«إفلاس» لبنان ليس حديثاً ولا عابراً

أطلعنا أحد المسؤولين الموكلين على إدارة البلد أنّ لبنان قد أفلس، والحقّ يُقال، أنّه سرعان ما تراجع عمّا صرّح به، وحاول تفسير مقصده. وكان وقعه لدى المواطن اللبنانيّ أليماً، وانتشر الخبر عبر وسائط التواصل الاجتماعيّ، والقنوات الإخباريّة بسرعة، لدسامته، ولأنّ البلد ضعيف و«جسمو لبّيس» لأيّ نوع من الإشاعات. اليوم، وبعيدًا من تاريخ الإعلان «المشبوه» الذي ابتغى تمرير قانون الحجز على الأموال «الكابيتال كونترول»، سنتناول مصطلح الإفلاس، ونبحث في إمكانيّة إطلاقه على دولة ما، لأنّ هذا الأمر ليس بحديث، فالدولة اللبنانيّة توقّفت عن دفع مستحقّاتها منذ سنتين، ولا يمكن أن يكون حديثًا عابرًا، ونعاود حياتنا وكأنّ شيئاً لم يكن، وقبول الشعب بأيّ قرار يستّر على سمعة بلده «المفلس».

إنّ قائمة البلدان «المفلسة»، أي الّتي تخلّفت عن السداد عبر التاريخ طويلة. ففرنسا، على سبيل المثال، تخلّفت عن الدفع 8 مرّات، كان آخرها العام 1812، عندما تركت التوسّعات النابوليونيّة البلاد منهكة اقتصاديًّا، وغير قادرة على الوفاء بالتزاماتها الماليّة تُجاه دائنيها. بين عامي 1975 و2008، تخلّفت ما لا يقل عن 71 دولة عن سداد ديونها السياديّة، على سبيل المثال لا الحصر: كرواتيا في العام 1996، روسيا في 1998، أوكرانيا في 2000، وفنزويلا في 2004، وجميعها أثبتت عدم قدرتها على سداد ديونها. كما أنّ اليونان ليست غريبة عن هذه الظاهرة، حيث انّ الحكومة اليونانيّة، لم تفِ بالتزاماتها الماليّة في كلّ عام من أصل عامين.

ويمكن الحديث عن سريلانكا، فهي على وشك أن تُعلن عدم إمكانيّة سداد التزاماتها الماليّة. فقد وافقت الحكومة على اللجوء إلى صندوق النقد الدوليّ، وأعلن الرئيس السريلانكيّ أنّه سيعمل مع الأخير لإيجاد حلّ للأزمة الاقتصاديّة والماليّة غير المسبوقة الّتي تمرّ فيها البلاد منذ أشهر عدة، إذ يتصاعد الغضب في ظلّ شحّ كبير في السيولة، وانقطاع الكهرباء الّذي يقطع وتيرة الحياة اليوميّة للمواطنين، الّذين يفتقرون إلى الأدوية والبنزين، وكذلك بعض المنتجات الغذائيّة الأساسيّة. كما لم تَعُد الدولة قادرة على تمويل وارداتها. كما انخفضت احتياطات النقد الأجنبيّ في العامين المنصرمين بنسبة 70% مع خفض التصنيف الإئتمانيّ من قِبل وكالات التصنيف العالميّة، فلم يعد بإمكان سريلانكا الاقتراض من الأسواق الماليّة. كذلك، كانت الدولة قد خفّضت الضرائب قبل أن تنتشر جائحة كوڤيد-19، الضربة الّتي ألحقت الضرر بالقطاع السياحيّ بوجهٍ كبير، وهي مصدر رئيسيّ للنقد الأجنبيّ. وبحلول العام 2020، كانت الحكومة قد فرضت قيودًا صارمة على واردات السلع غير الأساسيّة. وللتذكير، فإنّنا نتكلّم عن سريلانكا، وليس عن لبنان!!!

