وكالة الطاقة: خريطة طريق نحو «صفر انبعاثات»

نشرت وكالة الطاقة الدولية في 18 مايو (أيار) الماضي تقريرا من 224 صفحة تشرح فيه بإسهاب التوقعات والسيناريوهات حول خريطة الطريق للتوصل إلى عالم «صفر الانبعاثات في 2050». وقد أعدت الوكالة التقرير بناء على طلب الرئاسة البريطانية لمؤتمر الأمم المتحدة لتغيير المناخ «كوب 26»، المقرر عقده في غلاسكو في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، والذي يعتبر أهم مؤتمر للمناخ منذ اتفاق باريس، حيث من المتوقع أن تناقش الدول تنفيذ الالتزامات التي تعهدت بها. وقد حذرت الوكالة في تقريرها من أن التعهدات الدولية الحالية لتحقيق «صفر انبعاثات بحلول 2050» غير كافية للحد من زيادة درجة الحرارة العالمية 1.5 درجة مئوية. كما حذرت أيضا من مسؤولية قطاع الطاقة على الاحتباس الحراري، الذي وصفته بأنه أهم تحد تواجه الإنسانية. وقد شكّل هذا التحذير ركناً أساسياً من أركان التقرير، وإحدى الأولويات الواجب معالجتها.
شمل التقرير أموراً رئيسية، الأولى: رسم خريطة الطريق والسيناريوهات لإمكانية التوصل إلى الهدف المناخي المنشود بمنتصف القرن، وما هو المطلوب تنفيذه لتحقيق ذلك. ثانيا: الإشارة إلى التوقعات والإمكانيات للحصول على الطاقات المستدامة اللازمة، ثالثا: تبيان مدى التزام الدول الكبرى بتقليص ظاهرة الدفيئات عن طريق التحول من العصر الهيدروكربوني إلى عصر الطاقات المستدامة، نظرا لأهمية ذلك في مكافحة الاحتباس الحراري. فقد استعرض التقرير بإسهاب مرحلتين زمنيتين – قصيرة المدى حتى عام 2030 وبعيدة المدى حتى عام 2050. توقعت الدراسة توفر جميع تقنيات الطاقات المستدامة المطلوبة لتحقيق الأهداف المرجوة بحلول 2030، لكن لا يزال حوالي نصف التقنيات المطلوبة لعام 2050 تحت التجربة (بالذات لاستعمال وقود الهيدروجين والميثان وتطوير سعة البطاريات الحديثة وتجميع وتخزين ثاني أكسيد الكربون). كما تبنى التقرير أكثر من 400 معلم لمختلف أنواع الطاقة والتقنيات التي يتوجب توفرها بحلول 2050 لتحقيق الهدف المناخي المنشود. وبما أن التعامل مع التغير المناخي يشمل، بطبيعته، دول العالم بأجمعها، فإن نجاح التحول الطاقوي يجب أن يشمل مختلف دول العالم لكي تنجح المحاولات للتأثير على التغير المناخي. لكن الطريقة التي اعتمدت في اتفاقية باريس، هي أنه يتوجب على كل دولة رسم استراتيجيتها للتحول الطاقوي والالتزام بالتغير المناخي حسب إمكانياتها وقدرتها. وهذا هو بالضبط ما أدى إلى قلق المسؤولين عن مؤتمر غلاسكو المقبل، إذ اكتشفوا أن التعهدات غير كافية وكذلك الالتزامات التنفيذية. ومن ثم، يتوجب مراجعة هذه التعهدات ورسم خريطة طريق جديدة لمدى تنفيذ التعهدات. وخير دليل على خطورة هذا التحدي هو أن عدد الدول المتعهدة بتحقيق «صفر انبعاثات بحلول 2050» قد تزايد، وتشكل في مجملها مسؤولية 70 في المائة من كبح الانبعاثات، لكن من الملاحظ في نفس الوقت ازدياد انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. هذا سيعني أنه سيوجد 22 مليار طن من ثاني أكسيد الكربون حول العالم بحلول 2050، وأن درجة الحرارة