«أنا لا أملك أي عملات مشفرة، ولن أملكها أبداً»، كرر الملياردير الأميركي وارن بافيت هذه العبارة مراراً وتكراراً في أكثر من لقاء تلفزيوني، مبيّناً وجهة نظره بشكل صريح ومباشر في العملات الرقمية التي وصفها سابقاً بـ«سم الفئران»، قبل أن يصفها في لقاء لاحق بـ«سم الفئران تربيع». هذه العبارات الحادة، واجهتها أخرى أكثر حدة من دعاة «بتكوين»، وتحديداً من بيتر تيل، الملياردير الأميركي الآخر أحد مؤسسي «باي بال»، وأحد أوائل المستثمرين في «فيسبوك».
ففي مؤتمر «بتكوين» الذي عُقد في ميامي الأسبوع الماضي، شن تيل هجوماً صارخاً وشخصياً على بافيت، بسبب مواقفه من «بتكوين»، وعدّه العدو رقم واحد لها، واصفاً إياه بـ«الجد المعتل اجتماعياً». هذا الهجوم المتبادل والمستمر بين مؤيدي العملات المشفرة ومناهضيها جعل هذا الخلاف كأنه خلاف عقائدي، وليس خلافاً في فلسفة اقتصادية أو استثمارية، لا سيما أنه يأتي من كبار المستثمرين في التيارين، فما نقاط الخلاف الرئيسية بين هذين التيارين؟
البداية مع بافيت، الملياردير الذي عُرف بحكمته المالية التي يتناقلها الناس. رأي بافيت بسيط في العملات المشفرة –وليس «بتكوين» فقط– وهو يتلخص في نقطتين، الأولى أن العملات المشفرة لا قيمة لها بحد ذاتها، وهي بذلك –في نظره– أقرب للوهم. النقطة الثانية تتعلق بعوائد العملات المشفرة، ويرى بافيت أن الأصول المدرّة مثل المزارع، تدر عوائد سنوية إضافة إلى قيمتها. فملّاك المزارع يراقبون أسعار المحاصيل للنظر في مدى الربحية، ولذلك فعند شراء هذه المزارع لا يُنظر في قيمتها فحسب؛ بل إلى ما تدره من دخل. أما في حالة العملات المشفرة، فإن الشيء الوحيد الذي يعطيها قيمة، هو وجود مشترٍ آخر لها، ولذلك فحين يشتريها شخص، فهو يفعل ذلك على أمل أن تزيد قيمتها ليبيعها لشخص آخر يأمل في الأمر ذاته. ولذلك فقد كرر بافيت كثيراً أن نهاية العملات المشفرة نهاية سيئة، وأنها لن تبتعد عن نهاية «التوليب» التي حدثت في هولندا في القرن السابع عشر الميلادي.
وبينما لم يُعرف بافيت بتصريحاته الحادة، عُرف عن تيل تصريحاته النارية والمثيرة للجدل. وتيل هو أحد أوائل المستثمرين في وادي السيليكون، وقد وصف «باي بال» -وهو أحد مؤسسيها- بأنها شركة محبطة، وأنها لم تفِ بما كان مأمولاً منها، ويذكر أن القيمة الحالية لهذه الشركة 130 مليار دولار.
انضم تيل إلى الحزب الجمهوري بداية رئاسة دونالد ترمب، وكان أحد الممولين لحملته الانتخابية. ويرى أن الاستثمار في «بتكوين» هو قرار سياسي، وأن «بتكوين» عبارة عن حركة شبابية ثورية قد تقلب الطاولة على النظام المالي التقليدي وتهدد القوى الحالية. وإضافة إلى هجومه على بافيت في مؤتمر ميامي، فقد استخدم وصف «الشيخوخة المالية» لوصف كل من المدير التنفيذي لـ«جي بي مورغان» ورئيس صندوق «بلاك روك»، وادعى أنهما يسعيان إلى إقصاء العملات المشفرة. واستمر هجوم تيل في المؤتمر، ولكن هذه المرة على القائمين على المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة (ESG)، ووصفهم بأنهم جزء من النظام المالي الساعي إلى سحق كل ما يهدد بقاءهم، وأنهم تحولوا إلى مصنع للكراهية، وشبَّههم بالحزب الشيوعي الصيني. وسبب هجوم تيل عليهم هو وصف «بتكوين» بأنها عملة ملوثة للبيئة، بسبب ما تستهلكه من طاقة أثناء عملية التعدين.
ويرى تيل -كغيره من كثيرين من المتحمسين للعملات المشفرة- أنها ستكون عملة المستقبل، وأن النظام المالي الحالي يشهد نهايته، وأن البنوك المركزية على وشك الإفلاس. وبالمقابل، فهو يصف «بتكوين» التي تُقيّم حالياً بنحو 830 مليار دولار، بأن لديها القابلية لتصبح نظيراً عالمياً للذهب الذي يساوي حالياً أكثر من 13 تريليون دولار. وادعى أن قيمة «بتكوين» قد تصل إلى أن تساوي قيم الملكيات العامة في العالم (115 تريليون دولار)، تماماً كما ساواها الذهب في السبعينات الميلادية. وحث حضور المؤتمر على أن يقاتلوا لكي تزيد قيمة «بتكوين» على 10 مرات، ومن ثم 100 مرة من القمة الحالية. واختتم المؤتمر بقوله: «يجب أن نخرج من هذا المؤتمر ونكتسح العالم».
الخلاف بين التيارين خلاف استثماري بحت، ولكنه تحوّل إلى عداء؛ لأسباب، منها: استنقاص مناهضي العملات المشفرة لها، وعلى رأسهم بافيت الذي يرى أن الناس يحبون الاستثمار فيما لا يفهمونه، وليس أفضل من «بتكوين» في ذلك، بينما يرى مؤيدو «بتكوين» أن هذا الاستثمار لا يناسب كبار السن، في إشارة إلى الفارق العمري بين مستثمري التيارين. والأكيد أن تيل ليس الشخص المناسب ليمثل مستثمري جيل الألفية، وهو الذي يبلغ من العمر 54 عاماً، ويستخدم مصطلحات مثل «ثورة الشباب»، وهو المصطلح المستخدم في أميركا في السبعينات الميلادية، في مطالبات الحقوق المدنية!
د. عبد الله الردادي