بوجهٍ عامّ، ثمّة أسباب يمكن أن تؤدّي إلى تخلّف الدولة عن السداد: السبب الأوّل، ظهور حالة غير متوقّعة، مثل حربٍ ما أو أزمةٍ ماليّة من شأنها أن تؤثّر فجأة في سيادة الدولة، وتمنعها من سداد ديونها كما خُطّط لها. وأشهر حالة كانت روسيا في 1917، التي رفضت بعد الثورة البولشفيّة سداد ديون النظام القيصريّ، وفي الوقت نفسه تسبّبت في خسارة مدّخرات العديد من الأُسر الفرنسيّة الّتي استثمرت في القروض الروسيّة. أمّا السبب الثاني، يمكن لدولة ما أن تتّخذ قراراً في التخلّف عن السداد بطريقة «باردة»، مثل الإكوادور في 2000، فاقترحت الحكومة، بسرعة ومن جانب واحد، إعادة هيكلة ديونها، وإعادة جدولتها.

في العودة إلى موضوعنا الرئيسيّ، نجد أنّ مصطلح «الإفلاس» بات يُستخدم بانتظام في وسائل الإعلام، للإشارة إلى حالة الدولة الّتي تمرّ بصعوبات اقتصاديّة كبيرة، ولا سيّما في ما يتعلّق بديونها. كانت هذه حالة اليونان، وإسبانيا، وفنزويلا أخّيرًا، والكثير من البلدان الأُخرى الّتي ذكرناها. والسؤال الّذي يُطرح هنا: هل يمكن أن يُفلس بلدٌ ما؟ وإذا بحثنا من كثب، هل يمكننا القول إنّ لبنان دولة مفلسة؟

لذلك، يجب أن نحدّد مصطلح الإفلاس أوّلًا، فهو يُشير إلى إجراء قانونيّ يتعلّق بشخص، أو شركة غير قادرة على سداد ديونها المستحقّة. إنّه ينطوي على جرد جميع أصول المَدين وتقييمها، الّتي سيتمّ استخدامها بعد ذلك لسداد الديون. وبالتالي، فإنّ حالة الإفلاس تعني العناصر التالية: وجود سلطة أعلى (قاضٍ) تُلزم بفعل شيء ما، وبيع الأصول لدفع الدائنين.

فنستنتج أنّه لا يمكن تطبيق التعريف السابق على بلدٍ ما. أوّلًا، بسبب مفهوم السلطة العليا: فبحكم سيادة الدول، لا توجد سلطة عليا يمكنها إجبار بلد ما على سداد ديونه. حتّى في حالة الاتّحاد الأوروبيّ، تبقى الدول ذات سيادة. إذ يمكن للمنظّمات الدوليّة تقديم المشورة والتشجيع، لكنها لا تملك القدرة على إلزام الدول بأيّ قرار. ومع ذلك، يمكن ممارسة الضغوط، ممّا سيؤدي إلى تلازم السمعة السيّئة بهذه الدولة على الساحة العالميّة، ولن توافق أيّ حكومة أُخرى على إقراضها المال بعدها، أو مجرّد القيام بالتبادل التجاريّ.

وثانيًا، الأمر الّذي لا ينفصل عن مفهوم الإفلاس، هو تحويل الأصول لدفع الالتزامات، أي بيع ممتلكات المَدين من أجل السداد للدائنين: مثلًا، إذا كانت الحالة تخصّ شركة أو فرداً، يمكننا أن نفهم جيّدًا ما يمكن أن يعنيه مصطلح الأصول (آلة، أو منتج، أو المباني، أو المواد، إلخ …). وفي حالة بلدٍ ما، فإنّ المفهوم أقلّ وضوحًا. إذ أنّ أصول الدولة لها شكل معقّد، لأنّ بعضها لا يمكن استبداله، أي لا يمكن بيعه، مثل شبكة الطرق، أو الأرض نفسها، أو حتّى المعالم الأثريّة. وبالتالي، فإنّ العنصرين الأساسيّين المرتبطَين بالإفلاس لا يتوافقان مع مفهوم سيادة الدولة. لذلك، فإنّ المصطلح غير مناسب، ولا يمكن لأيّ دولة أن تُفلس، بمن فيها لبنان، وإن عُرف عن شعبه إبداعاته، وعن حكومته بدعاتها.

