أرشيف التصنيف: المقالات العامة

الصين تسعى للسيطرة على صناعة الطائرات الكهربائية:تنقل آمن وأرخص

تقود الصين العالم حالياً في إنتاج وبيع السيارات والحافلات الكهربائية. إلاّ أنها تخطط لأبعد من ذلك بكثير، بسعيها المستمر للهيمنة على صناعة مركبات الإقلاع والهبوط العمودي الكهربائية، التي توفر رحلاتٍ جوية على ارتفاعٍ منخفض، وتكون أسرع وأكثر أماناً وأرخص وأقلّ تلويثاً للهواء.

“باوان” كمركز لخدمات النقل الجوي المتقدمة
يأتي اهتمام الصين بهذه المركبات الطائرة، لكونها تتميز بتصاميمٍ فريدة ومفيدة في حركة جديدة نحو التنقل الجوي المتقدم، والتنقل الجوي الحضري. أي أنها تخلق مفهوماً جديداً لتطوير البنية التحتية عبر نظام نقل جوي آمن وآلي للركاب والبضائع في المناطق الحضرية والريفية.

إنطلاقاً من ذلك، من المقرر أن تصبح منطقة باوان في مقاطعة غواندونغ الصينية مركزاً لخدمات النقل الجوي المتقدمة، حيث وقعت حكومة المقاطعة في وقتٍ سابق من هذا الشهر، اتفاقيات شراكة مع ثلاثة من مطوري هذه المركبات. وهم شركة مركبات الأجرة الطائرة “أوتوفلايت AutoFlight” ومقرها الصين، والتي تعمل على طرح مركبات “Prosperity I” في السوق. وشركة “إيهانغ EHang” الصينية للتكنولوجيا المتقدمة، و”ليليوم Lilium” الألمانية الناشئة في مجال مركبات الأجرة الطائرة.

مشروع عملاق
ستؤدي الاتفاقية مع “أوتوفلايت” إلى إنشاء مركز تسويق ومعهد بحث وتطوير في باوان التي يبلغ عدد سكانها 4.4 مليون نسمة، وهي واحدة من تسع مناطق في شنتشن. في حين تستكشف حكومة المقاطعة مع الشركات الثلاثة المذكورة أعلاه إمكانية نشر خدمات هذه المركبات الطائرة عبر منطقة الخليج الكبرى، والتي تضم هونغ كونغ وماكاو وتشوهاي وغوانغتشو، بحيث تتقلص المدة الزمنية للرحلات بنسبةٍ كبيرة.

إلى ذلك، بدأت شركة “إيهانغ” التي تتخذ من غوانغتشو مقراً لها، التعاون مع مسؤولي باوان لإنشاء مركز عرض لعمليات الحركة الجوية الحضرية، مفيدةً بأن هذا المشروع قد يتكون من 10 طرق بحلول نهاية عام 2023 وسيكون مقره في المنطقة الساحلية الجنوبية من باوان. كما تعمل الشركة إياها على إصدار الرخص المطلوبة لمركبة” EH216-S eVTOL” ذاتية القيادة، مع إدارة الطيران المدني في الصين، وإنتاجها بكمياتٍ كبيرة. يُضاف ذلك لتخطيطها لإنشاء مركز بحث وتطوير ومنشأة صيانة في باوان.

أهداف طموحة
يُظهر هذا المشروع، حسب الخبراء، أن السلطات الصينية تتبنى هذا النهج من أجل تحفيز صناعة المركبات الجوية غير المأهولة بشكلٍ أكبر. إذ تنمو حالياً هذه الصناعة في الصين بمعدل سنوي يبلغ حوالي 14 في المئة. ويوجد ما يقارب من 15 ألف شركة مصنعة لهذه الطائرات، مع أكثر من 700 ألف مالك فردي مسجل.

تنظم الصين ندواتٍ صناعية وحكومية لتسهيل تبادل المعلومات لتعزيز تنسيق وإدارة المجال الجوي على ارتفاعاتٍ منخفضة. وفي هذا الصدد، أصدرت منطقة باوان “خطتها الصناعية الاقتصادية المنخفضة الارتفاع”، وحددت أهدافاً طموحة لإنشاء البنية التحتية الأرضية بحلول عام 2025، بما في ذلك أكثر من مئة مطار. وتقول الحكومة المحلية إنها ستنشئ أيضاً أكثر من 50 مساراً للطائرات بدون طيار وتسهل 300 ألف رحلة طيران تجارية للطائرات بدون طيار سنوياً، حيث تتطلع إلى جذب الشركات الرائدة العاملة في البحث والتطوير والتصنيع والعمليات على ارتفاعاتٍ منخفضة.

نموذج “Prosperity I
وإضافةً إلى مركبة شركة “إيهانغ” التي سيُعتمد عليها في خطط الحكومة الصينية، تعمل فرق الهندسة في “أوتوفلايت”، التي تمتلك مرافق بحث وتطوير في الصين وألمانيا وكاليفورنيا، للامتثال للوائح الجوية التنظيمية في الصين وأوروبا لنموذجها “Prosperity I” من الجيل الرابع المكون من أربعة مقاعد، والذي حقق رقماً قياسياً عالمياً لأطول رحلة تجريها مركبة إقلاع وهبوط عمودي كهربائية بشحنة كهربائية واحدة، مسجلاً 250.3 كيلومتراً.

تبلغ سرعة هذه المركبة 200 كيلومتر في الساعة، وتم تزويدها بأحدث تقنيات المتابعة، فضلاً عن مروحة دفع أفقي استُحدثت خلف المقصورة، ليصبح العدد ثلاث مراوح للدفع الأفقي، هذا إلى جانب حزمة بطاريات أيونات الليثيوم. ومن المتوقع أن تطير نسخة تحمل حمولة من هذا النموذج بحلول العام المقبل. لتسمح بعدها العمليات التجريبية بتقييم المركبة الطائرة قبل أن تدخل في الإنتاج المتسلسل.

وتدّعي الشركة الصينية أن مركباتها الكهربائية الطائرة مستدامة تماماً وصامتة، لا وبل مثالية للتشغيل الحضري ومستقبل النقل الجماعي. وهي تخطط للمشاركة في أولمبياد باريس العام المقبل. ولأجل ذلك، توصلت الشركة إياها إلى اتفاقٍ مع شركاء فرنسيين بما في ذلك مجموعة المطارات “ADP” للانضمام إلى تمرين “Re.Invent Air Mobility” الذي سيتم إجراؤه خلال دورة الألعاب الأولمبية في باريس 2024. سيسمح لها ذلك بإجراء رحلات تجريبية مع مركبتها “Prosperity I” خلال الحدث الرياضي بين تموز وآب من العام المقبل، باستخدام مطار “بونتواز” في العاصمة الفرنسية كقاعدةٍ جوية.

سامي خليفة

التعاون الاقتصادي المهم في المنطقة العربية

على هامش اجتماعات فعاليات «الملتقى الاقتصادي السعودي العراقي»، الذي انطلق يوم 25 مايو (أيار) 2023 بتنظيم من اتحاد الغرف السعودية والعراقية، ومشاركة أكثر من 300 شركة سعودية وعراقية وعدد من الجهات الحكومية والخاصة، يعد التعاون الاقتصادي بين السعودية والعراق محطة مهمة في العالم العربي، حيث إن السعودية أكبر اقتصاد عربي بناتج محلي إجمالي 833.5 مليار دولار بينما العراق بلغ 209.9 مليار دولار وفقا للتقرير الاقتصادي العربي الموحد 2022، فإن الملتقى فرصة لتعزيز العلاقات الاقتصادية، ورفع حجم الاستثمارات بين البلدين، حيث دعا مستثمرون سعوديون وعراقيون للإسراع بإطلاق أعمال «الشركة السعودية العراقية للاستثمار»، لتمويل مشروعات بقيمة 3 مليارات دولار، وتمكين الشركات العراقية من قروض صناديق التمويل السعودية، واتفقوا على ملامح خطة للتعاون تضمن تنمية التجارة والاستثمارات المشتركة.

ومن المهم الإشارة إلى نمو حجم التجارة البينية بين السعودية والعراق، حيث بلغ حجم التبادل التجاري 1.5 مليار دولار لعام 2022 بنسبة ارتفاع 50 في المائة مقارنةً بعام 2021، ما يعكس عمق واستدامة العلاقات الاقتصادية، وضرورة مواصلة تعزيز التبادل التجاري بين البلدين والاستفادة من افتتاح منفذ جديدة عرعر والإسراع بافتتاح منفذ جميمة الحدودي، على الرغم من الفرق في كفاءة البنية التحتية للبلدين.

يشار إلى دور النفط والغاز في رسم العلاقات الدولية ومستقبل المنطقة، ودور كل من السعودية والعراق الهام، إذ لا بد من أن نحدد العوامل أو المتغيرات التي تحدد أسعار النفط عالمياً. ومن ناحية أخرى يجب أن نشخص أكبر 10 دول تنتج النفط عالمياً، لأنها تلعب دوراً رئيسياً في رسم مستقبل العلاقات الاقتصادية والسياسية الدولية، وهي أميركا حيث تنتج تقريباً 16.49 مليون برميل، وروسيا 10.68 مليون برميل، والسعودية 10.66 مليون برميل، وكندا 5.4 مليون برميل، والصين 4.07 مليون برميل، ثم يليها كل من العراق والإمارات والبرازيل وإيران والكويت.

من ناحية أخرى تمثل دول الخليج العربي السعودية والإمارات والكويت بجانب العراق، اللاعب الأساسي في المنطقة العربية والشرق الأوسط في تحديد حجم ومستويات الإنتاج في العالم، وتمثل مركز الثقل الاستراتيجي من خلال دورها الفاعل في «أوبك بلس»، من خلال تحديد إنتاج وتصدير وأسعار النفط في العالم، ومن الضروري تعزيز الجهود الدولية من قبل السعودية والعراق.

