كبير اقتصاديي معهد التمويل: إعادة هيكلة النظام المالي أصعب جزء في برنامج الصندوق

أصدر كبير الاقتصاديين في معهد التمويل الدولي د. غربيس إيراديان توقعات معدّلة للاقتصاد اللبناني، بعد توقيع الاتفاق المبدئي مع صندوق النقد الدولي، في تقرير أعدّه تحت عنوان: «اتفاق لبنان مع صندوق النقد الدولي – دعوة للعمل تتخلّلها عقبات وتحدّيات».

إعتبر ايراديان انّ الاتفاق مع الصندوق على مستوى الموظفين (SLA) يمنح بصيص أمل، بعد توصّل وفد صندوق النقد الدولي والسلطات اللبنانية إلى تفاهم حول السياسات الرئيسية والإصلاحات الهيكلية التي يمكن دعمها من خلال برنامج تمويل الصندوق (EFF) الممتد لـ 46 شهراً، والذي يؤمّن حوالى 3 مليارات دولار. مشدّداً على انّ هذه الاتفاقية قد تخضع لموافقة إدارة صندوق النقد الدولي والمجلس التنفيذي، إذا تمّ تنفيذ الإجراءات المسبقة في الوقت المناسب، والمتعلّقة بـ:

 

– إعادة هيكلة القطاع المالي.

– تنفيذ إصلاحات مالية مع التركيز على تأمين إيرادات إضافية.

– إصلاح المؤسسات المملوكة للدولة، ولا سيما مؤسسة كهرباء لبنان.

– تعزيز أطر الحوكمة ومكافحة الفساد.

– إنشاء نظام نقدي وسعر صرف موثوق يتسم بالشفافية.

 

وأشار الى ضرورة صياغة إطار الاقتصاد الكلي على أساس جدول زمني واضح، لتنفيذ الاصلاحات المالية والنقدية والادارية العامة المطلوبة.

 

ولفت ايراديان الى انّ الأزمة الاقتصادية والمالية الحالية تعود جذورها إلى تاريخ طويل من سياسات الاقتصاد الكلي غير المتسقة، والمحاولات الفاشلة لمعالجة تشوهات السياسات الاقتصادية. في حين تعكس هذه الإخفاقات السياسية الأساسية، العوامل الاقتصادية والفساد العام المتفشي الناجم عن نظام طائفي مختل، وتدخل في النظام القضائي ونقاط ضعف مؤسسية كبيرة. وهي التي تسبّبت بجزء كبير بالأزمة الحالية. موضحاً، انّ عجز الحساب الجاري الخارجي الواسع كان إلى حدّ كبير نتيجة تقييم العملة المحلية بشكل مبالغ فيه اكبر من قيمتها الحقيقية، مما شجع على الاستيراد وزاد الاستهلاك الخاص. في حين كانت البنوك مدعومة بعائدات عالية وبشكل مصطنع على ودائعها في مصرف لبنان وعلى سندات الخزانة الحكومية. وقد ولّدت أسعار الفائدة المرتفعة، تدفق العملات الأجنبية التي تمّ استخدامها لدعم سعر الصرف المبالغ في تقييمه، وأيضاً الواردات، مما فاقم الضرر اللاحق بالصناعة المحلية والقطاع الزراعي.

 

في الوقت نفسه، أدّت أسعار الفوائد المرتفعة الى ضرر أكبر وأكبر على الموازنة، التي كان لا بدّ من تمويلها عن طريق الاقتراض المتزايد، مما خلق حلقة مفرغة من ارتفاع الدين العام واتساع العجز المالي.

 

فيما شدّد معهد التمويل الدولي في تقرير،على انّ موافقة مجلس إدارة صندوق النقد الدولي والمجلس التنفيذي على برنامج تمويل لبنان، رهن بالإجراءات المتوجب على الحكومة تطبيقها، أوضح انّ الاتفاق المبدئي (SLA) هو خطوة أولى في الاتجاه الصحيح، يغطي نطاقًا واسعاً من مجموعة الإصلاحات المحتمل تنفيدها، آملا ان تستغل السلطات اللبنانية هذه الفرصة، وتبدأ قريباً في تنفيذ الإصلاحات العاجلة، بما في ذلك الإجراءات الاولية، بهدف وقف تدهور الاقتصاد بشكل اكبر وتقليص مخاطر الانهيار الكامل للنظام المالي.

