الطريق الثالث بين روسيا والصين

قبيل الحرب الروسية الأوكرانية بأيام قليلة، أعلنت الصين وروسيا شراكة استراتيجية وُصفت منهما بأنها شراكة بلا حدود. وعند اندلاع الحرب، رفضت الصين وصف الإجراء الروسي بالغزو، وتبنّت وجهة النظر الإعلامية الروسية بوجود أسلحة بيولوجية في أوكرانيا، واتهمت الولايات المتحدة بإذكاء نار الحرب، على الرغم أنها لم تسمّ ما حدث بالحرب. وجهة النظر الصينية السياسية تجاه الحرب طرحت النقاش تجاه موقفها الاقتصادي، لا سيما مع العقوبات التي فرضها العالم الغربي على الاقتصاد الروسي والتي طالت حتى الأثرياء الروس. والسؤال المطروح هو، هل تنقذ الصين روسيا من هذه العقوبات بزيادة التبادل التجاري معها وتعويض ما سيفقده الاقتصاد الروسي بما في ذلك من جلب السخط من العالم الغربي؟
قبل الإجابة على هذا السؤال، لا بد من معرفة ما على المحك بالنسبة للصينيين، فمن ناحية التبادل التجاري، روسيا شريك وجار للصين، وقد وصل التبادل التجاري بين البلدين العام الماضي إلى 147 مليار دولار، وهو مستوى تاريخي للتبادل التجاري بعد أن زاد بنحو 36 في المائة عن العام الذي سبقه. ووصلت الصادرات الروسية للصين إلى 79 مليار دولار، أكثر من نصفها من النفط والغاز.
بالمقابل فالصين لا تستطيع إغضاب العالم الغربي بعدم التجاوب مع دعواته المستمرة لمقاطعة روسيا شومعاقبتها اقتصادياً. والتبادل التجاري بين الغرب والصين أضعاف مثيله مع روسيا، فالصين شريك تجاري للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بتبادل تجاري يتعدى 800 و750 مليار دولار على التوالي.
أما من الناحية الاستراتيجية، فلا يمكن للصين الاستغناء عن الغرب، فهي بحاجة إلى التعامل بالدولار، وهي كذلك بحاجة ماسة إلى التقنيات التي تحصل عليها من الولايات المتحدة.
ومع جميع الضغوطات التي تعرضت لها الصين خلال السنوات الماضية، حاولت جاهدة ألا تجعل الأميركيين والأوروبيين في صف واحد لعدم قدرتها على مواجهة الطرفين سوياً، ونجحت في ذلك إلى حدٍ كبير. ولكن في الوقت نفسه فهي منكشفة من ناحية حاجتها للطاقة التي تستورد جزءاً لا يستهان به من روسيا.
وقد استوردت العام الماضي لوحده ما قيمته 316 مليار دولار من النفط والغاز، ونحو نصف هذا الرقم من الحديد الخام. هذه الواردات لا يوفرها العالم الغربي للصين، ولذلك فإن الصين لا تستطيع معاداة كل دولة يعاديها الغرب الذي لديه احتياجات ومصالح مختلفة كلياً عن تلكم الصينية.
والصين حالياً في وضع لا تحسد عليه، فالحرب كانت أحد أسباب الارتفاع الحاد في أسعار الطاقة، فهي تستورد أكثر من 70 في المائة من النفط، ونحو 40 في المائة من الغاز. كما أنها تشهد حالياً أعلى نسبة إصابات معلنة لـ«كورونا» منذ بدء الجائحة، ومع تبنّيها سياسة الإصابات الصفرية، فالعديد من مدنها الكبرى تشهد حظراً للتجول بشكل يشابه ما حدث في جميع دول العالم بداية الجائحة. ويضاف إلى ذلك أن موسم الأمطار لم يكن ملائماً لزراعة القمح في الصين، وهو ما يعني ازدياد الحاجة إلى استيراد القمح من روسيا. ولذلك فهي متضررة إلى حدٍ كبير من الحرب الروسية الأوكرانية سواءً بشكل مباشر أو غير مباشر بسبب تعثر سلاسل الإمداد التي تغذي الصين.
وعودة للسؤال الأول، فلدى الصين القدرة على إنقاذ الاقتصاد الروسي وتعويضه عن العقوبات من الغرب، فنصف احتياطي البنك المركزي الروسي في الصين سواء من الذهب أو اليوان الصيني. والصين بإمكانها زيادة شراء السلع الروسية، لا سيما إذا ما استطاعت الحصول على النفط بأسعار منخفضة، تماماً كما تفعل مع النفط الإيراني والفنزويلي والذي تشتريه بسعر أقل من الأسواق بنحو 10 في المائة، رغم العقوبات المفروضة على إيران. ومع ارتفاع أسعار الطاقة وزيادة الطلب الصيني، فلدى الصين الدافع في شراء النفط والغاز من روسيا بأسعار منخفضة. وسبق لمسؤوليها التصريح برفضهم للعقوبات الأحادية التي تفرضها دول العالم الغربي على روسيا. ويمكن أن تتعرض الصين لعقوبات ثانوية في حال لعبت دور المنقذ للاقتصاد الروسي، ولكن الغرب قد يتضرر كذلك إن فرض عقوبات على الصين وهي ثاني أكبر اقتصاد في العالم، لا سيما مع حجم التبادل التجاري بين الصين والغرب والمذكور آنفاً.
ويبدو أن الصين تتجه إلى الطريق الثالث، فهي لن تقاطع روسيا، وهذا جلي من موقفها السياسي ومن الشراكة الأخيرة مع روسيا، ولكنها كذلك لن تشارك عسكرياً في هذه الحرب. كما أنها لن تغامر باقتصادها وعلاقتها مع الغرب بلعب دور المنقذ للاقتصاد الروسي، لا سيما مع كون التبادل التجاري مع روسيا – مع أهميته الاستراتيجية – لا يشكل أكثر من 2 في المائة من مجموع تبادلها التجاري. والطريق الثالث الذي قد تسلكه الصين هو الاستمرار بعلاقتها مع روسيا دون تغيير يذكر دون استفزاز للولايات المتحدة التي لا يبدو أنها سترضى عن الصين مهما كانت ردة فعلها.