سترتفع إلى 2.1 درجة مئوية في منتصف القرن. ويقترح التقرير حلولا متعددة، منها: «عدم ضرورة الاستثمار في صناعات الوقود الأحفوري». كما يتوقع ارتفاع حصة الطاقات المستدامة في توليد الكهرباء من 12 في المائة في عام 2020 إلى 35 في المائة في 2050، وأن ينخفض استهلاك النفط إلى حدود دنيا، بحيث تنحصر مستقبلا في السلع البلاستيكية التي تحتوي على الانبعاثات داخلها وعلى المنشآت التي لديها الوسائل التقنية لتجميع وتخزين ثاني أكسيد الكربون أو الوقود ذي الانبعاثات الضئيلة.
خلاصة الأمر، يمكن تشبيه خريطة طريق وكالة الطاقة الدولية بتحرك قطار على سكة حديد دولية. فالقاطرة موجودة ومتأهبة للانطلاق. كما أن هناك عربات محدودة العدد تحتوي على عدد محدود من الركاب. لكن، رغم توافر العوامل الأساسية هذه لانطلاق القاطرة والعربات على السكة، فإن تشييد السكة لم يكتمل بناؤه حسب المواصفات المطلوبة في جميع الدول، كما هو مفروض. فمن المتوقع استكمال التشييد تدريجيا قبل وصول القطار، كما أن عدد الركاب سيزداد تدريجيا في المحطات المقبلة. لكن عددهم غير معروف بالضبط حتى موعد انطلاق القاطرة من المحطة الأولى.
لقد أوضحت الكثير من الدراسات العالمية بإشراف الأمم المتحدة أن العالم يعاني من أزمة مناخية، متمثلة بذوبان الكتل الجليدية في القطبين الشمالي والجنوبي، وحرائق غابات الأمازون وغيرها من الغابات وغرق الجزر والسواحل. كما تفترض معظم الدراسات العلمية هذه أن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون والميثان تلعب دورا رئيسيا في هذا التلوث. وبالفعل، فقد انطلق العالم خلال العقود الماضية لإيجاد السبل اللازمة لحل المشكلة الكبرى التي تعانيها الكرة الأرضية.
وقد انتقلنا الآن إلى حالة هجينة، حيث لا تزال المصادر الأحفورية (النفط والغاز والفحم) مهيمنة على الصناعات بمختلفها (توليد الكهرباء ووقود السيارات ومصانع البتروكيماويات، الخ). لكن، قد بدأ التحول فعلا إلى طاقات جديدة وعالم هجين. فهناك حوالي 10 ملايين سيارة كهربائية على الطرق الآن، مقارنة بنحو 1.5 مليار سيارة ذات محرك الاحتراق الداخلي (البنزين والديزل)، وأن 80 في المائة من محطات الكهرباء الحديثة في العالم تزود بالطاقات المستدامة.
فقد بدأ هذا العالم الهجين وانطلقت القاطرة والمركبات على السكة الحديدية. السؤال هل من الممكن التوصل إلى نهايتها في الموعد المحدد بما هو متوفر من تقنيات وأموال وعلاقات «جيدة» ما بين الدول؟
فرغم البحث القيم والمزود بمختلف الفرضيات والتوقعات، فلم نقرأ عن النتائج المترتبة على الخلافات الاقتصادية والعلمية ما بين الدول، أو حتى في داخل بعض الدول الكبرى المؤثرة على عملية تحول الطاقة. فالخلاف الجيوسياسي ما بين الولايات المتحدة والصين له انعكاسات وردود فعل على موضوع التغير المناخي. وإمكانية تسلم زعيم يميني متشدد في دولة كبرى، كالرئيس دونالد ترمب في الولايات المتحدة، الذي اعتبر اتفاقية باريس مضرة للاقتصاد الأميركي وسحب عضوية بلاده منها، رغم أهميته، لم نجد تأثير هذه العقبات أمام التمكن من تحقيق صفر انبعاثات في موعده المحدد 2050.

