أرشيف التصنيف: المقالات العامة

وظلَّ البنك يربح حتى أفلس!

مع تنوع الأزمات المتعاقبة والمستمرة منذ بداية هذا العقد بين جائحة صحية عالمية، وتدهور جيوسياسي شمل حرباً على أرض أوروبية، وأزمة مناخ بتداعيات مدمرة للطبيعة والبيئة وأسباب المعيشة، وتدني الأداء الاقتصادي العام مع ارتفاع حاد في معدلات التضخم، وتراجع معدلات النمو والوقوع تحت مهددات الركود التضخمي، وتعرض بلدان نامية لمعضلات كبرى في إدارة ديونها الخارجية. وباعتبار أن الأزمات لم تعد تأتي فرادى فأتت معها بصنف من الأزمات التي تكررت على مدار العقود الماضية، ألا وهي الأزمة المصرفية، وهي أزمة غير مفتقدة بحال بعد ما ألحقته بالعالم من نوائب كما حدث في عام 2008، ولكن إرهاصاتها أطلت بقوة خلال الأيام الماضية لتسهم في إرباك الأسواق، وتصيب مودعين ومساهمين في عدة بنوك بالذعر.
وتماماً كحال بنك ليمان براذرز عند سقوطه مشعلاً فتيل الأزمة المالية العالمية، لم يسمع كثيرون عن بنك سيليكون فالي «إس في بي» إلا بعد اضطراب أوضاعه المالية ثم تعرضه للإفلاس. عرف الناس بعد ذلك أن البنك المتهاوي، هو السادس عشر في ترتيب البنوك الأميركية، وأنه قد استمر في العمل لمدة 40 عاماً متخصصاً في تمويل الشركات الناشئة في مجالات التكنولوجيا والتطبيقات الرقمية. وشهد البنك قفزة في أصوله المالية بنحو 3 مرات من 70 مليار دولار في عام 2019 إلى ما يقترب من 210 مليارات دولار في أقل من 3 سنوات. ويسيطر مودعو الجملة من المؤسسات والصناديق المالية على ودائعه بإجمالي 170 مليار دولار، منها 4 مليارات دولار لمودعين أفراد.
ومع انتشار أخبار تعرض الشركة الأم للبنك لخسارة مقدارها 1.8 مليار دولار في آخر عام 2022، وتعثر البنك في تعبئة 2.25 مليار دولار من خلال طرح أسهم لتعزيز رأسماله، تعرّض البنك لهجوم من مودعيه لسحب ما يزيد على 40 مليار دولار في خلال يوم واحد. واشتدت حدة الأزمة بإعلان تعثر بنك سغنيتشر بنيويورك ذي الأصول المالية البالغة 118 مليار دولار، والذي عانى مؤخراً من مشكلات في إدارته، منها زيادة نسبة الودائع غير المؤمنة، وزيادة نسبة الأصول المالية المشفرة في عملياته، وكذلك في التزاماته حتى بلغت 30 في المائة من إجمالي الودائع. وتعرّض البنك الذي تأسس منذ أكثر من عقدين لسحب مفاجئ من ودائعه بلغ 10 مليارات دولار في يوم واحد.
وفي هذه الأثناء تواترت الأنباء القادمة من أوروبا بتداعي أوضاع بنك كريدي سويس السويسري، وهو بنك قديم كبير الحجم بما جعله في قوائم البنوك المصنفة؛ وفقاً لاعتبارات المخاطر النظامية العالمية، أي أن سقوطه قد يؤدي إلى مخاطر على النظام المالي العالمي بتأثير قيمة تعاملاته وتشابك ارتباطاته الدولية. وقد تعرض بنك كريدي سويس مؤخراً لسلسلة من المشكلات مع توقعات باستمرار خسائره، مع رفض كبار المستثمرين فيه لتعزيز رأسماله بما خفض من تصنيفه الائتماني وتقييمه السوقي مع تقلب عنيف في أسعار أسهمه، وارتفاع حاد في تكاليف تمويل نشاطه من خلال إصدار سندات في الأسواق المالية.
تذكرني هذه الوقائع بعبارة رددها بعض أساتذة علم النقود والبنوك العتيدين في وصفهم لتطور أحد البنوك بقولهم: «وظل البنك يعمل بنجاح حتى أفلس». وإذا كانت «حتى» قد حيّرت علماء النحو لاختلاف معناها مع ما يأتي بعدها مجروراً أو منصوباً أو مرفوعاً، لكن في موضوعنا هذا فالتعرف على ما سبق «حتى» من ملابسات شديد الأهمية لفهم تطور عمل البنك المعني، وكيفية تحوله من الربح إلى الخسارة، وتعرضه إلى أزمات سيولة، فساءت لتصبح أزمة ملاءة مالية والعجز عن الوفاء بالحقوق ومن ثم الإفلاس. أما ما سيؤول إليه وضع البنك المفلس فيختلف من حيث طريقة المعالجة، وإن كان هناك اتفاق في الحالتين الأميركية والسويسرية على حماية المودعين بالكامل دون ضرر.
تداعيات التأخر في التقييد النقدي ثم الرفع المتسارع لأسعار الفائدة: بعد فترة من التيسير المالي المفرط إبان التعامل مع الجائحة أصابت زيادات أسعار الفائدة المتعاقبة الأسواق النقدية والمالية باضطرابات وردود أفعال عنيفة في حركة المحافظ المالية، وانتقال الأموال من وعاء إلى آخر بسرعات تجاوزت قدرة بعض المؤسسات المالية على إدارة السيولة ومخاطر الاستثمار، حيث تعرضت بعض المحافظ لانخفاض حاد في قيم السندات طويلة الأجل المحتفظ بها مع رفع أسعار الفائدة، وتعرّضَ مستثمرون وعدة مؤسسات مالية لخسائر، خصوصاً مع هروب إيداعات إلى العوائد الأعلى بأوعية مالية جديدة.
أثر العدوى وهلع الأسواق:
في أجواء مختلفة أكثر استقراراً لم تكن لتبالي السلطات النقدية والمالية فتبادر بنجدة مودعي بنك سيليكون فالي أو بنك سغنيتشر، ولتركوا للتعامل مع الآليات الموجودة بتغطية جزئية للودائع حتى 250 ألف دولار، ثم انتظار قسمة أصحاب الحقوق بعد تصفية البنك إن تبقى من أصوله ومقوماته ما يستحق. ولكن عوامل ثلاثة تدور حول أثر العدوى عجلت بتدخل السلطات الاقتصادية الأميركية: أولها دروس الأزمة المالية العالمية والخبرة التعيسة مع ترك بنك ليمان براذرز ليسقط في عام 2008 مخلفاً وراءه مدمرات للثقة أسهمت في اشتعال الأزمة المالية العالمية من خلال أثر العدوى وهلع الأسواق. ثاني العوامل ما يرتبط بالوضع الحرج للاقتصاد الذي يعاني من التضخم ويصارع احتمالات تراجع النمو والوقوع في براثن الركود التضخمي، فضلاً عن تحديات سياسية واقتصادية أخرى تأتي على أعتاب انتخابات جديدة في الولايات المتحدة جعلت الحكومة تؤثر السلامة باحتواء أزمة جديدة قبل استفحالها. ثالثاً أهمية التجاوب مع سرعة تداول الأخبار والتحليلات المصحوبة بمطالب الحسم السريع قبل انتشار العدوى فعلاً.
طرافة وتساؤلات حول الرقم 250:
بعد الأزمة المالية العالمية حددت القوانين 250 مليار دولار من الأصول المالية لتعريف البنوك الكبيرة التي قد يترتب على الخلل فيها مخاطر «نظامية» على سائر القطاع المالي، وتخضع هذه البنوك لإشراف مدقق واختبارات دورية إضافية على سلامتها وتوفر السيولة بها وقدرتها على مواجهة الصدمات. ولكن بنك سيليكون فالي سعى في عام 2018 مع جهات أخرى لتعديل القانون لإعفائه من هذه القيود بتعديل يستثني البنوك التي تقل أصولها عن 250 مليار من هذه القيود الرقابية، باعتبار أنه لا يشكل مخاطر نظامية. ورغم ذلك بعد سقوط البنك اعتبر هو وبنك سغنيتشر من هذا التصنيف للبنوك الكبيرة، حتى يمكن إنقاذ مودعيهما. والطرفة الأخرى للرقم 250 هي ما تحدده قواعد التأمين على الودائع، بأن تضمن ما لا يتجاوز 250 ألف دولار كحد أقصى للمودع. ولكن في وقت الأزمة اضطرت السلطات النقدية لضمان كافة المودعين والإيداعات من دون حد أقصى.
تدخل غير مسبوق من السلطات النقدية والمالية للتعامل مع أزمة المصارف:
في مواجهة المشكلات الاقتصادية والمالية الحادة ينبغي التدخل السريع الفعال وإلا تحولت لأزمة، أما إذا كان التدخل الحكومي فاشلاً فسوف تتحول المشكلات لكوارث ممتدة الأذى. وفي هذه المرة كان التدخل حاسماً لتهدئة الأسواق، وبث الثقة في مودعي البنوك، ومنع تدهور الأوضاع بما يحاكي أزمة 2008 أو ما هو أسوأ. فتم الإعلان عن حماية كافة الودائع لبنك سيليكون فالي وكذلك بنك سغنيتشر، والتكلفة ستتحملها الهيئة الفيدرالية للتأمين على الودائع، وإتاحة آلية مالية بالبنك الفيدرالي بالتنسيق مع وزارة الخزانة؛ لتوفير السيولة العاجلة المطلوبة في حالة زيادة الطلب على الودائع بما لا تضطر البنوك لبيع أصولها المالية فجأة. كما تدخلت السلطات الرقابية السويسرية لتنسيق استحواذ بنك يو بي إس على بنك كريدي سويس مقابل 3.23 مليار دولار مع إتاحة مائة مليار دولار من البنك المركزي السويسري للبنك المستحوذ وفقاً لما أوردته صحيفة «فاينانشيال تايمز» لتيسير عملية الاستحواذ والوفاء بالالتزامات. واتفق البنك الفيدرالي مع البنك المركزي الأوروبي والبنوك المركزية في المملكة المتحدة واليابان وكندا وسويسرا لإتاحة خط مبادلة يومي لإتاحة السيولة الدولارية للأسواق المالية حال الحاجة إليها، على أن يعمل بذلك فوراً حتى نهاية شهر أبريل (نيسان).
هناك استفادة من بعض دروس الأزمة المالية العالمية بسرعة التدخل لحماية النظام المالي الذي يعد في مجمله أكثر متانة وملاءة مما كان عليه الوضع قبل الأزمة، لكن سيظل النظام المالي محل اختبار لقياس صلابته في التعامل مع الصدمات. وستكون هناك مراجعات لأسباب ما حدث في البنوك المذكورة هل لقصور في نظم الرقابة أم لتقصير في تطبيقها؟ وسيكون هناك نقاش حول الحد الذي يمكن الاتفاق عليه لاعتبار البنك المعني مؤثرا على سلامة النظام المالي ومخاطره، وحول فاعلية نظم التأمين على الودائع. أما بالنسبة لاتجاهات أسعار الفائدة ففي تقديري أن البنك الفيدرالي سيستمر في اتجاه الرفع المتوقع في حدود ربع نقطة مئوية لتأكيد عزمه على السيطرة على التضخم، وإرسال إشارة بأن الوضع المالي مستقر ولا يستدعي تغييراً في السياسة النقدية المرسومة. أما أثر هذا كله على الاقتصاد الحقيقي فأميل إلى أنه سيكون ذا أثر انكماشي بتراجع الطلب من خلال تقييد الائتمان مرة من خلال سعر الفائدة ومرة أخرى باتباع البنوك والرقباء عليها إجراءات أكثر تمحيصاً وحرصاً في استثماراتها، وتوجيه أصولها المالية وإدارة محافظها. أما عن تأثير ذلك كله على البلدان النامية فهو مرتبط بمدى متانة اقتصاداتها، وبمرونة سياساتها في التعامل مع الصدمات المتواترة، وفي ذلك سيناريوهات نتناولها في مقال قادم.