ومن الجدير بالإشارة أن التعاون بين السعودية والعراق في النفط يتضمن دخول شركة «أرامكو» في تطوير أحد الحقول النفطية، الذي ينتج حالياً 60 مليون قدم مكعب من الغاز، لإنتاج ما يزيد على ‏400 مليون قدم مكعب من الغاز، ‏لتزويد الشبكة الوطنية بالغاز اللازم لتوليد الطاقة الكهربائية، إذ جرى إطلاق جولتين من التراخيص لاستثمار وتطوير عدد من الحقول الاستكشافية في المناطق الشرقية والغربية من العراق، حيث تتضمن هذه الرقع كميات كبيرة من الغاز، مع تطلع العراق إلى مشاركة الشركات السعودية لتطوير هذه الحقول، وإنتاج الغاز المطلوب لتوليد الطاقة الكهربائية، وسدّ الحاجة المحلية من هذا الغاز.

‏وتضمَّن الملتقى عدداً من الاتفاقيات التي تخص موضوعات الطاقة، كان على رأسها الاتفاق مع السعودية لتحويل كمية من الطاقة الكهربائية إلى العراق تصل إلى 1000 ميغاواط، وقيام الشركات السعودية بإنشاء محطات لتوليد الطاقة الكهربائية باستخدام الطاقة الشمسية في محافظة النجف، وهذه المحطة ستكون أكبر محطة في العراق باستخدام الطاقة الشمسية. كما جرى الاتفاق بين الطرفين على إنشاء بعض المدن الصناعية في الحدود المشتركة بين البلدين، وهو ما يسهم في تطوير الصناعة والتجارة لكلا البلدين.

وفي إطار الربط الكهربائي، عمل الفريق المشترك لتنفيذ مشروع الربط الكهربائي السعودي-العراقي، بقدرة 1000 ميغاواط، وفق مبادئ الاتفاق الموقعة بين الجانبين، مؤكدين حرصهما وتطلعهما إلى سرعة إنجاز إجراءات الطرح والترسية لتنفيذ المشروع، وعلى أهمية توفير المتطلبات اللازمة لتنفيذ مشروعات الطاقة المتجددة، بقدرة 1000 ميغاواط، واستمرار المشاورات واللقاءات لتنفيذ مشروع نبراس الشرق للبتروكيماويات.

وفي الختام، يشار إلى ضرورة استمرار التعاون في مجالات التجارة والاستثمار والنقل والخدمات اللوجستية بين البلدين، وتسهيل حركة المنافذ البرية والجوية والبحرية وإجراءات السفر ونقل البضائع، واستئناف الرحلات الجوية المباشرة بين البلدين، وتكثيف التعاون وتبادل وجهات النظر بخصوص المسائل والقضايا التي تهم البلدين على الساحتين الإقليمية والدولية، بما يسهم في دعم وتعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم.

 

د. ثامر محمود العاني

توطين التنمية في عالم شديد التغير (2)

تجاوز العالم نصف المسافة المحددة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة التي تم الاتفاق عليها في عام 2015 في قمة خاصة في الأمم المتحدة على أن يتم الانتهاء منها في عام 2030. وفي تقرير أممي صدر مؤخراً عن الوضع العالمي لما تم إنجازه من الأهداف السبعة عشر للتنمية التي تتفرع إلى 169 هدفاً تفصيلياً تشمل الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية للتنمية، فضلاً عن التصدي لتغيرات المناخ، اتضح أن الأهداف التي يمكن تقييمها بلغت 140 هدفاً، كان منها 12 في المائة فقط على المسار السليم لتحقيقها في عام 2030، وأن أكثر من 50 في المائة من أهداف التنمية منحرفة عن جادة المسار، بينما تراجع الأداء عما كان عليه الوضع عند نقطة البداية في عام 2015 في أكثر من 30 في المائة من هذه الأهداف بما في ذلك تلك المعنية بمواجهة الفقر والجوع.

دفعت هذه النتائج المفجعة الأمين العام للأمم المتحدة إلى توجيه نداء لسرعة تحفيز التمويل الموجه للتنمية بأن تخفض أعباء الديون الخارجية التي باتت تشكل عبئاً يلتهم حصيلة صادرات الدول النامية وتتجاوز فيها خدمة الديون من أقساط وفوائد ما ينفق على التعليم والرعاية الصحية وخدمات أساسية للمواطنين. إذ ارتفعت نسبة الديون الخارجية للدول النامية من 71 في المائة من إجمالي صادراتها في عام 2010 لما يتجاوز 110 في المائة في عام 2022. ومع ارتفاع نسبة الديون الخارجية من مقرضي القطاع الخاص إلى 62 في المائة مقابل 24 في المائة من المؤسسات الدولية و14 في المائة من القروض الثنائية بين الدول، ازدادت نسبة الفائدة المدفوعة لتبلغ في المتوسط 12 في المائة في أفريقيا مقارنة بنحو 1.5 في المائة تدفعها ألمانيا قبل الزيادات الأخيرة.

لا غرو إذن أن البلدان النامية إلا قليلاً أمست في مواجهة أزمات وكوارث لديونها الخارجية، وأن نصف البلدان النامية أصبحت مطالبة بتخصيص ما لا يقل عن 7.4 في المائة من صادراتها لخدمة الديون، وأن منها ما هو مطالب اليوم بدفع مضاعفات هذا الرقم.

ومن عجب أن ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية طالبها المجتمع الدولي بما لا يتجاوز 5 في المائة من صادراتها لسداد ديون الحرب؛ حتى لا تتعثر جهودها في إعادة البناء وفقاً لاتفاقية لندن المبرمة في عام 1953. ولا نعلم أي حرب شنّتها البلدان النامية حتى تكبل بأصفاد الديون الخارجية التي انتهى بعضها في كثير من الحالات إلى سداد ديون سابقة، والبعض الآخر تسأل عنه تدفقات مالية غير مشروعة إلى ملاذات آمنة خارج البلدان النامية، وما تبقى وجه لمشروعات بعضها بعوائد اقتصادية وأخرى بلا عائد اقتصادي أو اجتماعي يذكر؛ ولا نغفل أن من هذه المشروعات بمكون استيرادي مرتفع تستفيد منه أيضاً بلدان دائنة. فمن أين سيأتي السداد إذن إلا خصماً من الاستثمار الموجه للتنمية وعلى حساب الإنفاق على التعليم والرعاية الصحية، ومن فرض أعباء تنوء بها كواهل المواطنين والقطاع الخاص العامل في البلدان النامية. فلا سبيل لتنمية تذكر إلا بتمويل ضخم ليس منه حتماً هذا النوع من الديون الذي جلب شراً أكبر من أي نفع، ولو زُينت الأرقام بحيل أكروباتية لتجمل واقعاً لبلدان في الجنوب أمست فيه أقرب للتخلف منها إلى التنمية.

ويذكر أن مشروع الإعلان، الذي سيعرض على قمة التنمية المستدامة التي ستعقد في إطار الجمعية العامة في شهر سبتمبر (أيلول) المقبل يتضمن مطالبة عاجلة بزيادة تمويل التنمية إلى 500 مليار دولار سنوياً مع مطالبة بتدعيم صناديق مواجهة الطوارئ. تزامن مع هذه المطالبات لمنع جهود التنمية من الانزلاق إلى هوة الفشل دعوة ملحة لإصلاح (النظام) المالي العالمي، الذي من قبيل المبالغة أن نطلق على الترتيبات المتناثرة المعمول بها في المعاملات الدولية وصف نظام أصلاً.

ولكن هذه المطالب، المنتظر عرضها في اجتماعات جمعية الأمم المتحدة القادمة ما زالت تواجَه برفض وتحفظات من دول متقدمة على النحو الذي لخصه الكاتب الصحافي كولوم لينش في مقال صدر في مطلع هذا الشهر دورية «ديفيكس» المتخصصة في شؤون التنمية الدولية. ويبدو أن ممثلين لدول متقدمة ما زلوا منشغلين برغبات قديمة في الإبقاء على الحدود البيروقراطية الفاصلة بين مؤسسات التمويل والمنظمات الدولية مع الإبقاء على ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الثانية لضمان استمرار الهيمنة والسيطرة على حوكمتها ومقدراتها وأولياتها. ولكن مثل هذا التعنت قد يكون من معجلات التغيير في نظام دولي هرم لم يعد ملائماً لتوازنات القوى الجديدة.

وتأتي هذه المطالب بزيادة التمويل المدعومة من البلدان النامية، خاصة مع التراجع النسبي في المساعدات الإنمائية وركود التمويل المقدم من بنوك التنمية الدولية عند أرقام متواضعة مقارنة بفجوة التمويل. فرغم زيادة محدودة في التمويل المقدم من الدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، فإن هذه الزيادة وُجّهت لمواجهة تبعات الحرب في أوكرانيا في مساعدات إنسانية وغوث اللاجئين إلى غير ذلك. كما أن رؤوس الأموال المدفوعة لبنوك التنمية الدولية لم تواكب زيادة حجم الاقتصاد العالمي والنواتج المحلية للبلدان النامية فصار القادم منها لتمويل التنمية هزيلاً، خاصة فيما يتعلق بالبلدان متوسطة الدخل التي أصبحت أسقف التمويل المتاحة لها منخفضة وبشروط تمويل غير محبذة من حيث التكلفة وعمولات الارتباط وفترات السماح ومدد السداد.

وتأتي هذه المطالب أيضاً وفقاً لوثيقة تمويل التنمية المتفق عليها في أديس أبابا في عام 2015 التي تعهدت البلدان المتقدمة أثناء مناقشتها بمساندة تحقيق أهداف التنمية المستدامة وهو ما لم يتم، ووعدت المؤسسات المالية الدولية بزيادة قدراتها التمويلية وهو ما لم يحدث؛ واستخدام أسلوب الرافعة وتخفيف المخاطر وتقديم الضمانات لدفع الاستثمارات الخاصة للمشروعات التنمية وهو ما لم يتحقق منه إلا النذر اليسير.

