شارف العام 2023 على نهايته، ولم يتغيّر المشهد اللبنانيّ إلى الأفضل، لكنّه ما زال يتأقلم، ويجاهد، ويقاوم بطريقةٍ إعجازيّة في وجه جميع العوامل الّتي تحطّ من عزيمته الاقتصاديّة، وتأخذ بانهياره الماليّ إلى مستويات أدنى، فنرى اللبنانيّ قادرًا على الابتكار والفرح طورًا بما هو قليل، والتهكّم على الفشل الإداريّ، والضحك على حاله المأساويّ كنوع من تخطّي المصاعب ولو إلى حين.
فعلى الصعيد المصرفيّ، تأقلم المواطن إلى حدٍّ بعيد مع حقيقة تلاشي مدخّراته، ولم يعُد يطالب بها إلّا في مرّاتٍ اضطرّ فيها إلى استعمال القوّة للحصول على مستحقّاته، وأصبح مثل هذا الخبر يمرّ مرور الكرام، كأيّ خبرٍ رياضيّ فيه فائز وخاسر في جولة من لقاءات عديدة، على أمل تغيير قواعد اللعبة بحيث يستطيع المودِع سحب مبالغ «أكبر».
من ناحية أُخرى، تمّ إغلاق منصّة صيرفة بعد أن رفعت الراية البيضاء أمام السوق السوداء، وكانت خطوة «ناقصة» من مصرف لبنان كبّدت الدولة خسائر كبيرة في احتياطيّ النقد الأجنبيّ. وأكّدت على أنّ لا خطط مدروسة تُنفّذ، إنّما مجموعة من التعميمات تفيد مجموعة على حساب غيرها، ولا تُرسي أي حلول مستدامة للنهوض بالأزمة الاقتصاديّة.
وفي الحديث عن الاستدامة، ارتفع الطلب على الطاقة البديلة وخصوصًا على تركيب الخلايا الكهروضوئيّة، واختفى معه السجال على مشاريع الطاقة التقليديّة ومعامل الكهرباء، فلربّما وجدت الأطراف المتصارعة مصدرًا آخر للكسب عن طريق تسهيل ترخيص تركيب أجهزة الطاقة الشمسيّة والعاملة بالرياح، من دون ضوابط أو شروط. فاكتسى لبنان حلّة خضراء في اعتماده على الطاقة النظيفة «مجبرٌ لا بطلٌ»، تؤمِّن معظم تكلفة تركيبها الباهظ أموال المغتربين، رغبةً منهم أن يعيش أهلهم في ظروف أفضل. بالطبع، من دون أن ننسى مسلسل رفع الدعم عن المشتقّات النفطيّة، وغياب الحديث عن أزمة استيراد الوقود أو تهريبه.
وفي الحديث عن البدائل، لم يجد لبنان بديلًا عن الطبقة المستقيلة الّتي كانت تمسك بزمام الأمور، فكرسي الرئاسة ما زال فارغًا، وحاكم مصرف لبنان انتهت مدّة حاكميّته، وكان الاكتفاء بنائب يسيّر الأعمال… ينطبق الأمر كذلك على مراكز حيويّة كثيرة، منها قيادة الجيش، ورئاسة الحكومة، وتطبيق الحلول المؤقّتة بتمديدٍ من هنا، ومماطلة من هناك…
فالبلد «ماشي» بالعناية الإلهيّة، إذ أصبح عبارة عن «أعجوبة» يعيش مواطنوه مبدأ «كلّ يوم بيومه» من دون خطط اقتصاديّة تُعنى بالشؤون الجيوسياسيّة للمنطقة وتغييراتها الجذريّة، ولا يوجد رأس ينظّم السياسات النقديّة الّتي تضمن الاستقرار الاقتصاديّ وتعزيز النموّ المستدام.
من جهة أُخرى، نجد أنّ الحوكمة في لبنان لم تتقدّم، فلا خطوات واضحة نحو اندماج ماليّ شامل، ولا تسهيل في الوصول إلى الخدمات الرسميّة الأساسيّة للمواطنين مع اتّساع رقعة الحرمان، ولا تحديث في البُنى التحتيّة، وخصوصًا في مجالات تكنولوجيا المعلومات مع انتشار الذكاء الاصطناعيّ في الفترة الحالية في جميع دول العالم، والخدمات الحيويّة بأجمعها.
هذه الأمور الّتي ذكرناها، أدّت إلى انكماش اقتصاديّ حادّ، أفضى إلى تقلّص كبير في الناتج المحليّ الإجماليّ، وارتفاع معدّلات البطالة، ممّا فاقم المصاعب الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وقاد من جديد إلى فتح أبواب الهجرة لدى اللبنانيّين على مصراعيها، في ظلّ انخفاض الاستثمارات الأجنبيّة وهروب رؤوس الأموال إلى أماكن أكثر أمانًا من «سويسرا الشرق»، وغابت عن المشهد المطالبات المدنيّة المحقّة، وتلاشت الرغبة في التظاهر، أو حتّى إبداء الامتعاض «أقلّ الإيمان».