د. محمود محيي الدين

أزمة مصرفية عالميّة؟ لا يؤخذ بكلام المسؤولين؟

لا شكّ أنّ وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين قرأت كتاب سلفها هانك بولسون الذي كان يجلس في مكتبها حين وقعت الأزمة المالية العالمية عام 2008، أثناء ولاية جورج بوش الابن الثانية.

في كتابه “On The Brink” (على شفير الهاوية)، يروي بولسون مذكّرات تلك الليلة العصيبة حين انهار بنك “ليمان براذرز”، وأوشكت على الانهيار بعده أكبر بنوك وول ستريت وكبريات شركات صناعة السيارات. المذهل أنّ ذلك الوزير أتى إلى البيت الأبيض عام 2006 من خلفيّة مصرفية وماليّة بحتة، إذ كان قبل ذلك رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لمصرف “غولدمان ساكس”، ومع ذلك لم يتمكّن من تفادي وقوع الأزمة المالية، على الرغم من وضوح مقدّماتها ومؤشّرات توقّعها حين تُستعرض بأثر رجعي.

يقول بولسون إنّه كان يتوقّع الأزمة، وإنّه أسرّ بذلك للرئيس، لكنّه لم يكن يتوقّع أن تكون بهذه الحدّة وبهذا المدى الشامل. من صفحات ذلك الكتاب يمكن استخلاص قاعدة تصلح كلّما ظهرت مقدّمات لأزمات كبرى: لا تطمئن لما يقوله المسؤول، ليس فقط لأنّه لا يفصح عن كلّ ما يتوقّعه، بل لأنّه في الغالب لا يملك التوقّع الصائب.

قال جانيت يلين أمس إنّ السحوبات من البنوك “الإقليمية” (المتوسّطة الحجم والصغيرة) في بلادها بدأت تهدأ، وإنّ القطاع المصرفي يتّجه إلى الاستقرار بعد الإفلاسين الأخيرين لبنكَي “سيليكون فالي” و”سيغنيتشر”. ذاك هو توقّعها، إلا أنّ الأزمات المصرفية بالذات لها ديناميّتها الخاصة، فالحقائق ليست ما يملكه المسؤولون من أرقام، بل ما تصنعه وقائع السوق لحظة بلحظة.

انهيار “كريدي سويس”

هذا ما ينطبق تماماً على انهيار قصّة المصرف السويسري العريق “كريدي سويس” بعد 166 سنة من تأسيسه. فإذا كانت الحكمة السائدة تقول إنّ “البنك لا تقتله رصاصة، بل تقتله شائعة”، فإنّ النمط الجديد من الأزمات يشير إلى أنّ البنك لا تقتله صحّته المالية، بل تقتله وسائل التواصل الاجتماعي.

في مطلع تشرين الأول الماضي، كان “كريدي سويس” على الورق من أفضل البنوك الأوروبية من حيث المتانة الرأسمالية وفق المعايير الرقابية، ولو أنّه كان في حاجة إلى زيادة رأس المال لإعادة هيكلة أعماله ودعم وحدته الاستثمارية التي كانت تعاني من قلّة النشاط. من دون سابق إنذار، انتشرت شائعات على “تويتر” ومنتديات موقع Reddit في شأن سلامته المالية، وغرّد صحافي أسترالي بأنّ بنكاً كبيراً على وشك السقوط، فاتّجهت الأنظار إلى البنك السويسري ليكون المشتبه به الوحيد، وبعد ذلك انهار سهم البنك.

إثر ذلك تمكّن ثاني أكبر بنك في سويسرا من تخطّي تلك الأزمة، وكان يسير على الطريق الصحيح لإعادة الهيكلة بعدما جمع رأس مالٍ جديداً من أربعة مليارات دولار أواخر العام الماضي، أتى أكثر من ثلثها من البنك الأهلي السعودي، أكبر بنوك المملكة.

شرارة الأزمة الأخيرة القاتلة أتت من الولايات المتحدة. فبعد انهيار بنك “سيليكون فالي” وبنكين آخرين، عادت الشائعات لتضرب “كريدي سويس”، فواجه حملة سحوبات غير مسبوقة للودائع بوتيرة وصلت إلى عشرة مليارات دولار يومياً. مرّة أخرى، لعب “تويتر” دوراً قاتلاً في نشر الأجواء السلبية حول البنك.

قد يبقى الأمر مفهوماً حين يتعلّق الأمر بـ”كريدي سويس”، ففي تاريخ البنك الكثير من الأزمات على مدى العقود الثلاثة الماضية، من استحواذات فاشلة وفضائح في ذراعه الاستثمارية، وصراعات داخلية في مستويات الإدارة العليا، وسوء إدارة ائتمانية، ولو أنّ كلّ ذلك لم يكن السبب المباشر لانهياره. لكنّ أزمة البنوك الأميركية المستجدّة فيها مفارقات أكبر.

الأزمة في أميركا

ما يستوقف في انهيار بنك “سيليكون فالي” أنّ البنك لم يستثمر أموال مودعيه في أصول مسمومة أو عالية المخاطر، على النحو الذي أدّى إلى الأزمة المصرفية العالمية في 2008، والتي نُسبت إلى سوق مشتقّات الرهن العقاري، بل كانت الضربة القاضية للبنك استثماره في سندات الخزينة الأميركية، التي تعدّ عالمياً أكثر الأصول المالية أماناً على وجه الأرض وأعلاها تصنيفاً. لكنّ ما جرى أنّ القيمة السوقية لتلك السندات انخفضت نتيجة سلسلة قرارات رفع الفائدة الأميركية بسرعة غير مسبوقة في التاريخ، من الصفر إلى 4.75% خلال فترة لم تتجاوز 13 شهراً.

وفي لحظة ما اضطرّ بنك سيليكون فالي إلى توفير السيولة، فباع جزءاً من محفظة السندات لديه بخسارة قاربت مليار دولار، فاضطرّ إلى طلب زيادة رأسماله بـ 2.25 مليار دولار، لكن فشلت العملية وحدث ما حدث.

يقول كثير من المحلّلين هذه الأيام إنّ الأزمة الراهنة كان من السهل توقّعها. فحين يرفع الاحتياطي الفدرالي الفائدة لا بدّ أن ينكسر شيء ما في نهاية الأمر، وقد انكسر سوق الرهن العقاري في 2008، وها هو سوق البنوك المتوسّطة الحجم ينكسر الآن.

لكنّ الملاحظة المهمّة أنّ رئيس الاحتياطي الفدرالي كان يتحدّث أمام الكونغرس قبل أيام قليلة من أزمة بنك “سيليكون فالي”، ويمكن الجزم أنّه لم يكن يتوقّع شيئاً ممّا جرى. بل إنّه كان يقول إنّ البيانات الاقتصادية “أقوى من توقّعاتنا السابقة”، وإنّ ذلك قد يستدعي “رفع الفائدة إلى ذروة أعلى ممّا كنّا نتوقّعه في السابق”. وفهمت الأسواق من كلامه أنّ وتيرة رفع الفائدة ستشتدّ. تترقّب الأسواق الآن اختتام اجتماع الاحتياطي الفدرالي مساء اليوم الأربعاء، ويراهن كثيرون على أنّه قد يتخلّى عن رفع الفائدة هذا الشهر لاحتواء التطوّرات.

الخيارات صعبة أمام الاحتياطي الفدرالي، فمعركته مع التضخّم لا يمكن تجميدها أو إيقافها، لكنّ الانتصار فيها سيصبح عديم المعنى إذا تحطّم الاستقرار المالي.

الأزمة الآن ملك الأسواق إلى حدّ بعيد، ووقائع الأيام المقبلة وحدها كفيلة بتحديد كيفية تصرّف المودعين: هل تعود إليهم الثقة، أم تنتقل عدوى السحوبات من بنك إلى آخر؟ يمكن لجيروم باول وجانيت يلين اتّخاذ إجراءات لمنع انهيار بنك أو ضخّ السيولة، لكنّ التحكّم بما يفكّر به الناس مهمّة أصعب في هذا الزمن.

عبادة اللدن

«إقتصادات» العالم تتجه نحو الـ Stagflation

في ظل مشاكلنا المتزايدة في لبنان، وصراعنا اليومي كي نبقى على قيد الحياة، وتركيزنا المضاعف على أزماتنا المتراكمة الإقتصادية والإجتماعية والمالية والنقدية، من المهم ألاّ نغضّ النظر عن الأزمات الدولية، وبالأخص إعادة هيكلة كل اقتصادات العالم، والتغيّرات الجذرية، وأيضاً المعضلات حيال التضخم المفرط الحاصل بالتوازي مع ركود وانكماش الذي يجرّنا على الطريق الشائك نحو الـ Stagflation.

لم تكد الإقتصادات الدولية تبلسم جروحها التي سبّبتها جائحة كورونا بعد سنتين من تجميد كل عقارب النمو والتبادل التجاري الدولي، حتى فوجئت أوروبا والعالم ككل بالحرب الروسية – الأوكرانية، وأبعادها الدولية ونتائجها ليس بالأضرار البشرية والتخريبية فحسب، لكن أيضاً بالتضخم الدولي والركود الناتج عنه.

إن هذا التضخم أدّى مباشرة إلى ارتفاعٍ مخيف في سعر صرف الدولار الأميركي والضغوط على كل البلدان التي تتعامل بالعملة الخضراء. وقد أدّى إرتفاع سعر الصرف هذا، إلى التضخم في هذه البلدان مصحوباً بركود وانكماش.

من جهة أخرى، إن هذه الحرب أدت أيضاً إلى التوصل نحو آفاق دراماتيكية في كل أسعار الموارد الطبيعية، لا سيما النفطية والغازية، وأيضاً الموارد الزراعية ومشتقاتها، مما ساهم في ارتفاع التضخم أكثر في كل بلدان العالم.

هذا التضخّم المفرط الذي أصبح مستداماً ومتزايداً أدى إلى زيادة مباشرة وغير مباشرة في سائر تكاليف الإنتاج والتصدير والتخزين، والذي أدى بدوره إلى إرتفاع أسعار وثمن المبيع، وانعكس أيضاً ارتفاعاً في الكلفة المعيشية وكل تكاليف الحاجات الأساسية لا سيما الطعام والشراب لكل شعوب العالم.