د. محمود محيي الدين

تطورات مهمة في حوض غاز شرق المتوسط

تدل المعطيات المتوفرة على تطورات في حوض غاز شرق المتوسط ذات دلالات مستقبلية مهمة، وذلك بعد فترة من الغموض التي تخللتها مفاوضات بين حكومات الإقليم، وأخرى بين الحكومات والشركات حول برامج الإنتاج والتصدير.

أول هذه المعطيات هو وصول المنصة البحرية التي استأجرتها «توتال إينرجي»، الشركة العاملة في البلوك رقم 9 في المياه اللبنانية، حيث يتوقع وصول المنصة، خلال منتصف شهر أغسطس (آب) المقبل، ومن ثم بدء الحفر بعد أسبوعين تقريباً قبل نهاية الشهر. من المتوقع أن يحرك هذا الحدث الاهتمام في المياه السياسية الساكنة التي ألقت بثقلها ومشاكلها المزمنة على كاهل الشعب اللبناني، الذي يتطلع إلى بصيص أمل في نهاية النفق. كما من المنتظر أن يثير بدء الحفر وابلاً من الشائعات والتهويل الإعلامي بإمكانية «الاكتشاف» في إنقاذ لبنان من الكارثة الاقتصادية التي يعانيها.

من المعروف أنه حتى لو تم تحقيق اكتشاف تجاري قريباً، والبلوك رقم 9 منطقة موعودة، فإن بدء الاستفادة الاقتصادية من الغاز، في حال اكتشافه، لا يزال بعيداً لسنوات، حتى إقرار فيما إذا من الممكن تصديره اقتصادياً، بأية وسيلة، ومدى التكاليف من مليارات الدولارات. كما ستتوجب دراسة إمكانية استغلال الغاز داخلياً.

هذه محاذير لا بد من أخذها بنظر الاعتبار في لبنان؛ لأن بعض الساسة اللبنانيين كانوا قد وعدوا اللبنانيين بالثروة البترولية، حتى قبل بدء الاكتشافات، فكيف بالأحرى الآن، مع بدء الحفر. والمحذور الآخر هو انتشار الشائعات التي تنقلها بعض وسائل الإعلام المحلية، دون التدقيق والتمحيص اللازمين في صحة المعلومات. طبعاً، هذا كله ناهيك عن المناكفات السياسية التي أودت بالبلاد إلى الخراب.

لم يكن الوصول إلى مرحلة الحفر هذه، وقبلها ترسيم الحدود البحرية الجنوبية مع إسرائيل، هيناً، وقد استغرقت بالفعل نحو 10 سنوات. كان من الممكن جداً التفاهم ما بين القوى السياسية منذ البداية، والتوصل إلى النتائج نفسها تقريباً منذ بداية طرح ملف الغاز، لو توفَّر الغطاء السياسي لاتفاقية الحدود البحرية مع إسرائيل. طبعاً، لم تنتهِ جميع التحديات أمام لبنان. فهناك استكمال ترسيم حدود لبنان البحرية مع كل من قبرص وسوريا. ورغم أن هذا الترسيم الحدودي خاصة لا يؤثر على نشاط الحفر الحالي، فإن إنجاز الترسيم يعطي إشارة استقرار للصناعة البترولية العالمية، مما سيشجعها على العمل في لبنان. إذ سيستمر تفاوض لبنان مع هذه الشركات الدولية لاستكمال الاكتشاف في مياهه البحرية لسنوات؛ بل عقود طويلة مقبلة. فعمليات الاستكشاف لا تتوقف على نتائج حفر بئر أو بئرين فقط، إذ إن تقنيات الاستكشاف والحفر تتطور سريعاً مما يساعد على تحقيق نتائج إيجابية لم تكن ممكنة سابقاً.

كما أن هناك المناوشات العسكرية البرية الجارية الآن فعلاً في الجنوب اللبناني مع إسرائيل. ومن غير المعروف مدى إمكانية تأثيرها على النشاط البترولي البحري، في حال عدم إمكانية حصرها على البر فقط.

وثاني هذه المعطيات هو الموافقة الإسرائيلية التي أعلن عنها بـ«هدوء» غير معهود، في يونيو (حزيران) 2023 لتطوير حقل «غزة البحري»، بعد سنوات من اكتشافه في بداية هذا القرن، والذي افتتحه في حينه الرئيس ياسر عرفات. وتشير تقديرات احتياطي حقل «غزة مارين» إلى أنه من أصغر الحقول الغازية المكتشفة (حوالي مليار قدم مكعب من الغاز)، حتى الآن في شرق المتوسط.

عارضت إسرائيل تطوير الحقل في حينه مُصرّة على ضمان عدم حصول حركة «حماس» على الريع الغازي. من ثم، فقدت شركة «بريتش غاز»، التي اكتشفت الحقل في أوائل هذا القرن، الأمل في الحصول على موافقة إسرائيلية لتطوير الحقل وباعته لشركة «شل». لم تُنشر حتى الآن تفاصيل دقيقة عن مضمون الاتفاق، والقليل الذي جرى نشره هو في مصادر الإعلام الإسرائيلية. لكن يتضح أن شركة مصرية ستلعب دوراً مهماً في عمليات الحفر والتطوير، ومعها شركة إنشاءات عربية/ فلسطينية ضخمة. لكن من غير المعروف حتى الآن فيما إذا كان سيُستعمل الغاز في دعم صادرات الغاز المُسال المصرية (وهذا هو الأرجح)، أم أنه سيُستعمل لتزويد قطاع غزة والضفة الغربية بالطاقة.

ومن الجدير بالذكر أن هناك محطة لتوليد الكهرباء في غزة، لكن لا توجد أية محطة كهرباء في الضفة الغربية، فهي تعتمد على الطاقة المستدامة (الطاقة الشمسية)، والوقود البترولي والكهرباء الذي تُزوده لها الشركات الإسرائيلية (فمن دون استعمال غاز غزة ستبقى الضفة والقطاع تحت الهيمنة الكاملة لإسرائيل طاقوياً).

ومن الجدير بالذكر أن وسائل الإعلام الإسرائيلية ادعت أن ضغوطاً أميركية على الحكومة اليمينية الإسرائيلية المتشددة أجبرت تل أبيب على الرضوخ والتوقيع على الاتفاق، بعد سنوات من المماطلة والتأخير. وهذا أمر محتمل، وقد يكون أيضاً جزءاً من السياسة الأميركية الإقليمية لتشجيع التطبيع والتعاون الإقليمي بين إسرائيل والدول العربية من خلال صناعة غاز شرق المتوسط.

ثالث المعطيات هو اتفاق وزارة البترول المصرية مع الشركات الدولية لحفر نحو 38 بئراً في بلوكات جديدة في شرق المتوسط، وربط بعض هذه الآبار؛ الواحدة مع الأخرى لتعزيز الإنتاج. والسبب هو تلافي النقص في إنتاج الغاز المصري بعد انخفاض الإنتاج من حقل «ظهر»؛ أكبر حقل بحري في حوض البحر الأبيض المتوسط، وعماد الإنتاج البحري المصري.

وتلعب الشركات الأوروبية والأميركية دوراً مهماً في تعزيز الإنتاج الغازي المصري، الذي انخفض معدله إلى نحو 5.95 مليار قدم مكعب يومياً، خلال الفترة الأخيرة، مما أدى إلى انخفاض صادرات الغاز المُسال المصرية التي تغذيها إمدادات قبرصية وإسرائيلية أيضاً. ومن جهة أخرى، فبالإضافة إلى الصادرات، مصر بحاجة مستمرة لزيادة إنتاجها الغازي واستمرار اكتشاف حقول جديدة، نظراً للزيادة السنوية في استهلاكها المحلي أيضاً من قبل الزيادة السنوية لعدد سكانها الـ100 مليون نسمة (مما يجعلها هي وتركيا أضخم سوقين لاستهلاك الغاز إقليمياً)، ونظراً لاعتمادها على الغاز في تغذية محطات الكهرباء والمصانع، وبعض المناطق السكنية في القاهرة والإسكندرية، وتغذية بعض وسائل النقل العام.

تتوقع المصادر البترولية المصرية عودة زيادة الإنتاج الغازي من حوض دلتا النيل، ومن ثم ارتفاع معدل صادرات الغاز المُسال إلى أوروبا، وخصوصاً مع إمكانيات زيادة الصادرات القبرصية والإسرائيلية، التي تدمج مع المصرية.

من جهتها، تتفاوض قبرص مع شركة «إيني» الإيطالية في طريقة تصدير الغاز القبرصي، فإما عن طريق تسييله، ومن ثم تصديره عبر ناقلات متخصصة، أو تصديره عبر خط أنابيب قصير المدى لربطه مع صادرات الغاز المُسال المصرية إلى أوروبا، أو تشييد خط أنابيب يمتد من حيفا إلى قبرص ومن ثم شبكة أنابيب السوق الأوروبية المشتركة. وهناك عوامل جيوسياسية متعددة في كل من هذه البدائل، بالإضافة إلى الكلف والأرباح، مما أدى إلى سنوات من المفاوضات.

 

وليد خدوري

المال والبنوك… تعب الحياة!

أثار نواب في مجلس العموم البريطاني قبل العطلة الصيفية (بدأت أول من أمس – الجمعة لـ6 أسابيع) تورط البنوك والمؤسسات المالية في السياسة، بشكل يهدد حرية التعبير كأهم أسس الديموقراطية، والأخطر حرمان أعداد معتبرة من المواطنين من الحساب البنكي، وهو اليوم ضرورة لا غني عنها.

المشكلة البريطانية أبعادها عالمية؛ بسبب عولمة البنوك والمؤسسات المالية ووكالات التبادل المالي بأنظمة الدفع على الإنترنت (مثل باي – بال paypal التي شملها الانتقاد)، والتي لها نفوذ ونشاطات في أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا. أيضاً المسألة نموذج لتوضيح مدى نفوذ وقدرة مؤسسات تجارية غير حكومية في الضغط على نشاط الأفراد والجماعات، بينما لا تخضع هذه المؤسسات لأي محاسبة كحال المشتغلين بالسياسة والحكومات المنتخبة أو المؤسسات المملوكة للدولة.

