نقاط تحول في الجائحة والنفط والاستدامة

ينشغل العالم بسبل القضاء على حدة الجائحة باستهداف توفير اللقاح لما لا يقل عن 40 في المائة من مواطني كل دولة قبل نهاية هذا العام، ثم الارتفاع بهذه النسبة إلى 60 في المائة مع منتصف العام القادم تمهيداً للسيطرة الكاملة على الوباء.
ووفقاً لدراستين صدرتا مؤخراً من خبراء البنك الدولي وصندوق النقد الدولي فإنَّ هذا يستلزم توفير 50 مليار دولار من التمويل الفعلي، وليس مجرد تعهدات مرسلة تُفَضُّ بها مجالس المؤتمرات. وهذا مبلغ زهيد إذا ما قورن بالتكاليف اليومية التي يتكبدها العالم للتعامل مع أضرار الوباء الاقتصادية والاجتماعية. وأولويات إنفاق هذا التمويل موزعة في مجالات توفير مستلزمات الاختبار للفيروس والعلاج ومتطلبات الحماية، وزيادة طاقة إنتاج وتوزيع اللقاح، ودعمه للدول الأفقر، ومساندة النظم الصحية للقيام بعملها.
وبالإضافة لهذا التمويل الضروري، فلا غنى عن تيسير التجارة في اللقاحات، والمضي قدماً في إجراءات الإعفاء المؤقت من قيود حماية حقوق الملكية الفكرية المانعة من إنتاج اللقاحات في الدول النامية ذات القدرات التصنيعية، وفقاً للمعايير الدولية. فما زال الطلب الذي قدمته هذه الدول، متضامنة مع اقتراح للهند وجنوب أفريقيا، معلقاً من دون استجابة عملية رغم مرور ثمانية شهور من المحاولات ومضي أربعة أسابيع منذ إشارة الإدارة الأميركية لاستجابتها للاقتراح؛ فما زالت هناك معارضة أوروبية للاقتراح تعوق التوصل لاتفاق في منظمة التجارة العالمية. كما أنَّ هناك حاجة عاجلة للتبرع بفوائض الجرعات في الدول المتقدمة، بما لا يقل عن 500 مليون جرعة كاملة، فمن هذه الدول من احتجز عشرة أمثال احتياجاتها الفعلية من الشركات المنتجة.
إذن فبداية القضاء على الجائحة ممكنة عملياً وتمويلياً وتجارياً، بعد هذا الانتصار العلمي في تطوير اللقاحات في زمن قياسي، ولا يوجد مانع إلا غياب الإرادة السياسية الدولية لتحقيقه.
وفي حين تتعثر محاولات السيطرة على الوباء في الدول النامية بين إغلاق كلي وجزئي في بعض أنحائها، تتعافى حركة الاقتصاد في دول متقدمة ودول أخرى أحسنت السيطرة على الوباء منذ بداياته أو كانت أطيب حظاً في عدم التعرض الشديد لحدته. بما يضفي بعداً جديداً للتباين بين بلدان العالم في مسارات التعافي الاقتصادي. كما أن حدة التباين في توزيع الدخل والثروة التي تزايدت على مدار العقد الماضي ستتعمق أيضاً داخل الدول وبين قطاعاتها وأقاليمها وعبر شرائحها العمرية، وبين النساء والرجال. فإذا كانت الجائحة قد أصابت أنشطة اقتصادية بالخسارة والإفلاس فقد استفادت منها أنشطة أخرى لضرورتها وزيادة الطلب عليها.
وفي حين عانت شرائح كبيرة من البطالة ونقص في الأرزاق لما يقترب من 250 مليون من العاملين الذين فقدوا وظائفهم في القطاع الرسمي، تدفقت أموال إلى جموع المستفيدين من حزم التمويل العام التي اختلفت في مدى سخائها وحسن استهدافها للمستحقين، كما زادت ثروات انتفع أصحابها من تضخم أصولهم المالية مع ماراثون ارتفاع الأسهم والأصول العقارية وغيرها.
هذا التباين الذي لا يفسره في أحوال كثيرة عمل مفيد أو قيمة اقتصادية مضافة أو علاقة منضبطة بين التكلفة الاستثمارية والعائد عليها. كما لم تحسن إدارة المالية العامة في كثير من البلدان القيام بدورها في إعادة توزيع الدخول من خلال آليات الضرائب الكفؤة والعادلة والإنفاق العام وفقاً لأولويات تحقق النفع لعموم الناس. ولا يمكن إلقاء التبعات كلها على مشاجب الجائحة وما صاحبها من أزمات، فمن أوجه قصور السياسات العامة ما كان سابقاً على الأزمة.