من جهة أخرى، إنّ هذا التضخم أدى مباشرة إلى إرتفاع الفوائد المصرفية التي أدت إلى انخفاض الإستثمارات وانكماش وجمود أكبر دولياً. ومن بعض نتائج هذه الـ Stagflation إرتفاع 27 % من الإفلاسات في الشركات في أوروبا وحدها.
فهذا يعني أن التوترات الدولية الراهنة ستواصل دفع التضخم إلى قمم أعلى، في ظل انكماش وركود متواصل، ولبنان الذي أصبح مدولراً بامتياز ومتّكلاً أكثر فأكثر على العملة الخضراء سيواجه مشكلة إقتصادية دولية جديدة، ستضاف الى أزماتنا الإقتصادية والمالية والنقدية الكارثية.

أما الركود والإنكماش المتزامن مع هذا التضخم فسيوثران مباشرة على المغتربين اللبنانيين، وتدفقاتهم المالية، التي تقترب من 40% – 50% من الناتج المحلي الراهن.
في الخلاصة، لا شك في أن أزماتنا الداخلية تتزايد يوماً بعد يوم، لكن علينا أن يتكوّن لدينا رؤية إقتصادية، كلية وشاملة وماكرو-إقتصادية لرسم خطط واستراتيجيات لمواجهة هذه الأزمات الداخلية، الإقليمية والدولية، على المدى القصير والمتوسط والبعيد. العالم متجه نحو الـ Stagflation بينما لبنان يتابع إستراتيجيته التخريبية الداخلية، والتدمير الذاتي.

د. فؤاد زمكحل

تعافي قطاع الطيران

لو عُبّر عن جائحة «كورونا» بمجموعة من المظاهر لكان الانقطاع عن السفر من أبرزها، ولكانت المطارات المهجورة من أشد هذه المظاهر غرابة، تلك المشاهد التي لم يكن أحد يتخيلها إلا في الأفلام الخيالية كانت واقعاً مخيفاً حينها. مع خلو المطارات من المسافرين شهد قطاع الطيران أزمة عصفت به، ودفعت كثيراً من شركات الطيران إلى الإفلاس، وتغيرت بعدها خريطة قطاع الطيران بشكل ملحوظ. خسائر قطاع الطيران خلال عامي الجائحة 2020 و2021 تعدّت 40 مليار دولار، حتى مع محاولاته لتجاوز الخسائر بتسريح نسبة من موظفيه، كونه من أكثر القطاعات تسريحاً للموظفين، حيث وصلت النسبة إلى نحو 15 في المائة في بعض الشركات.
جاء بعد ذلك عام 2022 برتم مختلف، وأخبار مبشّرة، ونتائج مالية مخالفة تماماً لعامي الجائحة، حيث زادت أرباح أكبر شركات الطيران في العالم على 6 مليارات دولار، وتعدت مبيعات هذه الشركات لعام 2022 مثيلاتها لما قبل الجائحة. فحققت شركة «لوفتهانزا» أرباحاً تشغيلية بنحو 1.5 مليار دولار مقارنة بخسائر تجاوزت 1.7 مليار دولار لعام 2021، بعد أن تضاعفت أعداد المسافرين مقارنة بين العامين. كما أعلنت المجموعة الدولية لخطوط الطيران (وهي المالكة للخطوط الجوية البريطانية) عودتها للربحية لأول مرة منذ الجائحة، ووصلت أرباحها التشغيلية إلى 1.3 مليار دولار مقارنة بخسائر تجاوزت 10 مليارات دولار خلال عامي الجائحة. هذه الأرباح هي نتيجة مباشرة لعودة المسافرين، حيث وصلت حركة المسافرين إلى نحو 91 في المائة من مستويات ما قبل الجائحة، ويتوقع أن تتراوح هذه النسبة بين 95 في المائة و105 في المائة لهذا العام. وهو ما يعني أن قطاع الطيران قد تعافى بالفعل، وقد يبدأ في التوسع في هذا العام. وبالفعل بدأت بعض خطوط الطيران في الإعلان عن خطط للتوظيف خلال الأعوام القادمة، منها الخطوط الأسترالية التي أعلنت عن نيتها توظيف نحو 8000 موظف خلال العقد القادم.
تعافي قطاع الطيران له معانٍ عدة في هذا الوقت، منها أن العالم يحتاج إلى أخبار اقتصادية إيجابية، لا سيما مع التضخم الذي يواجهه، وانتعاش قطاع الطيران يعطي مؤشرات إيجابية تجاه الوضع الاقتصادي. كما أن القطاعات المرتبطة بالطيران ستشهد بكل تأكيد انتعاشاً مشابهاً، سواء منظومات المطارات بما فيها من فنادق ووسائل مواصلات ومتاجر، والقطاعات الأخرى مثل قطاع السياحة والفندقة وغير ذلك. كما أن صناعة الطائرات ستنتعش كذلك مع بداية التوسع في قطاع الطيران، أكبر دليل على هذا الانتعاش كان من الخطوط الهندية التي طلبت دفعة واحدة نحو 470 طائرة من شركتي «بوينغ» و«إيرباص». ويعد هذا الطلب الأكبر من نوعه في تاريخ الطيران على الإطلاق، حيث لم يتجاوز أكبر طلب في التاريخ المائتي طائرة. وتطمح الخطوط الهندية (برؤية من الحكومة نفسها) إلى جعل الهند أحد أكبر محاور الطيران في العالم، لتكون ثالث أكبر سوق للطيران بعد الصين والولايات المتحدة.
لكن قطاع الطيران لا يزال يواجه كثيراً من الصعوبات، منها تلبية الطلب على الطائرات على المدى المتوسط بسبب شح في سلاسل الإمدادات. أما على المدى القصير، فما زال العالم يتذكر فوضى المطارات في الصيف الماضي، حيث تعطلت حركة الركاب في كثير من مطارات العالم بسبب بطء مواكبة المطارات لرتم تعافي قطاع الطيران. وتسببت قلة التوظيف بالمطارات في إلغاء بعض الرحلات، وضياع أمتعة المسافرين، وازدحام المطارات بالمسافرين الذين اصطفوا في طوابير الانتظار لساعات طوال. وقد طالبت شركات الطيران المطارات بالاستعداد لموسم الذروة المتوقع في الصيف، وفيما وعدت المطارات – ومنها مطار هيثرو في لندن – أنها ستكون على أتم الاستعداد بحلول الصيف، أظهر تقرير لصحيفة «فاينانشيال تايمز» أن المطار حدّ من قدرة شركات الطيران على إضافة رحلات إلى جداولها في فصل الصيف بسبب محدودية الطاقة الاستيعابية.
خلال أقل من عام، انتقل قطاع الطيران من قطاع يعاني من أزمة عاصفة، إلى قطاع تبدو فرص التوسع فيه سانحة للأعوام القادمة، على الرغم من كل التحديات المحيطة به. ومثال الهند أكبر شاهد على ذلك، حيث توقعت «بوينغ» أن ينمو هذا القطاع في الهند بنسبة 7 في المائة سنويا حتى عام 2041. هذا التوسع قد يكون عن طريق زيادة حصتها السوقية، ولكنه كذلك نتيجة لنمو الاقتصاد العالمي، وبالتالي زيادة عدد المسافرين. ويوازي هذا التوسع فرصاً في الخدمات المرتبطة بقطاع الطيران، ومنها المطارات التي لا تبدو أن الطاقة الاستيعابية الحالية لكثير منها يلبي الطلب المتنامي في المستقبل.

د. عبد الله الردادي

أكبر إفلاس مصرفي أميركي منذ 2008: درس للمصارف اللبنانية

لم يستغرق الأمر أكثر من 48 ساعة: تهبط أسهم مصرف “سيليكون فالي” بنسبة 66% في البورصة. يفشل المصرف في تأمين 2.25 مليار دولار من السيولة لزيادة رساميله وتعويض خسائر سابقة متراكمة في الميزانيّة. يهرع المودعون إلى أبواب فروع المصرف في كاليفورنيا. تعلن مؤسسة ضمان الودائع إقفال المصرف ووضع اليد عليه (راجع “المدن”). خلال يومين فقط، تحوّل المصرف من مؤسسة ماليّة طبيعيّة، إلى أكبر إفلاس مصرفي أميركي منذ حصول الأزمة الماليّة العالميّة عام 2008، وإلى ثاني أكبر إفلاس مصرفي في تاريخ الولايات المتحدة الأميركي.

أمام كل تلك الأحداث المتسارعة، تُرك الأميركيون أمام سلسلة من الأسئلة البديهيّة: كيف تولد أزمة بهذا الحجم خلال يومين من الزمن؟ كيف ولدت “خسائر” هذا المصرف؟ وما علاقة ما يجري بأزمة سقف الديون الأميركيّة القائمة حاليًا، وبأزمة التضخّم وارتفاع الفوائد؟ وثمّة من راح يبحث خلف أسئلة أخطر: كيف يمكن أن تؤثّر هذه الأزمة على قيمة الدولار وموقعه في الأسواق العالميّة؟ وإذا كان العالم يترقّب الأزمة الماليّة المقبلة، وينتظر شرارتها من مكانٍ ما، هل يمكن لوادي السليكون وأبرز مصارفه أن يكونا مهد هذه الشرارة المنتظرة؟

كيف أفلست؟ تدريجيًّا.. ثم فجأة
البحث عن السؤال الأوّل، “لماذا”، قد يكون سهلًا ومتعذّرًا، في الوقت نفسه. ثمّة الكثير مما نعلمه عن أسباب الصعوبات الذي واجهت المصرف خلال الفترة الماضية، ومنها ما يتصل بمسألة ارتفاع الفوائد وأثرها على قيمة سندات الخزينة الأميركيّة. إلا أن ترتيب هذه الأحداث بشكل مفصّل، وتحديد أثر كلٍّ منها بالأرقام على الميزانيّة، سيحتاج إلى انتظار التدقيق الذي ستجريه مؤسسة ضمان الودائع.

لكن باختصار شديد، يشبه ما جرى الغالبيّة الساحقة من الانهيارات المصرفيّة الكبرى عبر التاريخ. ويمكن تلخيصه بعبارة شهيرة وردت في رواية “الشمس تشرق أيضًا” المشهورة: “كيف أفلست؟ تدريجيًا…ثم فجأة!”. بمعنى آخر، ما جرى لم يكن سوى حصيلة تراكم خسائر عبر سلسلة من الأحداث الصغيرة المتدرّجة، قبل أن ينكشف كل شيء خلال ساعات معدودة.

قيمة أصول المصرف تتجاوز 209 مليار دولار. لتبسيط المسألة للقارئ اللبناني أو العربي، توازي قيمة هذه الأصول نحو 2.2 مرّات قيمة كل ما تبقى من ودائع في القطاع المصرفي اللبناني. والجزء الأكبر والأساسي من موجودات المصرف الأميركي، تركّزت في سندات الخزينة الأميركي، أي في الدين العام الأميركي (هل يذكركم ذلك بشيء أيها اللبنانيون؟).

في الأصل، لم يكن هناك ما يدعو للقلق بالنسبة إلى توظيف بنك “سيليكون فالي” أموال المودعين في الدين العام الحكومي الأميركي، طالما أن المقترض هو حكومة الولايات المتحدة، وطالما أنّ الولايات المتحدة هي من يقبض على مفاتيح مطبعة الدولار (ولو أنّ سيناريو تخلّف الحكومة عن سداد إلتزاماتها بات احتمالًا يتردد ذكره بقوّة اليوم).