د. عبد الله الردادي

‘حرب’ العملات… ومستقبل الدولار

الدولار بلا منازع هو العملة الدولية المهيمنة، وقد ظل كذلك لنحو 77 عاماً، أي منذ أن تبنته الدول المشاركة في اتفاقية «بريتون وودز» عام 1944 باعتباره العملة «الرسمية» للاحتياطي النقدي. ووفقاً للتقارير الدولية فإن 59 من احتياطيات العملات الأجنبية العالمية محفوظة اليوم بالدولار، و20 باليورو، و6 بالين الياباني، و5 بالجنيه الإسترليني، بينما ما تزال حصة اليوان الصيني (أو الرنمينبي) أقل من 3.

لكن هيمنة الدولار أصبحت موضع نقاش منذ سنوات بسبب التحولات في موازين القوة الاقتصادية وبروز الصين كمنافس قوي للولايات المتحدة، والتحولات التقنية التي سهلت التعاملات المالية الرقمية، وصعود العملات المشفرة، إضافة إلى التوترات الجيوسياسية التي جعلت بعض الدول تبحث عن بدائل للدولار الأميركي. وعاد النقاش حول الموضوع إلى السطح أخيراً مع الحرب الأوكرانية والعقوبات الصارمة التي فرضتها الولايات المتحدة والدول الغربية على روسيا.

فحتى نهاية يناير (كانون الثاني) كان احتياطي العملات الأجنبية التي تحتفظ بها روسيا يقدر بنحو 469 مليار دولار. وكان الرئيس فلاديمير بوتين يأمل أن يشكل هذا الاحتياطي ضمانة لبلاده من آثار أي عقوبات غربية بعد الدرس الذي تلقاه إثر اجتياحه لمنطقة القرم عام 2014. لكن حساباته لم تكن دقيقة؛ إذ جاءت العقوبات هذه المرة أقسى وشملت احتياطات البنك المركزي الروسي الموجودة في الخارج، الأمر الذي حرم موسكو من نصف احتياطياتها من النقد الأجنبي، ووضع لها عراقيل جدية أمام تجارتها الدولية.