لكن يجب علينا التمييز بين حالات التخلّف عن السداد، الّتي يمكن أن تكون متنوّعة تمامًا. عادة ما نتحدّث عن سداد الديون. ولكن في بعض الأحيان، هناك دول ليس لديها أيّ أموال متبقيّة في خزائنها، حتّى لو كان ذلك لشراء الأدوية، أو الطعام فقط. إذا «أفلست» دولة ما إن صحّ التعبير، فلا يمكن تصفيتها مثل أيّ شركة أو مصرف، لأنّ الشركة يمكن أن تتوقف عن الوجود، لكن الدولة لا يمكنها «الاختفاء»، وهذا هو الاختلاف الأساسيّ.

بهذا المعنى، لا يمكن للدولة أن تفلس. فالدولة بحكم تعريفها سياديّة، ولا يمكن حساب أصولها أو جردها. حتّى في أسوأ الأوضاع الاقتصاديّة (الحرب، أو التضخّم المفرِط، إلخ …)، يمكن أن تلجأ الدول إلى ضرائب خاصّة (أو قروض وطنيّة)، أو حتّى التخلّي عن عملتها الوطنيّة من أجل السماح للعجلة الاقتصاديّة معاودة عملها، وبالتالي إيجاد موارد جديدة.

علاوة على ذلك، لا توجد هيئة تنظيميّة على مستوى أعلى من المستوى الوطنيّ يمكنها اتّخاذ قرار بشأن «إفلاس» الدولة. في نهاية القرن الماضي، حاول صندوق النقد الدوليّ تعريف مفهوم «عجز الدولة عن السداد» من أجل طمأنة الدائنين، وكذلك لتخفيف وطأة الدين عن المدينين في صعوبات التدفّق النقديّ، لكنّ المحاولة باءت بالفشل.

بعد هذا العرض، من الّذي يقرّر إذا كانت دولة ما في وضع التخلّف عن السداد؟ أولًّا، الحكومة نفسها، يمكنها، على سبيل المثال، أن تعلن عن تقصيرها بالإعلان عن تخلّفها بالتزاماتها المتعلّقة بالديون. هذا ما فعله لبنان في 9 آذار 2020، وقد كان يتكبّد ديونًا تقدّر بـ 92 مليار دولار أميركيّ، أي نحو 170% من ناتجه المحليّ الإجماليّ. لم تكن الحكومة قادرة حينها على دفع 1,2 مليار دولار أميركيّ من سندات اليوروبوند – سندات الخزانة الصادرة عن الحكومة – المستحقّة عليها. كما وجدت روسيا في العام 1998، والأرجنتين في 2001 نفسيهما أيضًا في الوضع عينه، بعد إعلان وقف سداد ديونهما.

ثانيًا، يمكن لوكالة تصنيف عالميّة أن تعلن رسميًّا عن حالة العجز أو التقصير عن السداد. لأنّ وكالات التصنيف العالميّة هي من تقيّم الملاءة الماليّة لكلّ بلد، بواسطة تصنيف التزاماته، بحيث تخوّل المستثمرين تكوين فكرة حقيقيّة عن الائتمان في الدولة.

أخيرًا، يمكن أن يُعلَن عن التقصير في السداد من قِبل رابطة «إيسدا» (ISDA) الّتي مقرّها في الولايات المتّحدة الأميركيّة، والّتي تضبط مقايضات الإئتمان، وهو نوع من التأمين ضدّ تعثر دولة، أو شركة، أو من دائن خاصّ، فتكشف أنّ الدولة قد توقّفت عن السداد.

