أميركا: أزمة ديون وحرب أهلية

تبدو أزمة الديون الأميركية التي تلوح في الأفق في جوهرها أزمة سياسية، خاصة أن وزارة الخزانة باستطاعتها اقتراض كل ما تحتاجه إذا تصرفت الأغلبية الجمهورية في مجلس النواب على نحو مسؤول، ورفعت سقف الديون.

ومع ذلك، جرى ببساطة قبول الفكرة القائلة بأنه إذا أخفق مجلس النواب في التوصل إلى اتفاق، فإن الولايات المتحدة تواجه احتمال التخلف عن سداد ديونها، الأمر الذي يعود لأسباب منها أن حديث وزيرة الخزانة جانيت يلين، كان مبهماً بخصوص ما إذا كان سيجري الإبقاء على مدفوعات الفائدة.

في الواقع، إذا كانت الحكومة تعاني من نقص في السيولة النقدية، يتعين على وزارة الخزانة إدارة هذا النقص عبر إعطاء الأولوية لمدفوعات الفوائد، وتقليص تمويل بنود الموازنة العادية، مثل المتنزهات الوطنية والمؤسسة العسكرية والتعليم. ومع أن هذه الإجراءات ستكون مؤلمة، بل وربما خارج نطاق القانون، فإنها تبقى أفضل الخيارات الرديئة المتاحة. المؤكد أن الدول المسؤولة تحترم مسؤولياتها تجاه سداد ديونها.

علاوة على ذلك، ثمة سابقة تاريخية في هذا الصدد، فقد واجه الكونغرس أثناء فترة الحرب الأهلية خياراً مشابهاً. حينذاك، أدرك الرئيس أبراهام لينكولن والجمهوريون داخل الكونغرس أن الحفاظ على الائتمان الأميركي يمثل المفتاح لتمويل الحرب الأهلية. وعليه، فإنه الضامن لاستمرار قوة الحكومة، بل ووجودها. واليوم، ينبغي للرئيس بايدن والوزيرة يلين الاحتذاء بحذوهم.

بطبيعة الحال، طرأت الكثير من التغييرات منذ عهد لينكولن. والأهم من ذلك، واجهت الولايات المتحدة، أوائل عام 1862، أزمة مالية حقيقية، فعندما أصبح واضحاً أن الحرب ستكون أطول (وأكثر دموية) مما كان متوقعاً، تصاعدت تكلفتها بسرعة إلى مليون دولار، ثم مليوني دولار يومياً ـ مستوى من شأنه استنزاف قاعدة الإيرادات السنوية الحكومية في غضون شهر واحد فقط.

بدا الحل الوحيد الواضح حينها الاقتراض، إلا أن الائتمان الأميركي لم يكن يحظى بتقدير كبير. وافقت الولايات المتحدة مؤخراً على فائدة بنسبة 12 في المائة (معدل مرتفع يعكس عدم ثقة المستثمرين) ـ وحتى بهذا المعدل، ظلت عروض القروض نادرة. عام 1861، من جهته، أرسل وزير الخزانة في إدارة لينكولن، سالمون بي. تشيس، مبعوثاً إلى إنجلترا وأوروبا لتحديد الفائدة على القروض، لكن جاءت الاستجابة سيئة.

على سبيل المثال، ذكرت مجلة «الإيكونوميست» بنبرة متعجرفة: «إنه أمر غير وارد على الإطلاق، من وجهة نظرنا، أن يتمكن الأميركيون، سواء في الداخل أو في أوروبا، من الحصول على أي شيء قريب من المبالغ الباهظة التي يطلبونها، لأن أوروبا لن تقرضهم…».

على النقيض من الحال اليوم، عندما يجري التعامل مع الدولار كعملة احتياطية، لم يكن باستطاعة الولايات المتحدة ببساطة طباعة الورق، وتوقع أن يقبله العالم.

إلا أنه في ديسمبر (كانون الأول) من ذلك العام، عندما نفد الذهب من البنوك الأميركية لإقراض الخزانة (التي كانت تدعم الحرب خلال أشهرها الأولى)، اقترح الكونغرس القيام بذلك تماماً: طباعة ورق العملة. ومع عدم امتلاك البنوك الخاصة أو الحكومية ما يكفي من الذهب لتمويل الحرب، اقترح الكونغرس وسيلة ثورية: طباعة النقود الورقية، بدعم فقط من الثقة الكاملة في الحكومة الأميركية، وليس الذهب. وبذلك، سيصبح المال بضمان حكومي، وهو المعيار اليوم، لكنه كان أمراً جديداً عام 1862.