المشكلة التي بدت كفصل في الحرب الثقافية الدائرة بين اليسار الليبرالي ويمين الوسط المحافظ، اتضح أنها قمة جبل الثلج العائم.

قبل أسبوعين، اشتكى نايجل فاراج، الزعيم السابق لحزب الاستقلال، الذي فجّر شرارة حملة البريكست، من إغلاق حسابه في بنك الأثرياء (كوتس)، المملوك للشركة القابضة «بنك ناتوست» («ناتوست» لا تزال 38.6 في المائة من أسهمها مملوكة لدافع الضرائب البريطاني، وبقية الأسهم اشترتها الخزانة لإنقاذه من الإفلاس أثناء الأزمة المالية منذ 15 عاماً). البنوك الأخرى، حسب ادعاء فاراج، ترفض فتح أي حساب له، بسبب ما روج عنه من البنك بين المؤسسات المالية، ما يجعله تائهاً في المجتمع، فجميع الفواتير وحسابات الضرائب والمرتبات وبطاقات الشراء وغيرها كلها تتم من خلال معاملات البنوك.

ولأسبوعين روجت صحافة اليسار ادعاء البنك أن إغلاق الحساب كان بسبب نقص ودائع فاراج عن الحد الأدنى (مليون جنيه). فاراج يضعه اليسار البريطاني، والعالمي، مع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب (2017 – 2021)، ورئيس الوزراء الأسبق بوريس جونسون (2019 – 2022) كرموز الكراهية المسؤولة عن خراب العالم، ويتهمونهم بالعنصرية، والإضرار بالبيئة، والزينوفوبيا (كراهية الأجانب)، والتشكيك في فاعلية التطعيم ضد الفيروسات، ومعاداة شرائح شاذة من المجتمع (الاتهامات لم يستطع أحد إثباتها بالأدلة، لأنها جميعاً تخضع لقوانين مكافحة خطاب الكراهية وقوانين التأكيد على المساواة وحقوق الإنسان).

ادعاء البنك نشره المحرر الاقتصادي لـ«بي بي سي» على الموقع (الأكثر قراءة)، وكررته صحف اليسار التي أضافت وجود لائحة للبنوك لما يسمون بأشخاص لهم بروفايل عالٍ يعرض لمجازفات مالية. اللائحة تعطي أمثلة برؤساء الدول، وزعماء الأحزاب والحركات السياسية، والمشاهير كنجوم الرياضة ونجوم هوليوود. التصنيف لا يتعلق بآرائهم أو مواقفهم السياسية، وإنما بوضعهم الاجتماعي، ما يجعلهم مجازفة مالية، لضرورة استخدام وسائل غير تقليدية لحمايتهم وحماية أقاربهم. فهم معرضون للابتزاز، أو اختطاف العصابات الإجرامية لذويهم مقابل فدية، أو اختراق قراصنة الإنترنت لحساباتهم، لكن ليس في اللائحة ما يتعلق بالآراء المثيرة للجدل أو المواقف السياسية. اشتكي نشطاء سياسيون آخرون من إلغاء مؤسسات مالية وبنوك لحساباتهم، مثل رئيس جمعية الدفاع عن حرية التعبير، وسيدة تحذر من تأثير مناهج الصوابية السياسية على الأطفال. كما ظهرت أيضاً شكاوى مماثلة من نشطاء حذروا على وسائل التواصل الاجتماعي من التلاعب بالاستقبال الذهني للظواهر (مثل القناعة شبه العمياء بأن التغير المناخي ليس ظاهرة طبيعية، بل هو من نشاط الرأسمالية، ومثل التأثير على الأطفال لتغير الهوية أو تغير الجنس).

النزاع أصبح مانشيتات صحف الأربعاء، بعد حصول محامي فاراج على «دوسييه داخلي» من بنك كوتس تضمن رسائل تبادلتها مديرة البنك مع لجنة تقييم الحسابات. الرسائل تبالغ وتهول من الاتهامات التي سردناها أعلاه، وتتهم فاراج بالعنصرية والتطرف وبما لا نستطيع نشره هنا قانونياً، ووصفته بترويج أفكار لا تتماشي مع مبادئ البنك، كمبرر لإغلاق حسابه.

اتضح من التحقيقات الصحافية أن مصدر المحرر الاقتصادي لـ«بي بي سي» في نشره ادعاءات البنك كانت رئيس مجلس إدارة الشركة القابضة، وهو عضو في مجلس اللوردات. فاراج يلوح بإجراء قضائي ضد البنك. ويطالب نواب البرلمان بتعديل اللوائح والقوانين لحماية المواطنين من البنوك، التي تمارس نشاطها بترخيص من وزارة المالية، وبإشراف بنك إنجلترا (البنك المركزي). رئيس الوزراء ريشي سوناك، قال الأربعاء في مجلس العموم: «نرفض أن تغلق أي مؤسسة مالية حساب شخص بسبب آرائه أو مواقفه السياسية». مصادر «10 داوننغ ستريت» تشير إلى نية الحكومة الإسراع بتعديل اللوائح حيث تغلق الثغرات القانونية التي تستغلها البنوك كمبرر لإغلاق حسابات نشطاء أو ساسة أو شخصيات عامة يعبرون عن آراء أو لهم مواقف سياسية، تختلف مع الأرثوذكسية السائدة في المجتمع أو الثقافة الوطنية، التي هي اليوم موضة اليسار الليبرالي المسيطر على صناعة الرأي العام.

وقد يختلف الأمر عما نقصده بالأرثوذكسية السائدة في الرأي العام من مجتمع إلى آخر، لكن يظل جوهر القضية واحداً، وهو ما يعدّ الثقافة الوطنية أو المعتقدات الأكثر صواباً في تعريف المؤسسات المسيطرة (سواء سياسياً بالتركيبة الدستورية، أو لقوتها الاقتصادية، أو لسطوتها الثقافية أو الروحانية أو الدينية على أتباعها)، فتستغل سلطاتها لإقصاء من يطرح الأسئلة المشككة في هذه الصوابية، فهذه المؤسسات تخشى أن يعيد المفكرون والمثقفون فحص ما رُوج له على أنه من الثوابت والمسلمات في المجتمع.

عادل درويش

توطين التنمية في عالم شديد التغير (1)

تتوالى التطورات الجيوسياسية والتغيرات في موازين القوى متسارعة في السنوات الأخيرة مؤكدةً أن الترتيبات المعمول بها في إطار العولمة إلى انقضاء، مفسحةً المجال لترتيبات جديدة للتجارة والاستثمار والتمويل وحوكمة المؤسسات الدولية. هناك محاولات للتمسك بما كان ولكنها تأتي متهافتة بوعود لا تلبَّى وتمويل هزيل ومنافع محدودة على النحو الذي شهدناه منذ الأزمة المالية العالمية لعام 2008 التي جاءت قاصمة لظهر البعير.

فمنذئذ وعلى مدار 15 سنة، كانت أكثرها عجافاً بين ركود وتضخم ومزيج بينهما، توالت الأزمات كباراً وصغاراً لم تكن أقلها جائحة كورونا وتبعاتها لتظهر عجز الترتيبات الدولية الراهنة عن تحقيق مزايا التضامن والتعاون الدوليين في مواجهة الصدمات. فهل سينسى العالم سوء توزيع اللقاحات عندما اشتدت الحاجة إليها لتستأثر بها بلدان متقدمة ثم تتيح ما تفضَّل منها بعد لأي؟ هل الناس لن يعتبروا مما كان من منعٍ للبلدان النامية من إنتاج اللقاحات بالتعنت في الاستمساك بقواعد الملكية الفكرية رغم الإلحاح باستثناءات مؤقتة لاعتبارات الضرورة الصحية؟

هل نغفل أنه بعد الاتفاق على إصدار وحدات حقوق سحب خاصة قوامها 650 مليار دولار، في أوج الجائحة لمواجهة آثارها على السيولة الدولية، فتستحوذ فرادى بلدان متقدمة، وفقاً لقواعد الحصص المعمول بها، على ما يزيد على ما تحصلت عليه دول القارة الأفريقية مجتمعة، ثم تُعقد القمم والمؤتمرات من أجل إعادة تدوير 100 مليار دولار للدول النامية باقتراضها مشروطة وإن كانت بفوائد ميسَّرة، فضلاً عن ملاحقة 100 مليار دولار أخرى موعودة منذ قمة المناخ في كوبنهاغن في 2009 لمساندة جهود تمويل العمل المناخي في البلدان النامية والتي تتجاوز فجوة تمويلها (باستثناء الصين) عشرة أمثال هذا الرقم؟

لقد تركت حالة الأزمة المستمرة أو ما أُطلق عليه «بيرماكرايسيس»، بأبعادها الاقتصادية والجيوسياسية، البلدان النامية عُرضة لتقلبات حادة في أسعار الطاقة، وتدهور خطير في أمنها الغذائي يبحث عن حل في روما هذا الأسبوع، خصوصاً وهي تعاني من وطأة مديونية خارجية تجاوزت تكاليف خدمتها في كثير منها ما تنفقه على التعليم والرعاية الصحية مجتمعين. ورغم ذلك نجد أن ترتيبات التعامل مع تحديات تعثر الديون تعاني من بطء شديد، وما زالت آلية مجموعة العشرين لا تشمل مقرضي القطاع الخاص إلزاماً، ولا تتضمن المقترضين من شرائح الدول متوسطة الدخل عمداً. وما زالت المطالبة بمراجعة شروط الاقتراض من المؤسسات المالية الدولية لا تلقى العناية الواجبة فيما يتعلق بفترات السماح والسداد ووضع حد أقصى على سعر الفائدة لمشروعات التصدي لطوارئ أزمة المناخ -التي لم تتسبب فيها أصلاً البلدان النامية- فضلاً عن إلغاء بند التكاليف الإضافية المجحفة على المقترضين الكبار رغم ثبات عدم عدالته وإضراره بماليات البلدان النامية. وكل ما تحقق حتى تاريخه هو قبول التوصية بتضمين عقود الإقراض الدولي بنداً للتيسير في حالة التعرض لكوارث طبيعية، وهو ما كان معمولاً به أصلاً في عدد من المؤسسات.