هذا الوضع لم ينعكس على روسيا وحدها، بل أرسل إشارات إلى دول أخرى مثل الصين التي تراقب حرب أوكرانيا وتداعياتها، وتدرك أنها ربما تكون مستهدفة في المستقبل بعقوبات أميركية في ظل الصراع المحتدم بينها وبين واشنطن على النفوذ وعلى موقع الصدارة في الاقتصاد العالمي. فتجميد الاحتياطيات الأجنبية لروسيا يعني أن هذه الاحتياطات لا توفر ملاذاً آمناً، وبالتالي فإن دولاً أخرى قد تفكر في أن تنويع الاحتياطات بالنقد الأجنبي يعطيها ضمانات أكبر من وضع كل بيضها في سلة الدولار.

الواقع أن هيمنة الدولار بدأت تواجه تساؤلات منذ فترة طويلة؛ إذ عمدت عدة دول بالفعل إلى تنويع احتياطاتها النقدية باللجوء إلى اليورو والاسترليني والين وأخيراً اليوان. وانخفضت حصة الدولار في احتياطيات النقد الأجنبي العالمية من نحو 70 في مطلع القرن الحالي إلى نحو 59 بنهاية العام الماضي، لكن حتى الآن لا يوجد بديل يمكن أن يقال أنه سيزيح الدولار من مكانه. حتى اليوان الذي يعتمد على القوة الاقتصادية الهائلة للصين، لا يمثل بديلاً في نظر أغلب الدوائر المالية العالمية، وذلك بسبب المخاوف التقليدية من أن طبيعة السلطة المركزية في بكين تعني أنها يمكن أن تصدر قرارات تؤدي إلى تقلبات في أسعار العملة، إضافة إلى غياب عنصر الشفافية.

هناك من يرى أن التحدي الأقوى للدولار ربما يأتي مستقبلاً من العملات الرقمية. ففي الوقت الراهن هناك 100 دولة تدرس إمكانية استخدام عملات رقمية، وتمثل هذه الدول 90 تقريباً من الناتج الإجمالي العالمي. ومن بين أكبر أربعة بنوك مركزية في العالم (البنك المركزي الأوروبي، والبريطاني، والياباني، والاحتياطي الفيدرالي الأميركي)، فإن الولايات المتحدة تبدو متأخرة في التحرك نحو تبني مشروع الدولار الرقمي وذلك بسبب الخلافات في الدوائر السياسية والمالية، والعقبات التنظيمية، وتأثير ذلك على النظام المالي العالمي.
لكن صناع القرار في الولايات المتحدة يدركون أن العالم يتغير وسيتحرك عاجلاً أم آجلاً نحو العملات الرقمية. فخلال السنوات القليلة الماضية شهد عالم المعاملات المالية ثورة رقمية في ظل النمو المتسارع للعملات المشفرة غير الرسمية مثل بيتكوين، وتبني الأجيال الجديدة لنظم الدفع الإلكترونية وابتعادهم تدريجياً عن التعامل بالعملات الورقية والمعدنية مفضلين الدفع بواسطة هواتفهم الجوالة ونظام اللمس. والرأي السائد الآن أنه إذا لم تتحرك البنوك المركزية لمواكبة هذه المتغيرات، فإن الناس قد يتجهون نحو النظم البديلة غير الرسمية وأبرزها العملات المشفرة.

الأمر الآخر الذي يثير قلق الولايات المتحدة هو تحرك الصين نحو العملات الرقمية بإطلاق اليوان الرقمي ومساعيها لتعميمه في الاستخدام بين مواطنيها كخطوة أولى نحو تبنيه في معاملاتها مع الدول الأخرى.

