ما زال وباء «كورونا» يلقي بظلاله على الأسواق العالمية، ولكن هذه المرة على الرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات، تلك القطع التي لا يمكن الاستغناء عنها في صناعات كثيرة وجوهرية مثل السيارات والهواتف الذكية والأجهزة الإلكترونية؛ ابتداء من محمّصات الخبز حتى غسالات الملابس. وتعاني هذه الصناعات من النقص الحالي في كميات الشرائح الإلكترونية، مما أربك عملياتها الصناعية وأثر حتى على توقعات أرباحها.
وتأثر عرض الرقائق الإلكترونية بثلاثة أسباب: أولها اختلال ميزان الطلب أثناء وباء «كورونا»، حيث توقفت مصانع السيارات عن العمل أثناء وباء «كورونا»، بينما نشطت الصناعات التقنية، مثل الأجهزة الذكية والكومبيوترات وأجهزة الألعاب بسبب زيادة الطلب عليها أثناء إجراءات الحجر الاحترازية. إلا إن الطلب عاد مرة أخرى لمصانع السيارات وبشكل أسرع من المتوقع، وهو ما لم تأخذه مصانع الرقائق الإلكترونية في الحسبان. وسبق لشركة «سامسونغ»؛ وهي من كبرى 3 شركات في تصنيع الرقائق الإلكترونية، التحذير من هذا النقص قبل نحو شهرين. كما أن هذه الصناعة تأثرت وبشكل كبير بالعقوبات الأميركية على الشركات الصينية، والتي أثرت على سلاسل الإمداد للرقائق الإلكترونية؛ مما أضعف قدراتها الإنتاجية. أما السبب الثالث فهو احتكار هذه الصناعة ضمن عدد قليل من المصانع، حيث تشكل شركات «سامسونغ» الكورية، و«إنتل» الأميركية، و«تي إس إم سي» التايوانية، النصيب الأكبر من هذه الصناعة، وعندما تأثرت هذه الشركات الثلاث تأثرت سوق الرقائق الإلكترونية بالكامل، ويتضح تأثير هذه الشركات الثلاث من معرفة أن 80 في المائة من مصانع السيارات تستورد الرقائق الإلكترونية من الشركة التايوانية «تي إس إم سي».
يذكر أن السيارة الواحدة في المتوسط تحتوي على ما بين 50 و150 من هذه الرقائق.
وبناء على هذا النقص الحاصل، فقد تتأثر مبيعات وأرباح كثير من الشركات في هذا العام، فعلى سبيل المثال، تشير التوقعات إلى أن إنتاج «فورد» للسيارات سوف يقل بنحو 1.1 مليون سيارة، مما قد يعني انخفاض أرباح الشركة بنحو 2.5 مليار دولار. كما أن مصنع «بي إم دبليو» للسيارات في بريطانيا توقف عن العمل لمدة 3 أيام بسبب هذا النقص. أما شركة «فولكس فاغن» الألمانية؛ فقد أعلنت أنها قد توقف بعض خطوط الإنتاج في المكسيك الشهر المقبل. وفي الهواتف الذكية، يُتوقع أن تنخفض مبيعات شركة «أبل» في الربع الثاني من 3 إلى 4 مليارات دولار بسبب تأثر الإنتاج في الأجهزة اللوحية والكومبيوترات.
أما بالنسبة للأفراد، فقد يكون هذا التأثر على نوعين: النوع الأول هم المستهلكون، الذين قد ترتفع عليهم تكلفة السيارات والأجهزة بسبب ارتفاع تكلفة الرقائق الإلكترونية، وبسبب نقص الإنتاج والعرض في السوق، ويتوقع أن تزيد أسعار بعض السيارات في هذه السنة مقارنة بالعام الماضي بنسبة 8.4 في المائة، وفي المتوسط قد تزيد أسعار السيارات والأجهزة بنسبة 5 في المائة. والنوع الثاني هم المستثمرون، فانخفاض الأرباح قد يؤثر بشكل واضح على أسعار الأسهم، لا سيما أن الأسواق العالمية شهدت ارتفاعاً عاماً خلال الأشهر القليلة الماضية بدعم من التفاؤل بتجاوز الوباء.
