دليل الحائرين إلى كيفية تدمير العالم!

هذا العنوان لا علاقة له بالحرب البائسة في أوكرانيا التي لم تضع أوزارها بعد حتى كتابة هذه السطور، ولا صلة له برؤوس نووية تتحكم فيها أكواد سرية يرجى أن تكون في أيدٍ أمينة، توجهها عقول رصينة. فقد اطلعت على كتاب عجيب يخلط بين الجد والمزاح، ويجمع بين العلم الرصين والهزل. وهي متناقضات قد تعين في تفسير الفوضى التي تكتنف عالمنا بأحداثه المتوالية التي تشبه الملهاة في عبثها بأحوال البشر. أما الكتاب فهو لمبرمج الكومبيوتر الكندي ريان نورث، وهو نفسه مؤلف سلاسل كوميدية شهيرة عن الديناصورات، وقد راجت مؤلفاته الأخيرة انتشاراً، بما في ذلك كتابه الأخير المعنون «كيف تسيطر على العالم.. أساليب عملية وحلول علمية للأشرار الطموحين».
ويعدد نورث مداخل مختلفة لهؤلاء الأشرار في سعيهم للسيطرة على العالم وتدميره، ومن أبرزها العمل على تدهور المناخ، وكذلك تدمير الإنترنت بأساليب متطورة تكنولوجياً، وهي بالمناسبة ذات السبل التي يمكن استخدامها لحماية العالم من هذه التهديدات إذا أتيحت لمن يرغب في الدفاع عن نظم البيانات والمعلومات الأساسية بتدعيم أمنها السيبراني أو حماية المناخ من مزيد من التدهور على النحو الذي سيوضحه هذا المقال.
وفي وصفه لجرائم الأشرار يحدد ريان نورث ثلاثة مكونات للجريمة الكاملة تبدأ بالتخطيط المحكم ثم التنفيذ باحتراف ثم الهرب بمهارة، ولكن هذا في تقديره عمل الأشرار المستجدين من منسوبي المراحل الأولية في الجرائم ضد العالم والبشرية. ولكن الشرير القدير هو من تطور بما يتجاوز هذه الحدود المتواضعة في الشر التي لا تهدف إلا لحماية المجرم فلا يظهر بجرمه للعيان متلبساً ثم يصعب تعقبه إذا أفلح في الهرب من دون أثر. ولكن صاحب هذا الشر المستطير لا يرغب في أن يكون مجهولاً في سجلات التاريخ بل متصدراً لصفحاته، والأدهى بأن صاحب الجريمة الكاملة من هذا الصنف اللئيم يسعى لأن يُذكر بأنه بطل مغوار وألا يحسب أبداً من زمرة الأشرار. فستجده يُشكر على جريمته ويمجَد على فعلته، ولم لا فسيظهر للناس بأنه من منقذي العالم والبشرية، وإذا أتت النتائج كاشفة عن مساعيه في الدمار فسرعان ما ستظهر له أبواق الممجدين لجده واجتهاده، مدعية أنه قد حالت بينه وبين مراميه السامية أنواء معاكسة وظروف قاهرة.
من عجب أن هذا العالم الذي تشغل أولى اهتماماته اليوم حرب كان يمكن تفاديها حقناً لدماء الأبرياء ومنعاً لمزيد من الانهيارات الاقتصادية، ما زال يعاني رسمياً من جائحة، لم يعلن أحد انتهاءها، أصابت أكثر من 470 مليوناً من سكانه بالمرض، وقضت على حياة ما يزيد على 6 ملايين إنسان، وتستمر في تهديدها لحياة مزيد من البشر وأسباب معيشتهم. إذا كان هناك حماس لحرب واستعداد لتضحية في سبيلها فلتكن حرباً على الوباء الفتاك أو حرباً على فقر مدقع ازداد بسببها عما كان قبلها، أو حرباً على البطالة التي ازدادت بسبب نمو متراجع عما كان مقدراً له للتعافي، أو حرباً على التضخم الذي سيتجاوز 5 في المائة في أغلب البلدان المتقدمة، وسيشعر به غلاءً أهل البلدان المتقدمة في موجات لارتفاع في الأسعار لم يشهدها العالم منذ 4 عقود، أو فلتكن حرباً على الديون الخارجية التي لم تشهد مثلها البلدان الأفقر دخلاً منذ نصف قرن. وسيتبين للباحثين عن مسببات هذه الأزمات أن الجائحة كانت كاشفة لعلل النظم الاقتصادية المتبعة، وأن الأعراض المشاهدة هي لأوجه خلل ازدادت استفحالاً بعد الأزمة المالية العالمية. وفي كل الأحوال لن يمكن تعليق تدهور المشكلات الاقتصادية العالمية الراهنة على مشاجب الحرب الأوكرانية، بالادعاء أن الأمور كانت تسير في أعنتها، ولكن عرقلتها الجائحة ثم أربكتها الحرب. فالعالم يعاني من مشكلات تفاوت حاد في توزيع الدخل والثروة، وخلل ديموغرافي، وتهديدات مناخية، زادت من آثارها السلبية سوءاً ويلاتُ الحرب وضحاياها والنزاعات الجيوسياسية والجائحة.