وليد خدوري

مستجدات دور الدولة وضرائبها وعملتها

استوجبت الأزمات الصحية والاقتصادية والمالية المتزامنة تدخلاً غير مسبوق للدولة. اتخذ هذا التدخل حزماً من الإنفاق للعام لمواجهة هذه الأزمات والتعافي منها. وفي حين يتصف إنفاق المواجهة طبيعة مؤقتة تنتهي بنهاية الأزمة الصحية بالسيطرة على انتشار الوباء، إلا أن التعافي يتطلب استثماراً عاماً مستثمراً لتنشيط الأسواق وحفز القطاع الخاص. كما تمتد استثمارات التعافي لمساندة قطاعات التعليم والرعاية الصحية، وتطوير البنية الأساسية والتكنولوجية على النحو الذي نراه الآن في الولايات المتحدة التي أنفقت 1.9 تريليون دولار وهي بصدد إنفاق 3 تريليونات أخرى في هذه المجالات بما يتجاوز 20 في المائة من إجمالي ناتجها المحلي في عام واحد. ويتجاوز الإنفاق في دول الاتحاد الأوروبي متوسط 10 في المائة من ناتجها وكذلك تفعل باقي الدول ذات القدرة الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
استعانت هذه الدول في إنفاقها المالي بإمكانية تعبئتها لتمويل منخفض التكلفة بدعم من سياسات نقدية لبنوكها المركزية وجودة في تصنيفها الائتماني تجعل الأسواق المالية تمنحها ما تحتاج بتكاليف زهيدة. أما الدول النامية فلا تملك ترفاً مالياً أو سخاءً نقدياً فتجدها مقيدة في إنفاقها. وهي إن تجاوزت حدودها هددها التضخم المحلي ولوحت لها مؤسسة التصنيف الائتماني بعواقب الأمور وما يترتب عليها من تكاليف وأعباء في التمويل الخارجي. وبعد سنوات من التقارب الاقتصادي بين الدول المتقدمة والدول النامية تجد إشارات واضحة للتباين والتفاوت لصالح الدول الأغنى التي ستشهد تعافياً أسرع من الجائحة ونمواً اقتصادياً أعلى دون أن تتعرض لأزمة مديونية؛ كتلك التي تحدق بأشباحها وتداعياتها على الدول النامية، خاصةً بعدما تسارعت معدلات نمو تراكم مديونياتها من قبل صدمة الجائحة فيما عرف بالموجة الرابعة للديون.
ستترك الأزمات الراهنة صناع القرار أمام تساؤلات هامة:
– ما هو شكل التعافي؟ فمن الأرجح أن يأخذ التعافي شكل حرف K، بما يعكس التفاوت بين الدول والقطاعات في معدلات نموها وبما يكرس عدم العدالة وينذر بتوترات اجتماعية وسياسية تهدد الاستقرار الاقتصادي.
– ما هو مستقبل العمل؟ لقد كان الحديث قبل الجائحة مشغولاً بآثار الثورة الصناعية الرابعة والرقمنة ومستحدثات تكنولوجيا المعلومات وتطبيقاتها على البطالة. وقد أثرت إجراءات الإغلاق الكلي والجزئي للنشاط الاقتصادي لتحجيم الوباء على سوق العمل فأضافت ما يربو على 250 مليون متعطل في السوق الرسمية وأضعاف هذا الرقم في السوق غير الرسمية. وهنا يأتي دور الاستثمارات العامة للدولة في تحفيز النشاط الاقتصادي وكذلك دور سياسات الدولة في ضبط قواعد إعادة فتح المشروعات والقطاعات الاقتصادية للعمل، ومدى تفعيل نماذج التشغيل الهجين بالتفاعل الكفء بين نظم العمل التقليدية ومن خلال الوسائل الافتراضية وعبر شبكات الإنترنت.
– ما هي احتمالات عودة التضخم؟ فبعد عقدين من السيطرة على التضخم، هناك جدل محتدم حول الآثار التضخمية لحزم الإنفاق العام خاصةً في الولايات المتحدة، التي بلغ متوسط معدل التضخم فيها 1.2 في المائة في العام الماضي 2020، ولكن هذا المعدل في شهر مارس الماضي قد بلغ 2.6 في المائة. وهناك رأي يقوده لاري سمرز وزير الخزانة الأميركية الأسبق بأن حزم الإنفاق العام الأخيرة تتجاوز حجم المطلوب لتجسير الفجوات التي سببتها الجائحة وأن هذا الإنفاق سيكون تضخمياً. في حين يترقب بنك الاحتياطي الفيدرالي آثار هذا الإنفاق مفرقاً بين ما يمكن أن يكون تضخماً مؤقتاً انتقالياً أو ذا طبيعة متواصلة تستوجب التدخل. وإن كان الأمر يتطلب في كل الأحوال عدم إغفال عامل التوقعات التي تشكل سلوك المستهلكين والمدخرين والمستثمرين خاصةً في ظروف اللايقين التي تسود الأسواق.
– ما هي مسارات سعر الفائدة؟ رغم التراجع النسبي للولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي فما زال الدولار يهيمن على أسواق الصرف ويشكل أكثر من 60 في المائة من احتياطي البنوك المركزية و85 في المائة من التداول في سوق العملات الدولية. ومن ثم فإن تغيرات أسعار الفائدة على الدولار ستستمر في تأثيراتها المعتادة على أسعار الفائدة للعملات الرئيسية وكذلك أسعار الصرف والتدفقات المالية خاصةً قصيرة الأجل.
