أميركا والصين وصناعة الرقائق

عندما أقام كبار المسؤولين الصينيين حفلات استقبال لعشرات من رجال الأعمال الأميركيين والأوروبيين في المنتديات الاقتصادية السنوية المتتالية الأسبوع الماضي، كانت الرسالة الواضحة هي أن الصين منفتحة على الأعمال التجارية والمشروعات.
لكن بحلول نهاية الأسبوع الماضي، أرسل المنظمون الصينيون بإشارة مختلفة تماماً، إذ أعلنت بكين الجمعة عن تحقيق في الأمن السيبراني في شركة «ميكرون تكنولوجي»، وهي شركة تصنيع رقائق أميركية من الطراز الأول. ويمثل هذا الإجراء، الذي توقعه كثير من محللي الصناعة، أكبر ضربة انتقامية للصين تجاه واشنطن بسبب حملتها لمنع وصول الصين إلى تصنيع الرقائق رفيعة المستوى.
وقالت هيئة مراقبة الإنترنت الصينية إنها تجري مراجعة لمنتجات «ميكرون» التي بيعت في البلاد لحماية أمن سلسلة توريد البنية التحتية للمعلومات. ووصف ماو نينغ، المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، المراجعة بأنها «إجراء تنظيمي عادي» يركز على المنتجات التي قد تؤثر على الأمن القومي.
تنتج شركة «ميكرون تكنولوجي»، ومقرها مدينة بويسي، عاصمة ولاية آيداهو الأميركية، رقائق الذاكرة المستخدمة في الهواتف وأجهزة الكومبيوتر ومراكز البيانات والسيارات وغيرها من الإلكترونيات. وتتمتع الشركة بعلاقات طويلة الأمد في الصين، وتعتبر أيقونة أميركية رائدة في صناعة أشباه الموصلات العالمية. لكنها الآن وقعت في شراك الحملة الصينية التي تهدف إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي في التكنولوجيا المتقدمة.
في هذا السياق، انتقد جيمس ريش، عضو مجلس الشيوخ الأميركي عن ولاية آيداهو، التحقيقات الصينية في شركة «ميكرون»، قائلاً إنها محاولة لتقويض وضع الولايات المتحدة في صناعة أشباه الموصلات.
وفي بيان، قال العضو الجمهوري ريش إن هذه الخطوة «تساعد الشعب الأميركي على رؤية الصين كما هي؛ عدوانية متنمرة لم تكن يوماً مهتمة بإبرام شراكة اقتصادية حقيقية».
تراجعت أسهم «ميكرون» ما يقرب من 6 في المائة منذ ذيوع الأخبار، وقالت «ميكرون»، في بيان، إن أعمالها في الصين تعمل كالمعتاد، وإنها «تتعاون بشكل كامل» مع السلطات.
تعكس الرسائل الرسمية المختلطة من الصين الحبل المشدود الذي يسير عليه قادة البلاد؛ حيث يحاولون دعم اقتصاد يكافح بعد إعادة فتحه مؤخراً بعد 3 سنوات من القيود الصارمة جراء الوباء، بينما يحاولون رسم صورة عدائية بشكل متزايد لواشنطن. في أحد احتفالات الأسبوع الماضي لرجال الأعمال الأجانب، منهم السيد تيم كوك من شركة «أبل»، تعهد رئيس الوزراء الصيني الجديد، لي تشيانغ، بأن «تواصل الصين فتح أبوابها على نطاق أوسع وأوسع».
وقال دان وانغ، الباحث الزائر في كلية الحقوق بجامعة ييل والمحلل التكنولوجي في شركة الأبحاث «غافيكال دراغونوميكس»، إن «الصين لا تخجل من استخدام تكتيكات متنوعة للتعامل مع الشركات الأجنبية»، مضيفاً: «أحياناً تبدو كمن تقول حسناً، إذا كنت لا تحب هذه الجزرة، فلدينا عصا كبيرة أيضاً».
جاء قرار الصين بوضع شركة «ميكرون» قيد المراجعة في أعقاب القيود الشاملة التي فرضتها الولايات المتحدة على صناعة أشباه الموصلات في الصين. استهدفت هذه الإجراءات، التي تم الكشف عنها في أكتوبر (تشرين الأول)، بعض المنافسين الصينيين لـ«ميكرون».