لذلك، عندما تعلن دولة ما عن تخلّفها عن السداد، يجتمع دائنوها للتفاوض ومحاولة استرداد جزء من رؤوس أموالهم. وثمّة خياران: يمكن الدائنون اختيار إعادة هيكلة ديون الدولة أو شطبها. على أيّ حال، فإنّ التخلّف عن السداد لا يخلو من عواقب. فالدول الّتي تُعلِن عن تقصيرها في السداد، تخاطر بالتعرّض لعقوبات دوليّة، أو عدم قدرتها على الاقتراض من الأسواق الماليّة في المستقبل.

في المواقف الاقتصاديّة الخطيرة للغاية (وما أخطر حالتنا في لبنان)، عندما يغرق بلد ما عميقًا في تعثّره الاقتصاديّ، من الممكن مطالبته بالمساهمة الجزئيّة، فقد لا يكون قادرًا، في لحظة معينة، على سداد ما عليه، حينها إمّا يحاول أن يجد الأموال بوجهٍ عاجل عن طريق الخصخصة، أو الاقتراض. أو أنّ البلد لا يستطيع إيجاد مستثمر يقرضه، لأنّه فقد الثقة لدى الدائنين في قدرته على سداد المزيد من القروض.

كما يمكن الدولة أن تسعى للحصول على تمويل من دول أُخرى، لكن قد تُفرَض عقوبات دوليّة على البلد، أو الأفراد، أو حتّى مصادرة أصول الدولة خارج أراضيها. على الرغم من نجاح المساهمات التعدّديّة، سيُترك الأمر لصندوق النقد الدوليّ لإقراض الدولة. فدوره يتمثّل في ضمان الاستقرار الماليّ الدوليّ. وسيتمّ الاقتراض بشرط أن «يتعافى» البلد، وهذا ما يتمّ الآن في لبنان بعد أن حصل على 3 مليارات دولار أميركيّ ضمن خطّة إنقاذ يُفاوض عليها. من ناحية أُخرى، لطالما اتُّهم صندوق النقد الدوليّ بالتركيز أكثر على الإنفاق من أجل هذا «الانتعاش»، وبأنّه يمتلك تنظيمًا اقتصاديًّا ليبراليًّا مفرطًا، وهو الآن في موقع أضعف، بسبب طرقه الخاطئة وشحّ موارده.

هكذا، نجد أنّ الوضع الاقتصاديّ المُزري في لبنان ليس «حديثًا»، فيعود الأمر إلى سنين كان المواطن فيها يُعطي الفرصة تلو الأُخرى للتشكيلة الحاكمة نفسها، كما أنّ ضياع تعب اللبنانيّ في مهبّ الريح ليس أمرًا «عابرًا»، وهو حقّ سيستردّه…

أخيرًا، في ظلّ تعثّر البلد عن استحقاقاته الماليّة، نراه أمام استحقاقٍ آخر «انتخابيّ». وللبنان دينٌ علينا يجب أن نُسدّده بكلّ امتنان. فحرّيّتنا الّتي وُهِبنا أغلى من أن تُثمّن، وأسمى من أن تُدفن من دون أن تُستثمر في صناديق الاقتراع. وليطمئن اللبنانيّ، فمهما حاولوا تهويل المشهد قبل الاستحقاق الانتخابيّ، ثمّة حقيقة دامغة لا تتغيّر في تاريخ لبنان بالرغم من تعثّراته الماليّة… البلد يبقى والمسؤولون الفاسدون هم وحدهم من يُفلسون، فلا يمكنهم أن يقايضوا أرزه وجماله وآثاره، أو يقامروا بإرثه وثرواته، أو يتاجروا بأرضه وثبات شعبه، أو يبيعوا قيمه وأصالته. فهذه الكنوز ملك الشعب الحرّ، ولن يسلبها منه أحد.

