خريطة طريق عالمية لتنسيق العمل بالعملات المشفرة

ناقشت قمة العشرين بالهند (9 و10 سبتمبر/ أيلول 2023) مواصلة مراقبة مخاطر التطورات السريعة في النظام البيئي للأصول المشفرة، إذ وضع المنظمون الماليون العالميون، وصندوق النقد الدولي خارطة طريق لتنسيق الإجراءات التي تمنع الأصول المشفرة من تقويض استقرار الاقتصاد الكلي والاستقرار المالي، إذ إن الأصول المشفرة هي مصطلح يشير إلى العملات الرقمية الافتراضية التي يتم التداول عليها إلكترونياً، فهي عملات لا وجود لها على أرض الواقع، ولكنها عُرفت من خلال الشبكة العنكبوتية، ويتم تداولها عليها، وقد استطاعت أن تجذب أنظار فئة من الناس إليها، وأصبحت من العملات التي تتمتع بقابلية محدودة من قبل الجمهور.

ما يميز هذه العملات ويجعلها قابلة للتداول المحدود والحذر، هو أنها تخضع لعمليات تشفير صعبة، ومربوطة بخوارزميات يصعب اختراقها، حيث يُمنع فيها تزوير القيمة، فمالك العملة لا يستطيع إرسال العملة نفسها لأكثر من شخص، وهذا جعلها محط اهتمام الجميع، خصوصاً أن محاولة اختراع عملات مشفرة بدأت قبل ذلك بكثير في عام 1998، وإمكانية خضوع العملات لعمليات تشفير واختراق، هي التي جعلت الفكرة بعيدة المنال.

وباتت الأصول المشفرة اليوم واحدة من أهم آليات التداول للسلع والخدمات، كما يتم التداول بها في السوق المالية العالمية، وأصبحت العديد من دول العالم تقبلها بوصفها آلية دفع، مقابل الخدمات التي تقدمها مؤسساتها، وليس من المستبعد يوماً أن نجدها هي الأساس الذي يتم به التداول العالمي للخدمات، خصوصاً أنها قدمت إمكانيات أفضل بكثير من النقود العادية إذا نجحت في وظائفها، كونها غير قابلة للتلف ولا السرقة ولا إرهاق نفسك في حملها. محفظة إلكترونية فقط على هاتفك الجوال يمكنك فيها حفظ ملايين الأصول المشفرة، واستخدامها في عديد من عمليات التداول.

وفيما يتعلق بالأصول المشفرة: السياسة والتنظيم، أكدت «قمة العشرين» في الهند 2023، القرار الرفيع المستوى لمجلس الاستقرار المالي، والتوصيات لتنظيم الأصول المشفرة والإشراف عليها، والإشراف على الأنشطة والأسواق وترتيبات العملات المستقرة العالمية، إذ طلبت القمة من مجلس الاستقرار المالي وضع المعايير التي تعزز التنفيذ الفعال في الوقت المناسب لهذه التوصيات بطريقة متسقة على مستوى العالم لتجنب المرابحة التنظيمية.

وقالت هيئة مراقبة المخاطر بـ«مجموعة العشرين» ومجلس الاستقرار المالي وصندوق النقد الدولي، إن هذه المخاطر تتفاقم بسبب عدم الامتثال للقوانين الحالية في بعض الحالات، وإن عديداً من الفوائد المزعومة من الأصول المشفرة، مثل المدفوعات الأرخص والأسرع عبر الحدود وزيادة الشمول المالي، لم تتحقق بعد. وإن الاعتماد على الأصول المشفرة على نطاق واسع يمكن أن يقوّض فاعلية السياسة النقدية، ويتحايل على تدابير إدارة تدفق رأس المال، ويؤدي إلى تفاقم المخاطر المالية، وتحويل الموارد المتاحة لتمويل الاقتصاد الحقيقي، وتهديد الاستقرار المالي العالمي.

وقد حدد تقرير هيئة مراقبة المخاطر، الجداول الزمنية لأعضاء صندوق النقد الدولي و«مجموعة العشرين» لتنفيذ التوصيات الأخيرة لتنظيم العملات المشفرة الصادرة عن مجلس الاستقرار المالي والمنظمة الدولية لهيئات الأوراق المالية، وهي مجموعة عالمية من منظمي الأوراق المالية، وإن التقرير الذي سيتم تقديمه إلى قادة مجموعة العشرين في القمة أوضح أن الاستجابة السياسية والتنظيمية الشاملة للأصول المشفرة ضرورية لمعالجة مخاطر الأصول المشفرة على الاقتصاد الكلي والاستقرار المالي، وأن العناصر الأخرى تشمل تجنّب الحكومات العجز الذي يمكن أن يؤدي إلى التضخم الذي يؤثر في العملات الورقية، ويشجع البدائل مثل الأصول المشفرة، وينبغي أيضاً توضيح المعاملة الضريبية للأصول المشفرة، إلى جانب كيفية تطبيق القوانين الحالية على هذا القطاع.