في ظل هذه المتغيرات بدأ الكونغرس الأميركي يظهر اهتماماً متزايداً بموضوع العملات المشفرة، وفي يناير (كانون الثاني) الماضي نشر مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي ورقة حول مناقشاته الداخلية بشأن العملات المشفرة والدولار الرقمي. وعلى الرغم من أن مجلس الاحتياطي الفيدرالي تحدث عن الفوائد المحتملة لفكرة العملة الرقمية الرسمية مثل تسهيل نظم الدفع، وتقليل تكاليفها على المؤسسات المالية، وانتهاء بالحفاظ على مكانة الدولار كعملة رئيسية في النظام المالي العالمي، إلا أنه أثار أيضاً بعض التحفظات والمخاوف بشأن التأثيرات المحتملة للخطوة على الاستقرار النقدي والمالي.

الكلام عن عملة أو عملات رقمية جديدة تتحدى الدولار وتحاول إزاحته من مكانته كعملة الاحتياطي النقدي العالمي ليس جديداً، ولا هو بوجهة نظر صادرة بالضرورة من خصوم الولايات المتحدة ومنافسيها مثل الصين وروسيا. فعلى سبيل المثال دعا مارك كارني، محافظ بنك إنجلترا (السابق)، في خطاب ألقاه عام 2019 أمام اجتماع لمديري البنوك المركزية العالمية في بلدة جاكسون هول الأميركية، إلى إنهاء سطوة الدولار الأميركي على النظام المالي العالمي، باعتباره عملة الاحتياطي النقدي الرئيسية. وقال إن هذه السطوة بلغت مرحلة أصبحت معها تشكل عائقاً أمام انتعاش اقتصادي عالمي مستدام.

وكان بذلك يشير إلى أن الكثير من الدول حول العالم تحتفظ بمبالغ ضخمة من الاحتياطي النقدي بالدولارات لتأمين نفسها في الأوقات المضطربة، ما يعني تكدس الكثير من الأموال، التي كان يمكن أن تستخدم في دورة التجارة والاقتصاد العالميين. إضافة إلى ذلك فإن الدولار يستخدم كنظام دفع في نصف فواتير التجارة الدولية على الأقل، وبالتالي فإن العديد من الدول تصبح عرضة للتداعيات غير المباشرة من التقلبات في الاقتصاد الأميركي وفي قيمة الدولار.

ورأى كارني أنه يمكن استبدال الدولار واستخدام عملة رقمية عالمية تتبناها البنوك المركزية في دول مختلفة. وقال إن هذه العملة الرقمية «يمكن أن تثبط التأثير المهيمن للدولار الأميركي على التجارة العالمية. فإذا ارتفعت حصة التجارة التي يتم تحرير فواتيرها بهذه العملة الرقمية الجديدة، فإن الصدمات التي تحدث داخل الولايات المتحدة ستكون آثارها أقل قوة (على الدول الأخرى)».

وذكر أيضاً أن عملة رقمية عالمية مدعومة من مجموعة كبيرة من الدول ستطلق الأموال التي تخزنها الحكومات حالياً بالدولار كبوليصة تأمين في الأوقات المضطربة. وشبّه الانتقال من الدولار إلى عملة رقمية عالمية جديدة بنهاية سيطرة الجنيه الاسترليني على أسواق المال العالمية قبل 100 عام.

منذ خطاب كارني الذي أثار اهتماماً واسعاً، تحدث كثيرون عن موضوع العملات الرقمية ومستقبل الدولار الأميركي. وفي بداية فبراير (شباط) الماضي ألقت مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجييفا كلمة أمام «مجلس أتلانتيك» البحثي في واشنطن حول مستقبل النقود وصعود مفهوم العملات الرقمية. وقالت إن العالم تجاوز مرحلة المناقشات حول الفكرة وبلغ مرحلة التجريب للعملات الرقمية، مشيرة إلى دول مثل الصين والسويد قطعت شوطاً في هذا المجال.

الجدل حول مستقبل النظام النقدي الدولي لن يتوقف، لا سيما مع احتدام صراع النفوذ الدولي، والهجمة المتوقعة على الدولار في عصر العملات الرقمية القادم، والتحركات المتزايدة بين عدد من الدول بينها روسيا والصين والهند للقيام بمعاملاتهم التجارية المشتركة بالروبل واليوان والروبية. والسؤال هو، كيف سترد أميركا على هذا التحدي؟

عثمان ميرغني