ب.ندى ملاح البستاني

قانون الخدمات الرقمية

أعلن الاتحاد الأوروبي يوم السبت الماضي عن (قانون الخدمات الرقمية)، وهو نظام يهدف إلى التخلص من المحتوى السام في الإنترنت، وكان الاتحاد قد أعلن الشهر الماضي عن (قانون الأسواق الرقمية) يهدف إلى الحد من هيمنة الشركات على الاقتصاد الرقمي، وتحقيق العدالة والتنافسية في الأسواق الرقمية. وقد سبق هذين النظامين نظام حماية خصوصية البيانات الذي أطلقه الاتحاد الأوروبي عام 2018 ليكون الاتحاد الأوروبي مسؤولا عن ثلاثة قوانين تتعلق بتنظيم الفضاء الرقمي.
وخلال الخمسة والعشرين سنة الماضية، نقلت الخدمات الرقمية العالم، وأحدثت ثورة غيرت معالمه خالقة اقتصادات جديدة. إلا أن هذه الثورة لم تماثلها ثورة تشريعية، فلم تصاحب هذه الخدمات تشريعات تنظمها وتكفل حقوق المشاركين فيها من مستخدمين وشركات وغيرهم من اللاعبين في هذه المنظومة الضخمة. بل ما حدث أن الشركات نفسها كانت هي المنظمة لهذه الأسواق، وهي كذلك المنتجة فيه، ليكون المستخدم هو العنصر الأضعف في هذه المنظومة التي تعتمد عليه بشكل أساسي.
والمتأمل في الفضاء الرقمي اليوم، يجد أن الكثير من الخدمات التي يحصل عليها المستهلك هي خدمات مجانية ظاهريا، ولكن الشركات تحصل على بيانات هؤلاء المستخدمين، وتستفيد منها بطرق عديدة أبسطها بيع هذه البيانات لشركات أخرى، كما تستخدم هذه البيانات في توجيه الإعلانات إلى فئات محددة بحسب تفضيلاتهم، ودون إبلاغهم بخوارزميات هذه الإعلانات، ودون توضيح لهم أنها إعلانات مستهدفة. كما لشركات الفضاء الرقمي الحرية الكاملة في تحديد الخطوط الحمراء لمحتوياتها، ولذلك فهي قد تسمح بالمحتويات المضرة في سبيل زيادة المشاهدات والإعلانات وتحقيق الأرباح، وهو ما قد حصل ويحصل بشكل متكرر ويلاحظه أي مستخدم لوسائل التواصل الاجتماعي بأشكالها.
وتهدف المفوضية الأوروبية من خلال قانون الخدمات الرقمية إلى خلق بيئة رقمية آمنة وذات مسؤولية، لكي تكون المنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي شفافة بشأن قرارات الإشراف على المحتوى الخاص بها، ومنع الانتشار السريع للمعلومات المضللة، ومكافحة خطاب الكراهية والتشجيع على الإرهاب، إضافة إلى تجنب عرض المنتجات غير الآمنة في الأسواق. ويمكن هذا النظام الاتحاد الأوروبي من محاسبة المنصات على المخاطر التي قد تشكلها خدماتها على المجتمع.
وبموجب هذا النظام، ستكون المنصات مسؤولة عن الخوارزميات الخاصة بها، والإفصاح عن هذه الخوارزميات بكل شفافية وعليها تقييم المخاطر وتخفيفها لحماية المستخدمين. كما أن المنصات الرقمية ستمنع استهداف الأطفال بالإعلانات، وهو ما تستند عليه غالبية الألعاب الموجهة للأطفال والتي لا تنظر في كثير من الأحيان إلى محتوى الإعلان ومدى مناسبته للأطفال. وللمفوضية الأوروبية الحق في فرض عقوبات على الشركات التقنية عند الانتهاكات، هذه العقوبات قد تكون مادية وتصل إلى 6 في المائة من حجم المبيعات العالمية للشركة، هذه النسبة تبلغ 7 مليارات دولار من مبيعات (فيسبوك) عام 2021، وقد تتعدى العقوبات المادية إلى حد حظر العمل في السوق الأوروبية الموحدة في حال تكرار هذه الانتهاكات.