وبعد حديث مسترسل عن حالة اللايقين التي تعقّد من أمر التحليل الاقتصادي، وتزيد من صعوبة تحديد إجراءات السياسات العامة الأولى بالاتباع، حري بنا اليوم استناداً إلى أدلة دامغة على أن هناك حالات من اليقين الذي لا يمكن التغافل عنها، بوهم اللايقين، فيقيناً هناك تراجع للنمو والاستثمارات والتجارة والتقارب الاقتصادي بين الدول وداخلها، ويقيناً هناك زيادة في التضخم والفقر وسوء التغذية والديون واحتمالات التعثر في سدادها، ويقيناً العالم ليس على مسار تحقيق الاستدامة، بمفهومها الشامل الذي يتضمن أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر التي يجب تحقيقها قبل عام 2030، ولسنا كذلك على نهج تحقيق الاستدامة بمفهومها المحدد المرتبط بالتصدي لتغيرات المناخ وتلبية تعهدات اتفاق باريس لعام 2015.
فقد أفصح التقرير العلمي للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ أننا بعيدون عن أهداف الحياد الكربوني المتعهد بها، وأننا بدلاً من أن نخفض الانبعاثات الضارة بالمناخ بمقدار 45 في المائة بحلول عام 2030 فإننا نزيدها بنحو 14 في المائة بانحراف بمقدار 60 في المائة تقريباً عن المستهدف.
ومن المزعج حقاً أن الحلول العلمية للتصدي لتغيرات المناخ متعارف عليها بزيادة الاستثمارات في مصادر الطاقة الجديدة والمتجددة، ولكن إدارة عملية التحول تعاني من تردد وتخبط في البلدان المتقدمة، ويضاف إلى هذه المشكلات عجز في التمويل في البلدان النامية، خاصة مع التقصير المستمر في الوفاء بوعود قطعت منذ قمة كوبنهاغن في 2009 فيما يتعلق بتوجيه 100 مليار دولار من البلدان المتقدمة إلى النامية، وهو ما لم يتم تلبيته في أي سنة حتى انعقاد قمة غلاسكو العام الماضي، هذا رغم ميوعة أساليب التقدير لما يمكن اعتباره فعلاً تحويلاً مالياً لأغراض التصدي لتغيرات المناخ، سواء من خلال التخفيف للانبعاثات الضارة أو التكيف مع آثارها. ناهيك عن متطلبات الملف الحرج المتعلق بالخسائر والدمار الذي لحق بالبلدان النامية، تضرراً من الانبعاثات الضارة بالمناخ وتراكمها منذ الثورة الصناعية الأولى.
لم يعد هناك من شك أن تغيرات المناخ، حتى بافتراض بقائها عند مستويات الحرارة الحالية، أمست مهددة لوجود البشرية، وهذه التغيرات الحادة المتوالية في الطقس والأعاصير والفيضانات وحرائق الغابات وانتشار حالات الجفاف من مظاهرها المتكررة خسائر في الأرواح والطبيعة والتنوع البيولوجي والمنشآت وعوامل الإنتاج وما يرتبط بذلك من تهجير للسكان.
تذكر وحدة أبحاث الإكونوميست البريطانية أن حرب أوكرانيا من شأنها تبديل شكل ممارسة الأعمال وأنماط التجارة بين الدول على 5 محاور؛ مزيد من الإرباك لسلاسل الإمداد التجارية، رفع لأسعار الطاقة والأغذية بما يهدد الأمن الغذائي، زيادة الاستثمارات في الطاقة المتجددة في الدول المتقدمة على حساب الدول النامية، التعجيل بالحلول الرقمية لعملات البنوك المركزية لتفادي النظام النقدي والمالي المعتمد على الدولار خشية وقوعها مستقبلاً للعقوبات من خلال تسليح الأدوات المالية، مثلما حدث مع روسيا، مزيد من التوترات الجيوسياسية فيما يتعلق بتكنولوجيا المعلومات واستخداماتها وزيادة مخاطر الأمن السيبراني. في تقديري أن هذه مجرد مظاهر تفصيلية لعالم شديد التغير يشهد إرهاصات تكون نظام جديد يعكس تغير أوزان القوى الاقتصادية، وحتى تتضح المعالم وتتجلى قواعد نظام جديد سيستمر التعامل بما زال متاحاً من بقايا نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية وترتيبات ما بعد الحرب الباردة، حتى حين.

