أولاً، أن تبادر السلطة ولو متأخرة، الى ان تُظهِر للبنانيين وللمجتمع الدولي بأنّ النمط القديم من الأداء قد تغيّر، وان تعتمد الواقعية في مقاربة الازمة وتبتعد عن لغة التحدي.

 

ثانياً، انّ الحلول موجودة، فلبنان ليس دولة مفلسة، بل دولة متعثرة بالنقد والسيولة، والمعيار اليوم كم هو دينها الخارجي وكم تملك من اصول؟ فالدين الخارجي كان نحو 30 مليار دولار، وفي التفاوض مع الدائنين قد ينخفض بنسبة عالية الى حدود 10 او 11 مليار دولار. وموجودات الدولة كبيرة جداً، فقطاع الخلوي وحده يساوي هذا المبلغ.

 

ثالثاً، لبنان يستطيع ان ينهض من جديد، فلدى الدولة احتياط في المصرف المركزي بنحو 21 مليار دولار، واحتياط من الذهب بنحو 15 مليار دولار واكثر، وأصول بعشرات مليارات الدولارات. وفي مقدور الدولة ان تحوّل هذه الاصول الى قطاعات منتجة، من دون ان تبيعها، وتظهر بالتالي انّ لبنان دولة غنية. لكن هذا مشروط بحُسن التخطيط.

 

فعلى سبيل المثال، بحسب هذه الخريطة، فإنّ لدى الدولة ما يزيد عن مليار م2 أرض، واذا شملت المليار متر بـ50 دولاراً للمتر الواحد، فثمنها يجمع نحو 50 مليار دولار. وبذلك، تستطيع ان تُنشىء الدولة شركة عقارية، وشركة لمنشآت النفط ثمنها مليارات الدولارات لأنّ لديها املاكاً هائلة، وتُنشىء شركة للسكة الحديد، وشركة لمرفأ بيروت، وشركات في قطاعات عديدة، وشركة ليبان تيليكوم. والشرط الاساس لذلك هو ان تبادر السلطة الى جَمع المجلس الاعلى للخصخصة، وتوكِل اليه مهمة إعداد خطة “تشركة”، وتبدأ بإعداد دفاتر شروط شفافة، وتستعين بشركات متخصصة لبنانية ودولية لدرس المشاريع وجدواها، وبهذه الطريقة تستطيع ان تمدّ نفسها بالانتعاش من جديد، وبهذه الطريقة لا تجذب فقط المستثمرين العرب والاجانب، بل تجذب قبلهم المستثمرين اللبنانيين، سواء في الداخل اللبناني او في بلاد الاغتراب. وللعلم انّ سيولة طائلة في ايدي المغتربين اللبنانيين تقارب الثلاثة الى اربعة مليارات دولار، يُراد إرسالها الى لبنان والاستثمار فيه، ولكن هؤلاء المغتربين، في حاجة قبل كل شيء الى طمأنتهم بخطوات تجعلهم يثقون بالسلطة. التي أرسلت اليهم رسالة شديدة السلبية بأنها ستعتمد “الهيركات” ليطال 90% واكثر من ودائعهم. والدولة تنتظر من صندوق النقد ان يقدّم 3 او 4 مليارات دولار على سنوات. وتستطيع الدولة، اذا أنشأت هذه الشركات، ان تُحَصّل مبلغاً يعادل ما سيقدمه صندوق النقد واكثر.

 

رابعاً، بعد ان تقوم بخطة “التشركة”، تبادر السلطة في اتجاه المودعين، لتؤكد لهم انها تضمن ودائعهم. وكونها لا تستطيع ان تدفع “كاش”، تستعيض عن ذلك بأن تمنح المودعين سندات دين بفائدة 1 او 2%، وفي الوقت نفسه تعيد فتح بورصة بيروت، ويتم تداول هذه السندات فيها، ويستطيع حامل السند ان يبيعه إن شاء ذلك بالنسبة التي ترضيه بمعدّل 60 سنتاً للدولار او 70 سنتاً.