لا تعني بدايات التعافي الاقتصادي العودة لأوضاع ما قبل الأزمة، فلم يحدث هذا مع أزمات سابقة أهون شأناً وأقل شمولاً وأخف أثراً. كما لم تخل أزمة اقتصادية، كتلك المصاحبة حالياً للجائحة، من آثار سياسية واجتماعية أحدثت تغييراً أو اضطراباً أو ارتباكاً بعد نهايتها على النحو الذي شهده العالم، بعد أزمة الكساد الكبير والأزمات المالية في الأسواق الناشئة في القرن الماضي، وكذلك ما تبع الأزمة المالية العالمية في 2008 من اضطرابات سياسية واستقطاب وصعود تيارات متطرفة وشعبوية وعنصرية. والدول التي ستتوقى هذه الآثار هي الدول الأكثر تمتعاً بالمرونة في التعامل مع تطلعات عموم الناس، وهي الدول الأسرع توجيهاً لسياساتها العامة وتشجيعها للاستثمارات لتوفير فرص العمل اللائقة، وهي الدول الأفضل في تطوير نظم الضمان الاجتماعي والتصدي للغلاء الذي تظهر نذره بارتفاع لمعدلات التضخم وتوقعاته السلبية، في دول كانت قد نسيته كظاهرة منذ عقود.
إن اعتبارات الاستدامة وتحقيق أهداف التنمية بعد الأزمة تستلزم توازناً وموارد مالية عامة وخاصة، وكذلك حسن إدارة المرحلة الانتقالية نحو تحقيق هدف الوصول لصافي الصفر من الانبعاثات الضارة بالمناخ في عام 2050 وفقاً لالتزامات الدول باتفاقية باريس.
ولكن هناك تحولات معجلة للتغيير وفقاً لما شهدته شركات النفط الكبرى الأسبوع الماضي في قاعات المحاكم وجمعياتها العمومية، بما يعتبر نقطة تحول بتأثير من الفاعلين في مجالات البيئة وتغيرات المناخ واعتبارها من حقوق الإنسان. فبعد أيام من صدور تقرير الوكالة الدولية للطاقة المحذر من فشل الوصول لأهداف اتفاقية باريس، أعقبه إصدار محكمة هولندية لحكم يلزم شركة شل بتخفيض انبعاثاتها بمقدار 45 في المائة في خلال العشر سنوات القادمة وهي فترة أقصر مما استعدت له الشركة للتوافق مع التزاماتها. وعلى الجانب الآخر من الأطلنطي اتفقت صناديق استثمار كبرى على إخراج عضوين في مجلس إدارة شركة إكسون موبيل لصالح آخريْن من المدافعين عن المناخ والبيئة رشحهما صندوق تمويل حديث احتجاجاً على تباطؤ اتخاذ الشركة لإجراءات جدية نحو حماية المناخ. استتبع ذلك تصريح شركات تصنيف الائتماني بزيادة مخاطر شركات البترول الكبرى.
نقطة التحول هذه عجلت بها مطالبات المجتمع المدني في الدول المتقدمة التي سبقت خطى الحكومات والجهات الرقابية في التأثير على قرارات مؤسسات التمويل والمستثمرين، وهي بداية سيكون لها ما بعدها في هيكل سوق النفط وسلوك وأداء شركات البترول الكبرى، وكذلك الشركات الوطنية الكبيرة والشركات الأصغر في التعامل مع مستجدات سياسات المناخ وتبنيها لحلول تكنولوجية تمكنها من تخفيض الانبعاثات الكربونية. وفي حوار لي مع أحد المديرين التنفيذيين في قطاع الصناعات الاستخراجية ذكر لي أن نقطة التحول هذه كانت متوقعة، ولكنها أتت سابقة لأوانها، فكان رأيي أن أزمة الجائحة عجلت بها وهو ما لم يعترض عليه.
في ظل هذه المستجدات المتسارعة تبرز آليتان للتغيير والتقدم في سباق الأمم استمدتا زخماً من معترك أزمة الجائحة، الأولى آلية الاستدامة التي لا يجب اختزالها في تغيرات المناخ ولكن تؤخذ بمنهج شامل لتحقيق أهداف رؤى 2030 بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية وهي تتضمن حتماً استثمارات للتعامل مع تغيرات المناخ، فضلاً عن تفعيل أسس الحوكمة والمشاركات المحلية والدولية. والآلية الثانية هي التحول الرقمي الذي أصبح عابراً للقطاعات والأنشطة الاقتصادية والاجتماعية، فمستحدثاته وتطبيقاته صارت أسلوب حياة وتواصل بين الناس ومعينة في تقديم خدمات التعليم والصحة والترفيه. ومن خلاله يتم التحكم في قطاعات الإنتاج والنقل والطاقة والمياه، ومن دونه لا تنجز معاملات مالية، وبه ستتغير أنماط العمل وأشكال النقود الصادرة من البنوك المركزية ونظم تسوية المعاملات.
هذه رياح التعافي فلتستعد لها القلاع، وقديماً قالوا:
إِذا هَبَّت رِياحُكَ فَاِغتَنِمها