وفي ظل تزايد دور الدولة يلزم حسن توجيه إنفاقها العام، فكلما كان هذا الإنفاق في «مهمة موجهة» وفقاً للاقتصادية الإيطالية – الأميركية ماريانا مازوكاتو أصبح الأثر تكافلياً ومسانداً لنمو اقتصادي أكثر شمولاً وأعلى في قيمته المضافة طويلة المدى. وقد يكون هذا الإنفاق مكثفاً للبحث والتطوير في مجالات الأبحاث الطبية والتكنولوجية أو في جهود السيطرة على الانبعاثات الضارة بالمناخ. أما إذا كان الإنفاق العام مزاحماً للقطاع الخاص مقيداً لحركة السوق مشوهاً للمنافسة فسيتجاوز ضرره نفعه، ولو بعد حين.
ويتطلب توسع الدولة في إنفاقها العام مراجعة لهيكل إيراداتها خاصةً من الضرائب. فنجد، على سبيل المثال، الإدارة الأميركية الجديدة وهي تتوسع في الإنفاق العام تراجع معدلات الضرائب على أرباح الشركات فتزيدها من 21 في المائة إلى 28 في المائة، وتتخذ إجراءات لتفعيل تحصيل الضرائب، وتقترح حداً أدنى للضرائب على الشركات دولية النشاط لا يقل عن 21 في المائة عبر الحدود بما يستلزمه ذلك من اتفاقات وتنسيق دولي، كما تنظر في تغييرات في الضرائب على الأرباح الرأسمالية، بما قد يحقق في مجمله زيادة في الإيرادات الضريبية تغطي جانباً من الإنفاق المستجد وتسهم في إعادة توزيع الدخول.
من ناحية أخرى تجد تغييراً مهماً في شكل العملات لن تستقيم إدارة السياسة الاقتصادية إلا بإدراك تبعاتها على الاقتصاد والاستقرار النقدي. فقد تنامى الإقبال على الأصول المشفرة وفقاً لخوارزميات مركبة مثل البيتكوين، ولكن لا يمكن اعتبارها من العملات بحال فهي شديدة التقلب لا يمكن الاعتماد عليها كمخزن للقيمة أو وسيط مقبول ذي قوة إبراء واسع النطاق. ولكنها أتت حاملة مزايا تفهم تطور المجتمعات والتقدم في تطبيقات الرقمنة وتكنولوجيا المعلومات. كما أنها تستفيد من خصائص اللامركزية بين أطراف المعاملات دون وسيط أو تكلفة معاملات، بتأمين نظام «سلسلة الكتل» وقاعدة بياناته الموزعة دون تحكم من مركز واحد. وقد حاولت ابتكارات من نوع العملات المستقرة التي تستخدم تكنولوجيا الأصول المشفرة ولكنها تحاول الحفاظ على استقرارها وتحجيم تقلباتها بربطها بأصول حقيقية ذات قيمة مادية مثل النفط والذهب أو عملات دولية مثل الدولار واليورو، ومن أمثلة هذه العملات المستقرة «ليبرا» التي طورتها شركة فيسبوك مع شركاء لها وواجهت صعوبة في الحصول على الموافقات اللازمة وما زالت تحاول الحصول على الموافقات المطلوبة من خلال الشكل المعدل لها المعروف بوحدة «دايم» استناداً إلى قوة منصتها التي تضم 2.5 مليار مشترك حول العالم بدعوى تعزيز الشمول المالي. ويستلزم تفعيل العملات المستقرة موافقة صريحة من البنوك المركزية التي سترتبط بها هذه العملات وهو ما زال يواجه صعوبات.
المجال الأكثر احتمالاً للتطور هو «العملات الرقمية للبنوك المركزية»، ومن خلالها ستكون للبنوك المركزية صيغة إلكترونية لعملاتها التي يمكن أن يستخدمها عموم الناس مباشرة دون وسيط مصرفي لإجراء المدفوعات وتسوية المعاملات من خلال محفظة أو تطبيق إلكتروني وبهذا تكون قد استفادت البنوك المركزية من المستجدات التكنولوجية التي تتميز بها الأصول المشفرة والعملات المستقرة مع قوة الإبراء والسند السيادي الذي تتمتع به البنوك المركزية. فلم تكن البنوك المركزية لتفرط في احتكار ريع الإصدار النقدي لعملتها، أو تزيد من تعقيدات إدارتها للسياسة النقدية، ولكن الإجراءات القانونية والتطوير المؤسسي اللازم لتفعيل العملات الرقمية للبنوك المركزية يستغرق زمناً قدره البنك المركزي السويدي، المتقدم في هذا المجال، بخمس سنوات، هذا وإن قامت بالفعل البهاما بإصدارها الأول تحت مسمى «ساند دولار» ولكنه لاقتصاد صغير الحجم والتأثير. ووفقاً لمسح قام به بنك التسويات الدولية فهناك 60 في المائة من البنوك المركزية بصدد إصدار عملاتها الرقمية و14 في المائة منها في مرحلة الاختبارات التجريبية ويترقب المتعاملون ما قد يسفر عن إحراز اليوان الصيني سبقاً في هذا المضمار؛ وعندئذ ستتغير قواعد اللعبة في السوق النقدية الدولية وليس فقط في أدوار اللاعبين الرئيسيين.

