توطين التنمية في عالم شديد التغير (4)

أثارت قمة تجمع «بريكس» التي انعقدت في جوهانسبرغ الشهر الماضي، ردود أفعال وتعليقات تظهر أنه لا يمكن تجاهل هذه القمة، ليس فقط لما أسفرت عنه من قرارات من أهمها ضم أعضاء جدد، ولكن لما عبرت عنه من توجه مزداد التأثير عن الضيق ذرعاً بالنظام الدولي الذي خلفته الحرب العالمية الثانية. ففي هذا العالم شديد التغير؛ لم تعد حوكمة منظماته ومؤسساته المالية معبرة عن تغير الأوزان الاقتصادية، فضلاً عن اختلاف القوى السياسية عما كانت عليه الأوضاع في منتصف القرن الماضي، حيث لم يكن كثير من بلدان عالم الجنوب متمتعة باستقلالها أو معترفاً بوجودها أصلاً. ولم يتواكب التغير الطفيف في أسس عمل وتنظيم المؤسسات الدولية منذ تأسيسها ليستوعب التغيرات الكبرى بين القوى التقليدية والقوى الصاعدة.

«بريك»، و«نيكست 11»، و«كيفيتس»، و«مينت»:

دأبت بنوك استثمار كبرى على استشراف آفاق نجوم صاعدة من الدول في الساحة العالمية اعتماداً على بعض مؤشرات قائمة وواعدة لأدائها. فإذا اشتركت هذه الدول في أرقام، ولا أقول خصائص، النمو المرتفع، جمعتها وفقاً لحروفها الأولى في مجموعة بدعوى التشابه في مستقبل واعد. ومن أشهر هذه الاجتهادات ما خرج عن بنك «غولدمان ساكس» في عام 2001، حيث ارتأى الاقتصادي جيم أونيل رئيس قسم بحوث الاقتصاد العالمي بالبنك حينئذ، أن البرازيل وروسيا والهند والصين أو دول «بريك»، تحقق افتراضات النمو الدافع للاستثمار فيها، ثم ضُمت إليها بعدها دولة جنوب أفريقيا فأصبح اسم المجموعة «بريكس».

وفي عام 2005، اختار البنك نفسه مجموعة دول سماها «نيكست إليفين» بمعنى الأحد عشر اقتصاداً تالياً في الصعود لـ«بريكس»، ناصحاً المستثمرين بها لما ينتظرها من نمو وتوسع اقتصادي؛ وكانت الدول وفقاً لترتيبها أبجدياً باللغة الإنجليزية هي: بنغلاديش ومصر وإندونيسيا وإيران والمكسيك ونيجيريا وباكستان والفلبين وجنوب أفريقيا وتركيا وفيتنام. كما عدّت وحدة أبحاث «الإيكونوميست» في عام 2009، أي بعد أشهر من اندلاع الأزمة المالية العالمية، أن ست دول هي: كولومبيا وإندونيسيا وفيتنام ومصر وتركيا وجنوب أفريقيا، سمتها مجتمعة بالأحرف الأولى لها «كيفيتس»، تتمتع بفرص أعلى للنمو باقتصادات ديناميكية ومتنوعة وقطاعات مالية متطورة نسبية وبمميزات ديموغرافية. وفي عام 2013، روج جيم أونيل مصطلح دول «مينت»، الذي صاغه من قبل صندوق الاستثمار «فيدليتي» في عام 2011، اختصاراً بالأحرف الأولى لدول المكسيك وإندونيسيا ونيجيريا وتركيا؛ ورغم تباين هذه المجموعة من حيث خصائصها الاقتصادية والسياسية، كسابقاتها، جمعها كبر حجم اقتصاداتها ومواقعها الجغرافية الحيوية وشبابية هيكل السكان فيها، بما يحمله ذلك من فرص زيادة النمو بارتفاع الاستهلاك المحلي وزيادة الاستثمارات المطلوبة لتلبيته فضلاً عن التصدير.