د. محمود محيي الدين

ما بعد وصول النفط لثمانين دولاراً

كل شيء يحدث بسرعة هذه الأيام، وهناك كثير من القطع المتناثرة في كل مكان، والتي تحتاج إلى أن نضعها في قالب واحد حتى نفهم ماذا يحدث من حولنا، وإلى أين نسير هذا العام مع أسعار النفط؟
ولنفهم ما قد يحدث في الأشهر الستة القادمة. فلقد اجتمع وزراء الطاقة والنفط ضمن تحالف دول منظمة البلدان المصدّرة للبترول (أوبك) وكبار المنتجين خارجها، التحالف المعروف باسم (أوبك+) يوم الأول من يونيو (حزيران)، وفي اجتماع قصير جداً (لم يتجاوز 25 دقيقة تقريباً) توصلوا إلى مواصلة زيادة الإنتاج التدريجي في يوليو (تموز)، والاجتماع كل شهر لمراجعة تطورات السوق، على أن يكون الاجتماع القادم في الأول من يوليو لتحديد ماذا سيفعلون بعد ذلك.
هذا الخبر كان مريحاً للسوق نوعاً ما ولكن ليس للدرجة المطلوبة، فرغم أن التحالف استجاب للتحسن في الطلب وزاد من إنتاجه فإن المضاربين والمصافي يريدون وضوحاً أكثر حيال خطة التحالف لزيادة الإنتاج على مدى الأشهر الستة القادمة وليس فقط لشهر يوليو.
حقيقةً من الصعب على التحالف اتخاذ أي قرار أكثر من القرار الشهري، وشخصياً أتمنى أن يظل التحالف يعقد اجتماعات شهرية بصورة دائمة لأن هذا التحالف الذي تقوده السعودية وروسيا هو الجهة الوحيدة القادرة على إدارة سوق النفط (لم تكن الاجتماعات الشهرية ممكنة لولا تعوُّد الجميع على الاجتماعات الافتراضية عن بُعد والتي وفّرت على الكلّ مشقة السفر إلى فيينا بصورة شهرية وجعلت من الاجتماع أمراً سهلاً في أي وقت).
وتكمن الصعوبة في أن هناك مجاهيل في السوق على مدى الأشهر الستة المقبلة. نعم هناك تحسن في الطلب وهبوط في مخزونات النفط إلى مستويات قريبة جداً من متوسط السنوات الخمس الأخيرة 2015 – 2019، إلا أن هذا التحسن على أساس بيانات أولية للطلب وهبوط في المخزونات -التي تعد المعيار المتّبع لمعرفة حالة السوق- وإحدى الركائز التي على أساسها قام التحالف بالحد من زيادة المخزونات فوق متوسط السنوات الخمس بصورة كبيرة. وهناك مجهول آخر، وهي عودة إيران لتصدير نفطها خلال الأشهر الستة القادمة إذا ما توصلت إلى اتفاق نووي مع القوة الكبرى خلال الأيام القليلة المقبلة.