لكن مصاعب المصرف بدأت مؤخرًا مع تتالي قرارات رفع الفوائد، الصادرة عن الاحتياطي الفيدرالي الأميركي منذ العام الماضي. وقد لا يعرف ذلك كثيرون من الذين لا يتابعون أخبار أسواق المال ودهاليزها، لكن سندات الدين تصدر في العادة بقيم ثابتة يفترض أن يدفعها المقترض عند الاستحقاق، فيما تتذبذب قيمة هذه السندات الراهنة عند تداولها بيعًا وشراءً في السوق. وبمجرّد ارتفاع الفوائد، تنخفض تلقائيًا قيمة التداول السوقيّة الراهنة لهذه السندات، لزيادة الفارق بين القيمة الراهنة والقيمة التي سيتم دفعها عند الاستحقاق، وإعطاء المستثمر الربح الذي يتناسب مع الفوائد الجديدة المرتفعة.

لن يكون صعبًا على القارئ هنا تخيل سلسلة الأحداث التي جرت بعد ذلك: منذ بدء ارتفاع الفوائد الأميركيّة خلال العام الماضي، بدأت قيمة سندات الدين العام التي يملكها مصرف “السيليكون فالي” بالانخفاض، وبدأت قيمة المحفظة الاستثماريّة للمصرف بأسرها بالانخفاض. وعلى مدى الأشهر الماضية، كانت تتراكم بصمت كتلة من الخسائر، هي الفارق بين قيمة الأصول وقيمة الإلتزامات المتوجّب دفعها للمودعين (مجددًا: هل يذكركم ذلك بشيء، أيها اللبنانيون؟).

في الوقت نفسه، ومع النزاع الحاصل بين الجمهوريين والديموقراطيين حول رفع سقف اقتراض الولايات المتحدة الأميركيّة، بدأت ترتفع الأصوات المحذّرة من احتمال تخلّف الحكومة الأميركيّة عن دفع السندات عند الاستحقاق. وهذا تحديدًا ما ساهم بدوره في خفض قيمة سندات الدين العام الأميركي في الأسواق، فازدادت خسائر المصرف.

الهلع ورد فعل السلطات
ما تبقى من أحداث جرت خلال الساعات 48 الأخيرة، قبل إفلاس المصرف، كان مجرّد انكشاف لكل ما تراكم في الأشهر السابقة. تتوالى أخبار الخسائر، فيزداد ضغط سحوبات المودعين من المصرف. يحاول المصرف التعامل مع الوضع، فيقوم ببيع ما قيمته 21 مليار دولار من الاستثمارات التي يملكها، وأغلبها من سندات الدين العام الأميركيّة، للحصول على السيولة. فيتكبّد المصرف خسائر إضافيّة نتيجة اضطراره لبيع السندات بخصومات كبيرة، نظرًا لقيمتها المتدنية اليوم، ونظرًا لمعرفة الأسواق بحراجة موقف المصرف. خلال يومين فقط، دخل المصرف دوّامة الهلع والسحوبات والخسائر المتكررة (مجددًا، يبدو كل ذلك مألوفًا للبنانيين، بما فيه بيع محفظة السندات).

ما سيحصل لاحقًا، لن يكون مألوفًا لأي لبناني. لن يشبه ما جرى منذ العام 2019 هنا. بعد 48 ساعة فقط من بدء الأزمة، أي يوم الجمعة الماضي، وضعت مؤسسة ضمان الودائع الفيدراليّة يدها على المصرف، وأقفلت فروعه. كل وديعة مضمونة لغاية 250 ألف دولار، من السيولة الموجودة بحوزة المؤسسة، وبإمكان المودع سحب المبلغ ابتداءً من يوم الإثنين (أي غدًا، في أوّل يوم عمل بعد إقفال المصرف، بلا أي مبالغة!).

وابتداءً من هذه اللحظة، وضعت المؤسسة جميع الخيارات على الطاولة: بيع الأصول والتصفية، أو بيع المصرف بأسره، أو دمجه أو إعادة رسملته..إلخ. الخيارات المطروحة اليوم، يفترض أن تستند إلى التدقيق الذي سيجري في قيمة الأصول المتبقية، وتوزيع الخسائر يفترض أن يستند إلى أسباب الخسائر وتسلسل الأحداث، بما فيها قيمة الحوافز والمكافآت التي حصلت عليها إدارة المصرف، المسؤولة عن الإفلاس.

لم يتحدّث أحد عن قدسيّة الودائع، ولا عن “الثقة” بالنظام المصرفي الأميركي. لم يطرح أحد شعارات عن القطاع الذي “صنع مجد الاقتصاد” الأميركي. لم يطرح “اليمين” صندوقاً سيادياً، يحمّل الدولة مسؤوليّة إعادة رسملة المصرف، بحجّة أن سبب الخسائر سندات الدين العام وارتفاع الفوائد.

في الواقع، كان ميت رومني، المرشّح الجمهوري السابق لرئاسة الجمهوريّة، يقولها بصريح العبارة: المساهمون والمدراء سيخسرون كل شيء، كما يفترض أن يكون الحال. هذه مسألة بديهيّة. أما المودعون من أصحاب النيّة الحسنة (ضعوا خطّين تحت عبارة “النيّة الحسنة”)، فيجب أن يحصلوا مما تبقى وسريعًا على الأموال الضروريّة والكافية لتأمين الرواتب والدفع للمورّدين. وبطبيعة الحال، لم يتهم أحد رومني بكونه يساريًّا متطرّفًا أو سوفياتيًّا، كما اتهمت أوساط جمعيّة المصارف اللبنانيّة كل من عارض طروحاتها في لبنان.

المسألة واضحة إذًا، معايير التعامل مع المصارف المفلسة ستُحترم في قضيّة مصرف “سيليكون فالي”. ويرّجح كثيرون اليوم أن تكون خسائر مودعي المصرف محدودة جدًا، أو قد تكون هامشيّة، طالما أن السلطات التفتت للخسائر وفرملت عمل المصرف سريعًا، في وقت مبكر. فقبل إقفال المصرف بساعات، كان حجم السيولة المطلوبة لإنقاذ المصرف لا يتجاوز 2.5 مليار دولار، مقابل أصول تناهز قيمتها 207 مليار دولار. أمّا أهم ما في الأمر، فهو أن السلطات لم تترك –بتحرّكها السريع- هامشًا لأي نوع من العمليّات الاحتياليّة، التي تجري في العادة خلال الانهيار المصرفيّ، تمامًا كما حدث في لبنان.

علي نور الدين

اقتصاد الابتكار والمسائل الأخلاقية

منذ وصف جيمس واتسون وفرانسيس كريك البنية اللولبية المزدوجة للحمض النووي لأول مرة، ناقش العلماء إمكانية تكوين أطفال معدلين وراثياً. ففي عام 2018، أعلن عالم صيني، يدعى هي جيانكوي، أنه نفّذ ذلك بالفعل، إذ استخدم أداة للتعديل الجيني تُسمى «كريسبر» لتعديل أجنة الفتيات التوائم، على أمل جعلها مقاومة لفيروس نقص المناعة البشرية.
كانت قوانين الصين الحاكمة للطب الإنجابي وتعديل الجينات مُحددة بصورة غير جيدة في ذلك الوقت. لكن الغضب بين العلماء والجمهور أدى إلى الحكم على الدكتور جيانكوي بالسجن 3 سنوات بتهمة «الممارسة الطبية غير القانونية»، بموجب قانون واسع النطاق، ونُدّد به بصفته ساعياً إلى «الشهرة الشخصية والربح».
شددت الصين، منذ ذلك الحين، من قوانينها الحاكمة لتعديل الجينات وطب الخصوبة. كان الدكتور جيانكوي قد تحرك في أبحاثه بسرعة كبيرة، وفشل في إثبات حمايته الفعلية للتوائم من فيروس نقص المناعة البشرية. لذلك ينبغي على الحكومات والمجتمع العلمي تطوير أطر قانونية واضحة لمنع العلماء المارقين من تتبع خُطاه.
ألفتُ كتاباً عن تجربة الدكتور جيانكوي، وكنت أحادثه بانتظام منذ إطلاق سراحه من سجنه في مارس (آذار) 2022. قال لي: «التأمل في هذه الانتقادات ألهمني رؤى جديدة». ومع ذلك، شرع الدكتور جيانكوي مؤخراً في مشروعات جديدة ضمن مجال التقنية الحيوية تعكس إشارات على تكرار زلاته الأخلاقية الماضية. يمنح هذا الجدل الفرصة لمناقشة أكثر قوة بشأن مستقبل تقنيات تعديل الجينات في عيادات الخصوبة.
وتوضح قصة الدكتور جيانكوي مشكلة غير محلولة في اقتصاد الابتكار. وتتصادم قيم السوق (المُحبذة للسرعة، والأرباح، والطفرات) مع قيم أساسية أعمق تتعلق بصحة الإنسان، والإنصاف، والتنوع.
تلقى الدكتور جيانكوي تدريباً لمدة عام في جامعة ستانفورد، في قلب وادي السيليكون، حيث «يتحرك التقنيون بسرعة عالية ويعصفون بالأشياء». ثم عاد إلى الصين بفضل الحوافز الحكومية في عام 2012. وأنشأ هناك مختبراً في مدينة شينزين، المدينة المعروفة صينياً بالسرعة والإبداع. بعد تأسيس شركة ناشئة، بقيمة 312 مليون دولار، أنفق بعض أسهم الشركة لتمويل مشروعه «كريسبر».
كان مسؤولو الحزب الشيوعي الحاكم قد دعموا في البداية أبحاث «كريسبر» للدكتور جيانكوي، في سياق الحلم الصيني للرئيس شي جينبينغ، وهي سياسة داعمة «للتقنيات المتطورة» لجعل «الصين بلد المبتكرين». وهكذا، قال الدكتور جيانكوي إنه ظن أنه سوف يُصبح بطلاً وطنياً، ثم تفاجأ عندما صار منبوذاً.
دفع أكاديميو أخلاقيات علم الأحياء بأنه لا ينبغي السماح للدكتور جيانكوي بنشر أبحاثه، لانتهاكه المبادئ والمعايير الأساسية للعلم. أنا لا أوافق على ذلك، فلا يزال هناك كثير مما يمكن أن نتعلمه من زلاته الأخلاقية الخاطئة، فضلاً عن بياناته العلمية.
وينبغي إخضاع مزاعمه بشأن المقاومة الهندسية لفيروس نقص المناعة البشرية للتفحص النقدي الذي يقترن مع المراجعة العلمية للنظراء. ويجب نشر بياناته الأصلية حتى يتمكن المجتمع العلمي من التعرف على إمكانات ومشكلات «كريسبر» في الطب الإنجابي.
إذا ما نجح أسلوبه، فلا بد من معالجة التساؤلات الأخلاقية واسعة النطاق، وليس دسّها أسفل البساط، إذا كان بوسعنا تعديل الحمض النووي للأجنة البشرية بصورة فعالة، فهل ينبغي لنا ذلك حقاً؟
استخدام «كريسبر» على الأجنة البشرية يمكن أن يُغيّر التركيب الجيني للأجيال القادمة بطرق متنوعة. ربما نستهدف بعض أشكال الصمم والعمى بأدوات تعديل الجينات قبل ولادة الأطفال. وربما يستخدم الأطباء تقنيات تعديل الجينات في الأجنة لإصلاح الأمراض الخلقية، مثل «فقر الدم المنجلي» و«التليف الكيسي».
كما أن تعديل الجينات يُغذي المناقشات بشأن مبحث تحسين النسل (أو علم الوراثة البشرية). وكما ذكرت مجلة «بيزنس إنسايدر»، فإن أصحاب رؤوس الأموال المتجاسرين وأهل الرؤى التقنية الذين يطلقون على أنفسهم مسمى «المؤيدين للإنجاب»، يريدون إنقاذ الحضارة عبر إنجاب أطفال متفوقين وراثياً. ويبدو أن بعض أصحاب الرؤى المثالية يعتقدون أنهم يمتلكون بالفعل جينات جيدة، في حين يسعى آخرون إلى التحسينات الوراثية. ويعمل رواد الأعمال في وادي السيليكون على استقطاب علماء «كريسبر» ضمن مساعيهم لتصميم جينات الأطفال المثاليين.
نظراً لإمكانية إساءة استخدام هذه التقنية، فإن فوائد استخدام «كريسبر» في طب الخصوبة قد لا تفوق المخاطر. وبصفة جماعية، يمكننا اتخاذ القرار بنقل هذه التقنية إلى المحفوظات، لأن تعديل «كريسبر» للجينات لصالح الاستخدامات الإنجابية يمكن أن يسير في سبيل الاستنساخ البشري، ومن ثم حظره، أو قد يُقرر أساتذة العلم وزعماء المجتمع المدني أن بعض استخدامات تعديل الجينات مسموح به في الأجنة البشرية، إذا كان «كريسبر» قادراً على طرح حلول للمشكلات الطبية المنتشرة، على سبيل المثال. لكن هناك حاجة إلى مبادئ توجيهية أخلاقية وقواعد قانونية جديدة لتنظيم هذه التقنية في عيادات الخصوبة.
لتنفيذ ذلك بصورة جيدة، نحتاج إلى فهم المخاطر التقنية، فضلاً عن المخاطر الاجتماعية.
لقد ضلّل الدكتور جيانكوي الجماهير عندما أصدر إعلانه عام 2018 على موقع يوتيوب قائلاً: «جاءت فتاتان صينيتان صغيرتان جميلتان، اسمهما لولو ونانا، إلى هذا العالم بصحة جيدة مثل أي طفل آخر، قبل بضعة أسابيع».
في الواقع، أمضى التوأمان الأسابيع الأولى في وحدة العناية المركزة لحديثي الولادة في المستشفى. فقد ولدت لولو ونانا قبل الأوان، بعملية قيصرية طارئة في الأسبوع 31، وكانتا تُعانيان في البداية من صعوبة في التنفس.
يمكن أن تكون المشكلات الصحية التي واجهتها لولو ونانا عند الولادة ناتجة عن المخاطر المعروفة للحمل بالتوائم وعلاجات الإخصاب التقليدية في المختبر، أو قد تكون نتيجة لمخاطر غير معروفة مرتبطة بتعديل الجينات بتقنية «كريسبر». واليوم، يُقال إنهما تتمتعان بصحة جيدة، لكن مستقبلهما غير معروف.
يقول الدكتور جيانكوي إنه يجب استخدام «كريسبر» لأسباب طبية فقط، برغم أنه يمكن القول إن تجربته الخاصة أسفرت عن طمس الحدود ما بين الطب الإكلينيكي والتحسين البشري. جاء في ورقة بحثية بشأن أخلاقيات تعديل الجينات، شارك الدكتور جيانكوي في تأليفها (وسُحبت الدراسة لاحقاً): «ليس لأحد الحق في تحديد الخصائص الوراثية للطفل إلا بغرض الوقاية من المرض». لكن الدراسة تابعت: «كل شخص يستحق التحرر من المرض الوراثي».
كما يمكن للمبادئ المجردة بشأن الوقاية من الأمراض في المستقبل أن تسفر عن حدوث مشكلات غير مقصودة. ويشعر كثير من الصُمّ والمكفوفين بالقلق من أن أشخاصاً مثلهم سيجري تعديلهم (استبعادهم) من الوجود، بدلاً من أن يتعلم المجتمع كيفية استيعابهم بصورة أفضل. في الوقت نفسه، تحتشد بعض جماعات الدفاع عن المرضى مؤيدةً لعلاجات «كريسبر».
كما أن الحصول على هذه التقنية في المستقبل هو مصدر قلق أيضاً. إن تعديل الجينات في الأجنة قد يكون باهظ التكاليف بالنسبة لأغلب الأزواج. وتتراوح دورة واحدة من الإخصاب المختبري في الولايات المتحدة من 15 ألفاً إلى 30 ألف دولار، اعتماداً على احتياجات المريض، في حين أن تكاليف العلاجات الجينية المعتمدة للبالغين باهظة بالفعل.
القوانين ذات الصلة بتعديل الجينات في الولايات المتحدة غامضة حالياً، على الأقل مقارنة باللوائح الصارمة التي أقرتها الصين. وقد حظر الكونغرس الأميركي التمويل الفيدرالي لأي تجربة إكلينيكية تتعلق بتعديل جينات الأجنة البشرية، غير أن هذا الحظر يخضع لإعادة التفويض بصفة دورية.