ليس غريباً إذن أن تعاني مسارات التنمية المستدامة ومحاولات التصدي لتغيرات المناخ لانحرافات عن جادتها وقصور في تحقيق أهدافها. فأهداف التنمية المستدامة السبعة عشر، وتتضمن 169 هدفاً فرعياً، يشير تقرير الأداء الأخير للأمم المتحدة بشأنها إلى أن 12 في المائة منها فقط على المسار السليم، و50 في المائة منها تعاني من تخلف بين كبير وصغير عن المستهدف، أما باقي الأهداف فتراجعت عمّا كانت عليه عند إقرارها في سبتمبر (أيلول) 2015. وما زالت التقارير العلمية للهيئة الحكومية الدولية لتغيرات المناخ تنذرنا مؤخراً بأنه بدلاً من تخفيض الانبعاثات الضارة بمقدار 45 في المائة بحلول عام 2030 لنتفادى تبعات سخونة الأرض إذا بنا نزيد عليها رغم وعود وخطب من قادة الدول الأكثر أذى بالمناخ بأهمية عدم تجاوز سقف 1.5 درجة مئوية، فالعالم وهو ما زال عند 1.1 درجة فقط يعاني من موجات حرارة غير مسبوقة وحرائق غابات وفيضانات وجفاف وتصحر تهدد الحياة وأسباب المعيشة معاً.

لقد كان المطلوب على المستوى الدولي إنفاذ التعهدات بإتاحة التمويل والتعاون التكنولوجي ووضع قواعد رقابية مُلزمة لتغيير السلوك الضار من الحكومات والشركات والأفراد، ولكن ما نراه هو النقيض. فالدول المتقدمة يتخذ أكثرها إجراءات جديدة تحت مسميات المبادرات الخضراء والتصدي لتغيرات المناخ ودعم التحول الرقمي، ستعيد في ممارساتها ذكرى الحمائية والحروب التجارية؛ وإن عانت منها بلدان نامية. وكما أشرت في المقال السابق يُغدَق على هذه المبادرات بتمويل ضخم في مشاركات بين المؤسسات العامة والخاصة وجهات البحث والتطوير. وجدير بالذكر أن تدخل الدولة في البلدان الغنية ليس عودة لأنماط قديمة ثبت فشلها لملكية وإدارة بيروقراطية الدولة للمشروعات، بإهدار الموارد على مغامرات غير محسوبة انتهت بعد كل ما أُنفق عليها كأنها أعجاز نخل خاوية.

وإذا ما افترضت حكومات البلدان النامية أن عوناً سخياً سيأتي لها في ظل هذه الترتيبات الجديدة، فالسخاء حقاً هو في افتراضاتها حسنة النية، فما الذي جدَّ حقاً حتى نتوقع التزاماً بما لم يتم الوفاء به من قبل؟ فما الذي تحقق من وعد المساعدات الدولية التي قيل إنها ستتدفق سنوياً بما لا يقل عن 0.7 في المائة من الدخل القومي للبلدان المتقدمة؟ وماذا عن المائة مليار المتعلقة بتغيرات المناخ؟ وماذا عن تعهدات متناثرة بمساعدات إنسانية مع ما جرى من كوارث طبيعية؟ وإذا ما اعتقدت أن مؤسسات التنمية الدولية ستسدد فجوات التمويل فعليها الانتظار بصبر واحتمال إلى ما قد تجود به «خريطة طريق تطور» هذه المؤسسات التي تبحث في رؤيتها الجديدة وأساليب عملها ومواردها.

تستوجب هذه التطورات الحرجة التي لحقت بالعولمة نهجاً للتقدم يعتمد على توطين التنمية نستجلي ملامحه في مقال قادم.

 

د. محمود محيي الدين

بايدن في موقف نفطي صعب

وضعت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن نفسها في موقف صعب من ناحية النفط عندما قررت تأجيل خطط إعادة ملء مخزونات النفط الاستراتيجية مجدداً، بحسب ما نقلته بلومبرغ عن مصادر وصفتها بالمطلعة، والسبب في ذلك أن أسعار النفط الحالية مرتفعة.

إدارة بايدن فوّتت على نفسها فرصاً في بداية العام عندما كانت أسعار النفط دون الـ80 دولاراً ووصلت إلى مستويات الستينات، ولا أعلم من الذي يخطط لهذه الإدارة في مجال الطاقة، ولكن واضح جداً أن من يخططون لا يدركون حركة أسعار النفط.

من شبه المستحيل أن تترك «أوبك بلس» أسعار النفط تنزلق إلى مستويات متدنية لأن ميزانيات هذه الدول ستضرر بشكل كبير ولا أحد يريد أن يرى تراجعاً في الأسعار وسط تراجع في الإنتاج وتخفيضات طوعية وغير طوعية بملايين البراميل يومياً.

ومن غير المتوقع أن تظل الأسعار متدنية في وقت المعروض النفطي فيه يتراجع عالمياً مع ازدياد الطلب، ولنضع جانباً التكهنات حول ركود عالمي إذ نسمع عنه ولا نراه منذ أشهر.

نحن في عصر ما بعد كورونا، والذي يسافر إلى أي مكان في العالم فسيرى الطلب الهائل على وقود الطائرات والنقل وسط هذه الإجازات وتعافي قطاع السفر.

عموماً طمع الإدارة الأميركية في الحصول على أسعار نفط أقل مما كانت عليه سيجعلها تذعن لشراء النفط بأسعار فوق 80 دولاراً لأن النفط دون 70 دولاراً هو أمر قد لا يحدث.

ما أهمية كل هذا ولماذا على إدارة بايدن ملء الاحتياطي الاستراتيجي؟ الولايات المتحدة بلد يعتمد على النفط بشكل كبير والهدف من هذا الاحتياطي هو التحوط ضد أي انقطاع كبير في الإمدادات عالمياً.

الاحتياطي الأميركي الآن عند أدنى مستوى له في 40 عاماً عند 347 مليون برميل، بينما كان في بداية 2022 عند مستوى 594 مليون برميل. لكن قدرة الخزانات تحت الأرض تصل إلى 714 مليون برميل، وحتى تصل الولايات المتحدة إلى ملئها مجدداً لكامل طاقتها الاستيعابية، فالموضوع سيتطلب سنوات ومبالغ كبيرة.

عندما ملأت الحكومة الأميركية الخزانات في السابق كان متوسط سعر شراء البرميل 29 دولاراً، واليوم نحن نتكلم عن نفط عند 80 دولاراً. وفي الوقت ذاته، ستحتاج الحكومة لإنفاق مليارات على صيانة الكهوف الملحية تحت الأرض حيث تخزن النفط الاستراتيجي.

حتى اليوم أنفقت الحكومات الأميركية المتعاقبة ما يقرب من 25 مليار دولار على الصيانة وملء المخزون ولكن هذا الرقم سيتضاعف الآن.

ولن تكون إدارة بايدن قادرة على فعل شيء، وسترحل المشكلة للإدارة القادمة التي ستبحث عن طرق لخفض أسعار النفط وهذا سيتطلب مزيداً من الإنتاج الأميركي أو الطلب من «أوبك» والسعودية خفض الأسعار من خلال ضخ مزيد من النفط. وفي كلتا الحالتين، الأمر صعب على بايدن وعلى من سيأتي بعده.

وفوق كل هذا، تواجه إدارة بايدن اتهامات من الجمهوريين بأن المخزون الاستراتيجي الذي تم سحبه العام الماضي خلال حرب أوكرانيا والبالغ 180 مليون برميل استُخدم لأغراض سياسية بهدف خفض أسعار الوقود على المواطنين، وبالتالي الفوز في الانتخابات النصفية، بينما الهدف من المخزون هو مواجهة نقص الإمدادات.

مأزق سياسي ونفطي لحكومة تعهدت منذ البداية بمحاربة النفط وعدم السماح لأميركا بإنتاج المزيد منه.

 

وائل مهدي

لا تتركوا عمالقة التكنولوجيا يخفون ما يفعلونه بنا

نحن نعيش عصر ثورة المعلومات. وقد استبدل بحراس بوابات المعرفة التقليدية – من أمناء المكتبات والصحافيين والمسؤولين الحكوميين – بدرجة كبيرة حراس البوابات التكنولوجية، ومحركات البحث، وروبوتات الذكاء الاصطناعي، ومغذيات وسائل التواصل الاجتماعي.

أيا كانت عيوبهم، فإن حراس البوابات القدامى، على الورق على الأقل، يدينون بالفضل لعامة الناس. وحراس البوابات الجدد مدينون بالأساس لتحقيق الربح فقط وللمساهمين في هذه الشركات. والآن، يوشك هذا الواقع على التغير، وذلك بفضل تجربة جريئة نفذها الاتحاد الأوروبي.

مع بدء سريان الأحكام الرئيسية في 25 أغسطس (آب)، فإن حزمة طموحة من قواعد الاتحاد الأوروبي، وهي قانون الخدمات الرقمية وقانون الأسواق الرقمية، هي أكثر الجهود شمولا تجاه التحقق من قوة التكنولوجيا الكبرى (بعد الحظر الصريح في أماكن مثل الصين والهند). وللمرة الأولى، يتعين على منصات التكنولوجيا الاستجابة لعامة الناس بطرق لا تعد ولا تحصى، بما في ذلك منح المستخدمين الحق في الاستئناف عند إزالة المحتوى الخاص بهم، وتوفير خيار من الخوارزميات، وحظر الاستهداف الدقيق للأطفال والبالغين استنادا إلى بيانات حساسة مثل الدين، والعرق، والتوجه الجنسي. وتُلزم الإصلاحات أيضا منصات تكنولوجية كبيرة بمراجعة خوارزمياتها لتحديد كيفية تأثيرها على الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والصحة البدنية والعقلية للقاصرين وغيرهم من المستخدمين.

