أعطوا لبنان فرصة…فسادكم أوصلنا الى جهنم

بعد مرور عامين على أزمة إقتصادية لا مثيل لها في العالم الحديث، وفي ظل غياب مطلق لمؤسسات الدولة، ومع إنهيار كامل لمختلف القطاعات الخدماتية، بدأت تتضح صورة الخدمات الذاتية، بالتماهي مع مجموعة من القطاعات المتفككة، يحاول من خلالها السياسيون النفاذ إلى الإنتخابات النيابية، علماً أنّهم أثبتوا فشلهم وعدم صدقيتهم في مختلف المجالات التي تعاطوا بها.

قد تكون أكاذيب المنظومة واضحة للجميع ونعرفها جيداً. وخير مثال على ذلك «الليرة بألف خير»، ومن ثم حصل إنهيار كامل للقطاع المصرفي وتراجع سعر الصرف بشكل بات يهدّد الأمن القومي ويشكّل أزمة إنسانية غير مسبوقة. وأيضاً الكهرباء 24/24، حتى وصلنا الى إنقطاع شبه دائم للكهرباء دون حسيب أو رقيب، ومع غياب غير معقول لوزير الطاقة، وكأنّ الأمر لا يعنيه. هذا الامر إذا ما حصل في دولة تحترم نفسها يستقيل الوزير حتماً. وأخيراً تحرير القدس، والذي بدا وكأنّ الدخول إلى عين الرمانة هو الممر الحتمي لتحريرالقدس، ويذكّرنا بكلام سابق لأحد المسؤولين الفلسطينيين على أنّ طريق القدس تمّر في جونيه، وما آلت إليه منظمة التحرير وإنهيارها. كلها أمور باتت واضحة للجميع. إنما يبقى الأهم هنا مسألة تدهور سعر الصرف بشكل غير مسبوق، ومع تعاميم دون جدوى للبنك المركزي، وتراجع القدرة الشرائية لشريحة كبيرة من الشعب، حتى بتنا من أفقر دول العالم، حيث لا طعام ولا طبابة ولا بنى تحتية، وغيرها من مقومات العيش الكريم، لشعب طالما تغنى بمستواه العالمي والثقافي وتمايزه عن الدول العربية كلها.

 

يبقى الغريب الغريب في الأمر، غياب الإتحاد العمالي العام عن السمع، وكأنّها أمور لا تعنيه، علماً أنّه في دول أخرى مثل فرنسا إستطاعت «السترات الصفر» تغيير مجرى الأمور، وأجبرت الحكومة على تغيير خط تعاطيها مع مواضيع عدّة. كلها أمور تصل بالواقع الى جهنم الذي وعدونا به، ويبدو أنّ لا طريق للخلاص من هذه المنظومة الفاسدة ومافياتها سوى عبر حلٍ دولي يشترط من خلاله اللاعبون الخارجون على ما سُمّي بالمسؤولين، إجراء إصلاحات مشروطة بمساعدات، كي لا يتراجع الوضع أكثر وأكثر، لا سيما الوضع الأمني، والذي قد ينهار جراء تفاقم الوضعية الإنسانية لشريحة كبيرة من الشعب. هذا مع العلم أنّ الحكومة غائبة عن السمع ولا تجتمع مطلقاً، كون بعضهم خلط الأوراق السياسية بالقضائية، وكأنّ جريمة العصر لم تحدث. وتبدو المحادثات مع صندوق النقد الدولي بطيئة، وقد ندفع ثمنها سنوات من التقشف أكثر مما نعيشه ولبضع سنوات أخرى. وقد تنبأ «غولدمن ساكس» باقتطاع 80 بالمائة من الودائع، ويبدو انّ تعاميم البنك المركزي المتلاحقة تحقق هذه النبوءة، إذ يعطيك البنك الدولار بـ 8000 ل.ل مقابل دولار السوق السوداء بـ28000 ليرة. يقتطع من حسابك 100 دولار وتصرفها بحوالى 30 دولاراً كي تؤمّن مصاريف حياتك اليومية. وما من تعافٍ للقطاع المصرفي إلاّ بإعادة هيكلة كاملة وإقفال المصارف التي لا تمتثل للمعايير الدولية ولا تؤمّن خدمات مصرفية بالمعنى الحقيقي.