ما هو أبعد من الاستثمارات الواعدة:

هناك اعتراف بتنامي دور هذه الدول المشكلة للتجمعات المذكورة في الاقتصاد العالمي والشؤون الدولية عامة، بما يستوجب إفساح المجال لها في الحوكمة العالمية وعدالة وفاعلية تمثيلها في المؤسسات والمنظمات المعنية. وبمرور الأعوام على هذه الاجتهادات التجميعية لدول بحسبان ما قد يعود على المستثمر فيها من نفع صادف الاستثمار في بعضها ما هو متوقع، انحرف الأداء ببعضها الآخر عما كان مأمولاً. ولكن الهدف الأكبر لصاغة هذه المجموعات بأحرفها التسويقية المشهورة، تشكيل فئة استثمارية مميزة تحفز توجيه الاستثمارات بالتركيز عليها، بدلاً من المصطلح الفضفاض الذي يضم دولاً عديدة تحت اسم الأسواق الناشئة؛ والذي اقترحه الاقتصادي أنتوان فان أجتمل في عام 1981، أثناء عمله بمجموعة البنك الدولي، واصفاً بذلك دولاً في حالة انتقالية بين وضعها كاقتصادات نامية وطموحاتها لتصبح ضمن الاقتصادات المتقدمة. وقد تعدد وصف وتصنيف الأسواق الناشئة من قبل المحللين، فكان لإيان بريمر خبير السياسة الدولية تعبير لوصف الاقتصادات ذات الأسواق الناشئة بأنها «تلك التي تشكل الاعتبارات السياسية فيها ما لا تقل أهميته للأسواق العالمية عن مقوماتها الاقتصادية».

وفي حين انزوت بعض التصنيفات المذكورة فكاد يطويها النسيان، إلا أن تجمع «بريكس» صمد وتطور عبر العقدين الماضيين وبخاصة لما كان من شأن الصين والهند تحديداً؛ ومن عوامل تماسك هذا التجمع اعتماده على دبلوماسية اجتماعات القمة والإعداد لها بمزيج من البراغماتية والطموح. ورغم تراجع نسبي لجنوب أفريقيا والبرازيل وروسيا بمعيار معادل القوة الشرائية في الاقتصاد العالمي، فإن الدول الخمس مجتمعة يفوق اقتصادها حالياً مجموعة الدول السبع، بالمعيار ذاته، بعدما كان نصيبها لا يتجاوز 40 في المائة من تلك الاقتصادات المتقدمة عام 1995. وستضيف الدول الست المدعوة للانضمام لـ«بريكس»، ومنها 3 دول عربية هي الإمارات والسعودية ومصر، زخماً اقتصادياً وتنوعاً جغرافياً للتجمع.

وهناك 3 أسئلة أختم المقال بإجابات مختصرة لها لأفصلها في مقال مقبل:

1- هل جوهانسبرغ 2023 بمثابة باندونغ 1955 الجديدة لعدم الانحياز؟

– لا! فنحن في عصر الانحياز حيثما تكون المصلحة الوطنية للدولة.

2- هل سيتخلى الدولار عن عرشه؟

– الإجابة تأتي شعراً من أحمد شوقي «ما نيل المطالب بالتمني…»، فالامتياز السخي للدولار كعملة صعبة كان محل نقد منذ الستينات؛ وقد تراجع انتشاره نسبياً كعملة احتياطية مفسحاً المجال لعملات أخرى، كما زادت حدة النقد ومحاولات التخلي عنه مؤخراً بعد «تسليحه». لكن تصور مستقبل العملات، والصعبة منها تحديداً، كعملة دولية تستدعي استحضاراً لتفاعل قوى الاقتصاد والسياسة والقانون والتكنولوجيا وثقافة العصر الرقمي.

3- هل هي بداية نظام عالمي جديد؟

– بل هي إرهاصات لبداية النهاية لترتيبات ما بعد الحرب العالمية الثانية التي ولى عهدها ولن تجدي محاولات الترقيع معها نفعاً؛ فالعالم قد تغير واتسع الخرق مع تغيره على الراقع!