بدت فكرة معيار النقود الورقية صادمة للكثيرين، بما فيهم الكثير من الجمهوريين داخل الكونغرس. ومثلما قال أحدهم، فإنه لا يمكن أن يصبح الورق نقوداً، تماماً مثلما أن عقداً لتوصيل الدقيق لا يمكن أن يجري العامل معه باعتباره دقيقاً في حد ذاته. إنه مجرد وعد بتقديم الشيء الحقيقي.

ومع ذلك، طغت حالة الطوارئ على هذه الشكوك الفلسفية، ذلك أن المال كان ينفد من الخزانة. ومع ذلك، أقر الكونغرس بأن معظم نفقات الحرب يجب أن تأتي من طريق الاقتراض. لو كانت الدولة أقدمت ببساطة على طباعة النقود لتغطية الميزانية بأكملها، لكانت قد خاطرت بخلق تضخم كارثي. ولذلك، حرص الكونغرس على قصر إصدار سندات العملة القانونية على 150 مليون دولار (لاحقاً سيجيز نوبتي إصدار أخريين) ورغم ذلك، بقيت هناك معضلة: كيف تطبع العملة القانونية وتحافظ على الائتمان الهش للأمة؟ من جهته، أعرب ويليام بيت فيسيندين، جمهوري من ماين ورئيس اللجنة المالية بمجلس الشيوخ، عن صدمته بفكرة النقود الورقية (وقال إنها أرقته ليلاً ونهاراً)، وعبّر عن قلقه البالغ بخصوص تداعياتها على قدرة البلاد على الاقتراض، خاصة من الخارج. وعليه، اقترح فيسيندين تعديلاً جوهرياً. في مشروع القانون الأصلي، فإن العملة القانونية تكون متاحة «لسداد جميع الديون». جرى التعديل لتصبح الديون الحكومية وحدها ما يمكن سداده بالذهب.

أثار الاستثناء عاصفة من الاعتراضات. على سبيل المثال، اعترض ثاديوس ستيفينز، رئيس اللجنة المعنية بالضرائب داخل مجلس النواب، بأن التعديل سيخلق فئتين من المواطنين هما: المستثمرون (الذين سيحصلون على الذهب) والجنود والعاملون الآخرون لدى الحكومة، الذين سيحصلون على ورق. وأضاف: «هذا الأمر يخلق فئتين من العملة، واحدة للمصرفين والوسطاء، وأخرى للناس».

ومع ذلك، ظلت الحقيقة أن وزارة الخزانة بحاجة للمال. وبالفعل، جرى تمرير مشروع القانون الخاص بالعملة القانونية ووقع لينكولن عليه ـ بعد التعديل ـ وتراجعت الأزمة المالية التي كانت تواجهها الحكومة، على الأقل على نحو موقت.

وأثبتت الأيام أن التعديل الذي اقترحه فيسيندين لعب دوراً محورياً في الفوز بالحرب، فرغم أن التضخم في العملة الأميركية بلغ مستويات خطيرة قاربت 80 في المائة، لم تواجه واشنطن صعوبة تذكر في الاقتراض، لأن حاملي السندات (منهم الكثيرون كانوا من الخارج) علموا أن مدفوعات الفائدة ستكون محددة.

بحلول نهاية الحرب، قفز الدين العام إلى 2.68 مليار دولار، ما يزيد بمقدار 41 ضعفا على ما كان عليه عند بداية انفصال الجنوب. ورغم ذلك، خرجت الولايات المتحدة من الحرب وقد تحسن مستوى الائتمان لديها، وتمكنت من اقتراض المزيد بفائدة منخفضة.

اليوم، في وقت أصبحت السوق المالية أكبر بكثير وأكثر أهمية للاقتصاد العالمي، فإن الحفاظ على الائتمان الأميركي يكتسب أهمية أكبر. ونأمل أن يجري رفع سقف الدين، وتجنب هذه الأزمة.

روجر لوينستاين

مليونيران: الادخار لن يجعلك ثرياً لكن هناك طريقة أفضل

إذا كان معنى الثراء امتلاك الكثير من المال، فيجب أن يساعدك الادخار منطقيًا في الوصول إلى تلك الثروة، لكن المليونيرين العصاميين باربرا كوركوران وغرانت كاردون يختلفان مع هذا الرأي.

قالت كوركوران رائد الأعمال العقاري ونجم برنامج Shark Tank لـ CNBC: “أنا لست مؤمنًا بادخار المال، لم أدخر سنتًا واحدًا طوال حياتي”.