 

وعلى ما يبدو، الدولة بعيدة كل البعد عن هذه الإجراءات الملحّة، وتحاول الإلتفاف عليها لتبرير سرقة 100 مليار دولار، والتي هي نسبة المديونية، علماً أنّ لا طرقات ولا بنى تحتية ولا معامل كهرباء ولا خطط إنمائية ولا شبكة أمان صحية، مما يجعل المؤسسات الدولية تعترف وبالعلن، أنّ وضعية البلد نادراً ما يوجد مثلها. وللذين يقولون إنّ «ماكنزي» وخطته الإقتصادية كانت ستكون صالحة، نقول، انّه كان يمكن اعتبار الخطة جيدة في ظروف مختلفة، لكن وضعية لبنان اليوم تستوجب خبرات مخضرمين بالسياسات الإقتصادية، لأنّ البلد أصبح في وضعية لا تحتمل.

 

ومن دون أجندة إقتصادية تساعد في الخروج من الهوة التي أنزلونا فيها، تبدو الأمور في وضعية صعبة جداً. وللذين يراقبون ما يحدث في لبنان يعلمون علم اليقين، أنّ الطبقة السياسية تقاسمت الغنائم منذ العام 1990 ولا تزال، وتذرّعت بحقوق الطوائف، وأوجدت مجالس هي عبارة عن مؤسسات لا توحي إلّا بالفساد والرشوة والمحسوبية، وخير دليل على ذلك، مجلس الإنماء والإعمار ومجلس الجنوب ووزارة المهجرين، علماً أنّ وزارة الطاقة وحدها تستنفد ما يزيد على ملياري دولار سنوياً بشكل تراكمي، حتى شكّلت ثلث الدين العام بالتحديد.

 

لذلك، قد يكون من الملّح أولاً بأول تجاوب المؤسسات الدولية في هذه الفترة الصعبة للتخفيف من معاناة السكان، والضرر الناجم عن تخلّي الدولة عن أبسط واجباتها، وإقناعهم بإستعدادنا للعمل وبخطوات سريعة من أجل تحقيق الإصلاحات المنشودة.

 

وفي غياب عجيب لمنطق الدولة، أقل ما يُقال فيها إنّها غير مسؤولة فاسدة أكلتها المحسوبية والطائفية والرشوات، يبقى أن نقول لهم «أعطوا لبنان فرصة» كي يرتاح من فسادكم ومحسوبياتكم، ونستطيع أن نعيش لفترة في منأى عنكم. وطالما أنتم في الحكم، لا خير في هذا البلد.​

 

 