د. محمود محي الدين

«سباق» محموم على دولارات المودعين

عندما يصبح صدور قرار للبدء في اعادة الودائع الى اصحابها، واقرار اقتراح قانون ينظم السحوبات المالية والتحويلات ويجعلها عادلة للجميع، موضع شك وريبة من قِبل المواطنين والمتابعين، فهذا يؤكد ان القرارات والقوانين والتعاميم ليست طبيعية، ولن يكون تطبيقها سهلا.

عندما وضعت حكومة الرئيس حسان دياب خطة اقتصادية ومالية اصلاحية وبدأت مفاوضات على اساسها مع صندوق النقد الدولي، تدخلت لجنة المال والموازنة لإدخال تعديلات على الخطة. يومها، اتُهمت اللجنة بأنها تبنّت وجهة نظر البنك المركزي والمصارف لناحية حجم الخسائر المالية والفجوات المالية في القطاع المصرفي. واعتبر المشككون ان السلطة التشريعية ساهمت في إحباط خطة الاصلاح، التي لو تمّ السير بها، برأي هؤلاء، بغض النظر عن ايجابياتها وسلبياتها، لكان لبنان اليوم على خطى النهوض وليس على باب «جهنّم» كما هو حالياً.

المفارقة اليوم ان السلطة التشريعية التي اتُّهمت آنذاك بالتحالف مع القيّمين على القطاع المصرفي من أجل إحباط خطة الحكومة الاصلاحية، بدت امس وكأنها فسخت تحالفها مع المصارف، وسارعت بنشاط وزخم الى اقرار اقتراح قانون كابيتال كونترول بعد ان عجزت عن إقراره منذ بداية الأزمة في 2019 لأسباب مختلفة، «مُستفَزّة» مصرف لبنان الذي أصدر قانونه الخاص بالكابيتال كونترول.

ورغم ان المعطيات والمعلومات والعوائق التي حالت في السابق دون انجاز لجنة المال والموازنة دراسة اقتراح القانون، ما زالت على حالها، إلا ان اللجنة أقرّت امس اقتراح القانون مشدّدة على ان القانون أعلى من أي تعميم يصدر عن مصرف لبنان، وأحالت الى لجنة الادارة والعدل، التي باشرت فورا في مناقشته، مع العلم انه ما زالت أمام هذا الاقتراح مراحل ليجتازها في اللجان المشتركة في حال حصول خلاف في الرأي بين لجنتي المال والعدل، وفي الهيئة العامة لمجلس النواب، حيث بقيت بنود عدّة عالقة يجب الحسم فيها هناك في ضوء المعطيات المُطالب مصرف لبنان بتقديمها قبل الجلسة العامة للمجلس النيابي.