يوافقها كاردون الرئيس التنفيذي لشركة Cardone Capital ومؤلف كتاب The 10X Rule، وقال في تغريدة حديثة: “الادخار لن يجلب لك الثروة”.

إذن كيف تبني ثروة؟ يقول كوركوران وكاردون إن الإنفاق والاستثمار هما السبيل لذلك.

التدفق النقدي هو الملك

يمكنك التفكير في ادخار المال حتى تحتاجه، لكن كوركوران وكاردوني يقولان إنه يجب عليك الحفاظ على تدفق أموالك إذا كنت ترغب في بناء ثروة حقيقية.

قال كاردون لمتابعيه في مقطع فيديو نُشر على Twitter: “الثروة الحقيقية تأتي من خلال الاستثمار. استثمر في الأشياء التي تخلق التدفق النقدي.”

يمكن أن يكون الاستثمار مخيفًا بسبب احتمال خسارة المال، لكن كاردون يقول إن الخوف قد يعيقك عن زيادة صافي ثروتك. بدلاً من ادخار أموالك والخوف من إنفاقها، يقول إنه يجب عليك استثمارها في الأصول التي ستدر لك المزيد من الدخل.

المقولة الشهيرة التي تقول إن الاحتفاظ بنقد شيئاً أساسياً، قال كاردون في عام 2018 إن التدفق النقدي هو الأهم، مشيراً إلى أن الاستثمار في نفسك أو في عملك لتنمية دخلك هي طرق رائعة للبدء، كما يوصي بالاستثمار في الأصول مثل العقارات التي تنتج تدفقات نقدية.

وبالمثل، تقول كوركوران إن إنفاق أموالها على الأشياء الصحيحة – مثل الاستثمارات في الشركات الناشئة وشركتها العقارية – جعلها أكثر ثراءً وسعادة.

وأوضحت كوركوران: “المال يجني المال، إذا كنت على استعداد لمشاركته وإنفاقه، فهذا مفيد حقًا أو على الأقل نجح معي بالتأكيد”. “أعتقد حقًا أنك إذا أنفقت المال فسوف يعود إليك.”

لا تدع الخوف يعيقك

لم يصل كوركوران ولا كاردون إلى ما وصلا إليه اليوم بالخوف من أسوأ النتائج الممكنة. في الواقع، تقول كوركوران إنها كانت على وشك الإفلاس “للمرة الخامسة” قبل أن تفكر في فكرة جنت منها مليون دولار في يوم واحد.

تنسب ثقتها إلى والدتها التي قالت لها ألا تقلق بشأن المال.

على العكس، قال كاردون إن والديه كانا خائفين من الاستثمار لأنهما كانا خائفين من خسارة المال.

وأوضح: “لم يستغلوا الأموال في الاستثمار لأنهم كانوا خائفين من خسارة أموالهم”.

إحدى الطرق الذكية والشائعة للبدء هي الاستثمار في صناديق المؤشرات منخفضة التكلفة. تتبع أدوات الاستثمار هذه مؤشرًا معياريًا مثل S&P 500 أو Vanguard 500، إنها طريقة رخيصة وفعالة للحصول على محفظة متنوعة دون مخاطرة مثل انتقاء الأسهم الفردية.

المقارنة بين أزمة الاقتصاد في اليونان ولبنان

تعتبر الأزمات الاقتصادية مصدر قلق عميق للدول والشعوب حول العالم، حيث تؤثر على حياة المواطنين وتهدد استقرار النظام الاقتصادي. ومن بين الأزمات الاقتصادية التي شهدتها البلدان في العقد الماضي، تبرز أزمتا اليونان ولبنان كأمثلة واضحة على التحديات التي تواجهها الدول في إدارة اقتصادها، وتعاملها مع الأوضاع الصعبة.

تشابَهت اليونان ولبنان في العديد من الجوانب فيما يتعلق بأزماتهما الاقتصادية. ومع ذلك، هناك أيضًا اختلافات بارزة تجعل كل بلد يواجه تحديات فريدة. في البداية، البلدان تعرّضا لمشاكل هيكلية في نظامهما المالي والاقتصادي، وتراكمت الديون وارتفعت نسَب البطالة بشكل كبير. وتعتبر التدابير الحكومية الخاطئة وإدارة الاقتصاد غير الفعّالة من بين العوامل التي أسهمت في تفاقم الأزمتين.