إيبن كيركسي

8 مهارات مطلوبة للعاملين المستقلين .. أجر بعضها يتجاوز 100 $ في الساعة

لا يزال العمل المستقل وسيلة شائعة لكسب المال في الولايات المتحدة سواء بدوام كامل أو جزئي، وفي استطلاع رأي حديث أجرته منصة Fiverr، أفاد 73% من الأميركيين أنهم إما سيشرعون في العمل بشكل مستقل أو سيواصلون العمل المستقل بشكل دائم.

وهناك العديد من المهارات المطلوبة للعاملين المستقلين بما في ذلك المهارات في مجال التكنولوجيا والتسويق.

وفيما يلي ثمانية من أهم المهارات المطلوبة والأجر الذي يتقاضاه العاملون المستقلون بها:

 

مصمم الغرافيك

يعمل مصممو الغرافيك بناء على طلبات العملاء وفي تصميم المواقع الإلكترونية ومنشورات الوسائط الاجتماعية وغير ذلك، وهناك “الكثير من الفرص للمصممين لاستعراض مهاراتهم.

يتقاضى مصممو الغرافيك في Upwork ما يصل إلى 125 دولاراً في الساعة.

 

تحرير الفيديو

يأخذ محررو الفيديو لقطات أصلية، ويجرون عليها التعديلات لإنشاء مقاطع تنشر على الإنترنت والتلفزيون، ويقول مسؤولون في Upwork: “يتم استخدام مهارات تحرير الفيديو أكثر فأكثر خاصة من قبل الشركات للتسويق وشرح مهامها وأنشطتها.

يتقاضى العامل المستقل في تحرير الفيديو ما يصل إلى 100 دولار في الساعة.

 

الصور والرسوم التوضيحية

يلعب مصممو الصور والرسوم التوضيحية دوراً هاماً في الأنشطة التجارية المختلفة بما في ذلك الترويج للكتب والمواقع الإلكترونية والإعلانات.

يمكن أن تكون أدواتهم رقمية باستخدام برامج التصميم الغرافيكي، أو مادية مثل لوحات القماش والطلاء أو الأقلام الملونة.

يتقاضون ما يصل إلى 75 دولارًا لكل ساعة على Upwork.

 

الرسوم المتحركة ثلاثية الأبعاد

ينشئ هؤلاء أعمالاً ثلاثية الأبعاد لأغراض العرض التلفزيوني أو الأفلام أو الفيديو مستخدمين تقنية الرسوم المتحركة لجعلها تنبض بالحياة.

العمال المستقلون في الرسوم المتحركة ثلاثية الأبعاد على Upwork يتقاضون ما يصل إلى 110 دولارات في الساعة.

 

تصميم العروض التقديمية

يعمل هؤلاء المصممون على برامج مثل PowerPoint و Google Slides و Keynote لإنشاء عروض تقديمية مثل منصات العروض التقديمية وعروض المبيعات والعروض الترويجية للشركات.

يتقاضى المميز بهذه المهارة ما يصل إلى 125 دولارًا في الساعة.

 

تعديل الصور

يعمل مصممو الصور على تحسين جودة الصور باستخدام برامج مثل Adobe Photoshop وPhotoDirector 365.

يتقاضون ما يصل إلى 180 دولاراً في الساعة الواحدة على Upwork.

 

القصص المصورة والرسوم المتحركة

يصمم هؤلاء رسوماً كارتونية أو قصصاً هزلية بشكل يدوي أو باستخدام الأدوات الرقمية على برامج مثل Adobe Animate و Animaker.

قد ترغب بعض الشركات في دمج الرسوم المتحركة في موادها التسويقية والإعلانية، أو في ملفاتها التعريفية عبر الإنترنت.

يتقاضى هؤلاء على Upwork ما يصل إلى 70 دولاراً في الساعة.

 

تصميم المنتجات

يتصور المحترفون في هذا اللون الفني المنتجات في مخيلاتهم ويصممونها للاستخدام والإنتاج. إنهم يصممون منتجات رقمية مثل التطبيقات والبرامج والأشياء المادية مثل الأثاث والإلكترونيات.

يتقاضون ما يصل إلى 175 دولارًا في الساعة على Upwork.