وللاتحاد الأوروبي تاريخ في مقاومة الشركات التقنية العملاقة، ووصف العملاقة ليس بالمبالغ فيه، فالقيمة السوقية لكل من فيسبوك وجوجل وأمازون وأبل مجتمعين تساوي 4.6 تريليون دولار، أي أن بعض هذه الشركات أكبر من الدول، وهو ما ذكره أحد المسؤولين في الاتحاد الأوروبي، موضحا أن هذه الشركات لا يمكنها التصرف على أنها جزر مستقلة بمنأى عن الأنظمة الدولية. وبلغ حجم الغرامات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على جوجل وحدها خلال السنوات الأخيرة أكثر من 8 مليارات دولار، كما أنه يجري تحقيقات في قضايا ضد فيسبوك وأمازون وأبل. ويستهدف هذا القانون جميع الشركات التقنية التي تزيد قيمتها السوقية على 75 مليار دولار ذات المبيعات الأكثر من 7.5 مليار، ويزيد عدد مستخدميها على 45 مليون مستخدم.
وقد سبق الاتحاد الأوروبي الولايات المتحدة في سن هذه القوانين، رغم الدعوات المستمرة للرئيس السابق أوباما لسن أنظمة حاكمة للفضاء الرقمي. إلا أن جماعات الضغط التابعة للشركات التقنية الأميركية تمكنت من تعطيل العديد من القوانين الممررة للكونغرس، ورغم أن العديد من مديري ومؤسسي هذه الشركات سبق لهم وأن مثلوا للتحقيق أمام الكونغرس، فإن الولايات المتحدة لم تصدر نظاما واحدا يحد من الممارسات الاحتكارية أو التي تضر بالمستخدمين. ويبدو أن الرأسمالية الأميركية تفضل دائما رجال الأعمال على حماية المستهلكين، وقد شبه أحد الكتاب هذا الموقف بالتنظيمات الأميركية المتعلقة بمكافحة التدخين، والتي تمكنت شركات التبغ بتعطيلها لأكثر من 50 سنة من أول تقرير طبي وضح أضرار التبغ.
إن قانون الخدمات الرقمية هو نقطة تحول في الفضاء الرقمي، وهو قانون سنه الاتحاد الأوروبي على نطاقه الجغرافي فحسب، وقد يدخل حيز التنفيذ بداية عام 2024، وقد تلحقه في الأشهر القادمة دول أخرى. والاتحاد الأوروبي بهذا القانون فرض سيادته على الشركات التقنية العملاقة، بل وكلف هذه الشركات بدفع فاتورة الرواتب لـ200 موظف سيعملون في مراقبة الالتزام بهذا القانون، سماها «تكاليف رقابية». إلا أن هذا القرار يخضع لسيادة الدول التي قد تُخضع الشركات التقنية لقوانينها الخاصة والمتفاوتة. فما يعد ممنوعا في دول قد لا يكون كذلك في دول أخرى، وما قد تراه بعض الدول خطاب كراهية، قد يكون حقا ديمقراطيا في دول أخرى. ويجب التذكير أن الاتحاد الأوروبي لم يسرع في هذا القرار إلا بعد الحرب الروسية الأوكرانية بعد أن وجد حاجة ماسة وأمنية إلى إخضاع الشركات التقنية إلى مراقبة المحتوى. أي أنه اتخذ هذا القرار بناء على مصلحته فحسب، وهو ما يعني أن بقية الدول سوف تتخذ القرار بحسب ما يناسب توجهاتها السياسية ومصالحها الأمنية والاقتصادية، دون أي تبعية مطلقة للاتحاد الأوروبي. وبكل الأحوال فإن الأشهر القادمة ستشكل تحديا للشركات التقنية العملاقة التي لطالما استمتعت بهامش حرية عالٍ مكنها من الاستحواذ على السوق دون أي منافسة حقيقية أو صرامة تشريعية دولية.