في اليونان، واجهت الحكومة صعوبات في سداد ديونها العالية، واحتاجت الى مساعدة من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي. تمّ فرض عليهما إجراءات تقشف صارمة، مثل خفض الرواتب وزيادة الضرائب، مما أثر بشكل سلبي على المواطنين وأدّى إلى احتجاجات واسعة النطاق. وتعزّزت أزمة الثقة في النظام المالي اليوناني وتسبّبت في تراجع الاستثمارات وتدهور الأعمال التجارية.

من جهة أخرى، يعاني لبنان أزمة اقتصادية خانقة ومعقدة. تأثرت العملة اللبنانية بشدة وانخفضت قيمتها بشكل حاد، مما أدى إلى تضخم غير مسبوق وارتفاع تكاليف المعيشة. وتعتبر الديون العامة الضخمة والتضخم المفرط وسوء إدارة الاقتصاد، بين العوامل الرئيسية التي أدت إلى تفاقم الأزمة اللبنانية. وتعمل الحكومة على تنفيذ إجراءات التقشف وإجراءات الإصلاح الاقتصادي، ولكن التقدم بطيء وتأخذ الأزمة وقتًا أطول للتلاشي.

وعلى الرغم من تشابه الأزمتين، إلاّ أنّ هناك اختلافات أساسية بين اليونان ولبنان. ففي اليونان، تمكنت الحكومة من الحصول على مساعدة دولية وتطبيق بعض الإصلاحات الاقتصادية، ما أدى إلى تحسّن الوضع الاقتصادي والمالي. في المقابل، لا يزال لبنان يعاني تحديات هائلة وتأثيرات سلبية تستدعي تدخلًا سريعًا وفاعلًا للخروج من الأزمة.

بشكل عام، فإنّ أزمات اليونان ولبنان تعكس تحديات مشتركة يمكن أن تواجهها الدول في إدارة اقتصادها وتعزيز النمو المُستدام. ويجب على الحكومات أن تركز على تنفيذ سياسات اقتصادية مستدامة وإصلاحات هيكلية لتعزيز الاستقرار المالي وتعزيز النمو الاقتصادي. بالإضافة إلى ذلك، يجب تعزيز التعاون الدولي والتضامن لدعم الدول التي تواجه أزمات اقتصادية حادة.

إن أزمة الاقتصاد في اليونان ولبنان تلقي الضوء على التحديات الكبيرة التي تواجه البلدان في إدارة اقتصادها وتجاوز الأزمات المالية. ويتطلّب التغلب على هذه التحديات تعاونًا قويًا بين الحكومات والمؤسسات المالية الدولية والمجتمع المحلي. من خلال التصميم على تنفيذ الإصلاحات اللازمة وتعزيز الشفافية وتعزيز الثقة، يمكن للبلدان تحقيق تَعافٍ اقتصادي مستدام واستقرار مالي يخدم مصالح المواطنين ويؤسس لمستقبل أفضل.

وتعتبر الديون العامة من التحديات الرئيسية التي تواجهها اليونان ولبنان، حيث يعاني البلدان تراكم ديون هائلة تهدد استقرار الاقتصاد والمالية العامة. سنقدّم هنا بعض الأرقام للمقارنة بين حجم الديون في البلدين والتدابير الممكنة لحل هذه المشكلة.

1 – اليونان:

• إجمالي الدين العام في اليونان يقدّر بنحو 334 مليار يورو (حوالى 392 مليار دولار) في عام 2021.

• نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في اليونان تصل إلى حوالى 205 ٪ ما يعني أن حجم الدين يفوق اثنين من ثلاثة أضعاف الناتج المحلي.

• تم تنفيذ برامج إصلاح اقتصادي صارمة تشمل تخفيضات في الرواتب وزيادة الضرائب وتقليص الإنفاق الحكومي، بهدف تقليص الدين العام وتحسين الاستدامة المالية.

2 – لبنان:

• إجمالي الدين العام في لبنان يقدّر بنحو 94 مليار دولار في عام 2021.

• نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في لبنان تفوق 180 ٪ ما يشير إلى تفاوت كبير بين حجم الدين وحجم الاقتصاد.

• يعاني لبنان أزمة مالية واقتصادية خانقة، حيث تراجعت القدرة على سداد الدين بسبب تدهور العملة المحلية والتضخم المفرط والتلاعب في السياسات المالية.

لحل أزمة الديون في اليونان ولبنان، هناك بعض الإجراءات الممكنة التي يمكن اتخاذها:

1 – تعزيز النمو الاقتصادي: يجب تنفيذ سياسات اقتصادية تعزز النمو المستدام وتحفّز الاستثمار وتعزز القطاع الخاص، ما يساهم في زيادة الإيرادات وتحسين القدرة على سداد الديون.