مرحلة تحول الطاقة تواجه طريقاً وعراً

تزداد التساؤلات حول إمكانية تنفيذ مرحلة تحول الطاقة بنجاح للوصول إلى تصفير الانبعاثات بحلول عام 2050. وقد تصاعدت الشكوك مع النهج الذي اتبعته الدول الصناعية بتبنّي خريطة الطريق لعام 2050، دون مشاركة فعالة لشركائها من دول العالم الثالث، بالأخذ في الاعتبار مصالح وأولويات الدول النامية الكبرى، والدول المنتِجة النفطية، والدول ذات الاقتصادات الضعيفة في القارات الثلاث (آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية).
من نافلة القول إن سياسات مكافحة التغير المناخي يجب أن تضم شركاء من جميع دول العالم؛ لأن القرار كونيّ يشمل جميع أرجاء الكرة الأرضية. وهذا أمر صعب، لكنه ضروري في الوقت نفسه. ورغم هذا التشاؤم الذي بدأت تتوسع رقعته في تحقيق قرارات مؤتمر باريس لمكافحة تغير المناخ 2015، هناك أيضاً تفاؤل في الوقت نفسه للإجماع العالمي على ضرورة مكافحة تغير المناخ بحلول عام 2050، قبل فوات الأوان، لكي يستطيع البشر التعامل مع هذه الظاهرة في الوقت المناسب لمعالجة آثار تغير المناخ السلبية من ذوبان جبال الجليد العملاقة في القطبين الشمالي والجنوبي، ووضع حدّ لحرائق الغابات وكهربة المركبات وتحسين طرق المواصلات لتحييد الانبعاثات الكربونية.
لقد تراكمت العقبات أمام إمكانية تحقيق هذه الإنجازات جمعاء بحلول منتصف القرن؛ نظراً للفترة القصيرة المحدَّدة للتغيير. عكفت خريطة الطريق التي رسمتها «وكالة الطاقة الدولية»، خلال صيف 2021، على الدور الذي يجب أن تلعبه الدول الصناعية من تشريع للقوانين والأنظمة لتخفيض الانبعاثات، خلال أقل من نصف قرن، بينما تحولات الطاقة السابقة تطلبت فترات أطول بكثير امتدت في بعض الأحيان إلى قرن من الزمن.
وهمش، في الوقت نفسه، دور دول العالم الثالث، ذات الأغلبية السكانية العالمية. فعلى سبيل المثال، كانت الدول الصناعية، خلال مؤتمرات «كوب» السابقة قد وعدت بتوفير القروض والمساعدات لبعض دول العالم الثالث، لكن لم يجرِ الإيفاء بدفع هذه القروض والمساعدات، مما يعني عدم قدرة عدد من دول العالم الثالث على المضيّ قدماً في مكافحة تغير المناخ بطريقة جِدّية وواسعة. وقد تكررت القرارات في مؤتمرات «كوب» المتوالية لحثّ الدول الصناعية على تنفيذ تعهداتها المالية، لكن دون جدوى تُذكَر.
المشكلة أيضاً أنه مطلوب من بعض دول العالم الثالث إنفاق الملايين، بل المليارات من الدولارات على مشروعات الطاقات المستدامة وترشيد الاستهلاك، حتى قبل أن تتوفر الكهرباء لأعداد كبيرة من السكان في هذه الدول.
كما أن خريطة طريق «الوكالة الدولية للطاقة» غضّت النظر عن مصالح وأولويات دول مجموعة «أوبك بلس»، هذه الدول التي لديها مصلحة كبرى قد تتضرر نتيجة تحول الطاقة. ورغم ذلك بادرت بعض هذه الدول المنتِجة للنفط والغاز، مثل روسيا ومعظم دول مجلس التعاون الخليجي ومصر، بتبنّي مشروعات باهظة الثمن تُقدَّر بمليارات الدولارات لالتقاط وتخزين الكربون من البترول لتحييد الانبعاثات، لكن رغم هذا تستمر المعارضة لأي استعمال مستقبلي للنفط والغاز، إذ إن حركات الخضر في الدول الصناعية تمانع في طرح إمكانية استعمال الوقود الهيدروكربوني مستقبلاً، ولو كان محايداً للانبعاثات. وقد استطاعت حركات الخضر «أدلجة» موضوع الوقود الهيدروكربوني، حتى بعد «تخضيره». ولا نجد حتى الآن محاولات من قِبل الدول الصناعية لمناقشة الأمر مع حركات الخضر، رغم سياسات الدول هذه في تبنّي سياسات ومشروعات لعقود مقبلة في اكتشاف حقول بترولية جديدة، ناهيك عن الاعتماد الواسع على الغاز الطبيعي في توليد الكهرباء. وكلما طال تأجيل مناقشة الاستعمال المستقبلي للوقود الهيدروكربوني المحايد في الدول الصناعية نفسها (في المجالس البرلمانية ووسائل الإعلام)، ستتعقد أكثر الصعوبات للتوصل إلى تصفير الانبعاثات بحلول منتصف القرن.
في الوقت نفسه يزداد عدد سكان العالم بسرعة إلى 10 مليارات نسمة، ويرتفع مستوى المعيشة في الدول السكانية الكبرى، خصوصاً الصين والهند، مما يعني أن العالم سيحتاج في المستقبل المنظور إلى أكبر عدد من أنواع الطاقة المحايدة لانبعاثات الكربون، ومن ثم يتوجب ضم جميع الطاقات التي تستوفي الشروط الحيادية للانبعاثات في سلة الطاقة المستقبلية نظراً للحاجة الماسّة لهم جميعاً لازدياد الطلب على الطاقة، وهذا يعني خصوصاً النفط والغاز المحايدين للانبعاثات.
ومما زاد الطين بلة منذ العام الماضي نشوب حرب أوكرانيا. لقد أدى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى وهن نظام العولمة الذي برز بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، والذي فتح المجال للتبادلين التجاري والعلمي الواسعين بين أقطار العالم، ولا سيما الدول الكبرى نفسها. فالحاصل الآن، انسحاب وتصفية أعمال شركات الدول الكبرى من غريماتها من الدول الكبرى الأخرى. كما بدأت التشريعات والقوانين تزداد بمنع تبادل صادرات وواردات السلع الإلكترونية التي تشكل عصب الصناعات الحديثة.
ومما يزيد من مطبّات الطريق لمرحلة تحول الطاقة إقبال النظام العالمي الجديد «المتعدد الأقطاب» بفتح ملفات قديمة/ جديدة، منها تكثيف النزاعات مع الصين، والاحتجاجات لسياسات مجموعة «أوبك بلس».

وليد خدوري

الدولار والعملات الوطنية

بسبب النظام الإيراني الحالي وتطلعاته النووية، والعقوبات الدولية، وميليشياته الإرهابية، وقمعه للشعب الإيراني المحب مثل كل الشعوب للحرية والمعرفة والإنسانية والحياة المرفهة، فإن الريال الإيراني هو العملة الأقل قيمة في العالم. وبسبب العقوبات المفروضة على نظام الملالي و«الحرس الثوري» و«فيلق القدس»، وقمع المظاهرات والاحتجاجات والنساء السافرات، وتدخله في الأنظمة المجاورة من العراق إلى سوريا ولبنان واليمن ومياه الخليج العربي وسفن العالم التجارية، فإن إيران أصبحت دولة منبوذة وفاشلة وشبه محاصرة، وتم حرمانها من وصول نفطها إلى السوق العالمية، نتيجة العقوبات الأميركية والأوروبية الصارمة. وللعلم فإن الريال الإيراني انحدرت قيمته حالياً إلى 0.00002363 دولار أميركي، وهو رقم صعب القراءة!
الدولار الأميركي هو العملة الأكثر تداولاً واستخداماً في العالم، فهو يُستخدم بنسبة أكثر من 70 في المائة من الأوراق النقدية المستخدمة خارج الولايات المتحدة. كما أن هذا الدولار عملة احتياطية لعديد من الدول، ويعتبر فيها «عملة وطنية» غير قانونية في الأزمات الاقتصادية والمالية، مثلما حدث في لبنان والعراق وليبيا وأفغانستان.
أما الفرنك السويسري فهو العملة الأكثر استقراراً في العالم؛ لأن سويسرا لديها أدنى مستوى من الديون، وسياسة نقدية سليمة، ما يجعل اقتصادها قوياً للغاية. ولذلك يُطلق على الفرنك السويسري «عُملة الملاذ الآمن» نتيجة للجوء أصحاب الثروات الطائلة إليه، وحتى اللصوص الكبار وأصحاب الأموال السوداء المسروقة من الخزائن الحكومية الدولية في فترات الفوضى والانقلابات والثورات.
ومع كل تلك الدول تقف «جزر كايمان» في الساحل الغربي للبحر الكاريبي، وهي تابعة لبريطانيا وعاصمتها «جورج تاون» وعدد نفوسها يتراوح بين ثمانية وخمسين ألفاً وثمانية وستين ألف نسمة. وهي إقليم متخصص في غسل الأموال، ما جعلها تتصدر قائمة مخابئ الأموال المنهوبة، وهي تبذل أقصى ما في وسعها لمساعدة أغنى أغنياء العالم على إخفاء وغسل الأموال، دون ملاحقة قانونية جدية أو ضوابط رقابية. وقد أدرج وزراء مالية الاتحاد الأوروبي هذه الجزر في القائمة السوداء لملاذات التهرب الضريبي، إلى جانب جزر سيشيل وجزر بالاو. وتتعامل هذه الجزر مع أكثر من 100 ألف شركة دولية تعتبر من مراكز الأموال السرية الفاسدة؛ لكن حكومة جزر كايمان نفت هذه التهمة، وزعمت أنها «لا تعمل في السر»؛ بل تتعاون مع السلطات في جميع أنحاء العالم!
نعود إلى الدولار الذي تحول إلى مشكلة عويصة في دول مثل العراق ولبنان وإيران وأفغانستان، وروسيا بجلالة قدرها. فالدول تلجأ إلى قرار تخفيض قيمة عملاتها الوطنية لإعادة التوازن في ظروف عجز كبير، أو لتخفيف هذا العجز. ويؤدي تخفيض قيمة العملة الوطنية، كما حدث مؤخراً في العراق مثلاً، إلى جعل أسعار السلع المستوردة أعلى بالنسبة إلى السكان المقيمين، وقد يحدّ من شراء السلع المستوردة من الخارج، ويدفع إلى الإقبال على شراء منتجات وطنية رديئة الصنع، وليس لها منافس، بأسعار مقبولة بعد خفض قيمة العملة الوطنية، وانكماش رواتب المتقاعدين. إلا أن مثل هذا القرار يجب -وليس يجوز- أن يتم علاجه في أقرب انفراجة مالية؛ سواء بالاستيراد من الخارج أو تحسين الصناعة الوطنية للتنافس على السلعة، وليس إرغام المستهلكين على شراء «الهيكل العظمي» للدجاجة المحلية –مثلاً– وكتابة معلومات كاذبة عن وزنها! أو فتح مزاد علني يومي في البنك المركزي العراقي، لبيع الدولار مقابل الدينار العراقي عديم القيمة، ثم إرسال صناديق الدولارات المبيعة إلى إيران، بحجة أنها لتسديد كلفة بضائع مستوردة من طهران إلى بغداد، أو قيمة استهلاك كهرباء وهمي مستورد من إيران. يجب أن تنتهي هذه اللعبة «الإطارية» المكشوفة، فقد آن الأوان أن يتصرف المسؤولون بكامل المسؤولية عن وطن له حدود وعلم وعملة وطنية ونشيد وطني، وإيقاف أطول مسرحية فوضوية دموية فاسدة ومملة، استغرق عرضها عشرين عاماً.
لقد تعهد رئيس الوزراء العراقي الحالي بحل المشكلة، وإنعاش العملة الوطنية. الشعب العراقي في الانتظار، بعد أن تدخلت الولايات المتحدة للدفاع عن دولارها المنهوب من قبل دولة إيران والموالين لها في العراق.
قبل 5 أشهر ذكرت صحيفة «فايننشيال تايمز» أن قوة العملة الأميركية أمر مهم؛ إذ يميل الدولار إلى فرض ضغوط انكماشية على الاقتصاد العالمي. ويلعب رأس المال الأميركي والدولار دوراً كبيراً في أن تبقى الأسواق المالية الأميركية مفتوحة، وعندما تُغير التدفقات المالية اتجاهها من أو إلى الولايات المتحدة يتأثر الجميع.
لماذا ترتفع قيمة الدولار أمام بقية العملات الرئيسية الأخرى؟ يرى محللون اقتصاديون أن قرار الاحتياطي الفيدرالي المركزي الأميركي رفع سعر الفائدة بشكل مستمر وأسرع من بقية الدول الكبرى لكبح التضخم، يؤدي إلى تعزيز العملة الأميركية، وزيادة إيرادات الودائع وصناديق المعاشات التقاعدية، ما يفيد الأميركيين عند شراء السندات الأجنبية بأسعار مناسبة وتنافسية.
وإذا راجعنا الدول الأوروبية والآسيوية الأخرى، مثل بريطانيا وفرنسا والدول الإسكندنافية، أو اليابان والصين والهند، فهي غير راضية عن عملاتها، ولا ترفع أسعار الفائدة. أما الولايات المتحدة فهي راضية عن سياستها المالية، حتى لو كانت غير متحمسة لتحركاتها السياسية والعسكرية؛ لأنها قد تؤدي إلى ركود اقتصادي عالمي من دون مبرر.
الدخول في كل التفاصيل اليومية لا يجدي؛ لأنها قد تتغير مع صياح الديك؛ لكن أصحاب الثروات يهتمون بها لأنها قد تؤدي إلى سكتات قلبية. وأخيراً أنا أسمع شكاوى من العراقيين الذين تأذوا اقتصادياً من رفع أسعار شراء الدولار الأميركي في البنك المركزي العراقي، وليس الأميركي، ويتساءلون: هل أصبح الدولار الأميركي عملة «وطنية» عالمية في العراق وغيره من الدول؟
وأخيراً يحتاط كثير من الدول بالذهب على حساب الدولار؛ لكن ذلك قد لا يعني أن هيمنة الدولار على نظام النقد الدولي باتت مسألة وقت، كما يقول قراصنة الجمجمة والعظمتين.