 

واعتبر ايراديان في هذا الإطار، انّ النظام السياسي اللبناني بانقساماته الطائفية، لا يزال يشكّل عقبة كبيرة أمام الإصلاحات الاقتصادية. وبالتالي، فإنّ التغييرات الهيكلية في النظام السياسي، بما في ذلك دخول نواب جدد أقل فساداً الى البرلمان، يمكن ان يسهّل إقرار الإصلاحات الاقتصادية الشاملة. آملاً أيضاً أن يكون هناك تغيير كبير في عقلية الأحزاب السياسية التقليدية التي حكمت لبنان على مدى العقود الثلاثة الماضية، للاستفادة من الفرصة الحالية مع صندوق النقد الدولي، وذلك من خلال تنفيذ إصلاحات اقتصادية ومؤسسية عاجلة ووضع الاقتصاد على طريق الانتعاش المستدام.

 

ولفت الى انّ إعادة هيكلة النظام المالي (أولى الإجراءات الاولية الخمسة المطلوبة) ستكون أصعب جزء في برنامج صندوق النقد الدولي المحتمل، حيث انّه في الوقت الذي قام القطاع المصرفي بعمليات دمج داخلية، إن كان من ناحية دمج الفروع او اتخاذ إجراءات لتقليص النفقات التشغيلية وخفض موازناته، فالمطلوب اليوم إجراء عمليات تدقيق لجميع البنوك من اجل تحديد البنك السيئ والبنك الجيّد، أي المصرف الذي يمتلك الملاءة المالية، والذي ليس لديه ملاءة مالية.

 

واعتبر ايراديان انّه يجب توحيد أصول ومطلوبات البنوك السيئة، وتسديد كامل ودائع صغار المودعين، على ان يتمّ بيع جميع الأصول المتبقية بالمزاد العلني، كجزء من عملية حماية أكبر المودعين بالحدّ الأقصى الممكن. مشيراً الى انّ مثل هذ العملية يمكن أن تؤدي إلى إنشاء نظام مصرفي أصغر حجماً وأكثر عافية.

 

كما لفت الى انّ لبنان بحاجة ماسة إلى إصلاح قطاع الكهرباء والاتصالات والمياه وأنظمة المرافئ والمؤسسات الاخرى المملوكة للدولة، مع الأخذ بالاعتبار إمكانية خصخصة وتنظيم هذه المرافق العامة. وفي هذا السياق، نوّه معهد التمويل الدولي، بموافقة مجلس الوزراء أخيرًا على خطة إصلاح مؤسسة كهرباء لبنان الجديدة، والتي تتضمن إنشاء هيئة ناظمة مستقلة، القضاء على الهدر، والتدقيق المنتظم لمؤسسة كهرباء لبنان، ورفع التعرفات لتغطية التكاليف، معتبراً انّه هذا شرط أساسي لتأمين 900 مليون دولار على شكل تمويل من قِبل البنك الدولي، وهو ما يمكن ان يُستخدم لدفع ثمن المحروقات من مصر والأردن وزيادة انتاج الكهرباء حتى 14 ساعة / يوم.

 

وشدّد على أنّ الاصلاح المالي يجب ان يعتمد بالكامل على تأمين الإيرادات الحكومية بعد انهيار الإنفاق في العامين الماضيين، معتبراً انّ الإجراءات الضريبية التالية يمكن أن تؤمّن إيرادات إضافية كبيرة في السنوات المقبلة:

 

– توحيد سعر الصرف المعتمد في الموازنة لجميع المعاملات، بما في ذلك الإيرادات والنفقات. (اعتماد أسعار صرف متعددة يوفر دعماً ضمنياً، مما يعزّز التهريب)

– يجب أن تستهدف ضريبة الدخل الشخصي (PIT) معدلات ضريبية أعلى للفئات ذات الدخل المرتفع، ما يؤدّي إلى تحويل العبء الضريبي للأسر الأكثر ثراءً والتي سيزيد عبئها الضريبي هامشياً كنسبة من زيادة دخلها.

– إدراج الدخل غير المرتبط بالأجور في الدخل الخاضع للضريبة.

– تعزيز إدارة الجمارك الضريبية.

– الاستثمار في الموارد البشرية والمالية والتكنولوجية، مما يوفر عائدات ضريبية أعلى.

 

كما شدّد إيراديان على ضرورة توحيد أسعار الصرف المختلفة، واعتماد نظام سعر الصرف العائم، مؤكّداً انّ وجود سعر صرف موحّداً يوازن بين الطلب والعرض من النقد الأجنبي، أمر بالغ الأهمية لاستعادة الاستقرار الكلي وتعزيز الاستثمار والنمو. كما انّه يعزز التنافسية والشفافية ويقضي على التشوهات المرتبطة بممارسات العملات المتعددة، ويحدّ من مخاطر الفساد.