2 – إصلاحات هيكلية: يجب تنفيذ إصلاحات هيكلية في القطاعات الحكومية والاقتصادية، مثل القطاع المصرفي والضرائب والنظام التشريعي، لتحسين الشفافية ومكافحة الفساد وتعزيز الكفاءة المالية.

3 – إعادة هيكلة الديون: يمكن النظر في إعادة هيكلة الديون من خلال تمديد فترة السداد أو تخفيض الفائدة أو تقديم شروط سداد أكثر مرونة، مع الحفاظ على التوازن بين حقوق الدائنين وقدرة البلد على سداد الديون.

4 – التعاون الدولي: يجب تعزيز التعاون الدولي والتضامن مع اليونان ولبنان من قبل المؤسسات المالية الدولية والدول الأخرى، من خلال تقديم الدعم المالي والتقني والمساعدة في تنفيذ إصلاحات هيكلية.

من الواضح أنّ حل أزمة الديون يتطلب جهودًا مشتركة وتضافر قوى الجميع، بما في ذلك الحكومات والمؤسسات المالية والمواطنين. يجب أن يكون الهدف النهائي هو تحقيق استقرار مالي واقتصادي يعود بالنفع على الجميع ويؤسّس لمستقبل مُستدام للبلدين.

قد تظهر اختلافات في القدرة على التعامل مع تلك الأزمات. لذلك سوف نستعرض الأسباب التي أدّت إلى نجاح اليونان في تجاوز أزمتها المالية، والتحديات التي تواجه لبنان في التعامل مع أزمته الحالية.

1 – التدخل الدولي والدعم المالي:

• اليونان: إستفادت من دعم مؤسسات مالية دولية، مثل الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي، حيث تم توفير حزمة مساعدات مالية لدعم الاقتصاد وتسديد الديون.

• لبنان: حتى الآن، لم يتمكن من الحصول على دعم مالي كبير من المؤسسات الدولية، ما يعرضه لتحديات كبيرة في تسديد الديون وتخفيف الأزمة المالية.

2 – تنفيذ إصلاحات اقتصادية وهيكلية:

• اليونان: إضطرّت لتنفيذ إصلاحات اقتصادية صارمة، بما في ذلك تقليص الإنفاق الحكومي وتحسين الشفافية وزيادة الضرائب. تم تحسين النظام المصرفي وتقليص الفساد، ما ساهمَ في تحسين الاستدامة المالية.

• لبنان: على الرغم من التحديات التي يواجهها، إلّا أن التنفيذ الفعال للإصلاحات الاقتصادية والهيكلية لم يتحقق بشكل كافٍ. يعاني لبنان تدهور العملة المحلية ونقصاً في السيولة المالية وضعف القطاع المصرفي، ما يؤثر على الاستقرار المالي.

3 – الاستقرار السياسي والقيادة الحكومية:

• اليونان: نجحت في الحفاظ على الاستقرار السياسي وتشكيل حكومات قادرة على تنفيذ الإصلاحات اللازمة. وتمكنت القيادة الحكومية من تحقيق توافق سياسي ومجتمعي في مواجهة الأزمة المالية.

• لبنان: يعاني عدم الاستقرار السياسي والتوافق السياسي المحدود، ما يعرقل تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية اللازمة ويزيد من صعوبات التعامل مع الأزمة المالية.

4 – التكامل الاقتصادي والتنويع:

• اليونان: تمكنت من تعزيز التكامل الاقتصادي مع دول الاتحاد الأوروبي وزيادة الصادرات، ما ساهمَ في تنويع مصادر الإيرادات وتعزيز النمو الاقتصادي.

• لبنان: يعاني من اعتماده الشديد على القطاع المصرفي والاستيرادات، ما يعرضه للتذبذبات في الاقتصاد العالمي ويجعله أقل قدرة على التعامل مع الأزمة المالية.

باختصار، تمكنت اليونان من التغلب على أزمتها المالية بفضل تدخل المؤسسات الدولية وتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية والهيكلية والاستقرار السياسي. بينما تواجه لبنان تحديات عديدة في التعامل مع أزمته المالية، ويحتاج إلى دعم مالي دولي، وتنفيذ إصلاحات شاملة لتحقيق الاستقرار والنمو الاقتصادي.