والذي يرى أسعار النفط اليوم وما وصلت إليه قد ينخدع بما سوف تكون عليه في الأشهر الستة القادمة، فنفط برنت وصل إلى 70 دولاراً للبرميل في العقود الآجلة، وأصبحت هناك تكهنات بأن يكون هذا السعر هو الأرضية وليس السقف للأسعار حتى نهاية 2021، بل إن هناك توقعات كثيرة بأن نرى النفط عند 80 دولاراً في الربع الرابع من العام الجاري، وما زالت مستمرة ولم تفقد مصداقيتها حتى الآن.
نعم هناك تحسن على الطلب وهناك تراجع في المعروض، وحتى لو عادت إيران إلى إنتاجها الكامل فإن هناك سيناريوهات كثيرة من بينها سيناريو ظهور فجوة بين العرض والطلب على نفط التحالف بنحو مليوني برميل يومياً، وإذا لم تتمكن إيران من زيادة الإنتاج ستصل هذه الفجوة إلى 4 ملايين برميل يومياً.
وليست «أوبك+» وحدها التي ترى تحسناً، بل حتى إن وكالة الطاقة الدولية تتوقع أن يعود مستوى الطلب على النفط عند مستويات ما قبل جائحة «كورونا» خلال عام، وطبعاً لا أحد لديه القدرة على زيادة الإنتاج حالياً سوى التحالف وبالأخص السعودية.
كل هذه الأسعار والتوقعات الوردية ليست مبرراً لأن يتخلى التحالف عن حذره وينجرف إلى زيادة الإنتاج بشكل أكبر، لكن من حق المصافي أن تخطط لمشترياتها خلال الأشهر الستة القادمة وإلا ذهبت لشراء النفط من السوق الفورية لتخزينه خوفاً من نقص المعروض.
إذاً الدول النفطية في وضع جيد هذا العام ومداخيلها سوف تعوّض خسائر العام الماضي عندما فقد السوق 9 ملايين برميل من الطلب اليومي ووصلت أسعار النفط إلى سعر بيع بالسالب (بخسارة 37 دولاراً يدفعها البائع للمستهلك ليأخذ النفط بدلاً من تكدسه في سابقة تاريخية).
أمام هذه الصورة الجميلة لعام 2021 يجب ألا ننسى التحديات التي يحملها. العالم تغير وسيتغير للأبد، ومهما عادت الحياة لطبيعتها قبل جائحة «كورونا»، فإن الحياة لن تعود كالسابق. ستظل الاجتماعات الافتراضية وبيئات العمل عن بُعد في النمو، وستظل التجارة الإلكترونية تنمو بعد تعود المستهلكين عليها.
وفي الوقت ذاته، هناك إدارة أميركية جديدة لديها سياسة لمواجهة التغير المناخي بمستهدفات عالية جداً، وأصبح سيناريو الوصول إلى انبعاثات كربونية صافية بحلول 2050 مطلباً على مستوى الحكومات انتقل الأسبوع الماضي إلى مجالس إدارة أكبر ثلاث شركات نفط مدرجة في أسواق الأسهم العالمية. وأصبحت وكالة الطاقة تطالب بعدم الاستثمار في النفط والغاز لدعم اتفاقية باريس.
في النهاية، لنترك الحديث عن المدى البعيد قليلاً، ولنعد إلى العام الجاري ولنستمتع بالأسعار الحالية… حتى حين.