فمن سيسبق الآخر في بدء تطبيق قانونه الخاص للكابيتال كونترول، السلطة التشريعية أم السلطة النقدية؟

ورغم ان جمعية المصارف أكدت في كتاب لمصرف لبنان- قبل ان تتراجع عنه عبر كتاب آخر اكثر ايجابية- انها لا تملك القدرة والامكانيات المالية لتطبيق أي اجراء يتيح السحوبات النقدية بالدولار، إلا ان السلطتين النقدية والتشريعية ماضيتان في اقرار قانون فرض ضوابط على رأس المال، رغم عدم وجود رأس المال، ومع حرصهما الشديد على انهما تهدفان الى حماية حقوق المودعين.

في هذا الاطار، أوضح النائب ياسين جابر ان السلطة التشريعية ليست في سباق مع قرارات او تعاميم مصرف لبنان، معتبرا ان قرار البنك المركزي المتعلّق بتحديد السحوبات النقدية بالدولار هو من البنود التي تضمّنتها مسودة اقتراح قانون الكابيتال كونترول الذي تمّت مناقشته سابقا في اللجنة الفرعية، «حيث كنا نهدف الى اقرار قانون لا يحمي فقط المصارف من الدعاوى القضائية بل يحمي أيضا المودعين من خلال تنظيم السحوبات النقدية ووضع حدّ لعمليات السحب على سعر صرف الـ3900 الذي ساهم في اقتطاع 70 في المئة من اموال المودعين».

وعن قدرة المصارف على تطبيق قانون الكابيتال كونترول عند اقراره، أكّد جابر لـ»الجمهورية» انّ لجنة المال طلبت أرقاماً ومعلومات مالية من مصرف لبنان ولم تحصل عليها لغاية اليوم، «وكنا نتمنى الحصول على دراسة مفصّلة من مصرف لبنان حول انعكاسات السقوف المحددة في القانون للسحوبات بالليرة اللبنانية، على الكتلة النقدية، إلا انه لم يحضر أي ممثل عن مصرف لبنان الى جلسة لجنة المال ليفيدنا بالمعلومات المطلوبة».

اضاف: «وبما ان مصرف لبنان اعلن وألزم المصارف تسديد السحوبات النقدية بالدولار بالسقوف المحددة، فانه بالتالي قادر على فرض تطبيق الكابيتال كونترول الذي سيقرّه مجلس النواب، لأن قرار البنك المركزي شبيه باقتراح القانون الذي أقرّته اللجنة امس».

وردّا على سؤال، اكد جابر انه عند اقرار القانون، فان السحوبات النقدية بالليرة على سعر صرف الـ3900 لن تعود قائمة.

تسارع الانهيار

وتعليقاً على الاحداث والقرارات العشوائية التي تم اتخاذها في لبنان، اعتبر مسؤول مالي دولي، ان أزمة لبنان ستُستخدم في مناهج الدراسات العليا في الاقتصاد، كدراسة بحث (case study) تحت عنوان «كيف يدمّر الحكّام وصانعو السياسات السيئة والفاسدون، الأمم وثروة الوطن».

وقال: «كان لبنان يملك القدرة على أن يكون اقتصادا ناشئا نابضا بالحيوية، خصوصا في مجالات تكنولوجيا المعلومات، التعليم، المصارف، الطب، السياحة….. بدلاً من ذلك، أدار حكّامه الاقتصاد كما لو كان متجراً في «بازار».

وفيما أبدى المسؤول المالي خشيته من أن يتسارع الانهيار الاقتصادي بشكل كبير في الفترة المقبلة، رأى انه «حتى لو حصلت معجزة ما، وتم تشكيل حكومة، سيستغرق الامر وقتا طويلاً قبل أن يتمكنوا من الاتفاق مع صندوق النقد الدولي على برنامج تعديل، نظرا إلى التشوهات الكبيرة التي أحدثوها على نطاق واسع في الاقتصاد.

وختم: «لسوء الحظ، يبدو أن مزيدا من البؤس سيلحق بالسكان قبل التوصّل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي».

رنى سعرتي