د. عبدالله الردادي

ما بعد الانتخابات… 8 حقائق لا مفرَّ منها

لماذا يتعاظم القلق حيال المرحلة التي قد تلي الانتخابات النيابية، وهل صحيح انّ الأسوأ سيأتي بعد انتهاء استحقاق ايار، وان ما عاناه اللبنانيون حتى الآن ليس سوى البداية؟ وما هي المؤشرات الواقعية التي قد تسمح وتبرّر هذا القلق الشعبي القائم؟

ليس من السهل قراءة المعطيات المتعلقة بمرحلة ما بعد الانتخابات النيابية لأسباب عدة، لا علاقة لها بالنتائج التي قد تفرزها هذه الانتخابات على صعيد موازين القوى السياسية في المرحلة المقبلة، بقدر ما لها علاقة بالسيناريوهات التي قد تطرأ على المشهد، وتجعل كل القراءات غير دقيقة. والمقصود هنا، ما قد يجري خارجياً، وينعكس مباشرة على المشهد الداخلي اللبناني.

 

ومع ذلك، يمكن سرد المعطيات المتوفرة حالياً، بصرف النظر عن اي متغيّر قد يستجد لاحقاً، ومن أهمها ما يلي:

 

اولاً- سيستفيق اللبنانيون في حزيران المقبل على حقيقة جديدة تتعلق بحجم احتياطي العملات الأجنبية المتوفرة في مصرف لبنان. وسيتبيّن انّها تراجعت بنسبة لا يُستهان بها قياساً بما كانت عليه في نهاية 2021، (حوالى 12 مليار دولار)، وستتراوح بين 6 و7 مليار دولار. ومع احتساب الفواتير المؤجّلة الدفع، قد تتراجع ما دون هذا الرقم. وهذا يعني، وإذا ما اعتبرنا انّ خطة التعافي التي تمّ الاتفاق عليها مع صندوق النقد الدولي، سوف تُنفّذ، انّ المبلغ المتبقي بالكاد يكفي لتسديد الودائع الصغيرة ما دون الـ100 الف دولار.

 

ثانياً- ما ان تنتهي الانتخابات النيابية حتى يبدأ التجاذب السياسي تحضيراً للانتخابات الرئاسية. ولن تكون الأجواء السياسية في حال استرخاء للمراهنة على انّ الملف الاقتصادي والمالي سيحظى بالاهتمام الذي يستحق.

 

ثالثاً- من المعروف انّ الملفات القضائية الساخنة المتعلقة بحاكم مصرف لبنان، والتي يرى البعض انّها متصلة بالسياسة، سوف يُعاد تحريكها، على اعتبار انّ «الاتفاق» الذي فرض تجميد هذه القضية، تنتهي مهلته مع انتهاء الانتخابات.

 

رابعاً- تماماً، كما هي الحال بالنسبة الى الشعبوية التي فرضت نفسها قبل الانتخابات لاسترضاء الناخبين، فإنّ الشعبوية بمفهوم آخر يتعلق بحسابات إرضاء القوى في الداخل، ودول في الخارج، قد تؤدي بدورها الى عرقلة اتخاذ القرارات الإنقاذية بموضوعية، ونكون قد عُدنا الى مربع اتخاذ القرارات على خلفية الحسابات والمصالح السياسية، بما يُصعِّب الوصول إلى معالجات جذرية للكارثة المالية والاقتصادية التي وصل اليها الوضع.