بالإضافة إلى الأمن الاقتصاديّ المتزعزع في لبنان، برز خطر تضعضُع القطاع التربويّ في البلد، وخصوصًا الحكوميّ منه. فيعيش اليوم النظام التعليميّ بسياسة «جود بالموجود»، واختفت معه حدّة الصراع بين لجان الأهل، والمدرّسين، والإداريّين… فاقتنع كثيرون أنّ الاستسلام للواقع هو الحكمة، واللجوء إلى الهجرة والبحث عن فرص بديلة هو الوسيلة «الأشرف» من الاحتدام على «شي فاضي»… فلم تعُد الرسالة التربويّة قضيّة لدى الكثيرين، لأنّها لم تضمن لهم قوتهم اليوميّ، وحياتهم الكريمة، وبقيت دروس المواطنة والتربية المدنيّة مجرّد حصص في البرامج الأسبوعيّة، مجرّد حبر على ورق، أسوة بكثير من القرارات والقوانين في هذا «الوطن».
بالطبع، مع غياب القضايا المحقّة والجوهريّة، ظهرت على الساحة قضايا سخيفة، «تُختَرع» لضمان جوّ من التوتّر الطائفيّ والاحتقان الحزبيّ، كان أحدها أنّ لبنان في العام 2023 عرف لبضعة أيّام منطقتين زمنيّتين. وكان هذا الواقع الهزليّ يعكس ما سبق أن رصدناه من حوكمة غير رشيدة لمنظومة قادت لبنان عبر سنين طويلة إلى حالة الفوضى غير الخلّاقة الّتي تفرض وزرها عليه اليوم، ولم تعرف من معنى الحوكمة سوى الحكم الديكتاتوريّ المقنّع، بدل أن تسعى إلى خدمة الدولة ومواطنيها بأسمى درجاتها، وتقود لبنان إلى الأمام، بدل أن ترجعه عقودًا إلى الوراء.
في العودة إلى المشهد الجيوسياسيّ، لا يمكننا أن نغضّ الطرف عن تحرّك عالميّ نحو إيجاد قطبٍ اقتصاديّ عالميّ جديد، مع استمرار الحرب الأوكرانيّة -الروسيّة «المنسيّة» وبروز قوّة البريكس، وتهافت دول المنطقة للانضمام إليها. بالطبع، لم يؤدِّ لبنان أيّ دور فاعل، فهو خارج هذه اللعبة في وضعه الحالي، وما زال يرزح تحت وطأة تبعات اقتصاديّة ضيّقة، يكون فيها منفعلاً وحسب. ولم يعُد لبنان يقدّم أيّ ثقل ديبلوماسيّ، لشلله السياسيّ الداخليّ، وتشتت القوى بين مكوّناته الداخليّة، وارتهانها لمصالح غير لبنانيّة.
كذلك، لا يمكن أن نعيد قراءة هذا العام من دون المرور على الحدث الأبرز إقليميًّا وعالميًّا، أي حرب غزّة الّتي غيّرت الصورة التقليديّة للصراع العربيّ-الإسرائيليّ، والّتي رسَخت في العقود المنصرمة. بالطبع، كشف هذا الصراع مدى حساسيّة الموقع الجغرافيّ والاقتصاديّ للبنان في المنطقة، وتعرّت معه خطط لتهميشه اقتصاديًّا وسياحيًّا، بعد أن خُطِّط لسلبه ثرواته الطبيعيّة، المائيّة والنفطيّة… لا يعرف لبنان اليوم أيّ موقفٍ يخدم مصالحه الداخليّة، وتبقى جبهة الجنوب مشتعلة، مع تأثيرها النفسيّ والاقتصاديّ أكبر بكثير من تأثيرها السياسيّ على حياة اللبنانيّين.
أخيرًا، شهد العام 2023 في بداياته هزّة أرضيّة شديدة ضربت المنطقة، وكان مركزها في أنطاكيا (هاتاي) في تركيا. وقد تأثّر اللبنانيّ بها، أقلّه أنّها أرجعت إليه شعوره بعدم الاستقرار بعد ضربات الكورونا، وتفجير مرفأ بيروت، وغيرها من الضربات الّتي جعلت من المواطن في كثير من الأحيان فاقدًا للحسّ، وقصير الذاكرة، في حين أنّ آثارها تنخر في كيانه وتهلكه في مسيرته اليوميّة لكسب قوت عيشه.
ختامًا، نجد أنّ السنة المنصرمة غيّبت الكثير من الصراعات الداخليّة «الكلاسيكيّة» كما ذكرنا، وأصبح المشهد العامّ أكثر «رواقًا»، لا لأنّ الأمور تحسّنت، والأموال استُرجعت، والكهرباء عادت، والسياحة ازدهرت، والحركة الاقتصاديّة توسّعت، والحروب تلاشت، والأجيال كبرت، والمصالحات نجحت… بل لأنّ اللبنانيّ على حافّة الاستسلام لسياسة الأمر الواقع، والبحث عن الحلول البديلة خارج البلد… وهذا ما نرغب في أن يُعاد إغلاقه في العام الجديد 2024، ونفتح معًا حلولًا خارج الصندوق… صندوق التحزّبات، والأمر الواقع، والمصالح الضيّقة…
البروفيسور ندى الملّاح البستانيّ