د. محمود محيي الدين

مرحلة جديدة تتحضّر: الدولار إلى تراجع؟

بعد تحقيقه الأهداف المرجوة، تجفيف الكتلة النقدية من السوق الى حدودها الدنيا وتثبيت سعر الصرف والحفاظ على استقراره رغم الاضطرابات الامنية، تظهر أمام المصرف المركزي اليوم فرصة لخفض سعر صرف الدولار مقابل الليرة. فهل يُقدم عليها راهناً ليعطي اشارة بأنّ البلد متوازن رغم الاضطرابات الامنية والشلل السياسي؟ أم ينتظر انطلاق منصّة «بلومبرغ»؟ أم هدوء الجبهة الجنوبية لضمان نجاحها؟

أظهرت الأرقام الصادرة عن مصرف لبنان تراجعاً في حجم النقد بالتداول اي «الكاش» او النقدي بنسبة 31.4% لتصل الى 50,405.7 مليار ليرة لبنانية في نهاية ايلول 2023، بعدما كانت 73,514 مليار ليرة لبنانية في نهاية عام 2022 و54,484.4 مليار ليرة لبنانية في نهاية أيلول 2022. فهل حجم العملة المتداولة كافٍ لتسيير الاقتصاد؟ هل وصلنا الى الحدود الدنيا؟ هل من تداعيات لهذا التراجع على سعر الصرف؟ وهل من رابط بين هذا الامر وقرار مصرف لبنان بإعادة طباعة عملة الـ 100 الف ليرة، مع العلم انّه كان هناك توجه لطبع فئات جديدة مثل الـ 250 الفاً والـ500 الف والمليون؟

في السياق، أوضح عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا الدكتور بيار الخوري لـ«لجمهورية»، انّ هذه الارقام تعكس الاستراتيجية الجديدة التي اعتمدها مصرف لبنان، والتي تقضي بتجفيف الليرة من السوق، لافتاً الى انّ هناك عامل ارتباط بين كل قرش يضخّه مصرف لبنان وارتفاع سعر صرف الدولار. فما حصل في مرحلة ما قبل استلام حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري كان مضاعفة حجم الليرة في السوق بالنسبة الى الدولار، ما ادّى الى ارتفاع سعر الصرف وصولاً الى 140 الف ليرة للدولار، لكن عندما استلم منصوري بدأ باتباع سياسة معاكسة، وهي سياسة «التنشيف» التي ترافقت مع توقف عمليات صيرفة التي كانت الممر الأساسي لضخ الليرة، تلاه اعلان منصوري عدم استعداده لتمويل الدولة. كل هذه العوامل ادّت الى فرملة ضخ الليرة.

أضاف: «انّ هدوء السوق الذي حصل في فصل الصيف سمح للحاكم بالإنابة أن يقوم بإدارة الاحتياطات forex management ما بين ضخ ليرة وسحب دولار او العكس، حتى وصلنا اليوم الى هذا الشح في العملة، بدليل ارتفاع الفائدة على «الانتربنك» /ليرة (وهي الفائدة على استدانة المصارف لليرة في ما بينها) الى 130%، وهذه النسبة المرتفعة انما تدلّ إلى اننا مستمرون بسياسة التنشيف».

لكن السؤال الأساسي، كيف تمكّن المصرف المركزي من رفع احتياطاته من العملات الاجنبية مؤخّراً، بينما يستمر بتصغير الكتلة النقدية؟ ماذا دفع مقابل هذه الليرات حتى تمكّن من سحبها من السوق بينما احتياطه من العملات الصعبة لم يتراجع لا بل زاد نصف مليار دولار؟