ويبدو الأمر المهم الآن هو كيفية إيجاد حل لهذا النقص في الأسواق، فالرقائق الإلكترونية ليست باهظة الثمن، وليست معقدة التصنيع، إلا إنه لا يمكن الاستغناء عنها في كثير من الصناعات، ومع ذلك؛ فإن استثمار الشركات فيها لا يتناسب مع العرض الحالي في الأسواق، ولذلك فقد أعلنت شركة «إنتل» أنها مستعدة لاستثمار ملياري دولار لبناء مصانع للرقائق الإلكترونية في الولايات المتحدة، مستندة إلى قرار الحكومة الأميركية الذي يدعم هذه الصناعات من ناحية حوافز البحث والتطوير وكذلك الحوافز الصناعية. كما أعلنت كذلك شركة «تي إس إم سي» أنها سوف تستثمر أكثر من 100 مليار دولار خلال الأعوام الثلاثة المقبلة في تطوير مصانعها وزيادة إنتاجيتها.
لقد كشّف الوباء جوانب قصور كثيرة في الأنظمة العالمية، وبعد أن اتضحت جوانب القصور في القطاعات الصحية، تتضح الآن آثار الوباء على سلاسل الإمداد العالمية، والتي لطالما حذر الخبراء منها، فمصنع السيارات في الولايات المتحدة يعتمد على رقائق إلكترونية من كوريا وتايلاند، وحينما اختل ميزان العرض والطلب لمدة قصيرة، اختلت معه الأسواق لفترة قد لا تكون قصيرة، وقد تمتد حتى ما بعد هذا العام إلى العام المقبل. وهو يوضح أن العالم، رغم تقدمه، ما زال ضعيفاً في كثير من جوانبه، والدليل أن صناعة جوهرية واستراتيجية مثل الرقائق الإلكترونية، تعتمد بشكل أساسي على 3 شركات فقط!
الأرشيف الشهري: مايو 2021
تقلص عدد سكان الصين يؤكد التوقعات المناخية
لا يزال يتعين على العالم أن يدرك التحول التكتوني (تحول تدريجي في قشرة الكرة الأرضية) الذي سيحدث عندما يبدأ عدد سكان الصين في التقلص. صحيح أن هذا الأمر الذي طال انتظاره لم يحدث في عام 2020، وفقاً للبيانات الرسمية، لكن من المحتمل أن يحدث قريباً. من المنظور المناخي، يعد انخفاض عدد السكان خبراً ساراً لأن قلة أعداد الناس تعني انخفاض الانبعاثات. وكما هو الحال مع العديد من حالات عدم اليقين المحيطة بمستقبل الكوكب، من الصعب توقع بدقة تأثير الكربون جراء انخفاض عدد السكان.
يشيخ سكان الصين بسرعة والسبب هو سياسة الطفل الواحد، لكنّ صانعي السياسة هناك يأملون في أن يؤدي إنهاء سياسة الطفل الواحد في عام 2016 إلى تشجيع المزيد من الولادات. ومع ذلك، لم يرتفع معدل المواليد في البلاد ولا يزال أقل بكثير من المستوى المطلوب لزيادة عدد السكان – ربما لأن قاعدة الطفل الواحد استمرت لفترة طويلة بات من الصعب تغيير النمط السكاني بعدها، ولأن الدخل في البلاد آخذ في الارتفاع. وقد يكون الوباء الذي تفشى خلال عام 2020 قد أدى أيضاً إلى انخفاض معدلات الخصوبة.
وستؤدي معدلات الخصوبة المنخفضة حتماً إلى انخفاض تعداد سكان الصين. ففي عام 2017، توقع مجلس الدولة الصيني أن يبلغ عدد سكان البلاد ذروته في عام 2030، وفي العام الماضي، أصدرت الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية دراسة توقعت أن الانخفاض سيبدأ في عام 2027. وتشير التقارير الإخبارية التي يُفترض أنها تستند إلى بيانات التعداد الصيني، إلى أن عدد السكان قد بدأ بالفعل في الانخفاض في عام 2020. لكن الحكومة الصينية أكدت خطأ هذه التقارير، حيث تظهر البيانات الرسمية زيادة طفيفة للغاية، من 1.40 مليار في عام 2019 إلى 1.41 مليار العام الماضي. لكن من الواضح لمعظم المراقبين أن عدد السكان الصينيين سيبدأ في التقلص قريباً، إن لم يكن قد بدأ بالفعل.
