الدراسة التي أنجزتها جامعة «هارفرد» الاميركية، وبصرف النظر عن بعض التفاصيل الواردة فيها، إلا أنها في عناوينها ومضمونها لا تختلف كثيراً عمّا يطالب به اقتصاديون لبنانيون منذ أربع سنوات، ولا تزال اقتراحاتهم مجرد صوت وصدى، ولم تتحرّك حتى الآن العقول المتحجّرة في الدولة، لحسم النقاش، والبدء في مسار الحل المطلوب للخروج من النفق.
التعمُّق في الدراسة التي قدمتها «هارفرد» لحل الأزمة يقود الى مجموعة حقائق وردت في متنها، يمكن اختصارها بالنقاط التالية:
اولاً – انّ مسؤولية الخسائر المتراكمة، والتي قدّرتها الدراسة بحوالى 76 مليار دولار، ينبغي ان تتحمّل مسؤوليتها الدولة اولاً، من خلال تغطية ديونها وديون مصرفها المركزي. والمصارف ثانياً، عبر المساهمة في تغطية جزء من الخسائر من خلال آليات الاكتتاب في سندات الدين التي تكون قد انتقلت الى مسؤولية الدولة بالكامل. والمودع الكبير ثالثاً من خلال عملية هيركات في اطار اعادة جدولة الديون.
ثانياً – انّ عملية الفصل بين الخسائر والقطاع المصرفي ينبغي ان تحصل بشكل فوري، بحيث يتمكن القطاع من معاودة العمل بشكل طبيعي من دون الحاجة الى انتظار انجاز المعالجة. وكذلك الامر بالنسبة الى البنك المركزي، الذي سيتحوّل وضعه المالي من العجز الى الفائض، بما يسمح بإعادته الى العمل بفعالية.
ثالثاً – الحرص على مبدأ ضمان تغطية كل الودائع حتى سقف محدّد يتراوح وفق تقديرات الدراسة بين 100 و150 الف دولار.
في مقاربة واقعية لهذه الدراسة، نستطيع ان نلاحظ انّ الطروحات ليست بعيدة عمّا هو متداول اليوم. وحتى مبدأ الدولرة الشاملة ليس بعيداً عمّا يتم اعتماده اليوم، لجهة دولرة القسم الاكبر من الدورة الاقتصادية، من دون الحاجة الى الدولرة الشاملة بما يعني إلغاء العملة الوطنية. هذا الخيار قد لا يناسب البلد، طالما ان اجراءات الدولرة الجزئية، مع ضبط الكتلة النقدية بالليرة، والتنسيق مع وزارة المالية شبه كافٍ للسيطرة على سعر الصرف. وأذا أضَفنا الى هذه العناصر خطة للتعافي بالتوافق مع صندوق النقد، تصبح الحاجة الى إلغاء الليرة غير قائمة، ويمكن الاستغناء عنها، من دون المجازفة باستمرار تفلّت التضخّم.
تبقى النقطة الأهم المتعلقة بإعادة الودائع الى اصحابها. في هذا السياق، تصيب الدراسة الهدف من خلال الاعتراف بأنّ اموال المودعين موجودة دفترياً في مصرف لبنان، وغير موجودة واقعياً بسبب إنفاق هذه الاموال من قبل الدولة اللبنانية ومصرفها المركزي. ومن هنا يأتي الاقتراح بأن يتم تحويل ما يُعرف بالخسائر الى دين عام على الدولة. وبهذه الطريقة يصبح دين الدولة 107 مليارات دولار (76+31 ملياراً قيمة اليوروبوندز).
لكن الآلية التي تضعها الدراسة حول اصدار الدولة لسندات لتغطية الخسائر (76 مليار دولار)، ومن ثم اكتتاب المصارف بها لتحويلها لاحقاً الى المودعين الكبار، تعني عملياً شطب الودائع بنسبة تقارب الـ80 أو 90 %، وفقاً للنسبة التي ستُعتمد في اعادة هيكلة اليوروبندز. بمعنى آخر، ستتم تسوية مشكلة الودائع الكبيرة (فوق الـ100 الف دولار)، بالطريقة نفسها التي ستتم فيها تسوية ديون السندات الدولارية. وقد صار واضحاً انّ اعادة هيكلة اليوروبوندز لن تقود الدولة الى دفع اكثر من 10 الى 20% من قيمتها الفعلية، استنادا الى اسعارها الحالية في السوق المالي.
هذه النقطة لا تناسب اللبنانيين، لأن عملية الشطب فيها كبيرة. صحيح ان مبدأ الهيركات ينبغي ان يكون مقبولاً بالنسبة الى الودائع الكبيرة، لكن الأمر يتعلق بالنسبة المئوية للشطب وليس بالمبدأ فحسب. لذلك فإنّ ما يتمّ تداوله اليوم لجهة إنشاء مؤسسة استرداد الودائع قد يكون أفضل بكثير، خصوصاً ان كل الاطراف المعنية بالأزمة ينبغي ان تشارك بالتمويل. اي الدولة ومصرفها المركزي والمصارف نفسها. أما حصة المودعين الكبار في المساهمة، فقد تتم من خلال حسم الفوائد المرتفعة لمدة محدّدة من السنوات.
في النتيجة، قد تساعد دراسة «هارفرد» في ان تكون مرتكزاً لترسيخ الافكار المتداولة محلياً، وهي بمثابة تأكيد لمن لا تزال تُساوره الشكوك، في الطريقة التي ينبغي اعتمادها لمعالجة الأزمة. فهي تؤكد المؤكّد لجهة انّ الدولة ينبغي ان تتحمّل مسؤوليتها في معالجة موضوع الخسائر، واي كلام خارج هذا السياق لا يعدو كونه من النوع الشعبوي، او الكيدي، او حتى الهادِف الى مزيد من التدمير. وكل هذه الطرق لا تقود سوى الى الخراب.
انطوان فرح