بروفسور غريتا صعب

عن الاقتصاد السياسي لاستقلال البنوك المركزية

لبعض الألفاظ وقع جميل لارتباطها بقيمة من القيم أو بأحداث تاريخية معينة ولكن عند استخدامها كمصطلح قد تُحمّل هذه الألفاظ بأكثر مما تحتمل، وقد يترتب على استخدامها بإفراط خلط في المفاهيم وتضارب عند التطبيق. ومن هذه الألفاظ ما تجده دارجاً عن استقلال البنوك المركزية، بافتراض قد يكون فضفاضاً بأنه مفهوم شارح لنفسه، وينطوي ضمنياً على حرية البنك المركزي في تحديد أهدافه واستخدام ما يراه مناسباً من أدوات لتحقيق هذه الأهداف، بعيداً عن التدخل السياسي المباشر من قِبل الحكومة.

وتنبغي الإشارة إلى ما لموضوع الاستقلال والعلاقة بين البنوك المركزية والسلطات التنفيذية من تاريخ طويل، حيث شهدت العلاقة خلال القرنين الماضيين تراوحاً بين التدخل السافر من قِبل الحكومات في أعمال البنوك المركزية، وإطلاق الحرية لها. ففي القرن التاسع عشر، حيث سادت أفكار الحرية الاقتصادية واستقرت الأسعار وكانت قاعدة الذهب هي القاعدة المحتكم إليها، تجلى استقلال البنوك المركزية، ولكن تلاحق الأزمات الاقتصادية بعد الحرب العالمية الأولى استدعى تدخل الحكومات في أنشطة البنوك المركزية، ثم ما لبثت أن استرجعت البنوك المركزية قدراً من استقلالها مرة أخرى بعد استقرار الأوضاع الاقتصادية. ولكن ما أعقب الحرب العالمية الثانية من ترويج لوجهات النظر المحبذة للتوسع في تدخل الدولة نال ذلك، فيما ناله، من استقلال البنوك المركزية، ثم شهد العالم تحولاً بدأ في السبعينات تجاه قوى السوق وتقييداً لسلطة الحكومة في تمويل نفقاتها بالتوسع في عجز الموازنة العامة للدولة، وتعالت معها نداءات داعية إلى جعل البنك المركزي مستقلاً في اتخاذ قراره بعيداً عن تدخل الحكومة؛ حتى لا ينفلت العجز بتمويل تضخمي.

وتنحصر وظائف البنك المركزي التقليدية في مجموعتين: الأولى تتعلق بإدارة السياسات النقدية بهدف تحقيق الاستقرار النقدي والسيطرة على معدلات التضخم، والأخرى تتعلق بالرقابة والإشراف على البنوك بهدف تحقيق الاستقرار المصرفي. ومن البنوك المركزية ما يُكلف أيضاً أهداف التشغيل ودفع النمو الاقتصادي. وتذهب فرضية استقلال البنوك المركزية إلى أنه يمكّنها من أداء هذه الوظائف بشكل أكثر كفاءة، فتتحسن إدارة السياسة النقدية فيما يتعلق بالسيطرة على تضخم الأسعار. كما أن من شأن استقلال البنك المركزي أن يدعم قدراته الإشرافية والرقابية على الوحدات المصرفية.

وتكاد لا تجد خلافاً يذكر حول ضرورة استقلال البنك المركزي لضمان تحقيق الرقابة المالية الحصيفة على البنوك؛ وإن توسعت الوظائف الرقابية لبنوك مركزية بعد الأزمة المالية العالمية لتمنحها مسؤولية الاستقرار المالي بشكل عام، ولكن الخلاف يتجلى في الأمور المتعلقة بالسياسات النقدية، وإذا ما كان من الواجب أن تترك إدارة السياسة النقدية للبنك المركزي وحده.

والمدافعون عن استقلال البنك المركزي يستشهدون بأوضاع الدول التي تتمتع فيها البنوك المركزية بصلاحية تمنحها الحرية في استخدام الأدوات النقدية، مثل سعر الخصم ومعدل الاحتياطي القانوني والتحكم في المعروض النقدي وغيرها، وما ارتبط بذلك من نجاح كبير في تحقيق انخفاض مستمر في معدلات التضخم على النحو الذي قام به البنك المركزي الألماني، قبل الوحدة النقدية الأوروبية، وبنك نيوزيلندا المركزي والبنك المركزي الأسترالي. بل وذهب بعض المتحمسين لاستقلال البنك المركزي إلى تركيب رقم قياسي يعتمد على مجموعة من الشواهد والأدلة على الاستقلال، مثل الصلاحيات القانونية الممنوحة للبنك المركزي في تحديد أهدافه واستخدام أدواته، وطبيعة ملكية البنك المركزي وحوكمته وسلطة تعيين محافظه وأعضاء مجلس إدارته والشروط الواجب توافرها فيهم وفترات المجلس، والجهة التي يُسأل أمامها البنك المركزي ويقدم لها تقاريره.