يكتسب هذا الأمر أهمية خاصة بالنسبة لقضية المناخ، لأن الصين هي أكثر دول العالم اكتظاظاً بالسكان، والمزيد من الناس يعني المزيد من الانبعاثات وزيادة عدد السكان المعرضين لخطر تغير المناخ. وبحسب ما ورد في ورقة بحثية حديثة نشرتها مجلة «وقائع أكاديمية العلوم الوطنية الأميركية»، فإن «حجم السكان، على المدى القريب والبعيد، هو المحدد الرئيسي لسياسة المناخ: فعدد السكان الكبير يتبعه المزيد من الانبعاثات وبالتالي هناك حاجة إلى المزيد من التخفيف لتحقيق هدف مناخي معين، وهذا يعني أيضاً أن المزيد من الأشخاص في المستقبل سيكونون عرضة للتأثيرات المتعلقة بالمناخ».
إلى أي مدى نستطيع الجزم بصحة هذه الصلة؟ إن تأثير السكان على انبعاثات الكربون بلا أي سياسة أو تغييرات تكنولوجية ليس ثابتاً تماماً لجميع الأشخاص، وذلك نظراً لبعض التفاصيل المهمة؛ منها الفئة العمرية وأنماط الاستهلاك. لكن بصفة عامة، فإن تراجع عدد الناس يعني تراجع الانبعاثات نسبياً. ضع في اعتبارك مقارنات «المسارات الاجتماعية والاقتصادية المشتركة»، وهي تقديرات تُستخدم دولياً لتقييم السكان في المستقبل كما يلي: يُظهر «مسار 1» المنخفض عدد سكان العالم 8.5 مليار بحلول عام 2050، في حين أن توقعات خط الأساس «مسار 2» لتلك السنة هي 9.2 مليار، بفارق نحو 8 في المائة. وبالمثل، من المتوقع أن تنخفض انبعاثات مكافئ الكربون بنسبة 5 في المائة إلى 10 في المائة تقريباً في عام 2050، بحسب سيناريو «مسار 1» مقارنة بخط الأساس «مسار 2».
من الجدير بالملاحظة أن تأثيرات الخيارات السكانية غالباً ما يتم تقييمها على أنها أكبر من الناحية المادية من التغييرات الأخرى المنطقية التي يمكن إجراؤها للتخفيف من تغير المناخ. وتجدر الإشارة إلى ثلاثة محاذير لهذا الجانب المشرق: أولاً، تفترض التوقعات المناخية بالفعل أن عدد سكان الصين سيتقلص؛ القصد هنا هو أن التراجع يبدو أنه يحدث بسرعة أكبر مما أشارت إليه معظم التوقعات الرسمية.
يعتمد تأثير التغير السكاني البطيء أو الأسرع على اتخاذ إجراءات أخرى لحماية المناخ. ضع في اعتبارك، على سبيل المثال، سيناريو يعتمد فيه بلد ما حدوداً ملزمة للانبعاثات، ويتطلب تصريحاً قابلاً للتداول لكل وحدة من وحدات الانبعاثات. قد يمارس المزيد من الأشخاص في هذا البلد ضغطاً تصاعدياً على سعر التصاريح، لكن لن يؤثر ذلك على المستوى الإجمالي للانبعاثات، لأن ذلك سيظل مقيداً بالحدود القصوى.
وتُظهر الأمثلة الأقل تطرفاً ظاهرة مشابهة؛ إذ تتفاعل التأثيرات السكانية وتخفيف المناخ مع بعضها البعض، ما يجعل تقييم تأثير السكان وحده أكثر صعوبة. ومع ذلك، في معظم السيناريوهات، تقلص أعداد الناس يعني انبعاثات أقل.