سوف تكون هذه المرة الأولى التي يُطلب فيها من الشركات تحديد ومعالجة الأضرار التي تسببها منصاتهم. وللمساءلة، يتطلب القانون أيضا منصات تقنية كبيرة مثل «فيسبوك» و«تويتر» تزويد الباحثين بإمكانية الوصول إلى البيانات الآنية (في الوقت الفعلي) من منصاتهم. لكن هناك عنصر حاسم لم يُقرره الاتحاد الأوروبي بعد، ألا وهو ما إذا كان الصحافيون سوف يتمكَّنون من الوصول إلى أي من تلك البيانات.

كان الصحافيون تقليديا عند الخطوط الأمامية لإنفاذ القانون، يشيرون إلى الأضرار التي قد يُوسع الباحثون نطاقها، وقد تعمل الأجهزة الرقابية وفقا لها. كشفت صحيفة «نيويورك تايمز» وصحيفة «الأوبزرفر» اللندنية عن فضيحة شركة «كمبردج أناليتيكا»، التي علمنا فيها كيف استغل المستشارون في حملة دونالد ترمب الرئاسية بيانات ملايين المستخدمين على موقع «فيسبوك» من دون إذنهم. وقد أوردت وكالة «باز فيد» الإخبارية تقريراً حول التعليقات المسيئة التي أوضحت دور «فيسبوك» في تمكين مذبحة الروهينغا في ميانمار. لقد كشف فريقي في موقع «بروببليكا» الإخباري كيف أن «فيسبوك» يسمح للمعلنين بالتمييز في إعلانات التوظيف والإسكان.

لكن الحصول على البيانات من المنصات أصبح أكثر صعوبة. وكان موقع «فيسبوك» عدوانيا بشكل خاص، حيث أغلق حسابات الباحثين في جامعة نيويورك عام 2021 بسبب «وسائل غير مرخصة» للوصول إلى إعلانات «فيسبوك». وفي ذلك العام، هددت «فيسبوك»، بشكل قانوني، مجموعة بحثية أوروبية تُدعى «ألغوريثم واتش» (المعنية بمراقبة الخوارزميات)، وأجبرتها على إغلاق مشروع مراقبة منصة «إنستاغرام». وفي وقت سابق من الشهر الحالي، شرعت شركة «تويتر» في الحد من قدرة جميع مستخدميها على مشاهدة التغريدات، فيما وصفته الشركة بأنه محاولة لمنع جمع المعلومات آليا من موقع «تويتر» بواسطة وسائل الذكاء الاصطناعي، فضلاً عن الروبوتات، والمتراسلات الإلكترونية العشوائية، وغيرها من «العناصر السيئة».

من جهة أخرى، أغلقت شركات التكنولوجيا أيضا الوصول المرخص إلى برامجها. وفي عام 2021، فككت «فيسبوك» الفريق الذي أشرف على أداة التحليلات المسماة «كراود تانغل»، التي استخدمها الكثير من الباحثين لتحليل الاتجاهات. وفي العام الحالي، استبدلت «تويتر» بأدوات الباحثين المجانية نسخة مدفوعة الأجر باهظة التكاليف ولا يمكن الاعتماد عليها. نتيجة لذلك، صار الرأي العام أقل وضوحا من أي وقت مضى حول كيفية تصرف حراس بوابات المعلومات العالمية لدينا.

طرح السيناتور الأميركي كريس كونز، الشهر الماضي، «قانون المساءلة والشفافية»، وهو تشريع من شأنه مطالبة شركات وسائل التواصل الاجتماعي بمشاركة المزيد من البيانات مع الباحثين، وتوفير حصانة للصحافيين الذين يجمعون البيانات للمصلحة العامة، مع حماية معقولة للخصوصية.

لكن في الوقت الحالي، تعتمد جهود الاتحاد الأوروبي للشفافية على الأكاديميين الأوروبيين، الذين سوف يتقدمون بطلب إلى هيئة تنظيمية للحصول على البيانات من المنصات، ومن ثم، نأمل أن يصدروا تقارير بحثية بعد ذلك.

هذا ليس كافياً. ولكي تتحمل هذه المنصات المسؤولية الحقيقية، يتعين علينا دعم الصحافيين الذين يقفون على الخطوط الأمامية في سرد الكيفية التي يُسلّحُ بها الطغاة، والمتصيدون، والجواسيس والمسوقون، وحشود الكراهية المنصات التكنولوجية، أو السماح لهم باستخدامها.

تدير ماريا ريسا، الحائزة جائزة نوبل للسلام، موقع «رابلر»، وهو موقع إخباري في الفلبين كان في طليعة القائمين على تحليل كيف استخدم القادة الفلبينيون وسائل التواصل الاجتماعي لنشر المعلومات المضللة.

كما تقول دافني كيلر، مديرة برنامج تنظيم المنصات في مركز السياسة الإلكترونية في ستانفورد، في تعليقاتها أمام الاتحاد الأوروبي، إن السماح للصحافيين والباحثين باستخدام أدوات آلية لجمع البيانات المتاحة للجمهور من المنصات من أفضل الطرق لضمان الشفافية، لأنه «شكل نادر من أشكال الشفافية التي لا تعتمد على المنصات نفسها التي تجري دراستها لتوليد المعلومات أو العمل كحارس للبوابات المعلوماتية».

بطبيعة الحال، كثيرا ما تُقاوم منصات التكنولوجيا طلبات الشفافية بزعم أنها لا بد أن تحمي خصوصية مستخدميها. وهو زعم مُضحك، لأن نماذج أعمالهم تستند إلى التنقيب وتحويل البيانات الشخصية لمستخدميها إلى أموال. ولكن إذا ما وضعنا ذلك جانبا، فلن نجد ضلعا في هذا السياق يتصل بمصالح الخصوصية للمستخدمين: فالبيانات التي يحتاج إليها الصحافيون علنية بالفعل لأي شخص لديه حساب على هذه الخدمات.

ما يفتقر إليه الصحافيون هو الوصول إلى كميات كبيرة من البيانات العامة من منصات التكنولوجيا بُغية فهم ما إذا كان الحدث الواقع يمثل حالة شاذة، أو يمثل اتجاها أكبر. من دون ذلك المدخل، سوف نستمر في الحصول على ما لدينا الآن: الكثير من الروايات حول هذا الجزء من المحتوى أو ذلك المستخدم الذي تم حظره، ولكن لا معنى حقيقياً حول ما إذا كانت هذه القصص ذات دلالة إحصائية من عدمه.

الصحافيون يكتبون أول مسودة للتاريخ. إذا لم نتمكن من رؤية ما يحدث على أكبر منصات الخطابة في العالم، فإن هذا التاريخ سوف يُكتب لصالح المنصات – وليس الجمهور.

 

جوليا أنغوين

«البريكس» وأفريقيا والتخلي المرحلي عن الدولار

توقع «البنك الأفريقي للتصدير والاستيراد» أن ينضم ما يتراوح بين 15 و20 دولة إلى نظام الدفع والتسوية الأفريقي، مما يسمح لها بالتخلي عن الدولار في معاملاتها الأفريقية، حيث إن نظام الدفع والتسوية الأفريقي يسمح للدول الأفريقية بالتداول فيما بينها باستخدام عملاتها المحلية، إذ أعلن رئيس البنك الأفريقي للتصدير والاستيراد أن المنصة الجديدة بدأت عملياتها التجارية مع تسجيل أكثر من 9 دول، علماً بأن نظام الدفع والتسوية يستخدم أسعار صرف الدولار حالياً، في وقت تعمل فيه البنوك المركزية لتطوير آلية لسعر الصرف من شأنها أن تسمح للعملات الأفريقية البالغ عددها 42 عملة بأن تكون قابلة للتحويل فيما بينها.

والنظام الجديد للدفع والتسوية، الذي اعتمده الاتحاد الأفريقي باعتباره منصة الدفع والتسوية في أفريقيا، يدعم تنفيذ منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية، إذ ينضم عدد كبير من الدول الأفريقية للنظام الجديد، نظراً للصعوبات التي تواجه الدول الأفريقية في توفير الدولار، مما زاد الزخم للانضمام لنظام الدفع الجديد، من أجل أن تقل الضغوطات المالية بالتحول للتداول بالعملات المحلية فيما بينها.

إن ارتفاع الدولار يزيد أسعار السلع والخدمات المقومة به على كل الدول من حائزي العملات الأخرى، ويخلق أزمات تمويلية للدول التي تعتمد على الاستيراد بشكل كبير، وهو ما انعكس على الدول الأفريقية بشكل واضح يصعب معه الاستمرار، ورغم توقف ارتفاع مؤشر الدولار، وتوقف الفيدرالي الأميركي في آخر اجتماعاته عن رفع الفائدة، فإن القوة الشرائية للدولار ما زالت مرتفعة وسط أزمة في طرق توفير الدولار للدول الأفريقية، مع شح السيولة في الأسواق الدولية.

أمام هذه التداعيات، تسعى جميع الدول لتقليل الضغوط المالية عليها من خلال التخلي عن جزء من معاملاتها التجارية بالدولار، في الوقت الذي تسعى فيه الصين وروسيا وفرنسا ومعهم دول «البريكس» والدول العربية والأفريقية والدول النامية، لتأسيس نظام مالي دولي جديد، لا يعتمد بالضرورة على الدولار الأميركي عملة رئيسية في التبادلات التجارية والمالية، إذ إن تراجع هيمنة الدولار الأميركي قريب مع صعود اليوان الصيني، فيما أعلن بنك جيه بي مورغان أن علامات تراجع الدولار تتكشف في الاقتصاد العالمي.