ورأى الخوري انّ القول انّ هذه الزيادة جاءت من حسابات الدولة وجبايتها للضرائب هو غير صحيح، لأنّ هذه الاخيرة لا علاقة لها بحجم النقد بالتداول، وهنا نتساءل: هل حصلت تحويلات خارجية «فريش» من دون ان يقابلها شراء لأسباب متعددة لا نزال نجهلها؟ هل أعادت المصارف تحويل أموال عائدة لها من الخارج الى الداخل اللبناني؟ هل تمّ اكتشاف خطأ ما في طريقة احتساب الاحتياطي؟ هل تبين انّ هناك اموالاً مكتسبة من مصدر جديد، وقد أعيد احتسابها ضمن الاحتياطات؟ التساؤلات كثيرة والاجابة عن هذا السؤال ليست سهلة، لكن لا بدّ من التأكيد انّه لا يمكن رفع احتياطي العملات الاجنبية من الشراء من السوق، وفي الوقت نفسه يتراجع حجم النقد بالتداول باللبناني. الّا انّ كل هذه المؤشرات ترسم صورة للمرحلة الجديدة وتتلخّص بالتالي:

طالماً انّ الفائدة على الانتربنك زادت 130% فهذا يعني انّه بات بمقدور مصرف لبنان تحسين سعر صرف الليرة لأنّها مفقودة من السوق، اي انّها مطلوبة وليست معروضة، فالمعروض اليوم هو الدولار، على عكس ما كان سائداً في السوق في المرحلة السابقة، حيث كانت الليرة معروضة والدولار مطلوب. وبناءً عليه، يُتوقع ان نبدأ بمرحلة التراجع في سعر الصرف وبهذه الطريقة سيتمكن مصرف لبنان من إعادة ترميم احتياطاته بكلفة أقل.

ورأى الخوري انّ المعادلة الراهنة تسمح لسعر الصرف بالانخفاض الى 50 الفاً، لكن الواضح انّ ما كان مطلوباً لهذه المرحلة هو تثبيت سعر الصرف وإعطاء أثر نفسي ايجابي بانتهاء لعبة الليرة / دولار.

ماذا عن المرحلة المقبلة؟ وهل كان المطلوب ربط خفض سعر الصرف بعمل «بلومبرغ» او إهدائها ايّاه كإنجاز؟ قال الخوري، اذا انطلق عمل المنصّة من دون ان يتوفّر اللبناني في السوق فحتماً سينخفض سعر الدولار مقابل الليرة وليس العكس. ورأى انّ هناك متغيّرات عدة في السوق اللبناني راهناً يجب مراقبتها والتوقف عندها. فمرحلة الحاكم السابق رياض سلامة انتهت بكل ابعادها، بحيث تمّت السيطرة على الدين العام بالمعنى المالي، واليوم ستبدأ مرحلة جدّية عنوانها اعادة ترميم المالية العامة، وهذه الخطوة تنتظر الخطة النهائية للاصلاح. وهنا لا بدّ من الإشارة الى انّ هذه الأزمة كما سارت اراحت كثيراً السلطة السياسية وخفّفت عنها أحمالها وعجزها المالي.

ورداً على سؤال، أكّد الخوري انّه لا يمكن للنقد بالتداول ان يتراجع أكثر مما هو عليه اليوم، لأنّه أقل من الحدّ المسموح به، وبما انّ الفائدة على الانتربنك باتت مرتفعة جداً، يتوقع الخوري استناداً الى هذين العاملين ان ندخل قريباً في مرحلة التحسّن التدريجي لسعر الدولار، بحيث سيعمد المركزي الى العودة لضخ الليرة لتكبير حجم النقد بالتداول مقابل خفض سعر الدولار، أما الحدّ الذي يمكن ان يتراجع فيحدّده السوق، والمؤشر لذلك الفائدة على الانتربنك التي يجب ان تتراجع الى ما دون 10%.

وعمّا اذا كان اعلان مصرف لبنان إصدار دفعة جديدة من فئة الـ 100 الف ليرة الى الاسواق لها دلالات مالية، لا سيما انّه كان الحديث في الفترة السابقة عن توجّه لطبع ورقة الـ 250 الفاً والـ 500 الف ليرة وحتى المليون ليرة، قال الخوري: انّ تجديد إصدار المئة الف ليرة بمواصفات جديدة وتميّزها بصغر حجمها هو دليل انّه ما عاد من حاجة حتى لإصدار فئة الـ 250 الفاً، وهذا ما يؤكّد اننا متّجهون نحو مسار تراجعي في سعر صرف الدولار مقابل الليرة.