أخيراً، ستكون هناك حاجة إلى ابتكارات تكنولوجية ضخمة لتغيير مسار الانبعاثات المناخية. ففي ظل التقنيات الحالية، وما لم نكن مستعدين لدفع أقساط بيئية عالية بشكل غير معقول في بعض الأحيان لتقليل الانبعاثات، فإن العديد من الأنشطة اليومية – ليس فقط السفر الجوي ولكن أيضاً إنتاج الصلب وشحن الحاويات – ستستمر في إخراج انبعاثات كبيرة من غازات الاحتباس الحراري. وبالتالي سيكون الابتكار ضرورياً لمستقبل مناخي أفضل. لكن مع وجود عدد أقل من الناس، كما أكدت مجلة «الإيكونوميست» وغيرها، قد يكون لدينا أفكار جيدة أقل حول كيفية الابتكار. لذا فإن قلة الناس ليست بالضرورة النعمة المناخية الواضحة التي يجري طرحها غالباً.
قد تتطلب منا معالجة تغير المناخ الخوض في موضوعات محرجة محتملة، بما في ذلك الطاقة النووية والهندسة الجيولوجية. ورغم أن تأثير التركيبة السكانية قد لا يكون على رأس جدول أعمال مؤتمر غلاسكو للمناخ في وقت لاحق من العام الجاري، فإن الحقيقة القاسية هي أن الانخفاض السكاني الوشيك في الصين وفي وقت أقرب من المتوقع سيحمل لا ريب بين طياته فوائد مناخية.
الانفراج بين أزمة جيدة وأزمة تعيسة
مع توالي الأزمات السياسية والاقتصادية والمالية تتردَّد على مسامعك مقولة متكررة منسوبة لحكمة من الصين تعني في لغتها «أن الأزمة نعمة ونقمة في آن واحد»، فتتعجب، ما بال أقوام لا يصيبهم من الأزمات إلا نقماتها، وأين تذهب هذه النعم؟ وقد تتذكر أن حكم وأمثال الأزمات ليست قاصرة على أهل الشرق؛ فمن المنسوب لونستون تشرشل الزعيم البريطاني، الذي لم تخل مسيرة حياته السياسية من أزمات وكوارث، وانتصارات أيضاً، أنه قال «إياك أن تضيع أزمة جيدة». وأصول الحكمة التشرشلية، شائعة الاستخدام في يومنا هذا، ترجع لأستاذ مدرسة انتهاز الفرص، السياسي الإيطالي الأشهر نيكولو ميكافيلي صاحب كتاب «الأمير» الصادر في عام 1532، حيث أوضح ما قد تجود به الأزمات الجيدة من فرص. وتجد عموم الناس أمام الأزمات في قلق وارتياب، وترى الساسة وصناع القرار حيال الأزمات بين منكر ومؤكد، ومستسلم ومصارع، ومدمر ومنقذ.
في أواخر الثمانينات من العقد الماضي تابعت حديثاً طريفاً كان طرفاه أستاذين من جيل الرواد الأكاديميين في الاقتصاد والعلوم السياسية، الأول هو أستاذ التخطيط الدكتور عبد الفتاح قنديل، والآخر هو الدكتور إبراهيم صقر، أستاذ العلاقات الدولية. وكان الاستماع إليهما، رحمهما الله، ممتعاً ومفيداً. وكان محور حوارهما هو طبعة جديدة من كتاب شهير صدر في أواخر الأربعينات للكاتب والروائي الأميركي تشارلز هاريسون تحت عنوان «شكراً لله لإصابتي بأزمة قلبية». وطفقا يعددان الدروس والخبرات التي جاءت في الكتاب التي كان ينشد بها الكاتب إعلام قرائه بنظام حياة أكثر انضباطاً في مراعاة الإرشادات الصحية والغذائية، وبدا لي من سياق الحديث أن أحد الأستاذين قد بدأ يشكو من علة بالقلب وأن الأزمة نذير وتوجيه لبداية طريق جديدة. ثم انتقل الحديث من الخاص إلى العام، بحكم تخصصهما، عن ضرورة الانتفاع المبكر من شرور الأزمات في صياغة السياسات العامة في إطار أن «رُبَّ ضارة نافعة». وتمر السنوات منذئذ بأزماتها الضارة والنافعة لا يفرق بين نتائجها إلا القدرة المبكرة على التعامل مع الأزمات بحسم وفاعلية.