ولكن هل يؤدي استقلال البنوك المركزية، خاصة في البلدان النامية، إلى تحسن في أداء السياسة النقدية؟ ويستلزم الرد على هذا التساؤل تناول الإجابة عن ثلاثة محاور:

المحور الأول يرتبط بهدف الاستقلال، فإذا كان هدف الاستقلال هو تخفيض معدلات التضخم، وأن مجرد الاستقلال القانوني للبنك المركزي سوف يؤدي تلقائياً إلى تحقيق هذا الهدف؛ فإن هذا يعدّ اختزالاً للحقائق وقفزاً لنتائج غير مساندة ببراهين ثابتة، فللتضخم في الدولة نامية أسباب تتعدى كونه ظاهرة نقدية يمكن القضاء عليها بالتحكم في عرض النقود والطلب عليها، وبإطلاق الحرية للبنك المركزي في تحقيق التحكم المنشود، فهناك عوامل هيكلية تدفع بمعدلات التضخم إلى الارتفاع بشكل لن يجدي مجرد التحكم في عرض النقود معها نفعاً، بما يحتم ضرورة التنسيق والتعاون بين الحكومة والبنك المركزي في تحديد أهداف السياسة النقدية والتنسيق بينها وبين السياسة المالية العامة مع ترك الحرية كاملة للبنك المركزي في تحديد الأدوات المناسبة لتحقيق أهداف السياسة النقدية.

أما المحور الثاني فيتعلق باعتبار الاستقلال هدفاً أم وسيلة، فالمتابع لبعض الكتابات في هذا الموضوع يرى آراء تكاد تصل إلى أن الاستقلال هدف في حد ذاته، وكأن البنك المركزي يرزح تحت نير استعمار حكومي غاشم ينبغي القضاء عليه وعلى أعوانه دون تبيان للأسباب. فالاستقلال في المقام الأول ما هو إلا حماية للبنك المركزي من التدخل السياسي في قرارات فنية بطبيعتها، وعدم تغليب الأهداف السياسية قصيرة الأجل على السعي إلى تحقيق الاستقرار النقدي والاستقرار المالي كهدفين رئيسيين له؛ فضلاً عن عدم منح الحكومة رخصة للاقتراض التلقائي منه دون ضوابط بما يضع قيداً على التوسع التضخمي في عجز الموازنة العامة للدولة. فاستقلال البنك المركزي ما هو إلا وسيلة من الوسائل المطلوبة لتدعيم مصداقيته التي من شأنها أن تعينه في تحقيق أهدافه.

أما المحور الثالث فمعني بالإجابة على سؤال يتعلق بحيثيات استقلال البنك المركزي ومدى مصداقيته في تحقيق هدف استقرار الأسعار؟ وهو سؤال تُحدد الإجابة عنه الممارسة والتطبيق الفعلي للصلاحيات الواسعة التي يتمتع بها البنك المركزي. وإن كانت من البديهيات أن نؤكد أن من أهمها توفر الكوادر المؤهلة بما يتناسب وطبيعة العمل الحيوي والدقيق الذي تقوم به. علماً بأن هذه الكوادر يتطلب تكوينها زمناً طويلاً ومجهوداً فائقاً وتكلفة باهظة، وإن فُقدت يصعب تعويضها.

ومن الناحية العملية، اعتادت البنوك المركزية على استخدام نماذج للتقدير والتنبؤ أفرط في الاعتماد عليها دون تطوير. كما تعرضت السلطات النقدية في بلدان متقدمة لمشكلات حادة في قدرتها على توجيه سياساتها بين البدائل المتاحة بما عرّض مصداقيتها مؤخراً لحرج بالغ فيما يتعلق بكون التضخم ظاهرة مؤقتة عارضة أم أنها مستمرة لفترة تستدعي تدخلاً حاسماً ومبكراً لاحتوائه. وهو ما لم يتم في حينه، خاصة بعد ضح تمويل ضخم ورخيص للتعامل مع الأزمة الاقتصادية التي صاحبت جائحة كورونا. وقد ذكر في مبررات منح الاستقلال للبنوك المركزية بأن يكون بديلاً عما تتعرض له الحكومات من ضغوط قد تستجيب لها فتتوسع في الإصدار النقدي بزيادة العجز. ولكن ما تعرضت له الاقتصادات من أزمات جعل البنوك المركزية تخوض في أدوار مباشرة بدعوى مكافحة الأزمات بما يتجاوز دورها «كملجأ أخير»، فصارت «مانحاً أول» لائتمان مباشر ميسَّر وغير ميسَّر، وتنخرط في استجلاب السيولة من النقد الأجنبي بأدوات قصيرة الأجل، وأوعية اقتراض ممتدة الآجال.