داود الفرحان

هل يمكن لأميركا الازدهار من دون حرب؟

من دون صياغة رؤية جديدة للدور الأميركي في العالم، يربط الكثيرون داخل واشنطن بين التحديات الجيوسياسية القائمة اليوم بتلك التي كانت قائمة أمس.
وفي هذا الإطار، يجري تصوير الصين باعتبارها الاتحاد السوفياتي الجديد، وتنذر الخطوات العسكرية عالية التقنية التي تتخذها الصين بوصول الولايات المتحدة للحظة تدرك حينها فجأة أنه أصبح يتعين عليها اللحاق بركب بكين التي سبقتها. وعليه، جرى إحياء «لجنة الأخطار الحالية»، التي سبق وأن حشدت الدعم العام للإنفاق العسكري أثناء «الحرب الباردة»، مع تركز أنظارها هذه المرة على الصين.
ودعماً لأوكرانيا، تراجع المخزون الأميركي من الصواريخ، ما أثار دعوات للولايات المتحدة كي تصبح من جديد «ترسانة الديمقراطية»، وذلك «لتعزيز الدفاع عن النظام الليبرالي الحر والمفتوح».
ويجري النظر إلى فلاديمير بوتين باعتباره جاسوساً سابقاً لدى جهاز الاستخبارات السوفياتية (كيه جي بي)، وزعيماً سوفياتياً لا يعرف الرحمة.
ويمكن أن تكون مسألة إثارة الصراعات الكبرى لأميركا في مواجهة الفاشستية والشيوعية، مفيدة من الناحية الخطابية. وتستحضر هذه المسألة حقبة يجري تذكرها لديناميتها الاقتصادية، ووحدة الصفوف وراء هدف واحد وروح الوطنية التي سادتها.
ومع ذلك، فإن التصورات المبسطة للماضي تميل لإضفاء طابع رومانسي على تداعيات الحرب على المجتمع الأميركي. ولا تخلو هذه الذكريات الشائكة من خطورة، فقد تحولت الحرب إلى الحل لمشكلات أميركا الاقتصادية والسياسية، بدلاً عن الانتباه إلى حقيقة الحرب: أنها عامل محوري وراء خلق هذه المشكلات.
الحقيقة أن الميول الصقورية للقادة الأميركيين تتسبب فقط في تفاقم الأزمات والمخاطر على نحو يزيد من إدمان واشنطن للحرب. ولا يزال التصعيد مستمراً في التوترات مع الصين حول تايوان وبالونات التجسس، بينما تدخل الحرب في أوكرانيا عامها الثاني، مع غياب نهاية في الأفق.
ومع ذلك، فإنه نظراً لإدراكه لحدود القوة العسكرية الأميركية، تحرك الرئيس بايدن بحذر باتجاه دعم أوكرانيا، وحرص على تقدير توجهه إزاء الصين بحذر مقارنة بسلفه. كما أنه عمل على تقليص خسائر أميركا من خلال إنهاء الحملة المشؤومة لبناء الدولة في أفغانستان، إلا أن هذا لم يفلح في إسكات الجوقة داخل المؤسسة المعنية بالسياسة الخارجية التي تدعو لـ«حرب باردة» جديدة مع الصين، ومزيد من التصعيد لما تحول إلى حرب بالوكالة أمام روسيا، والعودة إلى سياسة ممارسة أقصى قدر من الضغوط على إيران.
وثمة فرضية تقليدية تقف خلف العقلية التي تدعو لتحمل عبء الاضطلاع بفرض نظام عالمي يقوم على مجموعة محددة من القواعد، وهي: الحرب، رغم مأساويتها، تحفز النشاط الاقتصادي والحماس الوطني. في الواقع، يعتبر مثل هذا الافتراض عتيق الطراز، على أفضل تقدير. اليوم، لم يعد الاقتصاد يتلقى تحفيزاً من جانب صناعات الحرب على النحو الذي عهدناه من قبل. عندما يجري خوض الحروب من جانب فيالق صغيرة من المتطوعين، ويجري تمويلها من خلال الاقتراض من مؤسسات مالية وحكومات أجنبية، أكثر عن الضرائب وسندات الحرب، لا تتكون روح عامة ملتفة حول قضية مشتركة.
في الواقع، أسهمت المغامرات العسكرية الرديئة التي تورطت فيها واشنطن الفترة الأخيرة في تراكم مستمر لديون تجاوزت 30 تريليون دولار، والتي يجري استغلالها كسلاح اليوم من قبل أعضاء الحزبين الديمقراطي والجمهوري داخل الكونغرس، سعياً وراء تحقيق مكاسب سياسية.
وبعد غزو روسيا لأوكرانيا، أصر إليوت أبرامز، الذي قاد السياسة تجاه الشرق الأوسط في ظل إدارة بوش والسياسة تجاه إيران وفنزويلا في عهد إدارة ترمب، على أن الولايات المتحدة ينبغي لها استغلال «فرص الحرب الباردة» السانحة؛ لتعزيز بناء إجماع بين الحزبين الرئيسيين بالبلاد.
ويبدو الحديث عن بناء هذا الإجماع مغرياً، لكن الحديث عن الإجماع حول الحرب ليس ما تحتاجه الولايات المتحدة أو ما سيساعدها على الازدهار، الواقع أن الانشقاق أكثر قيمة عندما تصل المخاطر مستوى الأزمة الجيوسياسية. وحدة الصف لا تعني الإجماع والتطابق، والمعارضة المنضبطة ما يفصل بين الديمقراطية التي تتحرك من الأسفل للأعلى عن الأنظمة الاستبدادية التي تتحرك من أعلى لأسفل.
الحقيقة أن الصلة الخرافية بين الحرب والوحدة المدنية لا تصمد أمام التفحص الدقيق. وفي كتابه الحاصل على جائزة «بوليتزر»، «نهاية خرافة»، تتبع غريغ غراندين الترتيب الزمني لكيف أنه بعد الحرب الأهلية، أرسل جنود الشمال والجنوب معاً إلى الحدود الغربية لتهدئة قبائل السكان الأصليين لأميركا.
وقد جرى النظر إلى هذه الحملات ضد السكان الأصليين، في جزء منها، باعتبارها سبيلاً لإعادة دمج الولايات الكونفدرالية السابقة داخل الجيش الأميركي، وجرى تصوير ذلك باعتباره «برنامج إعادة تأهيل» للجنوب.
أيضاً، جرى الترويج، إلى حد ما، للحرب الإسبانية – الأميركية والحرب العالمية الأولى باعتبار ذلك سبيلاً لتوحيد صفوف الشمال والجنوب. ومع ذلك، لم تمنع أي من هذه الحروب الانقسامات التي ظلت قائمة منذ فترة الحرب الأهلية، وصولاً إلى النقاشات الدائرة اليوم حول معالم الولايات الكونفدرالية وأعلامها.
هل سمحت الحرب العالمية الثانية لأميركا بتحقيق كامل إمكاناتها الاقتصادية والفرار من قبضة «الكساد العظيم»؟ هل أفرز الصراع أثناء «الحرب الباردة» في مواجهة تهديد شيوعي مشترك، حقبة من الوحدة والتقدم التكنولوجي؟ ومع أن هذه النوستالجيا تحمل داخلها بعض الحقيقة، فإنها تغفل بعض الحقائق التي لا تبعث على الشعور بالارتياح. من هذه الحقائق أن الولايات المتحدة دخلت الحرب العالمية الثانية بصورة أساسية بدافع الانتقام، وليس لإنقاذ العالم الحر.
وساعدت الحرب في إضفاء الطابع الصناعي على البلاد، لكنَّها خلفت وراءها كثيراً من الأميركيين في حالة من الفقر والحرمان. كما أن الخرافات الشائعة حول التناغم الاجتماعي أثناء حقبة «الحرب الباردة»، تتجاهل المآسي التي خلقتها سياسات الفصل العنصري. كما أن وحدة الصف المدني التي سادت فترة هجمات 11 سبتمبر لم تصمد أمام الحروب الكارثية في العراق وأفغانستان.
وتقدم لنا التسعينات تصويراً حياً لكيف أن الرخاء والتسويات السياسية يمكن أن يزدهران عندما نتخلص من شعور زائف بغياب الأمن الوطني، والتموضع العالمي العسكري الذي غالباً ما يرافقه. في ذلك العقد، كانت مشاركة أميركا في الصراعات العالمية محدودة، وكان الهدف الرئيسي لإدارة كلينتون إعلاء صعيد السياسة الخارجية، وتعزيز التجارة.
ربما يدفع المقاولون العاملون بمجال الدفاع أن الإنفاق العسكري يخلق نشاطات ووظائف تجارية، إلا أنه بعد عقود من السياسة الخارجية التي تحمل صيغة عسكرية واضحة، ينبغي أن تحذر واشنطن من مسألة استغلال موازنة الدفاع في الإسهام في النمو الاقتصادي، خصوصاً أن الأجيال الأصغر لا ترى حاجة لمقايضة السلام مقابل الرخاء. وكشف استطلاع أجرته منذ وقت قريب المؤسسة التي أنتمي إليها، أن غالبية البالغين الأميركيين تحت سن الـ30 يدعمون إقرار موازنة دفاعية أصغر.
في اللحظة الراهنة، يبدو أن الخطر يتهدد الديمقراطية الأميركية، وتبدو الأوضاع الاقتصادية عصيبة. ومن دون إدراك حقيقة هذه الحقبة من السياسات الدولية، يميل صناع السياسات نحو النكوص إلى سبل قديمة، الأمر الذي قد يدفعهم نحو الانزلاق نحو عادة الحد من التكاليف بأقصى درجة ممكنة، والمبالغة في ميزات التورط في صراع عسكري.
ومع ذلك، تظل الحقيقة أن فكرة أن الحرب بإمكانها علاج التراجع الديمقراطي والجمود الاقتصادي متخلفة؛ لأنه في الواقع فإن الديمقراطية الأميركية مهددة والثروات مهدرة بسبب الحروب الحمقاء، التي أهدرت مخزون الثقة والموارد العامة التي كان يمكن استغلالها على نحو مثمر بالداخل، بدلاً عن استغلالها على نحو مدمر بالخارج.

مارك هنا.