ولم نعدم خلال العامين الماضيين من أزمات شتى سببتها جائحة كورونا وتوابعها الاقتصادية والا%D
الذهب يهبط بفعل صعود عوائد السندات والدولار والأنظار تتجه لبيانات التضخم الأميركية
برينارد: سحب مجلس الاحتياطي الدعم للاقتصاد الأميركي قد يضر بجهود التوظيف
قال لايل برينارد عضو مجلس الاحتياطي الاتحادي الأميركي اليوم الثلاثاء إن أي خطوة من المجلس للحد من الدعم المقدم للاقتصاد بسبب الارتفاع الحاد في أسعار الأصول قد يضر بالبيئة التي يحاول البنك المركزي توفيرها لتنشيط نمو الوظائف ومساعدة ملايين العاطلين عن العمل بسبب الجائحة في العثور على وظيفة.
وقال برينارد عندما سئل في مناسبة إن كانت إجراءات مجلس الاحتياطي تتسبب في تفاقم عدم المساواة الاقتصادية “ترمي خطواتنا إلى خلق انتعاش قوي في التوظيف لجميع الأميركيين، ونباشر ذلك بكفالة أوضاع مالية تدعم تمويل الشركات التي توظف عمالة وتمويل الأُسر التي ربما تشتري سيارات تحتاجها من أجل العمل، على سبيل المثال.”
وتابع أنه في حين أن أسعار بعض الأصول، مثل الأسهم، “مرتفعة للغاية”، فإنه لا يرى “كيف من الممكن أن يستفيد الثمانية إلى عشرة ملايين أمريكي الذين مازالوا بلا عمل بسبب الجائحة إذا حجبنا الدعم الضروري لشفاء سوق العمل لأن بعض المستثمرين يستفيدون أيضا.”
مقاومات ودفاعات: يورو – داكس
اوبشن تستحق ال 15:00 جمت
25 ألف دولار لكلّ صاحب وديعة.. من أين؟
قفز حاكم مصرف لبنان رياض سلامة فوق فشل البنوك في تطبيق التعميم الـ154، ليعلن جزافاً، ومن دون تفاصيل، “نجاح التعميم”، ويتيح لنفسه إعلان “مبادرة” لتقسيط ودائع الناس. فمن أين تأتي البنوك بالأموال؟
واقع الأمر أن القطاع المصرفي دخل منذ أشهر طويلة في مسار الفصل في قوائم مطلوباته بين ما قبل 17 تشرين وما بعده، بمعنى أنّ أيّ دولار دخل البنكَ بعد 17 تشرين له حكم مختلف عن الودائع السابقة لذلك التاريخ. وقد قامت البنوك بتصفية كمّ غير محدّد من تركة ما قبل 17 تشرين عن طريق “الليلرة”، أي السماح للمودعين بسحبها بالليرة وفق سعر 3900 ليرة للدولار، مع إجراء تسوية مقابلة مع مصرف لبنان تجعل البنك يتحرّر من مطلوبات بالدولار من دون أن يتحمّل أيّة خسارة.
مضمون بيان مصرف لبنان يشير، بشيء من الغموض المقصود، إلى مخطّط يُعدّ له لتصفية مشكلة ودائع ما قبل 17 تشرين، على النحو التالي:
المشكلة الأكبر ستكون لدى أصحاب الودائع الكبيرة. فهؤلاء لن يحصلوا سوى على جزء بسيط من أموالهم بالدولار، وعلى فترات تقسيط مطولة، فيما ستصبح بقية أموالهم عرضة لهشاشة سعر صرف الليرة
– سداد جزء منها بالدولار، بسقف لا يتجاوز 25 ألف دولار سنويّاً، مهما بلغ حجم الوديعة، مع تجميد الأجزاء الأخرى من هذه النسبة لفترات استحقاق مؤجّلة تمتدّ لسنوات.
– تحويل نسبة من الودائع إلى الليرة وفق سعر يقاس بمعادلة معيّنة كنسبة إلى سعر صرف المنصّة التي ستُطلَق، مع فرض سقوف على السحوبات، لئلا تتضخّم الكتلة النقدية بالمفهوم الضيق (M1)، فيخرج سعر الدولار في السوق الموازية عن السيطرة.