كما تدرك الصين أنها لن تصبح القوة الاقتصادية العالمية المنافسة لأميركا إذا احتفظت باليوان عملة غير قابلة للتحويل، إذ إنه من الخطر على الصين مواصلة الاستثمار باحتياطات في السندات السيادية الأميركية، حيث إن هناك بنوكاً كبيرة تراقب تراجع هيمنة الدولار على الصين وروسيا و«البريكس»، فيما يحذر الخبراء الاقتصاديون من المخاطر التي يتعرض لها الدولار، ومكانته كعملة احتياطية عالمية، فضلاً عن الآثار المحتملة على الاقتصاد الأميركي، إذ إن استمرار السياسة المالية الحالية سيؤدي في النهاية إلى تراجع سوق السندات، وسيتم تداول عدد أقل من المعاملات الدولية بالدولار، وستزيد البنوك المركزية الأجنبية من خفض حيازاتها من الأوراق المالية المقومة بالدولار، ما يؤدي إلى ارتفاع أسعار الفائدة بشكل كبير وفقدان هيمنة الدولار في التجارة الدولية.

تجدر الإشارة إلى أن العالم يترقب استعدادات عقد قمة منظمة «البريكس» المقبلة في جنوب أفريقيا، حيث من المتوقع إنشاء عملة مشتركة، وهو أحد أهم الموضوعات الرئيسية على جدول الأعمال، حيث ناقش وزراء خارجية دول «البريكس» في كيب تاون بجنوب أفريقيا نهاية الشهر الماضي، الأدوات التي تمتلكها المجموعة لإقامة النظام الاقتصادي الدولي الجديد، ومناقشة الاستخدام المحتمل للعملات البديلة لحماية بنك التنمية الجديد التابع للكتلة من العقوبات، وإزالة الدولرة في التجارة على نطاق أوسع، وطرح مفهوم عملة «بريكس» الموحدة، لأول مرة، مع أفكار تشمل ربطها بالذهب أو بسلة من السلع أو بعملات دول «البريكس».

في الختام، هناك عدد من العقبات تقف في طريق إنشاء مثل هذه العملة، وأعتقد أنه سيتم التغلب عليها في الفترة المقبلة، إذ يجب تسوية اللوجيستيات أو الجوانب الفنية المتعلقة بعملة «بريكس» أو المجموعة الأفريقية، حيث إن ذلك يتطلب التزاماً جاداً للغاية، ليس فقط من هذه الدول، ولكن من الدول التي تقدمت بطلبات الانضمام، إذ إن هذه الدول ترى العملة المشتركة ليس كأداة رد فعل للعقوبات، ولكن كعملة لتنمية التجارة داخل المجموعة، وبمجرد قيام «البريكس» بذلك أو المجموعة الأفريقية، ستجد العملة قاعدتها الطبيعية إلى حد كبير مثل اليورو.

مناخ الاستثمار والأداء الاقتصادي

يعد المناخ الاستثماري نتاج تفاعل العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، التي تؤثر على ثقة المستثمر وتعمل على تشجيعه وتحفيزه على استثمار أمواله في دولة ما دون الأخرى، إلا أن نصيب أي دولة من الاستثمارات يعتمد على عوامل كثيرة، أهمها المناخ الاستثماري للدولة الجاذبة للاستثمارات والمحفزة للاستثمار، حيث تعرف البيئة الاقتصادية المستقرة والمحفزة والجاذبة للاستثمار بأنها في تلك الدولة التي تتميز بعدم وجود عجز في الميزانية العامة ويقابله عجز مقبول في ميزان المدفوعات، ومعدلات متدنية للتضخم وسعر صرف غير مغالى فيه وبنية سياسية ومؤسسية مستقرة وشفافة.

إن خلق البیئة الاستثماریة المناسبة، التي تساهم في استقطاب الاستثمارات الأجنبیة المباشرة، يعد غایة تسعى إلیها الدول، حیث یتطلب منها إجراء الكثير من الإصلاحات وتقدیم الحوافز والضمانات للمستثمرین وتطویر البنیة التحتیة وتحسین مناخ وبیئة الأعمال، وإجراء الإصلاحات الاقتصادیة المناسبة، إضافة إلى قیامها بعقد الاتفاقات مع الدول، بما يساهم في حریة حركة التجارة الدولیة، واتخاذ كل التدابیر التي تعمل على تحفیز المستثمرین للقیام بالمشاریع الاقتصادیة.

ويعد حجم السوق أحد أهم العوامل في جذب الاستثمارات الأجنبیة، حیث یتم تعریف حجم السوق في الأدبیات الاقتصادیة، إما بالناتج المحلي الإجمالي أو بحجم السكان أو بنصیب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي. ویلعب كُبر حجم السوق دورا هاما في زیادة الطلب على المنتجات السلعیة والخدمیة، وكذلك إمكانیة البیع والربح في تصریف السلع والخدمات التي یتم تقدیمها، إضافة إلى توفیر وخلق الكثير من فرص العمل، وبالتالي یساعد كبر حجم السوق على استقطاب المستثمرین الأجانب لإقامة مشاریعهم الاستثماریة سواءً التجاریة والصناعیة والزراعیة والخدمیة، وهذا یعني أن اقتصادیات السوق الكبیرة تجذب المستثمرین، إضافة إلى أن الأسواق الكبیرة لدیها القدرة على تصریف المنتجات السلعیة، وبالتالي إمكانیة توفر المزید من فرص الربح.

وتكمن أهمية مناخ الاستثمار وبيئة أداء الأعمال في الاقتصاديات الوطنية، في كونه المسؤول عن معدل تراكم رأس المال، ومن ثم فهو يلعب دورا هاما في توسيع القاعدة الإنتاجية للاقتصاد، والتي لا يمكن بلوغها إلا من خلال الاعتماد على الاستثمار المحلي والمباشر العربي والأجنبي.

واعتمادا على تقرير مناخ الاستثمار في الدول العربية لعام 2022، واستنادا إلى 14 مؤشراً اقتصادياً ومالياً خلال عام 2021، استقر المتوسط العام لترتيب الدول العربية عالميا في تلك المؤشرات عند المركز 89 خلال عام 2021، وحلت 9 دول عربية في مستوى أفضل من المتوسط العام العربي لهذه المؤشرات، إذ جاء أفضل متوسط ترتيب للدول العربية في مؤشر صافي الإقراض والاقتراض كنسبة من الناتج، ومؤشر خدمة الدين كنسبة من صادرات السلع والخدمات والدخل الأولي، ومؤشر الناتج المحلي الإجمالي وفق تعادل القوة الشرائية.

كما تصدرت كل من الإمارات والسعودية المرتبة الأولى عربيا بمتوسط ترتيب بلغ 46 في أهم مؤشرات الأداء الاقتصادي الداخلي والخارجي الأربعة عشر لعام 2021، تلاهما كل من الكويت وقطر، ثم ليبيا والعراق والبحرين والمغرب، وصولا إلى الجزائر بمتوسط ترتيب 86.

وعلى صعيد الدول العربية التي حلت في مراكز متقدمة في المؤشرات الاقتصادية، حلت ليبيا في المرتبة الأولى عالميا وعربيا في مؤشري معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي وإجمالي الاستثمارات كنسبة من الناتج، والثانية عالميا (الأولى عربيا) في مؤشري صافي الإقراض، ورصيد الحساب الجاري من الناتج.

كما تصدرت الجزائر المرتبة الأولى عالميا وعربيا في مؤشر إجمالي خدمة الدين كنسبة من صادرات السلع والخدمات والدخل الأولي، والعاشرة عالميا (الثانية عربيا)، في مؤشر إجمالي الاستثمارات كنسبة من الناتج. وجاءت البحرين في المرتبة الثالثة عالميا والأولى عربيا في مؤشر معدل التضخم، كما حلت قطر في المرتبة الرابعة عالميا والأولى عربيا في مؤشر نصيب الفرد من الناتج وفق تعادل القوة الشرائية، وفي المرتبة السابعة عالميا في مؤشر صافي الإقراض كنسبة من الناتج، كما حلت جيبوتي في المرتبة الخامسة عالميا في مؤشر إجمالي خدمة الدين كنسبة من صادرات السلع والخدمات والدخل الأولي.

في الختام، يشكل مناخ الاستثمار والأداء الاقتصادي، مصدراً هاماً لتدفق رؤوس الأموال وزيادة الاحتياطيات من العملات الأجنبية، التي تلعب دوراً كبيراً في دفع عجلة التنمية الاقتصادية، والمساهمة في النمو الاقتصادي بشكل عام في الدول العربية.

 

د. ثامر محمود العاني

التضحية بالنفط من أجل المناخ

أصدرت إحدى الجهات الحكومية في كندا يوم الثلاثاء سيناريوهات متوقعة لإنتاج البلاد في ظل تطبيق سياسات المناخ، كانت نوعاً ما صادمة، بل مخيفة.

فبحسب «CER»، وهي الجهة المسؤولة عن تنظيم قطاع الطاقة في كندا، فإن إنتاج البلاد سينخفض بنسبة 76 في المائة خلال 30 عاماً لو تمسك العالم بسيناريو الحفاظ على الزيادة في حرارة الأرض عند 1.5 درجة مئوية، وهو السيناريو الرئيسي في اتفاقية باريس للتغير المناخي.

طبعاً، لماذا لا نستغرب مثل هذه السيناريوهات؟! لأن الجهة الكندية قالت إنها استخدمت مدخلات السيناريوهات بناءً على دراسات وأرقام وكالة الطاقة الدولية، وهنا لا أريد أن أكون أحد الأصوات ضد الوكالة والتي أحترم وجودها حتى وإن كانت الكثير من آرائها لا تبدو منطقية، ولكني أوردت هذا لأبيّن خطورة التقارير والدراسات التي تصدر عن الوكالة وأي جهة أخرى مماثلة لها.

المكتب الكندي كان واضحاً، وقال إن هذه ليست توقعات وليست مقترحات للسياسة النفطية الكندية، أي أنها لا تعدو عن كونها سيناريوهات، ولكنها سيناريوهات مقلقة كما ذكرت في البداية.