وقد رحبت القمة بخطة العمل المشتركة لأصول التشفير لكل من مجلس الاستقرار المالي وهيئات وضع المعايير المشتركة لأصول التشفير، وبالورقة التجميعية لصندوق النقد الدولي ومجلس الاستقرار المالي، بما في ذلك خارطة الطريق التي من شأنها أن تدعم سياسة منسقة وشاملة الإطار التنظيمي، مع الأخذ في الاعتبار المجموعة الكاملة للمخاطر والمخاطر الخاصة باقتصادات الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية والتنفيذ العالمي المستمر لسياسات صندوق النقد الدولي ومجلس الاستقرار المالي لتطبيق معايير مجموعة العمل المالي (FATF) للتصدي لغسل الأموال ومخاطر تمويل الإرهاب. كما رحبت القمة بتقرير بنك التسويات الدولية عن النظام البيئي للعملات المشفرة: العناصر والمخاطر الرئيسية. يشار إلى أن وزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية، سيناقشون مسألة اتخاذ قرار تقديم خارطة الطريق في اجتماعهم في أكتوبر (تشرين الأول) 2023.

وفي الختام، ما زالت العملات المشفرة والرقمية في إطار الدراسة في صندوق النقد الدولي ومجلس الاستقرار المالي.

 

د. ثامر محمود العاني

ما سبب الالتباس في موقف صندوق النقد حيال الودائع؟

بعد أربع سنوات على الانهيار، وبعد تقارير محاسبية وتدقيقية، ووقائع غير قابلة للانكار، في شأن الاسباب والطرق التي أدّت الى الوضع الافلاسي القائم حالياً، حان الوقت للانتقال الى مرحلة الواقعية والبدء في إقرار معالجات وتنفيذها على وجه السرعة للخروج من الحفرة التي لا تزال تزداد عمقاً يوماً بعد يوم.

السياسة التي تتّبعها حاكمية مصرف لبنان حتى الآن، لا غبار عليها، وهي مطلوبة بدليل الاشادة التي حظيت بها هذه الاجراءات في البيان الختامي للزيارة التي قام بها وفد صندوق النقد الدولي الى بيروت. لكن هذه السياسة ينبغي ان تتماهى مع اجراءات وخطوات ينبغي ان تتخذها الدولة (السلطتان التنفيذية والتشريعية) لكي تكون مثمرة على مستوى الخروج التدريجي من الأزمة. والمفارقة في هذا الوضع، انه اذا امتنعت الدولة عن مواكبة النهج الجديد في المركزي، سينعكس ذلك ضغوطاً اضافية على الوضع المعيشي للمواطن. وهذا يعني ان اللبناني في هذه الحالة، سيعاني تراجعاً اضافياً في قدراته الشرائية، وقد تتعمّق دائرة الفقر، على اعتبار ان السياسة السابقة للمركزي كانت تستند، وبموافقة ودعم من الدولة، على مبدأ انفاق اموال المودعين المتوفرة في مصرف لبنان، لتخفيف وطأة الأزمة المعيشية على الناس. وعندما يتم اغلاق هذه الحنفية غير الشرعية، والتي هي أشبه بسرقة اموال الناس وتوزيعها على آخرين لإسكاتهم، من دون تأمين مصدر تمويل بديل يمكن خلقه عبر خطوات اصلاحية، واجراءات تنفيذية تباشرها الدولة، فمن البديهي انّ المواطن سيعاني ضغوطات معيشية اضافية، وستصبح الأزمة موجعة اكثر لغالبية اللبنانيين.

انطلاقاً من هذا الواقع، لا بد من الانتقال بسرعة الى مرحلة جديدة على مستوى الدولة. ومن خلال زيارة وفد صندوق النقد، تأكد المؤكد، وهو ان المشكلة الاساسية التي تعيق هذا الانتقال، الى جانب اللامسؤولية وغياب الوعي لدى كل المسؤولين، ترتبط بكيفية اعادة الودائع. ونحن نتحدث هنا، عن اموال لم تعد موجودة، وبقي منها فعلياً حوالى 10 مليارات دولار، من اصل حوالى 90 مليار دولار مُسجّلة في قيود المصارف. فمن اين سنأتي بـ80 مليار دولار لحل مشكلة الودائع؟

في البداية، ينبغي ان نعرف انّ صندوق النقد الدولي لا يعترض على مبدأ اعادة الودائع، بل يرفض ان يتم تمويل اي صندوق لإعادة هذه الودائع من ايرادات الدولة. والسبب في ذلك انّ الصندوق وضع خطة، ورسم تقديرات لأداء الاقتصاد اللبناني في السنوات المقبلة، ولنسب النمو المتوقع، ولقدرة لبنان على اعادة القرض الذي سيقدمه الصندوق له وقيمته 3 مليارات دولار. وبالتالي، يرفض الصندوق ان يتم المَس بإيرادات الدولة او اصولها، حرصاً على بقاء تقديراته صحيحة، وعدم حصول ما قد يعرقل اعادة اموال القرض.