– في المقابل، يُجري مصرف لبنان تسوية مقابلة مع البنوك، بحيث يُبقي على جزء قليل منها بالدولار، ولفترات استحقاق ممتدّة، على أن يحوِّل جزءاً آخر إلى شهادات إيداع بالليرة.
هذه الخطة ستحمل “هيركت” مباشر في سعر التحويل من الدولار إلى الليرة، و”هيركت” آخر غير مباشر من خلال الانخفاض اللاحق المتوقّع لسعر الصرف بعد عملية “الليلرة”. لكنّها في منظور القطاع المصرفي ضرورية، لأنها تريح ميزانيات البنوك إلى حدّ بعيد، فهي تحرّرها ممّا لا يقلّ عن سبعين مليار دولار من المطلوبات، ويتيح لها ردم جزء كبير من الفجوة بين الموجودات والمطلوبات الأجنبية.
وتخفّف أيضاً الضغوط على مصرف لبنان، من حيث تقليص الفجوة الهائلة في ميزانيته التي تبقى أرقامها الدقيقة سرّاً من أسرار رياض سلامة، لكن يمكن الاستناد إلى حجم “الموجودات الأخرى” في ميزانية المصرف المركزي البالغة نحو 74.5 ألف مليار ليرة، للاستنتاج أنّها لا تقلّ عن 50 مليار دولار.
لكن أين تكمن المشكلة؟
المشكلة الكبرى ستكون لدى أصحاب الودائع الكبيرة. فهؤلاء لن يحصلوا إلّا على جزء بسيط من أموالهم بالدولار، وعلى فترات تقسيط مطوّلة، فيما ستصبح بقية أموالهم عرضة لهشاشة سعر صرف الليرة.
وفي الأمر إشكال أخلاقي كبير. فسلامة نفسه هو عرّاب النموذج الخطير، الذي سمح للبنوك ببناء انكشافات على المطلوبات بالعملة الأجنبية بهذه الضخامة، لتوفير التمويل للقطاع العام، وكانت الضمانة الوحيدة للمودعين هي الإيداع بالدولار. فالارتداد عنها الآن بغطاء قانوني، كما يطلب سلامة، هو في الحدّ الأدنى خديعة للمودعين.
والمشكلة الثانية، ستكون في صعوبة توفير 25 ألف دولار لكل صاحب وديعة. فكلّ ما تبقّى من تلك الودائع ليس أكثر من نسبة الـ15% المجمّدة لدى مصرف لبنان على شكل توظيفات إلزامية، وهي آخر ما تبقّى من احتياطاته. وعلى هذا الاحتياط لا يقف فقط عبء دعم المواد الأساسية وحفظ الحدّ الأدنى من الاستقرار النقدي، بل يقف عليه أيضاً عبء استحقاقات مدفوعات الفوائد التي يتحمّلها مصرف لبنان على شهادات إيداع البنوك (يدفع نصفها بالدولار ونصفها بالليرة)، وهي أيضاً أعباء لا يكشف مصرف لبنان بياناتها، خلافاً لأدنى قواعد الشفافية والإفصاح.
أمّا البنوك فهي العاجزة عن تحرير 3% من قيمة الودائع في حسابات لدى البنوك المراسلة، وهي التي تصرخ في مجلس النواب بأنّها لا تستطيع توفير 900 مليون دولار سنوياً لتغطية التحويلات الضرورية المنصوص عليها في مسوّدة اقتراح قانون الكابيتال كونترول، فمن أين تأتي بعشرة في المئة من قيمة الودائع بالدولار؟
بعض التقديرات من مسؤولين مصرفيين تشير إلى أنّ الحسابات التي في رصيدها 25 ألف دولار أو أكثر من مرحلة ما قبل 17 تشرين، تعدّ بمئات الآلاف، ما يعني أن تكلفة دفع هذا المبلغ لها ستكون بالمليارات وليس بمئات الملايين، ومن غير الممكن توفيرها إلا من خلال قرار كبير بخفض الحدّ الأدنى للتوظيفات الإلزامية لدى مصرف لبنان من 15% إلى 10%، وهو قرار له آثار كبيرة في هذه المرحلة، ويمكن أن يؤثّر على أيّة خطة مستقبلية للخروج من الأزمة.