بروفسور غريتا صعب

2022: بدايات مرجوة ونهايات مأمولة

مع اقتراب بداية كل عام تبدأ لعبة التوقعات والتنبؤ بما سيحدث، والعام المقبل ليس استثناءً. وفي مجالات الاقتصاد والسياسة والشأن العام دأبت مراكز أبحاث ومؤسسات إعلام عالمية على استعراض قدراتها على حصر موضوعات تعتبرها ذات أولوية فتستشرف احتمالات حدوثها وما ينبغي عمله حيالها. وتتباين درجة ثقة أصحاب التوقعات بتوقعاتهم عما سيحدث ودفاعهم عنها وفقاً لمدى اقتناعهم باستيعابهم لما حدث فعلاً في الماضي، فتجد أكثرهم إفراطاً في الثقة بتوقعاتهم عن المستقبل هم أكثرهم توهماً بفهمهم الكامل لأحداث الماضي. فنحن في عالم تكثر فيه البيانات وتندر فيه المعلومات المدققة وتُحتكر فيه المعرفة وتكاد تغيب عنه الحكمة في استخدامها.
ويلخص مدى جدية التوقعات المستقبلية عبارة لا تخلو من سخرية مضمونها، أن «التوقع أمر في غاية الصعوبة، خاصة إذا ما كان عن المستقبل»! وهي عبارة منسوبة لكثيرين، منهم العالم الدنماركي نيلز بوهر، الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء عن صياغته نماذج فهم البنية الذرية وإسهاماته في علم ميكانيكا الكم. وقد بنى على هذا الرأي عالم فيزياء آخر من أصحاب جائزة نوبل أيضاً وهو دينيس جابور البريطاني المجري مخترع التصوير الثلاثي الأبعاد، فله مقولة مفادها أن «المستقبل لا يمكن توقعه، لكن يمكن اختراع أكثر من مستقبل؛ فقدرة الإنسان على الاختراع هي ما طورت المجتمعات الإنسانية إلى ما هي عليه». وبمثل ذلك قال المخترع الأميركي الشهير ستيف جوبز، الذي طور أجهزة الكومبيوتر الشخصي وكان وراء اختراعات أجهزة التليفون المحمول الذكي – آيفون – وغيره من أجهزة أحدثت نقلة في حياة البشر.
على أي حال، تستمر لعبة التوقعات التي تزداد صعوبة، والصعوبة هنا ليست في أن تصادف التوقعات الواقع الذي تتنبأ به فحسب، ولكن في حصر ما هو جدير بالتوقع والتتبع من حيث الأولوية في ظل ظروف اللايقين التي تكتنف عالم ما بعد الجائحة.
وتيسيراً للأمر؛ فلنلق نظرة على ما تكرر من إشارة إلى اتجاهات عامة مؤثرة في عالم ما بعد الجائحة اعتباراً من العام المقبل – 2022 – الذي ستغلب عليه جهود التكيف والتعايش مع خصائص الواقع الجديد، بعدما كانت سنة 2021، التي تلملم ما تبقى من ساعاتها، مسيطرة عليها إجراءات التصدي الصحية والمالية للجائحة وتداعياتها.
ومع كثرة بيوت الخبرة والمراكز التي تصنف الفرص والمخاطر، إلا أن كاتب هذه السطور يعطي وزناً وتفضيلاً لما يصدر عن مؤسسات التأمين؛ لأن الكبريات منها لا تكتفي بقدراتها البحثية الداخلية، ولكنها تستعين بخبرات متنوعة من خارجها تعينها على تحديد سياساتها. وهي تحتفظ بسجلات مستمرة التحديث عن حسابات المخاطر وتغيراتها وما أصابها من خطأ في التقدير. وأهميتها تأتي من أنها لا تتوقف عند مجرد سرد المخاطر، ولكنها تقوم بتسعيرها من خلال خدمات التأمين عبر دول وقطاعات وأنشطة متباينة. وفي تقرير حديث لمؤسسة «أكسا» للتأمين، بالتعاون مع مجموعة «يوراسيا» التي يرأسها محلل السياسة الدولية المعروف إيان بريمر، تم تقسيم العالم إلى أربعة أجزاء لأغراض التحليل: أوروبا، والأميركتان، وأفريقيا، والشرق الأوسط وآسيا. ووفقاً لاستمارة استقصاء رأي تم سؤال 3600 خبير مختص في المخاطر وإدارتها لاختيار خمسة مخاطر وفقاً لأولويتها من قائمة تضم 25 سؤالاً، وبالإضافة لهؤلاء الخبراء الذين يعيشون في 60 دولة حول العالم تم سؤال عينة من 20 ألف شخص من 15 دولة، وجاءت المخاطر الخمسة الأولى على هذا الترتيب:
1 – تغيرات المناخ
2 – أمن المعلومات أو الأمن السيبراني
3 – الجوائح والأمراض المعدية
4 – المخاطر الجيوسياسية
5 – مخاطر التذمر الاجتماعي ونشوب صراعات داخلية