 

وبهدف تحقيق استدامة الدين العام، يجب إعادة هيكلة الدين الحكومي (سندات اليوروبوندز) بما في ذلك اقتطاع منها بنسبة 70 بالمئة.

 

توقعات معهد التمويل الدولي

 

يفترض معهد التمويل الدولي باحتمال نسبته 50 في المئة، أن تبدأ السلطات اللبنانية في تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية العاجلة في غضون شهرين، بما في ذلك الإجراءات الاولية التي طالب بها صندوق النقد الدولي، ما من شأنه أن يمهّد الطريق امام موافقة إدارة الصندوق على برنامج التمويل EFF بحلول حزيران 2022. في هذه الحالة، سيكون الدعم الخارجي من مصادر خارجية ضروريًا للارتقاء بالاقتصاد من حالة الانهيار الى حالة الاستقرار وتعزيز النمو المستدام والعادل. وبالتالي، يمكن أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 2.5% في عام 2022 (وإن كان من قاعدة منخفضة) مع انتعاش أقوى في النصف الثاني من هذا العام. ويمكن أن يتسارع النمو بعد ذلك إلى 8% في عام 2023 مدفوعاً بالاستثمار العام وصافي الصادرات. كما يمكن أن تخف حدّة الضغوط التضخمية نتيجة ارتفاع سعر الصرف الموحّد للعملة المحلية، مع انخفاض متوسط ​​التضخم من 156% في 2021 إلى 98% في 2022، ونحو 20% في 2023. كما سيرفع فاتورة الاستيراد بشكل كبير. ومع ذلك، يمكن أن تبدأ الاحتياطيات الرسمية في الزيادة مدعومة بالتدفقات المالية الرسمية (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والقروض الميسرة CEDER).

 

كما يمكن لبرنامج محتمل مع صندوق النقد الدولي أن يضع الدين العام على مسار هبوطي ثابت، من خلال تنفيذ تدابير مالية وإعادة هيكلة الدين العام.

 

ولفت ايراديان الى انّ تحديد أولويات إجراءات الإصلاح وتسلسلها أمر حاسم، حيث يجب ان يكون التركيز في المدى القصير، على تحقيق استقرار الاقتصاد الكلي، بما في ذلك سعر صرف موحّد ومستقر نسبياً يحدّده السوق، نسبة تضخم أقل بكثير، وعجز أقلّ. يمكن تحقيق ذلك جزئياً عن طريق الحدّ من الزيادة في الأموال المتداولة بالليرة لبنانية في السوق. وشدّد على انّ هذه التوقعات عرضة لمخاطر سلبية نابعة من التأخير في تنفيذ الإصلاحات والنقص في مساعدات المانحين.

 

الاصلاح المالي اعتماداً على الإيرادات الحكومية

 

ارتفاع عجز الحساب الجاري

عقيدة «بتكوين»

«أنا لا أملك أي عملات مشفرة، ولن أملكها أبداً»، كرر الملياردير الأميركي وارن بافيت هذه العبارة مراراً وتكراراً في أكثر من لقاء تلفزيوني، مبيّناً وجهة نظره بشكل صريح ومباشر في العملات الرقمية التي وصفها سابقاً بـ«سم الفئران»، قبل أن يصفها في لقاء لاحق بـ«سم الفئران تربيع». هذه العبارات الحادة، واجهتها أخرى أكثر حدة من دعاة «بتكوين»، وتحديداً من بيتر تيل، الملياردير الأميركي الآخر أحد مؤسسي «باي بال»، وأحد أوائل المستثمرين في «فيسبوك».

ففي مؤتمر «بتكوين» الذي عُقد في ميامي الأسبوع الماضي، شن تيل هجوماً صارخاً وشخصياً على بافيت، بسبب مواقفه من «بتكوين»، وعدّه العدو رقم واحد لها، واصفاً إياه بـ«الجد المعتل اجتماعياً». هذا الهجوم المتبادل والمستمر بين مؤيدي العملات المشفرة ومناهضيها جعل هذا الخلاف كأنه خلاف عقائدي، وليس خلافاً في فلسفة اقتصادية أو استثمارية، لا سيما أنه يأتي من كبار المستثمرين في التيارين، فما نقاط الخلاف الرئيسية بين هذين التيارين؟