انطلاقاً من ذلك، ولأن خيار التخلي عن الصندوق هو خيار انتحاري، خصوصا مع دولة من هذا النوع، لا تؤتمن على اي اصلاح او التزام، وتكتفي بشعار قدسية الودائع، التي طار اكثر من نصفها، منذ إطلاق هذا الشعار في بداية الانهيار، لا بد من التفكير في حلولٍ تكون عادلة قدر الامكان لأصحاب الحقوق، ويمكن ان يوافق عليها صندوق النقد. هذا النهج في التفكير، يقود الى طرح مجموعة افكار، تستند جميعها الى مبدأ تأسيس صندوق لإعادة الودائع، لفصل هذه الأزمة التي قد يستغرق حلها نهائياً سنوات طويلة، عن مسار التعافي الذي قد يبدأ فور المباشرة في تنفيذ خطة الانقاذ بالاتفاق مع صندوق النقد. وتبقى المسألة الاساسية متعلقة بتمويل هذا الصندوق، من دون اثارة اعتراض صندوق النقد. وهنا تظهر مجموعة افكار منطقية، من أهمها:

اولاً – إنجاز شراكة كاملة بين القطاعين العام والخاص، والاتفاق مع صندوق النقد على تخصيص نسبة من الايرادات لتمويل صندوق الودائع مربوطة بالنمو. بمعنى انه عندما تتجاوز نسبة النمو التقديرات التي وضعها صندوق النقد للسنوات الخمس التي تلي بدء تنفيذ خطة الانقاذ، يمكن تحويل هذا الفائض الى الصندوق. هذا الاقتراح ورد بروحيته في ورقة الهيئات الاقتصادية ويحتاج الى بلورة اضافية، لإقناع صندوق النقد بعدم رفضه.

ثانياً – اعادة جزء من الاموال التي ضاعت بسبب اعادة القروض الدولارية بالليرة او باللولار. والمقصود هنا، القروض الضخمة التي تتجاوز قيمة الواحد منها المليون دولار. وهناك اثرياء وشركات ومسؤولون استفادوا من هذا الوضع وحققوا ارباحا طائلة في ظروف استثنائية. وهم بذلك اخذوا جزءا من اموال المودعين. وعلى سبيل المثال لا الحصر، استطاعت شركة مثل سوليدير ان تُعيد قروضها التي اقتربت قبل الانهيار من مليار دولار، بمبالغ زهيدة. وكذلك فعلت شركات اخرى كثيرة ومتموّلون كبار. ومن العدل ايجاد قانون يسمح باعادة جزء من هذه الاموال (ضريبة استثنائية) الى صندوق الودائع.

ثالثا – إيجاد صندوق لاعادة الودائع يتم تمويله من عائدات الغاز المستقبلية. هذه العائدات غير واردة في حسابات صندوق النقد عندما وضع تقديراته للنمو والايرادات في السنوات الخمس المقبلة. وبالتالي، لا مبرر لديه لرفض مثل هذا الاقتراح. والمفيد في هذا المشروع انّ اصحاب الحقوق (المودعون) يستطيعون ان يبيعوا حصصهم منذ انطلاق الصندوق، كما في امكانهم الانتظار للحصول على مبالغ اكبر، وربما تحقيق ارباح، قد تتجاوز قيمة الوديعة التي يريدون استردادها. وهذا الامر حصل في دول كثيرة، منها النروج التي يحاول لبنان ان يقلّدها في موضوع الصندوق السيادي. طبعاً اصحاب الحقوق في النروج لم يكونوا مودعين، بل كانوا مستثمرين استفادوا من الاستثمار قبل انطلاق عملية التنقيب عن النفط، وحققوا ارباحا طائلة عندما جاءت نتائج التنقيب ايجابية. من هنا يبدو اقتراح هذا الصندوق هو الاكثر واقعية وجدوى.

طبعاً، تبقى مسألة تشريح الودائع، ودراستها لضمان العدالة في اعادتها، او اعادة جزء كبير منها. والموضوع هنا لا يتعلق بودائع مؤهلة وغير مؤهلة، بل بعدالة لا بد منها. وعلى سبيل المثال، مَن اشترى وديعة بشيك ودفع 13 الى 15% من قيمتها الاسمية، ليس من العدل ان يأخذها كاملة تماماً مثل مُدّخر قضى عمره في الادخار، او باع أملاكه وسَيّلها. او حتى مثل نقابة تضع اموال رواتب التقاعد والتعويضات لكل اعضاء النقابة في المصرف. وبالتالي، لا بد من تشريح مفصّل للودائع، ودراستها لجهة تاريخ تكوينها وحجم الفوائد التي أُضيفت اليها، لاتخاذ قرار تصنيفها لكي يأتي قرار اعادة الوديعة عادلاً للجميع.

فهل سيتحرّك المسؤولون في اتجاه معالجات عملية، ام سيكتفون بمواصلة الانكار والتهرّب والاختباء وراء مواقف شعبوية لن تُنقذ الاقتصاد، كما لن تُعيد أي فلسٍ الى المودعين؟

 

أنطوان فرح