افتتحت «ميكرون» أول مصنع لها في الصين في عام 2007 بمدينة «شيان» حيث يعمل لديها ما يقارب 3000 موظف في جميع أنحاء البلاد في قطاعات خدمة العملاء والمبيعات والهندسة. وللشركة مركز في شنغهاي حيث يجري تصميم الرقائق، وكذلك مكاتب فرعية في بكين و«شنتشن».
في هذا الصدد، قال ستيف أبليتون، رئيس مجلس إدارة «ميكرون» السابق، في بيان، عام 2007: «يسعدنا أن نكون جزءاً متنامياً من صناعة التكنولوجيا في الصين».
لكن مع تكثيف خطة الصين الطموحة لأن تصبح منافساً عالمياً في التكنولوجيا، كانت «ميكرون» في بؤرة المنافسة التكنولوجية للبلاد مع الولايات المتحدة. في عام 2018، بدأت وزارة العدل الأميركية التحقيق مع شركات تصنيع الرقائق في الصين وتايوان بزعم سرقة أسرار تجارية من «ميكرون»، أقرت إحدى الشركات بالذنب، فيما لا تزال قضية أخرى قيد التحقيق.
خلال العامين الماضيين، أعطت ميكرون «إشارات واضحة للغاية» عن نيتها الحد من تعاملها مع الصين، بحسب السيدة هوي هي، مديرة وحدة أبحاث أشباه الموصلات الصينية بشركة «أومديا» لأبحاث التكنولوجيا.
قالت هوي: «كانت (ميكرون) واحدة من أكثر الشركات استجابة لسياسة الحكومة الأميركية»، لكنها أضافت أن الشركة لا تعتمد كثيراً على الصين؛ حيث شرعت «ميكرون» في تقليص أعداد الموظفين الصينيين وعمليات الإغلاق في مركز شنغهاي لتصميم الرقائق في يناير (كانون الثاني) 2022. وشأن كثير من صانعي الرقائق الغربيين، تتمتع «ميكرون» بحضور قوي في التصنيع في آسيا، بما في ذلك سنغافورة وتايوان، لكنها أعلنت مؤخراً عن خطط لبناء مصنع للرقائق بقيمة 100 مليار دولار في نيويورك، وهو ما وصفه الرئيس جو بايدن بأنه «أحد أهم الاستثمارات في التاريخ الأميركي».
استحوذت الصين الأم على ما يقرب من 11 في المائة من مبيعات الشركة في عام 2022، بتراجع قارب نصف مبيعاتها تقريباً قبل 5 سنوات، وفقاً لتقارير الشركة.
في أحدث تقرير للأرباح في مارس (آذار)، حذرت «ميكرون» المستثمرين من الحكومة الصينية قائلة: «قد تمنعنا من المشاركة في السوق الصينية أو تمنعنا من المنافسة بفاعلية مع الشركات الصينية». كما أكدت المخاطر التنافسية التي تواجهها من المنافسين الصينيين لأشباه الموصلات الممولين من الدولة.
وقال محللون في هذا القطاع إن الإجراء ضد «ميكرون» يهدف على ما يبدو إلى إرسال رسالة إلى صناع السياسة في مجال التكنولوجيا في الولايات المتحدة، مع مراعاة حماية الصناعة المحلية أيضاً. رحب المستثمرون في الصين بالأخبار، ما دفع أسهم شركات أشباه الموصلات المحلية إلى الارتفاع. وقال المحللون إن عملاء «ميكرون» الصينيين من المرجح أن ينقلوا طلبات التوريد من «ميكرون» إلى الموردين الصينيين في محاولة للتحوط من رهاناتهم.
لكن قضية «ميكرون» جاءت كتحذير للشركات الأجنبية، وتركت مستقبل «ميكرون» مهدداً، بحسب سام ساكس، زميل كلية الحقوق بـ«جامعة ييل»، الذي وصف مراجعة الأمن السيبراني بـ«الصندوق الأسود».
واستطرد قائلاً: «لا توجد معايير محددة يمكن الالتزام بها فحسب، بل ليست هناك نهاية محددة للعبة حال تم التقيد بمعاييرها، وهو ما يمكن أن يكون له تأثير خطير».
اختتم ساكس قائلاً إن «كثيراً من الشركات تواجه الآن لحظة الحسم؛ هل يستحق عناء الوجود في هذه السوق الصعبة كل تلك التكلفة؟»