 

وتفترض خريطة الحل انّ المودعين سيقبلون بذلك لأنهم بالتأكيد يريدون ودائعهم، علماً انّ كثيرين منهم يعمدون في هذه الفترة الى بيع ودائعهم بثلث قيمتها وحتى بربعها.

 

وبرأي المصادر النيابية فإنّ السلطة إذا اعتمدت هذه الطريقة، تخلق مصداقية لها، لكنّ المشكلة تكمن في انّ الادارة السياسية لا هي مبادرة ولا هي ذكية ولا هي خلّاقة، ولا احد يثق فيها داخلياً وخارجياً.

 

وخلصت مصادر اللجنة المالية الى القول: الوقت لم ينته بعد، والفرصة ما زالت متاحة امام السلطة لكي تبادر الى العلاج، وليس هناك من عذر للحكومة في ان تبقى في دائرة العجز، بل المبادرة الى التخطيط لكيفية الاستفادة من اصول الدولة من دون ان تبيعها، والى البدء بالاصلاحات بالتزامن مع المفاوضات مع صندوق النقد، لأنّ البديل هو الشلل والانحدار التدريجي الى وضع أسوأ بكثير من نموذج فنزويلا.

خريطة طريق للإنقاذ والحفاظ على أموال المودعين

الإخفاقات طويلة وعديدة ولا داعي لذكرها الآن، بل ينبغي التركيز في هذا الوقت على الحلول التي يمكن للدولة أن تتبعها للخروج من أزمتها والمحافظة على مدخرات وتعويضات اللبنانيين في المصارف. وهناك نوعان من الحلول، آنية وطويلة المدى.

 

الحلول الآنية

 

أولاً: الإسراع في اعتماد خطة موحّدة بين الحكومة ومجلس النواب وجمعية المصارف، وطرحها أمام صندوق النقد الدولي. فنحن اليوم في أمسّ الحاجة الى كتلة نقدية كبيرة حتى نلتقط أنفاسنا، وأموال صندوق النقد هي خشبة الخلاص الأولى في هذه المرحلة. والخطّة الاقتصادية رغم كل محاذيرها، الّا أنّها أفضل حلّ بالنسبة لنا حتى نعيد إنعاش الإقتصاد.

 

ثانياً: بذل كافة الجهود لحماية القطاع المصرفي من الانهيار، بدل شنّ الهجوم عليه، لأننا بذلك نحمي أموال المودعين. فإفلاس القطاع المصرفي لا يعني خراب القطاع فحسب، إنما أيضاً خراب المودعين والاقتصاد بالدرجة الأولى. ورغم كل الملاحظات المحقّة على أداء المصارف في الفترة الأخيرة، لكننا اليوم أمام مشكلة، إما أن نعالجها أو نذهب جميعاً الى المجهول. كما يجب ألاّ ننسى أو نتناسى الدور الإيجابي الكبير الذي قدّمه هذا القطاع على مدى سنوات.

 

ثالثاً: التشجيع على دمج واستحواذ المصارف لبعضها، وذلك بالتعاون مع المصرف المركزي وجمعية المصارف، حيث أنّ هناك مصارف لديها سيولة وأخرى متعثرة، وهذه خطوة مهمّة للحفاظ على القطاع المصرفي وأموال المودعين.

 

رابعاً: إعادة جدولة القروض المتعثرة وإيجاد طرق مبتكرة لذلك. فمن المجحف أن تعتبر الحكومة القروض المتعثرة خسائر على القطاع المصرفي، لأنّها في الحقيقة مغطاة بضمانات (Collaterals) عالية.