وفي كتاب مهم صدر منذ أسابيع للاقتصادي ستيفن كينغ بعنوان «نريد التحدث عن التضخم!» يستعرض مخاوف توسع نطاق عمل البنوك المركزية التي تجاوزت الدورين التقليديين للاستقرار النقدي وسلامة الجهاز المصرفي إلى الاستقرار المالي بشكل عام والتشغيل الكامل لقوة العمل والتمويل الأخضر، فضلاً عن، في حالة البنك المركزي الأوروبي، حماية اليورو كمشروع سياسي وليس اقتصادياً فقط. وهي كما يذكر الكاتب أهداف مهمة، ولكن لا توجد ضمانة لتحقيق هذه الأهداف جميعاً في وقت واحد من جهة واحدة.

وباعتبار ما جرى عملياً من توسع في نطاق نشاط البنوك المركزية ليتداخل مع أعمال الحكومات المركزية، أيضاً، أليس في هذا ما يدعو إلى مراجعة قواعد حوكمة البنوك المركزية فهي لم تعد مستقلة بحسبان ما تقوم به من مكافحة للتضخم وهو أمر كان في حد ذاته محلاً لتساؤل في سفر ضخم لنائب محافظ بنك إنجلترا الأسبق، بول تكر، عن حدود وممارسات سلطة غير منتخبة بصلاحيات ممتدة. ونتساءل مثلاً هل كان تدخل البنوك المركزية الرئيسية في الأزمة المالية العالمية للصالح العام وعموم الناس أم أنها انحازت، وفقاً لأحكام قيمية ارتأتها، لاستنقاذ البنوك من عثراتها وفقاً لمقولة ماريو دراجي الشهيرة أثناء توليه مهام البنك المركزي الأوروبي للتصدي للأزمة المالية «مهما أخذت أو كلفت»، ومن الثابت أنها أخذت فعلاً ما تجاوز ما كان مقدراً.

ويثير الاقتصادي راجو راجان، محافظ البنك المركزي الهندي، مسألة أخرى حول السياسة النقدية الأمريكية التي حبذت انخفاض أسعار الفائدة لفترة طويلة، ثم تخلت عنها فجأة بعد فترة من سخاء التيسير النقدي، بما أدى إلى فشل أربعة بنوك مؤخراً في وقت متزامن بسبب استثماراتها طويلة الأجل في أوعية منخفضة العائد بتمويل من ودائع قصيرة الأجل أغلبها غير مؤمّن عليها. وفي هذا يلوم راجان ما أطلق عليهم «الانفصاليون» في البنوك المركزية بمعنى هؤلاء الذين يفصلون بين توجه وآثار السياسات النقدية، سواء في مرحلة التيسير النقدي لدفع النمو، أو تقييد عرض النقود والائتمان في حالة مكافحة التضخم عن تداعياتها على وظيفة الرقابة المالية وتقلب الحال بين بسط للبنوك المركزية أيديها ثم «إغلال» مقيد لها، بما سببه ذلك من اضطرابات واسعة تجاوز أسواق النقد والمال إلى أوضاع الاقتصاد وأحوال عموم الناس.

يجدد هذا كله الدعوة إلى مراجعة قواعد الحوكمة والصلاحيات الممنوحة للبنوك المركزية – كسلطات مستقلة غير منتخبة – وحاجتها إلى ضوابط، منها ما جاء في اقتراح بول تكر لتفعيل حصيف لمبادئ التفويض. ومن هذه المبادئ التوافق على مجال التفويض المحدد، والالتزام بتحقيق الأهداف من التفويض ومصداقيته. ووضع فريق من المفوضين الخبراء الأكْفاء لمتابعة قيام البنوك المركزية بواجباتها وفقاً للسلطات الممنوحة لها، والاستقلال العملي والمؤسسي اللذين تتمتع بهما. على ألا تقوم البنوك المركزية بإجراءات من شأنها تجاوز مهامها المحددة، خاصة فيما يتعلق بمجالات يجب أن تكون محل اختيارات عامة، كتلك التي يترتب عليها التزامات تخل عمداً بتوزيع الدخول والثروات والحقوق، أو تؤثر في موازين القوى السياسية في المجتمع.

د. محمود محيي الدين