دخل لبنان اليوم مرحلة التعثّر التي تعني انّ ديونه يوروبوند استحقت كلها، وصار البلد في مواجهة مرحلة جديدة، سوف تُقرّر مصير اللبنانيين، وفق الطريقة التي ستُعتمد لمقاربة هذا الوضع، مع ترجيح أن يكون الـHaircut قد أصبح أوسع وأكثر شمولية.
لا شك في أنّ موقف “حزب الله” المستجد، الذي أعلنه أمينه العام السيد حسن نصر الله، في شأن التعاون مع صندوق النقد الدولي، يمكن البناء عليه في الايام الطالعة. قبل هذا الكلام، في 13 آذار 2020، كان “حزب الله” يرفض ان يتعاون لبنان مالياً مع الصندوق، لأسباب عدّدها مراراً. بعد إطلالة نصر الله، بات الحزب يوافق على طلب مساعدة الصندوق، ضمن شروط حدّد عناوينها العريضة، منها رفض الوصاية ورفض الشروط السياسية والضرائبية والوظيفية، التي تُحمّل الناس اعباء لا قدرة لهم على تحمّلها.
وبانتظار تبلور موقف “حزب الله” اكثر في الايام الطالعة، بات لزاماً التعاطي مع محاكاة تطورات الأزمة في المرحلة المقبلة، على أساس أنّ لبنان قد يبني خطة إنقاذ يتبنّاها صندوق النقد، ويوافق على تمويلها ورعايتها.
بصرف النظر عن المعطيات والمستجدات التي أملت على “حزب الله” الموافقة على صندوق النقد بشروط معينة، فإنّ هذه الموافقة تمنح الأمل بإمكانية الإنقاذ في المستقبل. ومن المعروف انّ العام 2020 يشكّل فترة انتقالية للبنان، سوف يمضيها في التفاوض على ديونه الخارجية، وربما في المحاكم، لمواجهة دعاوى مُقرضين رفضوا ما ستعرضه الحكومة اللبنانية عليهم. في هذا الوقت، سيكون البلد شبه مُغلق امام أي تدفق نقدي من الخارج، وسيستمر النزف في الداخل، لجهة استمرار سحب الاموال من المصارف، سواء للتخزين في المنازل أو للإنفاق المعيشي. كذلك، سيستمر تمويل الدولة من الاحتياطي في مصرف لبنان، والذي اتضح انّه أصبح حوالي 22 مليار دولار.
كيف سيكون المشهد مالياً في نهاية 2020، بصرف النظر عن المنحى الذي ستتخذه خطط الإنقاذ والمفاوضات مع الدائنين؟
اولاً- في المالية العامة، ورغم انّ الدولة لن تدفع هذا العام فوائد دينها العام التي اقتربت من 5,5 مليارات دولار، إلّا أنّ ذلك لن يكون كافياً لتأمين التوازن المالي. وستكون هناك حاجة ما بين مليارين وثلاثة مليارات دولار لسدّ الفجوة التي ستنشأ جرّاء تراجع إيرادات الخزينة بسبب الركود في الحركة الاقتصادية، وجرّاء الحاجة الى تمويل اضافي قد يحتاجه التصدّي لوباء “كورونا”، بالإضافة الى انفاق اضافي قد يتأتى من اتعاب الاستشارات المالية والقانونية لمواجهة الدعاوى التي قد تنشأ في وجه لبنان في محاكم نيويورك.
ثانياً – في الإنفاق الاستراتيجي لتمويل فاتورة المحروقات والطحين والدواء والمستلزمات الطبية، تشير التقديرات الى انّها ستتراوح بين 8 و9 مليارات دولار. هذا الرقم مُحتسب على اساس سعر برميل النفط حوالى 60 دولاراً. لكن، ومع انخفاض السعر الى 35 دولاراً، مع احتمال التراجع اكثر، سيكون هناك وفرٌ في فاتورة تمويل المحروقات. لكن كارثة وباء “كورونا” قد تقضي على الوفر الذي كان سيتحقق، بسبب الحاجة الى زيادة حجم تمويل استيراد المستلزمات الطبية، بما قد يؤدي الى إبقاء الأرقام كما هي.