 

خامساً: على الحكومة أن تعمل جاهدة على إعادة ثقة الاغتراب اللبناني ببلده، فالمغتربون لديهم الحصّة الأكبر من الودائع في المصارف، وهم رغم كونهم الأكثر تضرّراً من هذه المجزرة النقدية والمالية التي حصلت في حق الشعب، الّا أنّهم مستعدون لإعادة ضخ أموالهم والاستثمار في البلد، في حال برهنت الحكومة على جدّيتها في الإصلاح ومكافحة الفساد. والدولة لديها اليوم فرصة كبيرة لجذب السياح المغتربين، لأنّهم لن يتمكنوا من السفر بسهولة الى وجهات سياحية عالمية بسبب كورونا. وبتقديرات بسيطة، إذا دخل الى لبنان مليون مغترب حتى نهاية العام وكل واحد صرف بمعدّل 1000 الى 1500 دولار، يدخل الى البلد بين مليار الى مليار ونصف دولار.

 

سادساً: على الحكومة أن تضع آليات للعمل على النطاقين الاقتصادي والنقدي. حيث يجب على مصرف لبنان ان يدعم فقط المواد الاستهلاكية من دواء وطحين ونفط، ويترك دعم الزراعة والصناعة للمصارف، وذلك من شأنه أن يعيد تحريك العجلة الاقتصادية ويفتح إمكانيات التصدير وإدخال العملة الصعبة، أو على الأقل تأمين جزء كبير من حاجة السوق المحلي بدل الاستيراد والتفريط بالعملة الصعبة.

 

سابعاً: حصر طرح الدولار عبر المصارف بدل الصرافين، وهذا بالفعل ما قام به مصرف لبنان منذ بضعة أيام، عبر ضخ مبلغ الـ4 او الـ5 ملايين دولار لدى المصارف، من اجل تأمين الدولار للاستيراد. وهذه الخطوة نأمل أن تلحقها خطوات أخرى، بتحويل كافة عمليات شراء العملة للاستيراد وغيره الى المصارف التي لديها القدرة الاستعابية والبيانات الكافية عن جميع العملاء، للجم الأمور ومنع النزيف العشوائي للدولار.

 

ثامناً: أن يحوّل المودعون بالليرة اللبنانية ودائعهم الى الدولار على أساس سعر 1515، حتى ولو اضطروا لتجميدها لفترة طويلة (من سنتين الى 5 سنوات) لأنّهم بذلك يضمنون قيمة ودائعهم، التي إذا بقيت بالليرة يتآكلها التضخم. وهذه العملية ما زالت ممكنة حتى الآن، لأنّ المصارف ما زال لديها سندات آجلة بالدولار لدى المصرف المركزي، الذي يجب أن يدعم الكتلة النقدية بالليرة على مراحل، للمحافظة على أموال المودعين والمتقاعدين.

 

حلول طويلة المدى

 

أولاً: تشكيل حكومة إنقاذ وطني من أشخاص ذوي خبرة، لأنّه للأسف حكومة الدكتور حسان دياب فشلت في مهمتها. وهنا نريد حكومة لديها خطة إنقاذية مالية واقتصادية متكاملة، تقوم على دعم الإنتاج (زراعة وصناعة) والتصدير. على سبيل المثال، يجب تقديم كافة التحفيزات للنهوض بقطاعنا الصناعي، مثل تأمين الكهرباء المدعومة، وتقديم التحفيزات الضريبية بالتعاون مع وزارة المالية، وخلق أسواق جديدة للتصدير عبر سفراء لبنان في العالم، وحماية الإنتاج من المضاربة الشرسة التي عانينا منها كثيراً، عبر إلغاء بعض اتفاقيات التبادل التجاري الحرّ التي كان قد وقّعها لبنان مع أوروبا والبلاد العربية، حيث لا يمكن أن نقارن إقتصادنا باقتصاد السعودية أو مصر التي تُغرق أسواقنا بالبضائع، بينما صادراتنا اليها قليلة جداً.

