هناك مجموعة من الأهداف للزيارة التي قام بها وفد صندوق النقد الدولي الى بيروت الاسبوع الماضي، والتي انتهت ببيان تعدّدت القراءات في تفسير مضمونه، لكن الهدف الرئيسي للزيارة تمثّل في حسم البند المتعلّق بالخسائر والودائع، للبناء عليه في التعاطي مع الدولة اللبنانية في المستقبل.
منذ توقيع الاتفاق الأولي على مستوى الموظفين في نيسان الماضي، وتعهّد الدولة بكل أركانها، بما فيها الرئاسات الثلاث، بتنفيذ ما تمّ الاتفاق عليه للوصول الى اتفاقية تمويل لخطة انقاذ مع الصندوق، برزت مسألة جوهرية تتعلق بتوزيع الخسائر، وملف الودائع، على انها نقطة مبهمة، تعمّدت «الدولة» ان تكون كذلك، لأنها لم تجرؤ على مكاشفة المواطنين بموافقتها على شطب القسم الاكبر من الودائع، بذريعة ان نجاح خطة التعافي صعب، اذا كانت هناك التزامات مالية كبيرة، مطلوب من الخزينة تسديدها.
المشكلة في هذا الملف، لا تقتصر على خطورة موافقة السلطة على مبدأ الشطب، بل تتمدّد الى مسألة محاولات التذاكي على المواطنين، وعلى صندوق النقد. وهكذا كانت الدولة تقول للناس ان اموالهم مؤمّنة، وانّ الودائع مقدسة، وان لا صحة لما يُقال في شأن شطب الودائع في الخطة التي وضعتها الحكومة. وفي المقابل، كان المسؤولون في الحكومة يخاطبون صندوق النقد بلغة التطمين الى انهم أقرّوا الخطة كما تم الاتفاق عليها، اي ضمان 100 الف دولار لكل المودعين، وشطب ما تبقى بوسائل متعددة.
هذه الازدواجية ومحاولات التذاكي، وبصَرف النظر عن انّ ضمان الـ100 الف دولار، من دون ان تَفي الدولة ومصرفها المركزي، بجزء من ديونها على الاقل، كانت مجرد وهم وتدجيل، إلّا أن الطامة الكبرى تكمن في استمرار التلاعب، وكأن ملفاً بهذا الحجم، يمكن أن يُنجز بكذبة من هنا، وتمويهٍ من هناك.
في هذه الاثناء، كان المسؤولون عن الملف اللبناني في صندوق النقد يتابعون عن كثب ما يجري على خطين: الخط الاول يتعلق بتنفيذ الدولة الاجراءات التي تعهدت بها، كممرات الزامية للوصول الى توقيع الاتفاق النهائي مع الصندوق، وقد تبيّن ان تنفيذ هذه الاجراءات لم يصل الى نسبة 20% مما هو مطلوب، وظل الكابيتال كونترول والانتظام المالي واعادة هيكلة المصارف مجرد مشاريع عالقة بين الحكومة والمجلس النيابي. والخط الثاني يتعلق بخطة التعافي، والتي تحولت الى لغز، بحيث انها كادت ان تضيع بين الحكومة والمجلس. السلطة التنفيذية تدّعي انها انجزت وارسلت الخطة الى المجلس للمناقشة، والسلطة التشريعية تدّعي انها لم تتلق اية خطة للنقاش.
هذا الغموض غير البناء، كان متعمّداً، ذلك ان أي طرف لا يريد ان يعترف بوجود خطة كاملة، لأنه سيضطر في هذه الحالة الى الاعتراف بقرار شطب الودائع. وهكذا تم اللجوء الى مناورات هزيلة ومكشوفة، كأن يقال مثلا انّ الخطة تنصّ على فك الارتباط (الالتزامات المالية) بين مصرف لبنان والمصارف التجارية. أو ان تتعهد الدولة بتمويل مصرفها المركزي بما يوازي مليارين ونصف مليار دولار، وهي تعلم ان المطلوبات على المركزي حيال المصارف يقارب الـ80 مليار دولار، وتعرف ان «ديونها» حيال المركزي تناهز الـ70 مليار دولار.
هذا التكاذب الذي اعتقدت الدولة انه قد يمر، ويُقنع المودعين وصندوق النقد في آن، يكشف حجم الغباء والاستخفاف في عقول بعض المسؤولين.
في هذه الاثناء، كان صندوق النقد يراقب هذا التمويه المتعمّد، وينتظر ما سيؤول اليه الوضع. لكن، وبعدما اقترب الموضوع من الحسم، وصار لزاماً على الحكومة وعلى النواب ان يتخذوا قرارات واضحة حيال مسألة الودائع، وقعَ المحظور. وعندما لاحظ المسؤولون في الصندوق وصول الامور الى مأزق، قرروا ان يزورا لبنان للاطلاع على حقيقة الموقف القائم.
وهكذا تبلّغ وفد الصندوق، بما لا يحتمل اي لبس، ان النواب لن يوافقوا على اقرار اية خطة تتضمّن شطباً للودائع. وهذا الوضوح ليس سيئا، لكنه جاء متأخرا، وبعدما أضاع البلد حوالى فترة طويلة أمضاها في التفاوض مع الصندوق.
ماذا سيجري في المرحلة المقبلة، بعدما عاد وفد الصندوق بخلاصة ان مسألة شطب الودائع لن تمر؟
النتائج مرتبطة بسلوك الدولة اللبنانية، التي لا تستطيع ان تقول لا، من دون ان توجِد البديل. وبالتالي، صار مطلوبا تغيير منهجية مقاربة فلسفة خطة التعافي، واعادة التفاوض مع صندوق النقد حول بند الودائع. ولكن المفاوضات لن تنجح اذا استمرت كما كانت في السابق، بل ينبغي تقديم براهين تُثبت ان الدولة سوف تغيّر في منهجية التعافي، أي على الدولة ان تُثبت انها ستقلب معادلات النمو، من خلال إشراك القطاع الخاص بقوة في ادارة مقدرات الدولة، بكل تفرعاتها، وبأن خطط تقليص نسب التهرّب الضريبي والتهريب، وتوسيع مروحة المكلفين، ستنتقل الى التنفيذ، وان الحسابات التي يجريها صندوق النقد لاحتمالات نمو الاقتصاد، والقائمة على حسابات كلاسيكية تفترض ان الامور ستستمر كما كانت في السابق، ينبغي تغييرها، لأن الاستدارة نحو تغيير النهج، والانتقال الى اقتصاد الشراكة بين العام والخاص، سيؤديان الى نسَب نمو كبيرة، تسمح للدولة بتسديد قسم من ديونها، من دون ان يعيق قدراتها على القيام بواجباتها حيال ضمان استمرار النمو والتعافي على مستوى الدولة.
والسؤال، هل ستأخذ الدولة قرار تغيير النهج في خطة التعافي؟ ومتى ستبدأ مرحلة المفاوضات الجديدة؟ ومن سيتولاها من الجانب اللبناني؟
أنطوان فرح