المشكلة الثانية، ستكون في صعوبة توفير 25 ألف دولار لكل صاحب وديعة. فكل ما تبقى من تلك الودائع ليس أكثر من نسبة الـ15% المجمدة لدى مصرف لبنان على شكل توظيفات إلزامية، وهي آخر ما تبقى من احتياطاته
الرهان كلّه إذاً على أمرين: أوّلهما تجميل الميزانيات العمومية للبنوك ومصرف لبنان وإصلاح الفجوات في سلالم الاستحقاقات، وثانيهما تخفيف عبء تكاليف التمويل بالدولار على مصرف لبنان وإنقاذه من التعثّر.
الصدمة في بيان حاكم مصرف لبنان ليست في هذه الخطة الصعبة المنال، بل في شبه الجملة التي ساقها في مطلع البيان كما لو أنّها تحصيل حاصل، ونصّها: “بعد نجاح التعميم الـ154 والتزام المصارف بمندرجاته (…)!”
هكذا، وبكل بساطة، تمرّ معلومة بهذه الخطورة، يتوقّف عليها ما إذا كان أيٌّ من البنوك مفلساً أم مليئاً، وما إذا كان قادراً على إعطاء الودائع للناس أم لا.
ألا يستحقّ أمرٌ بهذه الخطورة أن يُصدر مصرف لبنان بياناً خاصّاً يوضح نتائج تقويم أوضاع القطاع بنكاً بنكاً، ومعدل كفاية السيولة وكفاية رأس المال لدى كلٍّ منها، ومعدّلات جودة الأصول؟
أقلّه، هل يستطيع حاكم المصرف المركزي أن يجيب بلا مواربة على أربعة أسئلة تتعلّق مباشرة بمندرجات التعميم الـ154:
1- هل التزمت جميع البنوك بتكوين حسابات حرّة من الالتزامات لدى البنوك المراسلة الخارجية بما لا يقلّ عن 3% من مجموع الودائع بالعملات الأجنبية لديها؟
2- هل قام كلّ مصرف حقّاً “بعملية تقويم عادل لموجوداته ومطلوباته”، ووضع خطة إعادة هيكلة تمكّنه “خلال فترة زمنية محدودة” من الالتزام بمعايير الملاءة والسيولة، و”إعادة تفعيل نشاطاته وخدماته المعتادة لعملائه بما لا يقلّ عمّا كانت عليه قبل تشرين الأول 2019″؟
3- هل نجحت البنوك في حضّ العملاء والمستوردين على إعادة 15% من الأموال المحوَّلة إلى الخارج، وإقناع الأشخاص المعرّضين سياسياً ومسؤولي البنوك وكبار المساهمين بإعادة 30% من تحويلاتهم؟
4- هل عرضت البنوك على أصحاب الودائع تحويلها إلى سندات دين دائمة؟
تلك هي مندرجات التعميم الـ154، ولو أنّ البنوك نفّذتها بالفعل، ولا سيما البندين الأوّلين، لكانت الأزمة المصرفية قد قطعت نصف الطريق إلى الحلّ. لكنّ الواقع أبعد ما يكون عن ذلك. وقد كانت البنوك صريحة في أنّها لم تستطع تنفيذ التعميم في الشقّ المتعلّق بالحسابات لدى البنوك المراسلة، وهو ما تتواتر المعلومات في شأنه منذ انتهاء المهلة في آخر شباط الفائت.
لجدير التذكير به أنّ بياناً صدر عن المجلس المركزي في مصرف لبنان، في ذلك الحين، لم يأتِ على ذكر التزام المصارف بالتعميم الـ154، بل تحدّث عن “إجماع على وضع خريطة طريق مع مُهل للتنفيذ سيلجأ مصرف لبنان من خلالها إلى اتخاذ الإجراءات المناسبة”.
مرّت معلومة بهذه الخطورة في شبه جملة، لأنّه شبه بيان، ولأنّها شبه مبادرة. فمصرف لبنان وحاكمه محشوران في زاويةٍ لا تسمح لهما بالمبادرة. ليس الأمر أكثر من محاولة لتفادي الآتي الذي هو أعظم.
عبادة اللحن