وائل مهدي

لغز انهيار العملات الرقمية

انخفضت أسعار بتكوين والعملات المشفرة الأخرى بشكل حاد خلال الشهر الماضي، إذ خسر سوق العملات المشفرة مجتمعة حوالي تريليون دولار، وفقا لمجلة “فوربس”.

وتراجع سعر عملة بتكوين من أكثر من 60 ألف دولار لكل بتكوين إلى أقل من 35 ألف دولار من منتصف أبريل وحتى منتصف مايو.

وفقدت “إيثريوم”، ثاني أكبر عملة مشفرة من حيث القيمة بعد بتكوين، نصف قيمتها في أسبوعين فقط، بينما انهار أيضا منافساها “كاردانو” و “بي أن بي”.

وإلى الآن يحاول المتعاملون والمحللون التوصل إلى سبب انهيار أسعار العملات المشفرة، التي يعتقد كثيرون أن تغريدات مالك شركة تيسلا، إيلون ماسك، المتعلقة بتقليص خطط شركته لاعتماد بتكوين، وقرارات الصين بشأن منع التعامل بهذه العملات، كانت السبب وراء الانهيار الأخير.

لكن خبراء يرون أن تسلا والصين لعبا دورا صغيرا في تراجع الأسعار.

في مارس العام الماضي، انهار سوق بتكوين والعملات المشفرة بحوالي 50 في المئة في غضون يومين فقط إلى جانب أسواق الأسهم في جميع أنحاء العالم حيث أغلق وباء كورونا البلدان والاقتصادات قبل أن تنتعش الأسواق على نطاق واسع خلال الأشهر اللاحقة.

وقال خبير العملات المشفرة روشون باتيل لوكالة “بلومبرغ” إن “من الصعب حقا تحديد السبب النهائي وراء تراجع الأسعار”.

وتشير “فوربس” إلى وجود نظريات تلقي باللائمة على “الحيتان”، وهم الأفراد الذين يتحكمون بكميات كبيرة من عملة مشفرة أو أخرى، ويقومون بالتلاعب بسعر بتكوين وغيرها من العملات.

ويؤكد الخبير غلين غودمان إن “الحيتان”، وفقا لتلك النظريات، قد يحاولون دفع أسعار بتكوين والعملات المشفرة إلى الانخفاض حتى يتمكنوا من شراء المزيد.

ويتابع غودمان “كان [سعر البيتكوين] يرتفع لأشهر بسبب قوة الشراء، ثم بدأ ينحرف لمدة ثلاثة أشهر إذ أخذ بعض حاملي العملة في البيع لمشترين جدد، ثم بدأ المعروض لدى المشترين الجدد في النضوب، وبالتالي انخفض السعر.

ويضيف إن تسمية التراجع الحالي بأنه “مرحلة تراكم” أخرى هو مجرد تكهنات. يمكن بسهولة أن تكون مجرد وقفة قبل موجة بيع أخرى”.

وكانت الصين مركزا رئيسيا لبتكوين، أشهر العملات الرقمية. وتستحوذ على حوالي 90 بالمئة من التجارة العالمية في هذا القطاع.

لكن بكين قامت بانعطافة جذرية العام 2019 عندما حظرت الدفع بالعملة المشفرة في البلاد، معتبرة أنها أداة تخدم “أنشطة إجرامية” وتبييض الأموال.

وأعلن إيلون ماسك الشهر الماضي أن شركته للسيارات الكهربائية “تسلا” ستتوقف عن قبول بتكوين كوسيلة دفع، حفاظا على البيئة في ظل استخدام عمليات تعدين هذه العملة الرقمية كميات كبيرة من الطاقة الكهربائية.

ثم بدا ماسك وكأنه يشير إلى أن تسلا كانت تخطط لبيع ممتلكاتها الضخمة من العملة الرقمية، قبل أن يوضح أن الشركة لم تبع أي بتكوين.

وتعدين بتكوين عملية تستخدم الطاقة بكثافة وتتطلب كميات كبيرة من الكهرباء في مراكز بيانات عملاقة.

بعد 22 عاماً من تثبيت الدولار/الليرة: لماذا اندلعت أزمة سعر الصرف؟

بعد 22 عاماً من تثبيت سعر صرف الدولار الأميركي الى الليرة اللبنانية منذ عام 1997 على معدّل 1507.5، كاد هذا الرقم يشكّل حقيقة ثابتة ورمز الثقة الوحيد بالإقتصاد اللبناني، وبات غير قابل للبحث، وكأنّ سعر الصرف على جزيرة نائية، لا يتأثّر بكل ما يدور حوله من تطوّرات تطاول مختلف المؤشرات الماكرو-إقتصادية وعوامل المخاطر الناتجة من غياب الاستقرار السياسي، التي تعتمدها مختلف مؤسسات التصنيف الدولية، لتقييم قدرة البلدان على سداد ديونها بالعملات الأجنبية…من هنا لا يزال السؤال المركزي في مختلف الأوساط يتمحور حول الأسباب العميقة لاندلاع ازمة سعر الصرف؟ والجواب المباشر: إذا أردتم أن تعرفوا ماذا جرى عام 2019، إبحثوا في ما حصل منذ العام 2011…

إنطلاقاً من الأدبيات العلمية الإقتصادية، من المعلوم أنّ تاريخ أزمات سعر الصرف عالمياً أتاح وفق المراحل تفسير أبرز أسبابها وعناصر تطوّرها من خلال «أجيال من النماذج» التي تأخذ في الاعتبار أصل الأزمات وعواملها ومحدّداتها الرئيسية.