 

خامساً – إذا كانت الضغوطات الطارئة قد أدّت اليوم، ورغم قرار ضخ الدولارات من قِبل مصرف لبنان في السوق لتهدئة سوق الصرف، الى اهتزاز الاستقرار النسبي في سعر الدولار، وعودته الى الارتفاع التدريجي، حيث لامس عتبة الـ28 الف ليرة، فكيف سيكون الحال عندما يوقف مصرف لبنان نهائياً ضخ الدولارات، ويعود الى موقفه السابق الذي كان يتبعه قبل الاتفاق الذي تمّ بين رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة في كانون الاول 2021، وباشر بموجبه المركزي ضخ الدولارات في السوق، ونجح في خفض الدولار من 33 الف ليرة، الى ما بين 21 و22 الف ليرة، قبل ان يعاود التفلّت الجزئي في الايام القليلة الماضية؟

 

سادساً- تفيد التقارير والوقائع، انّ الحرب الروسية على اوكرانيا طويلة المدى، ولن تنتهي في الاسابيع القليلة المقبلة. وبالتالي، ستبقى أرقام التضخّم على مستوى الاقتصاد العالمي تنحو في اتجاه الارتفاع، بما سيؤدّي الى ضغط مالي اضافي على اللبنانيين، بسبب ارتفاع اسعار كل السلع المستوردة، وفي طليعتها النفط، بحيث ستكون القطاعات الإنتاجية تحت الضغط، وكذلك الخدمات المتعلقة بالكهرباء وما يتفرّع عنها. وإذا أضفنا الى هذا الواقع، انّ العقد الموقّع مع العراق لاستيراد الزيت الثقيل لتشغيل معامل الكهرباء بالحدّ الأدنى، سينتهي في الصيف المقبل، نستطيع ان نرسم في مخيلتنا صورة الوضع الذي سيكون سائداً في لبنان.

 

سابعاً- مع وجود نسبة مرتفعة من اللبنانيين العاملين في الخارج، وهي نسبة تكاد تكون الاكبر في العالم، ورغم إيجابيات هذا الوضع الذي يساهم في دخول كميات جيدة من العملات الصعبة الى البلد، إلّا أنّ الوجه الآخر السلبي يتمثل في نوع من الطبقية الجديدة التي قد تساهم في تنمية الإهتزازات الأمنية على خلفية «الصراع» بين فئة لا تزال تتمتّع بقدراتها الشرائية المرتفعة، وفئة مُعدمة شبه «جائعة» ارتفعت نسبتها من حوالى 10% قبل الأزمة في العام 2019، الى حوالى 35% اليوم، وفئة فقيرة ارتفعت نسبتها من حوالى 35% قبل الأزمة الى حوالى 70% بعدها.

 

ثامناً- يبدو انّ لبنان قد حُذف عن خارطة الدول التي يُعوّل عليها في عملية المساهمة في إمدادات الغاز، وبالتالي، قد تكون الآمال بالإفادة من الثروة الغازية في البحر اقتربت لتصبح سراباً.

 

كل هذه الوقائع تبرّر القلق والرعب حيال ما سيكون عليه المشهد في الصيف المقبل. مع الإشارة، الى انّ السيناريو الإيجابي يبقى قائماً، في حال حصل اتفاق في الخارج على تسهيل انتخاب رئيس لا ينتمي الى أي من المحورين المتصارعين، يترافق مع قرار بتسهيل حصول الإصلاحات المطلوبة تمهيداً لبدء عملية الإنقاذ والخروج التمهيدي من النفق. ومع ذلك، لن تكون مرحلة الخروج سهلة او سريعة، والأصعب أن لا مؤشرات حتى الآن انّ هذا الاحتمال مُرجّح.

انطوان فرح

بورصة انفو: الموقع الرائد لأخبار الذهب ، العملات ، البورصات. مع تحليلات