ثالثاً – ستواجه المصارف استمرار خروج الاموال. وتشير التقديرات الى خروج 4 أو 5 مليارات دولار، في حال إقرار قانون “الكابيتال كونترول” في وقت قريب. أما في حال عدم إقرار القانون، أو التأخّر في إقراره، قد يرتفع هذا المبلغ بعض الشيء. كما قد تضطر المصارف الى السماح بخروج كمية اضافية من أموالها، جرّاء متطلبات مواجهة “كورونا”. كذلك، قد يتراجع حجم الأرصدة جراء استمرار عمليات تحويل النقد الى عقارات أو أسهم أو ما شابه.
رابعاً- قبل “كورونا”، كانت الوقائع تشير الى صعوبات سيواجهها القطاع الخاص، وستؤدّي الى إغلاق مزيد من المؤسسات، والى ارتفاع عدد العاطلين من العمل. مع “كورونا”، زاد منسوب التشاؤم لجهة ارتفاع عدد المؤسسات التي ستضطر الى الإقفال، الى ثلاثة أرقام، وارتفع عدد العاطلين من العمل الى ستة أرقام. وهذا يعني انّ نسبة الديون الهالكة في المصارف سترتفع الى مستويات جديدة، قد تصل الى 40 في المئة. ذلك أنّ التعثّر في سداد القروض لن يقتصر على المؤسسات، بل سيشمل الأفراد الذين سيتعرّضون الى البطالة. وهذا يعني أنّ المصارف ستفقد في عملية القروض الهالكة حوالى 20 مليار دولار.
في احتساب مجموع هذه الأرقام، لتقدير الوضع المالي في نهاية 2020، يتبيّن أنّ مجموع الاموال المتبقية في مصرف لبنان وفي المصارف اللبنانية حوالي 20 الى 25 مليار دولار. في المقابل، هناك مطلوبات على مصرف لبنان للمصارف، ومطلوبات للمصارف على الدولة، ما مجموعه حوالي 90 الى 95 مليار دولار، (شهادات ايداع، يوروبوند، سندات دين بالليرة). في المقابل، تبلغ مطلوبات المودعين على المصارف حوالي 155 مليار دولار. وهذا يعني انّ الفجوة المالية التي تحتاج خطة الإنقاذ الى معالجتها، تتراوح بين 70 و80 مليار دولار.
من هنا، فإنّ خطة الإنقاذ التي قد تقدّمها الحكومة الى صندوق النقد الدولي، ويمكن أن يوافق عليها الصندوق، ليموّلها ويرعاها (وصاية)، ينبغي ان تتضمّن ايرادات مضمونة، تسمح بتحسين المالية العامة على مدى السنوات الخمس المقبلة، وصولاً الى خفض حجم الدين العام الى الناتج المحلي (GDP) الى 80 %. وإذا احتسبنا نمو الدين في 2020 بسبب تكدّس الفوائد التي لا تتوقف بمجرد اعلان تعليق الدفع، بما يعني انّ الدين العام سيصل الى 97 مليار دولار، واذا احتسبنا الانكماش في حجم الناتج الذي قد ينخفض الى 45 مليار دولار، فهذا يعني انّ الدين على الناتج سيرتفع الى اكثر من 200 %.
ومن أجل خفضه الى 80 % في 5 أو 7 سنوات، ومن دون رسوم (على البنزين وسواه) وضرائب (TVA) ومن دون خفض حجم القطاع العام، وتحرير سعر صرف الليرة، وهي شروط ذكرها “حزب الله” لقبول التعاون مع صندوق النقد، ستصبح نسب الـHaircut والشرائح التي سيشملها أوسع وأعمق، لأنّ خطة خالية من الرسوم، وخالية من خفض الإنفاق على القطاع العام، تحتاج الى خفض كبير للفوائد ولأصل الدين العام، لكي تكون قابلة للحياة، وصالحة لاعتمادها كخطة مستدامة من قِبل الصندوق. وهذا يعني في الترجمة العملية، الحاجة الى تكبير نِسَب الاقتطاعات من الودائع، وربما توسيع الشريحة التي سيشملها، خصوصاً اذا استمرت عمليات تحويل الأرصدة الى ومن السندات، لتخفيف حجم الدين، بحيث يصبح قابلاً للاحتواء، ولا يعطّل نتائج الخطة الإنقاذية.
وعليه، ستكون الودائع، وأموال البنوك معرّضة أكثر لشطب نسبة كبيرة منها، لأنّ الدولة تحتاج الى شطب ما مجموعه 60 ألى 70 مليار دولار، لضمان نجاح خطة الإنقاذ.
انطوان فرح.