في هذا السياق، تمّ تصنيفها وفق ثلاثة أجيال من النماذج وهي:

– نماذج الجيل الأول، الذي يفسّر الأزمات بملاحظة تدهور أساسيات الاقتصاد الكلي، أي تدهور شامل لمختلف المؤشرات الماكرو-إقتصادية بشكل جامع ومتراكم لسنوات (عجز مالي، تراجع في نمو الإقتصاد، عجز في ميزان المدفوعات…) بحيث يفقد الإقتصاد المعني ثقة مختلف العملاء الإقتصاديين به وبعملته…

– نماذج الجيل الثاني، التي تشرح حالات أزمة العملة، حيث يبدو أنّ المتغيّرات الأساسية للاقتصاد الكلي لم تتدهور؛ تنشأ هذه الأزمات من توقعات العملاء الإقتصاديين للتطور المستقبلي للمؤشرات في ما يتعلق بشكوك السوق، مما يخلق توازنات متعددة ؛

– نماذج الجيل الثالث، التي تخلق علاقة بين أزمات العملة والأزمات المصرفية. يمكن أن تؤدي أزمة العملة أيضًا إلى أزمة مصرفية إذا كانت المصارف الخاصة مثقلة بالديون بالعملة الاحتياطية.

في حالة لبنان وبمنهج تحليلي تسلسلي، يتبيّن أن نموذج الجيل الأول هو اكثر ما يفسّر إنفجار الأزمة النقدية وسعر الصرف عام 2019، بالنظر الى تراكم تدهور جميع المؤشرات الماكرو-إقتصادية وبشكل حاد ومتصاعد تحديداً منذ العام 2011.

من هنا، يتبيّن أنّ أساسيات الاقتصاد الكلي تشرح تماماً كيف أنّ الفترة الممتدة بين عام 2011 وعام 2019 كانت تحضّر أزمة سعر الصرف على أفضل وجه، من خلال التدهور التراكمي المعمّم لجميع مؤشرات الاقتصاد الكلي في الماضي. ولبنان على وجه الخصوص منذ عام 2011، كما سنُظهر في هذا الإطار.

أزمة العملة «الجيل الاول»

بول كروغمان (1979)، كان رائداً في المفهوم النظري الأساسي لما يُسمّى بنموذج أزمة العملة «الجيل الأول». يوضح كروغمان من خلال نموذجه، أنّ نمو الإئتمان المحلي المرتبط بتمويل عجز الميزانية المزمن عن طريق الاقتراض من البنك المركزي (عن طريق طبع النقد)، يؤدي إلى انخفاض الاحتياطيات، ويجبر السلطات النقدية على التخلّي عن نظام أسعار الصرف الثابتة.

ويظهر، مع تساوي جميع العوامل الأخرى، أنّ الاحتياطيات تنخفض، لأنّ القطاع الخاص غير راغب في الاحتفاظ بالجزء المتزايد من القاعدة النقدية. النتيجة المنطقية التي يشرحها كروغمان، هي أنّه سيكون هناك هجوم مضاربات، بسبب التوسع المفرط في المعروض النقدي (التضخم)، ما يؤدي إلى استنفاد الاحتياطيات وبدء أزمة العملة.

وبالتالي، فإنّ الحفاظ على التكافؤ في سعر الصرف يؤدي بالبنك المركزي إلى السحب من احتياطياته لإعادة شراء عملته، متدخّلا في سوق القطع في حدود استنفاد احتياطياته، ما يضطر البنك المركزي إلى التخلّي عن أسعار الصرف الثابتة ومراقبة نظام سعر الصرف العائم.

وطبعاً، لا تتغيّر النتائج الأساسية للنموذج في حالة تمويل عجز الموازنة عن طريق إصدار الأوراق المالية بدلاً من طباعة النقد مباشرة.

في هذه الحالة، تؤدي خدمة الدين إلى زيادة تدريجية في العجز حتى يعبّر فيها القطاع الخاص عن رفضه الاحتفاظ بمزيد من سندات الدين. وقد يؤدي ذلك إلى لجوء السلطات إلى طباعة النقد لتمويل العجز المالي.

ويتلخّص تدهور المؤشرات الماكرو-إقتصادية وفق ثلاثة مرتكزات أساسية:

1) إنغماس الجهاز المصرفي في تمويل الدين العام المتنامي، والذي تمت دولرة ثلثه (اي أنّ ثلث الدين العام هو بالعملات الأجنبية)، ويحمل الجهاز المصرفي أكثر من نصف الدين بالعملات الأجنبية، فضلاً عن معظم الدين العام بالليرة اللبنانية..