الآن، لنتخيل صدق هذه السيناريوهات فهذا معناه أن كندا التي رفعت إنتاجها إلى 5 ملايين برميل يومياً العام الماضي لن تستطيع الحفاظ على هذا المستوى بعد عقد أو عقدين من الزمن، وهنا نتكلم عن انخفاض كبير في دخل كندا من النفط.

في نظري، سواء أرادت كندا تقليص نفطها والامتثال للاتفاقيات الدولية والمعاهدات أم لا، فإن الواقع يقول إن كندا التي تنتج أحد أسوأ أنواع النفط ملاءمة للبيئة، وهو النفط الكندي الثقيل، لن تستطيع زيادة إنتاجها مهما فعلت خلال هذه الفترة؛ ولهذا فإن التضحية التي يحاول الكل رسم سيناريوهات حولها هي في الواقع ليست تضحية، ولكنها تراجع طبيعي للإنتاج.

ليست كندا وحدها التي ستشهد تراجعاً في الإنتاج، بل الولايات المتحدة وروسيا والكثير من الدول التي نراها اليوم في قوتها النفطية. ولعل روسيا هي أكثر الدول التي تتحدث عن خفض الإنتاج الطوعي، بينما في الحقيقة فإن روسيا كذلك تواجه مشاكل فنية في إنتاجها، وهذه المشاكل ستتفاقم مع الزمن، خاصة مع خروج العديد من شركات خدمات الحقول النفطية من روسيا مثل «شلمبرجير» و«بيكر هيوز» وغيرهما.

هناك واقع مؤلم ينتظر العالم، وهو مرتبط بصورة كبيرة بعدم قدرة الشركات على ضخ المزيد من النفط من الحقول القديمة، ولن ينقذ العالم سوى تقنية أخرى وثورة أخرى مثل النفط الصخري، ولكن حتى ثورة النفط الصخري لم تعد قادرة على إنقاذ العالم. فهل نعدّ كل ما نسمعه عن التضحية بالنفط من أجل المناخ حقيقة؟

الخلاصة هنا، ما لم يحدث هبوط كبير في الطلب خلال العقود الثلاثة المقبلة، فإن العالم عليه أن يتعامل مع أسعار طاقة مرتفعة، وستظل دول «أوبك» هي التي تضخ النفط لباقي العالم.

وائل مهدي

عن سياسة لا تُسمى… وعالم شديد التغيّر

 

شرعت الولايات المتحدة ودول أوروبية وبلدان متقدمة أخرى في اتباع سياسة اقتصادية جديدة تلاحقت خطوات تطبيقها مهرولة في أعقاب أزمات متعددة متلاحقة، وستكون لها تداعيات مهمة على اقتصادات بلداننا النامية واستثماراتها وتجارتها ودور الدولة فيها.

وقبل تحميل الأزمات المترتبة على جائحة كورونا والحرب في أوكرانيا بما لا تحتمل، أشير إلى أن الإجراءات المشكّلة لهذه السياسة الجديدة قد رصدتها تقارير دولية ودراسات، منها بحث في «عودة السياسة التي لن تسمى: مبادئ السياسة الصناعية» أعدّه خبراء من صندوق النقد الدولي في عام 2019، مسترشدين بنجاحات التجربة الآسيوية التي ساندت المنتجين المحليين في الصناعات المتقدمة، وتوجهها التصديري، ودفع المنافسة مع تفعيل قواعد المحاسبة بالإثابة والجزاء. وفي عام 2020 عُقد مؤتمر لخبراء في الاقتصاد حول احتمالات عودة السياسة الصناعية بشكل جديد بما يشمل، ولا يقتصر على، تحقيق قفزات نوعية في الصناعات التحويلية التكنولوجية المتقدمة؛ وهو ما لخصت نتائجه الاقتصادية ماريانا مازوكاتو في كتاب عنونته «عودة السياسة الصناعية ودور الحكومة في تحقيق ازدهار مشترك».

وتشمل السياسة الصناعية الجديدة ما يصفه الاقتصادي روتشير أجراوال بـ«جهود الدولة لتشكيل الاقتصاد باستهداف أنشطة اقتصادية وصناعات ومشروعات محددة من خلال حزمة متنوعة كالدعم والحوافز الضريبية وتطوير البنية الأساسية وقواعد رقابية حامية ومساندة البحث والتطوير».

وعلى مدار الأعوام الثلاثة الماضية تبارى النقاش بين رفض قاطع للسياسات الصناعية كفكرة سيئة أهدرت موارد الاقتصاد في السابق في مشروعات حبذتها بيروقراطية الدولة بخسائر فادحة للقطاع العام وزيادة الديون وتراجع التنافسية والاستثمار والتصدير وتفشي البطالة المقنعة، إلى نهج جديد يعتمد على مفهوم المشاركة بين الاستثمارات العامة والخاصة، وتحديد «مهام طموحة» على غرار ما قام به الرئيس الأميركي السابق جون كينيدي منذ أكثر من 60 عاماً.

وقد عرضت هذا النهج خلال كلمتي في القمة العربية التنموية الاقتصادية والاجتماعية التي عُقدت في بيروت في عام 2019، موضحاً أن «العالم يشهد تغيرات في موازين القوى الاقتصادية العالمية والإقليمية، تستوجب الاستفادة من منهج عملي واقعي لتحقيق التقدم. وبمناسبة الاحتفاء بهبوط أول إنسان على سطح القمر لنا فيما فعله الرئيس كينيدي، مع وكالة الفضاء الأميركية مثلاً. فقد أُسست هذه الوكالة، المشهورة بـ(ناسا)، في عام 1958 لتحقيق أهداف متعددة كغزو الفضاء وتطوير التكنولوجيا في مجال عملها، إلى غير ذلك، وحُشد للوكالة من الموارد ما حُشد، وجُمع لها من العلماء ما جُمع. لكن كينيدي أنقذها من مصير بيروقراطي محتوم بأن جعل لها هدفاً محدداً، ومن دونه لظلت هائمة تطلع إلى المجهول من دون هدى أو دليل». فما فعله كينيدي هو تحديد الهدف بوصول أول إنسان إلى سطح القمر والعودة به سالماً إلى الأرض. وبهذا حوّل غموض تعدد الأغراض، هدفاً طموحاً، محدد الزمن، سهل التخيل، يمكن الحكم عليه بالنجاح والفشل. وقد تحقق هذا الهدف فعلاً في عام 1969 بالخطوة الأولى التي خطاها رائد الفضاء نيل أرمسترونغ، وكان ذلك الإنجاز الهائل نتيجة لتوجه نطلق عليه اليوم «رمية نحو القمر».

وحالياً تجد دعماً في الولايات المتحدة على سبيل في مجال أشباه الموصلات بعد اعتماد صناعتها على استيراد 90 في المائة من احتياجاتها منها من تايوان، فوجّهت لها دعماً يبلغ 39 مليار دولار من جملة دعم مالي وفّره قانون أقرّه الكونغرس الأميركي بتحفيز مالي بمقدار 280 مليار دولار لهذه الصناعات ومثيلاتها التي تعتمد على البحث والتطوير ومشاركة الاستثمارات الخاصة والتي ستكون محظورة عليها المشاركة في تطوير هذه الصناعات في الصين لمدة 10 سنوات. كما يوفّر قانون آخر ذو توجه داخلي وحمائي، والمسمى قانون تخفيض التضخم، 370 مليار دولار معونات للاستثمارات في الطاقة النظيفة. وقد حاولت ما استطاعت جانيت يلين، وزيرة الخزانة الأميركية، في زيارتها الأخيرة للصين تخفيف أثر مثل هذه السياسات على العلاقة بين البلدين بأنه سيتم تحديد نطاق القطاعات ذات الطبيعة الخاصة للأمن القومي لأضيق الحدود.

وفي الاتحاد الأوروبي تشهد بين أعضائه تعالياً للنداءات لمواجهة السياسة الصناعية الأميركية بحماية تنافسية الأنشطة الاقتصادية الأوروبية، فيُخصص لها من صندوق التعافي من الجائحة 160 مليار يورو لمشروعات الابتكارات والتحول الرقمي وصناعة البطاريات وأنشطة العمل المناخي. وعبر المحيط الهادي ستجد 57 شركة متميزة في اليابان تحظى بدعم 500 مليار دولار من الحكومة لحثهم على الاستثمار المحلي وتخفيف الاعتماد على الصين.

على بلداننا النامية أن تدرك عاجلاً خصائص هذا الواقع الجديد وألا تضيع الزمن النفيس في التحسر على تبدل توجهات وتغير الأساليب الاقتصادية؛ فليست هذه المرة الأولى في العصر الحديث التي يشهد فيها العالم تحولاً بندولياً في إدارة الاقتصاد من النقيض إلى النقيض! ولخّص المؤرخ الاقتصادي ماكس هارتويل حركة بندولية للتيارات السائدة في حكم الاقتصاد بين القرن الثامن عشر والقرن العشرين، تراوحت بين تدخل سافر للدولة بسيطرة أفكار مدرسة الميركانتيليين أو التجاريين حتى ثبتت عدم كفاءتها؛ أعقبها تبنٍ لحرية التجارة والاقتصاد فحسنت الكفاءة ولكنها أضرت بالعدالة؛ كما شهدت العقود التالية للحرب العالمية الثانية تبدلاً بين تدخل الدولة والاعتماد على السوق في تخصيص الموارد؛ فكلما ظهر فشل في أحدهما كان اللجوء للبديل. وما تغير اليوم هو سرعة انتقال هذا البندول بين مزيج منهما.

هناك اعتبار آخر أوضحتُه في دراسة مشتركة اعتمدت على مسح تطبيقي، وهو تراجع أهمية المذاهب الاقتصادية كالرأسمالية والاشتراكية، وما بينهما من مدارس اقتصادية، في تشكيل أولويات السياسات العامة وطرق تحقيقها. فنحن عالم يطبّق براغماتية القط الأسود والقط الأبيض؛ وفقاً لمقولة الزعيم الصيني دينغ جياو بينغ بأنه لا يهم لون القط ما دام يُصيد الفئران.

د. محمود محيي الدين