البداية مع بافيت، الملياردير الذي عُرف بحكمته المالية التي يتناقلها الناس. رأي بافيت بسيط في العملات المشفرة –وليس «بتكوين» فقط– وهو يتلخص في نقطتين، الأولى أن العملات المشفرة لا قيمة لها بحد ذاتها، وهي بذلك –في نظره– أقرب للوهم. النقطة الثانية تتعلق بعوائد العملات المشفرة، ويرى بافيت أن الأصول المدرّة مثل المزارع، تدر عوائد سنوية إضافة إلى قيمتها. فملّاك المزارع يراقبون أسعار المحاصيل للنظر في مدى الربحية، ولذلك فعند شراء هذه المزارع لا يُنظر في قيمتها فحسب؛ بل إلى ما تدره من دخل. أما في حالة العملات المشفرة، فإن الشيء الوحيد الذي يعطيها قيمة، هو وجود مشترٍ آخر لها، ولذلك فحين يشتريها شخص، فهو يفعل ذلك على أمل أن تزيد قيمتها ليبيعها لشخص آخر يأمل في الأمر ذاته. ولذلك فقد كرر بافيت كثيراً أن نهاية العملات المشفرة نهاية سيئة، وأنها لن تبتعد عن نهاية «التوليب» التي حدثت في هولندا في القرن السابع عشر الميلادي.

وبينما لم يُعرف بافيت بتصريحاته الحادة، عُرف عن تيل تصريحاته النارية والمثيرة للجدل. وتيل هو أحد أوائل المستثمرين في وادي السيليكون، وقد وصف «باي بال» -وهو أحد مؤسسيها- بأنها شركة محبطة، وأنها لم تفِ بما كان مأمولاً منها، ويذكر أن القيمة الحالية لهذه الشركة 130 مليار دولار.

انضم تيل إلى الحزب الجمهوري بداية رئاسة دونالد ترمب، وكان أحد الممولين لحملته الانتخابية. ويرى أن الاستثمار في «بتكوين» هو قرار سياسي، وأن «بتكوين» عبارة عن حركة شبابية ثورية قد تقلب الطاولة على النظام المالي التقليدي وتهدد القوى الحالية. وإضافة إلى هجومه على بافيت في مؤتمر ميامي، فقد استخدم وصف «الشيخوخة المالية» لوصف كل من المدير التنفيذي لـ«جي بي مورغان» ورئيس صندوق «بلاك روك»، وادعى أنهما يسعيان إلى إقصاء العملات المشفرة. واستمر هجوم تيل في المؤتمر، ولكن هذه المرة على القائمين على المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة (ESG)، ووصفهم بأنهم جزء من النظام المالي الساعي إلى سحق كل ما يهدد بقاءهم، وأنهم تحولوا إلى مصنع للكراهية، وشبَّههم بالحزب الشيوعي الصيني. وسبب هجوم تيل عليهم هو وصف «بتكوين» بأنها عملة ملوثة للبيئة، بسبب ما تستهلكه من طاقة أثناء عملية التعدين.

ويرى تيل -كغيره من كثيرين من المتحمسين للعملات المشفرة- أنها ستكون عملة المستقبل، وأن النظام المالي الحالي يشهد نهايته، وأن البنوك المركزية على وشك الإفلاس. وبالمقابل، فهو يصف «بتكوين» التي تُقيّم حالياً بنحو 830 مليار دولار، بأن لديها القابلية لتصبح نظيراً عالمياً للذهب الذي يساوي حالياً أكثر من 13 تريليون دولار. وادعى أن قيمة «بتكوين» قد تصل إلى أن تساوي قيم الملكيات العامة في العالم (115 تريليون دولار)، تماماً كما ساواها الذهب في السبعينات الميلادية. وحث حضور المؤتمر على أن يقاتلوا لكي تزيد قيمة «بتكوين» على 10 مرات، ومن ثم 100 مرة من القمة الحالية. واختتم المؤتمر بقوله: «يجب أن نخرج من هذا المؤتمر ونكتسح العالم».

الخلاف بين التيارين خلاف استثماري بحت، ولكنه تحوّل إلى عداء؛ لأسباب، منها: استنقاص مناهضي العملات المشفرة لها، وعلى رأسهم بافيت الذي يرى أن الناس يحبون الاستثمار فيما لا يفهمونه، وليس أفضل من «بتكوين» في ذلك، بينما يرى مؤيدو «بتكوين» أن هذا الاستثمار لا يناسب كبار السن، في إشارة إلى الفارق العمري بين مستثمري التيارين. والأكيد أن تيل ليس الشخص المناسب ليمثل مستثمري جيل الألفية، وهو الذي يبلغ من العمر 54 عاماً، ويستخدم مصطلحات مثل «ثورة الشباب»، وهو المصطلح المستخدم في أميركا في السبعينات الميلادية، في مطالبات الحقوق المدنية!

 

د. عبد الله الردادي