2) الدولرة الثابتة والمرتفعة منذ الأزمة النقدية في لبنان في الثمانينات على الرغم من تثبيت سعر الصرف طيلة 22 عاماً.

3) التمسّك باعتماد نظام ربط سعر صرف الليرة اللبنانية بالدولار الأميركي بشكل متشدّد على معدّل 1507.5، بغض النظر عن أي تطوّرات في مختلف المؤشرات الماكرو-إقتصادية، لاسيما منها تراكم العجز الحاد لميزان المدفوعات منذ العام 2011، مما ساهم بنفاد إحتياطي البنك المركزي بالعملات الأجنبية.

أولاً، انغماس القطاع المصرفي في تمويل الدين العام، من خلال شراء سندات يوروبوند بقيمة 15 مليار دولار أميركي، وشهادات إيداع من مصرف لبنان بقيمة 52.2 مليار دولار (بلومبرغ)، والتي تُضاف إلى 17.5 مليار دولار كانت تشكّل الاحتياطي الإلزامي على الودائع بالعملات الأجنبية، أو ما يفوق 70 مليار دولار لدى مصرف لبنان من إجمالي الودائع بالعملات الأجنبية البالغة 120 مليار دولار.. تُضاف الى معظم الدين العام بالليرة اللبنانية الذي يحمله الجهاز المصرفي..

مما يجعل معظم الودائع موظفّة لدى القطاع العام من خلال القطاع المصرفي. كما أنّ معظم الودائع بالعملات الأجنبية عالقة في القطاع العام بين شهادات الإيداع بالدولار للمصرف المركزي وشراء اليوروبوند للدولة اللبنانية.. يعني أنّ المصارف منكشفة على القطاع العام بما يفوق ثلثي التوظيفات لديها، فيما تسليفاتها للقطاع الخاص تقلّ عن ثلث التوظيفات…

وعلى الرغم من مخاطر الاستدانة بالعملات الأجنبية خصوصاً، تظهر الأدبيات الإقتصادية ميل البلدان الناشئة والبلدان المشابهة لوضع لبنان الاقتصادي، الى الاستدانة بالدولار الأميركي لتتمكن من استقطاب تمويل من الأسواق الخارجية. من هنا اللجوء إلى إصدار سندات اليوروبوند للحصول على تمويل على الصعيد الدولي، كما لكون معدّلات الفوائد على سندات اليوروبوند عمومًا تكون أقل من معدلات الفائدة على سندات الخزينة بالعملة الوطنية (نظرًا لاختلاف عوامل المخاطرة) مما يساعد في تخفيض خدمة الدين. وهذا كان أساس هدف زيادة حصة الدين العام بالدولار الأميركي من مجموع الدين العام في لبنان.

ثانياً، الدولرة (نسبة الودائع بالدولار الأميركي من مجموع الودائع في لبنان)، التي بدأت في لبنان أثناء الأزمة النقدية في الثمانينات، بقيت مرتفعة على الرغم من تثبيت سعر صرف الليرة إزاء الدولار الأميركي طيلة 22 عاماً، الأمر الذي كان يفترض أن يعيد أكثر الثقة بالليرة اللبنانية ويخفّض معدّل الدولرة. علماً أنّ الدولرة في لبنان كانت ولا تزال خياراً تلقائياً للقطاع الخاص، القلق من تدهور سعر الصرف وخسارة القدرة الشرائية للعملة الوطنية، وقد بقي يحاول أن يحتمي بتحويل معظم مدخراته الى الدولار الأميركي، على الرغم من تثبيت سعر الدولار لسنوات… إلّا أنّ الدولرة غير الرسمية والجزئية المرتفعة، ترافقت مع إنشاء البنك المركزي لغرفة مقاصة بالعملات الأجنبية، كما سمح للمصارف بتعبئة الصراف الآلي بالدولار الأميركي، مما ساهم في تدفّق الدولار نحو السوق الموازي بشكل غير منضبط، وتمويل المضاربة على الليرة، كونه كان يُسمح لأي مقيم على الأراضي اللبنانية بإيداع مثلاً 150 ألف ليرة لبنانية في حسابه الجاري وسحبها مباشرة 100 دولار أميركي ورقاً، دون أي تدقيق، بسبب التحويل والسحب الورقي لعملة اجنبية لا يمكن طباعتها في لبنان!

د. سهام رزق الله