 

ثانياً: استعادة الأموال المنهوبة، ورغم أنّه من الصعب جداً استعادة الأموال التي هُرّبت الى الخارج، الّا أنّه ما زال بإمكاننا استرجاع الأموال المنهوبة التي ما زالت موجودة داخل المصارف اللبنانية، وتقدّر قيمتها بين الـ 5 والـ 7 مليارات دولار. وهذه الأموال يمكن استخدامها في إعادة رسملة المصارف، عبر تسديد سندات «اليوروبوندز» أو سندات الخزينة وشهادات الإيداع، التي موّلت فيها المصارف الدولة اللبنانية ومنعتها بذلك من الإنهيار.

 

ثالثاً: توازن السياسات الخارجية، خصوصاً

 

مع أميركا، التي لا يمكننا معاداتها لأنّها يمكن أن تفرض علينا عقوبات وتقطع عنا الدولار ونظام «السويفت» (Swift) العالمي، الذي هو أساس التعامل مع العالم الخارجي. لذلك، الخطاب السياسي والتراشق الإعلامي اللذان لا جدوى منهما، يجب أن نضع لهما حداً، لأننا كمثال النملة التي تتحدّى فيلاً.

 

وعن التوجّه شرقاً أو غرباً، ليس من المستحب أخذ طرف محايد مع أي جهة، بل الحلّ الأنسب هو الانفتاح على كافة الجهات ودعوتها للاستثمار في البلد، عبر دفاتر شروط ومناقصات عالمية شفافة موحّدة، وليربح الأفصل بعيداً من المحاصصات والتنفيعات.

 

وأخيراً، كان قد أبدى السفير الصيني استعداد بلاده لتنفيذ 3 مشاريع في مجال الكهرباء وسكة الحديد، التي تربط الشمال بالجنوب وبيروت بالبقاع، والنفق الذي يربط بيروت برياق على طريقة الـ BOT. كذلك يمكن للصين أن تساعد في مجال إدارة النفايات وفتح البلد امام السيّاح الصينيين.

 

رابعاً: إنشاء مجلس نقد، وهذه الفكرة كان قد اقترحها الدكتور حسن خليل سنة 1997 على رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري. وهكذا خطوة تساعدنا كثيراً في هذه المرحلة، لأنّه لا يمكننا الاستمرار بطبع العملة دون أي تغطية، لأنّ ذلك يؤدي الى التضخم وفقدان الليرة لقيمتها وتراجع القوة الشرائية.

 

خامساً: ضبط عمليات التهريب عبر الحدود، خصوصاً للمواد المدعومة مثل النفط والطحين والأدوية، لأنّ ذلك يشكّل خسائر كبيرة في احتياطاتنا من العملة المحلية.

سادساً: منع الإحتكارات على غرار العديد من دول العالم.

 

سابعاً: وقف الهدر في الكهرباء، وذلك عبر إطفاء كافة المعامل نهائياً والإعتماد لفترة على المولدات، وطرح مناقصات عالمية لإنشاء معامل حديثة على أساس الـ BOT.

 

ثامناً: وهذا الحلّ بيد الشعب اللبناني نفسه، حيث نأمل في الانتخابات المقبلة أن يحكّم كل إنسان ضميره وينتخب على أساس الكفاءة والجدّية في العمل لا أن ينتخب نفس الطبقة والأحزاب، لأنّه بذلك تكون نهايتنا على أيدينا.

 

تاسعاً: فتح خطوط ائتمانية عبر تغطية من الذهب (من دون المساس به) وقد تصل الى 5 أو 6 مليارات دولار تُضخ عبر المصارف وتكون حصراً لتمويل قطاعي الصناعة والزراعة، لإعادة إحياء العجلة الاقتصادية. وكل ذلك عبر خطط مدروسة بتقنية وشفافية عالية.

 

مع الأسف، ورغم كل ما يحصل للشعب اللبناني من إفلاسات وبطالة وجوع، وما قد ينتج منها من جرائم وتفلّت في الأمن، ما زالت الحكومة تتخبّط، والمحاصصات سارية والصفقات تُعقد، والمستقبل قد لا يكون مطمئناً، الّا إذا…

د. عطية المعلم.