ويلاحظ أن هذا الترتيب العالمي للمخاطر من وجهة نظر الخبراء قد اختلف بشأن ما يشغل المرتبة الأولى باختلاف الأقاليم الجغرافية، حيث ظلت تغيرات المناخ في المرتبة الأولى للمجموعة الأوروبية، بينما شغلت مخاطر الأمن السيبراني المرتبة الأولى في حالة الأميركتين، ثم جاءت الجوائح في المرتبة الثالثة للمجموعتين. وهذا يُفسر بأن أوروبا وأميركا كانتا قد قطعتا شوطاً جيداً في التعامل مع الجائحة، التي احتلت المرتبة الأولى لهما في عام 2020. كان أن هذا المسح قد أُعلنت نتائجه قبل انتشار متحور «أوميكرون»، وفي حين ظلت الجائحة شاغلاً يومياً للأفراد محل البحث، إلا أن الخبراء ينزعون إلى النظر للأبعاد الأطول مدى، فحظيت بذلك تغيرات المناخ وأمن المعلومات بالسبق في التصنيف.
أما بالنسبة لمجموعة الدول الآسيوية والشرق الأوسط، فكان ترتيب المخاطر فيها على النحو التالي:
1 – الجوائح والأمراض المعدية
2 – أمن المعلومات أو الأمن السيبراني
3 – تغيرات المناخ
4 – الاستقرار المالي
5 – المخاطر الجيوسياسية
وقد اشتركت أفريقيا مع هذه المجموعة في الترتيب للمخاطر الأولى والثانية، فبدأت بالجوائح والمخاطر الصحية وثنتها بمخاطر أمن المعلومات، ولكنها جعلت المخاطر الجيوسياسية في المرتبة الثالثة قبل تغيرات المناخ التي جاءت رابعة في الترتيب، ثم جاءت في المرتبة الخامسة مشكلات الأمن الجديدة والإرهاب، وتبعها مباشرة مخاطر الاستقرار المالي، بما في ذلك الديون.
من الملاحظ تنامي الاهتمام حول العالم بالمعلومات وأمنها، فهي إما تحتل مرتبة الخطر الأول كما في الأميركتين أو الثاني في سائر الأقاليم الأخرى؛ فقد كان للجائحة أثر معجل لدور شبكة المعلومات والتحول الرقمي مع تزايد وتكرار الإغلاق الكلي والجزئي للأنشطة الاقتصادية والاجتماعية. وقد أشار جيف ديجاردان، مؤسس شركة «فيجوال كابيتاليست»، في كتاب جديد بعنوان «إشارات»، إلى تعدد مصادر تهديد أمن المعلومات بين ما تقوم به جهات تابعة لحكومات أو عصابات أو أفراد منتظمو الهجوم على المواقع أو حالات عشوائية منفردة أو من تحركهم دوافع مالية أو أمنية أو لإحداث فوضى. وأن الأكثر تهديداً من الشركات هو ما يعمل منها في مجالات الخدمات المالية والبيع بالتجزئة ثم النقل والإعلام، بخسائر في الإيرادات وثقة المتعاملين والتعرض لانخفاض حاد في أسعار الأسهم. وإن كان الأكبر تأثيراً وخطورة على الأمن وسلامة المجتمع هو ما يوجه للمرافق العامة وشبكات الطاقة.
ومع زيادة الاستخدام لشبكات المعلومات ترتفع مخاطر تعرضها لمشكلات شتى: إذ أكد الأفراد المشاركون مخاوفهم من احتمال الإغلاق المفاجئ لخدمات أساسية تعتمد على شبكة المعلومات، والتعرض للتهديد والابتزاز وطلبات الفدية وسرقة البيانات الشخصية والتعدي على الخصوصية وحقوق الملكية الفكرية. ويبدو أن هناك تخوفاً من عدم قدرة السلطات العامة على مواجهة مخاطر الأمن السيبراني، حيث ذكر 26 في المائة فقط من الخبراء المشاركين في تقرير «أكسا»، أن هذه الجهات المعنية لديها استعدادات كافية للمواجهة، ومع تزايد حالات اختراق أمن شبكات المعلومات ارتفعت القيود الرقابية وإجراءات الحماية المطلوبة، بما جعل سوق أمن المعلومات من الأكثر نمواً في خلال الأعوام الماضية مع اتجاه عام لمزيد من التوسع في المستقبل.
ومع هذا الرصد لتوجهات عالمية تقدر المخاطر الظاهرة، تتجلى أيضاً أهمية استبيان الفرص الكامنة في سبل التعامل معها بدءاً من أدوار مراكز البحث العلمي على مستوى كل دولة، فتستعين بأهل الخبرة وأصحاب التخصصات المختلفة لتحليل مدى تأثر الدولة والمجتمع بهذه المتغيرات. فحسن الاستعداد للمخاطر المذكورة يدركها مبكراً قبل استفحالها وتحولها إلى أزمات مستمرة. ولا يُكتفى في هذا الشأن بتأسيس نظم للإنذار المبكر على قواعد علمية فحسب؛ فهذا شرط ضروري، فالشرط الكافي لا يتحقق إلا بالإعداد المبكر للبشر الذين يتعاملون معها ويستفيدون من معلوماتها من خلال الاستثمار في قدراتهم تعليماً وتدريباً. هذا من شأنه منع المخاطر أو على الأقل تحجيمها والتوقي منها، وسرعة التعامل معها حال حدوثها. والبشر مع هذه التحديات بين رجاء وأمل. رجاءً في أن تكون بداية عام جديد شروعاً في عمل يصلح ما سبق من عجز وإهمال في التصدي الواجب لهذه المخاطر؛ وأمل في أن تأتي الجهود المبذولة بنهايات لها أو التعاون على احتوائها بأقل تضحيات ممكنة.

 

د. محمود محيي الدين