ماذا يحمل المستقبل؟

مع نهاية العام الميلادي، تكثر التقارير المستشرفة للعام الميلادي المقبل، مسلّطة الضوء على عدد من الموضوعات والمجالات، ومقدّمة توقعات اقتصادية قد تبنى على خبرات أو نماذج اقتصادية أو غيرها. هذه التوقعات الاقتصادية هي عادة قديمة للاقتصاديين بشكل خاص وللبشر بشكل عام، ولم يخلُ الأدب العالمي أو العربي من هذه التكهّنات التي تهرب من الواقع لترسم مستقبلاً تختفي فيه المشكلات المعاصرة ويعيش فيه البشر برخاء.
ففي عام 1930 ميلادي، نشر الاقتصادي البريطاني «جون مينارد كينز»، وهو أحد كبار الاقتصاديين والنافذين حينها، مقالاً بعنوان «الاحتمالات الاقتصادية لأحفادنا» تكهّن فيه أن مستوى الحياة في البلدان المتقدمة بعد 100 عام سيكون بين 4 و8 أضعاف ما عليه اليوم. وقد كان محقاً في ذلك، فقد وصل نصيب الفرد من الناتج المحلي 6 أضعاف في الولايات المتحدة، ولكن في 80 عاماً تقريباً بدل 100 عام بين عامي 1930 و2010، هذا ما حدث في البلدان المتقدمة بالطبع، ولكن هذا التضاعف كان أكثر من ذلك في كثير من البلدان حول العالم. ذكر «كينز» في مقاله أنه إذا حدث هذا النمو فسوف تحل البشرية المشكلات الاقتصادية، أو على الأقل ستقترب من حلّها. ولكنه أضاف كذلك أن أحد أهم دوافع التطور البشري هو حل المشكلات الاقتصادية، وإذا ما حلت المشكلات الاقتصادية فستحرم البشرية من دافعها التقليدي. أحد أشهر توقعات كينز، هو أن وفرة السلع في المستقبل سوف تجعل البشر يعملون بشكل أقل ويستمتعون بأوقات الفراغ بشكل أكبر، لدرجة أن الفرد لن يحتاج للعمل لأكثر من 15 ساعة بالأسبوع.
في زمن آخر، وفي أحد أشهر التوقعات للمستقبل، رواية «النظر للوراء» التي كتبها «إدوارد بيلامي» ونشرت عام 1888، أي قبل 134 سنة. في الرواية التي تقوم أحداثها في ولاية بوسطن الأميركية، فقد البطل «جوليان» وعيه في عام 1887 لمدة 113 عاماً، ليستيقظ في عام 2000. حين أفاق «جوليان» وجد أن الولايات المتحدة تحولت إلى ما يشبه المدينة الفاضلة، بنظام اشتراكي يوفر الرخاء لجميع السكان. وجد «جوليان» مرشداً هو الدكتور «ليت» الذي شرح له التطورات التي حدثت في العصر الجديد، فساعات العمل منخفضة جداً لمن يعملون في الوظائف الوضيعة، ويتقاعد الموظفون في منتصف الأربعينات من أعمارهم، ويمكن للناس تناول الوجبات في أي من المطابخ العامة «ولم تكن حينها المطاعم منتشرة بشكلها الحالي بالطبع» ولكن الاتحاد السوفياتي طبق هذا النظام بالفعل في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي، أي بعد الرواية بنحو 40 عاماً. يجد البطل «جوليان» أن القدرة الإنتاجية للولايات المتحدة مملوكة للحكومة، وتوزع الخيرات على المجتمع بالتساوي. هذه التوقعات بالطبع هي نظرة مؤلف الرواية للمستقبل المزهر، والتي تنبع من كراهية للنظام الرأسمالي حينها، بميل واضح للنظام الاشتراكي. بعض تنبؤات المؤلف حدثت بشكل أو بآخر، فقد تنبأ بأن الناس سوف يستمعون للموسيقى والخطب دون مغادرة منازلهم من خلال الهاتف، كما أنه أول من تنبأ بالبطاقات الائتمانية، ولكن بشكلها الاشتراكي، حيث ذكر في روايته أن جميع أفراد المجتمع يملكون بطاقات فيها قدر متساوٍ من الرصيد، يمكّنهم من شراء احتياجاتهم.
إن قراءة التوقعات المستقبلية، لا تخلو من متعة، فهي قد تكون مبنية على خبرة واسعة ونظرة مستقبلية مستوحاة من الأحداث الماضية كما هو الحال مع مقال «كينز»، وقد تكتب ذلك بحس أدبي عالٍ وخيال إبداعي، كما هو الحال مع «بيلامي» الذي استشرف مستقبلاً خالياً من المشكلات الاقتصادية حيث يكون العمل لشغر الوقت وملء حاجة البشر للإنجاز، لا لكسب العيش والابتعاد عن الفاقة. ومع نهاية العام تكثر التقارير التي تستبصر مستقبل العام الميلادي المقبل حتى العقد المقبل، يدرك القارئ أن كثيراً من هذه التقارير لا تخلو من تحيزات مقصودة أو غير مقصودة. والمغزى الرئيس من هذه التقارير هو إلقاء الضوء على العوامل التي قد تؤثر على العام المقبل في أي من المجالات، سواء أكانت هذه العوامل اقتصادية، أو اجتماعية، أو سياسية، أو تقنية. الاطلاع على هذه العوامل هو الفائدة الحقيقية التي تعطي القيمة المضافة للتقارير المستقبلية، حيث يتمكن المستثمر من اتخاذ قراراته بمعرفة هذه العوامل التي تشجعه أو تثبطه عن الاستثمار في أي من المجالات. وليتذكر قارئ هذه التقارير أن «كينز» نفسه الذي توقع المستقبل الاقتصادي، كتب هذه العبارة «وضع الاقتصاديون لأنفسهم مهمة سهلة للغاية، وعديمة الجدوى كذلك، فهم لم يتمكنوا في المواسم العاصفة إلا من إخبارنا أنه عندما تنتهي العاصفة وتمضي بعيداً، يصبح المحيط مسطّحاً مرة أخرى».

د. عبد الله الردادي

3 سيناريوهات لنظام تحول الطاقة خلال 30 عاماً

يعدّ تقرير شركة «بي بي» السنوي من المصادر العالمية السنوية المهمة في أبحاث الطاقة، وذلك من خلال طرح كبار الاقتصاديين في الشركة التطورات الأساسية في قطاع الطاقة. عالج «تقرير (بي بي) لاستشراف الطاقة لعام 2023» 3 سيناريوهات لدراسة الآثار المترتبة على التحول في نظام الطاقة العالمي خلال العقود الثلاثة المقبلة. يكمن الهدف من الدراسة خلال السنوات الثلاثين المقبلة في تفهم آثار الاستراتيجيات المتبناة حالياً على مدى السرعة والطرق التي من الممكن أن يسلكها قطاع الطاقة في مرحلة تحوله هذه.
تتميز الفترة الحالية بمحورية النقاش حول أهمية تقليص الكربون والتوصل إلى تصفير الانبعاثات بحلول منتصف القرن. ويعلق الخبير الاقتصادي في شركة «بي بي»، سبنسر ديل، على هذه المرحلة قائلاً: «تلفت أحداث السنة الماضية أنظارنا إلى أهمية الأخذ في الحسبان أيضاً عوامل الأمن وفاتورة الطاقة للمستهلك. فمن الضروري لأي مرحلة من مراحل الطاقة أن تأخذ دائماً في الحسبان 3 عوامل أساسية لنظام الطاقة: أمن الإمدادات، وفاتورة الطاقة للمستهلك، والتخفيض الكربوني».
كان واضحاً خلال عام 2022 العلاقة العضوية والصعبة ما بين العوامل الأساسية الثلاثة أعلاه لنظام الطاقة هذا؛ فقد أدت حرب أوكرانيا إلى التركيز على أمن الطاقة نتيجة الحظر على البترول الروسي، مما أدى إلى مبادرة بعض الدول نحو الإسراع في التحول إلى الطاقات المستدامة من جهة؛ ودفع البعض الآخر إلى الاعتماد المتزايد على مصادر طاقة محلية معظمها من الوقود الأحفوري والقليل منها من مصادر أخرى.
لكن، وفي الوقت نفسه، دلت المتغيرات الطاقوية محدودة الحجم نسبياً؛ بسبب حرب أوكرانيا، بالنسبة إلى حجم قطاع الطاقة العالمي، على تأثيرها على نظام الطاقة العالمي من جهة؛ وعلى الآثار المترتبة على هذه التغييرات من التكاليف الاقتصادية والاجتماعية، مما أثار الانتباه إلى أهمية تقليص الاعتماد على الوقود الهيدروكربوني بطريقة منتظمة ومعتدلة، بحيث يتوجب الأخذ في الحسبان، ومن الضروري، عدّ الوقود الهيدروكربوني جزءاً من إمدادات الطاقة.
من الملاحظ في الوقت نفسه، أنه رغم ازدياد طموحات الحكومات إلى التخفيض الكربوني، فإن الانبعاثات الكربونية قد ارتفعت معدلاتها منذ «اتفاقية باريس لمكافحة تغير المناخ 2015» باستثناء إغلاقات الجائحة سنة 2020. وكما هو معروف؛ فإنه كلما طالت فترة استمرار الانحباس الحراري، زادت التكاليف الاجتماعية والاقتصادية.
لقد ازدادت المحاولات في بعض الدول لدعم مرحلة تحول الطاقة هذه، فقد جرت الموافقة في الولايات المتحدة على قانون تخفيض التضخم. لكن؛ من المهم الانتباه إلى أن تحدي تحول الطاقة هذا يتطلب إنجازات أكثر، مثلاً؛ تشريع القوانين والأنظمة لتشجيع تحول الطاقات ذات الانبعاثات الكربونية وإعادة تأهيل بناها التحتية.
لقد هيمنت الآثار المترتبة على الحرب الأوكرانية على ضرورة الاستمرار في الاهتمام المشترك بالعوامل الثلاثة للمحافظة على نظام طاقة مستقر وناجح: الأمن الطاقوي، وفواتير معتدلة للمستهلك، وتخفيض الكربون.
إن التحول في النظام الطاقوي يغير معه أنواع الطلب على الطاقة… فالتخفيض الكربوني يؤدي إلى زيادة التحول إلى الطاقات المستدامة. لكن هذا سيتطلب بدوره أيضاً زيادة استعمال الهيدروجين منخفض الانبعاثات، وأيضاً استعمال الطاقات الحيوية بطريقة معتدلة، وكذلك تطوير صناعة واقتصاد الكربون.
فرغم تغير وسائل النقل البري مستقبلاً؛ نظراً إلى الاعتماد الأوسع على المركبات الكهربائية، فإنه يُتوقع أن يستمر أن يلعب النفط دوراً مهماً خلال السنوات الـ15 إلى الـ20 المقبلة. وكذلك؛ اعتماداً على سرعة تحول الطاقة، أن يلعب أيضاً الغاز دوراً مهماً في دول الاقتصادات النامية مع توسع الصناعات فيها، ناهيك بالطلب على الغاز (الوقود منخفض الانبعاثات) في الدول الصناعية.
يعدّ تقرير «بي بي» صرخة أخرى للتحذير من انفلات وتخبط النظام الطاقوي في مرحلة التحول الحالية. والتحذير الواضح في التقرير ضرورة ديناميكية، للارتباط العضوي لكل من: ضمان أمن الطاقة في نزاعات العالم متعدد الأقطاب، والمحافظة على فواتير معقولة للمستهلك بدلاً من تحميله زيادات سعرية عالية وسريعة كما يحدث فعلاً، وتخفيض الانبعاثات الكربونية في ظل تبني سلة طاقة واسعة تشمل الطاقات منخفضة الانبعاثات إلى جانب الطاقات المستدامة.

وليد خدوري