 

د. محمود محيي الدين

إرنستو غادر مذهولاً: لا مــثيل لما شاهدته

خطف الاتفاق المبدئي بين السلطات اللبنانية وصندوق النقد الدولي الأضواء، ورغم انّ البعض خاب ظنّه في حجم المبلغ الذي جرى تخصيصه لتنفيذ خطة للتعافي الاقتصادي، الّا انّ المشكلة، إن وجدت، لا تكمن في هذه النقطة بالذات، بل في مكان آخر.

كثيرة هي الملاحظات التي يمكن إيرادها في معرض التعليق على الاتفاق المبدئي مع صندوق النقد الدولي. لكن هناك عناوين اساسية لا بدّ من التركيز عليها، لأنّها تبقى الأساس الصالح لتقييم النتائج التي قد ينتهي اليها هذا الاتفاق. والإجابة عن هذه العناوين-الأسئلة، يمكن ان تقود الى الإجابة عن السؤال الأهم: هل بدأت مسيرة الخروج من الأزمة، أم لا؟

 

في سرد الملاحظات على هامش الاتفاق، وطريقة الوصول اليه، يمكن إيراد النقاط التالية:

 

اولاً- «تنازل» صندوق النقد عن بعض الشروط المسبقة التي كان حدّدها لعقد اتفاق مبدئي، ومن بينها على سبيل المثال، إقرار قانون «الكابيتال كونترول» وموازنة العام 2022. وقرّر الصندوق إضافة هذه الشروط المسبقة على لائحة الشروط المؤجّلة، بمعنى الاكتفاء بوعد من السلطات اللبنانية بتنفيذها لاحقاً قبل موافقة إدارة الصندوق على برنامج التمويل. وفي تفسير أسباب هذا «التنازل»، يبدو انّ الامر يرتبط اولاً بحرص الصندوق بما يمثل (المجتمع الدولي)، على عقد الاتفاق مع لبنان بأي ثمن لمنع الانهيار التام للبلد. وهذا المشهد شهدنا مثيلاً له في مؤتمر «سيدر»، حين خفّض السفير الفرنسي بيار دوكان مستوى الشروط الى حدّ الاكتفاء بمطالبة السلطات اللبنانية فقط بتشكيل هيئة ناظمة للكهرباء مقابل البدء في الإفراج عن الاموال. ومع ذلك لم تنفّذ السلطات اللبنانية هذا المطلب اليتيم. وثانياً، لأنّ المسؤولين اللبنانيين الذين التقاهم وفد الصندوق برئاسة إرنستو راميريز ريغو، اقنعوه بأنّ إقرار «الكابيتال كونترول» والموازنة قبل الانتخابات من المستحيلات بسبب المعارضة الشعبية لبعض البنود في القانونين. وبالتالي، يصبح الامر ممكناً اذا منح الصندوق اتفاقاً مبدئياً يجعل إقرار القانونين اسهل على النواب المرشحين، لأنّ ردود الفعل الشعبية ستكون متقبّلة اكثر للوضع بوجود اتفاق يمكن ان يشكّل بداية الخلاص من الأزمة. وبالمناسبة، صارح راميريز ريغو المسؤولين، بأنّ ما يراه في لبنان مُذهل. إذ انّ صندوق النقد اعتاد مناقشة البرامج الإنقاذية، لا قوانين «الكابيتال كونترول»، لأنّ هذه الخطوة غالباً ما تتخذها الدول التي تواجه أزمات قبل وصول صندوق النقد اليها. في حين اننا في لبنان أمضينا فترة طويلة في مناقشة هذا القانون الذي كان ينبغي فرضه في الأيام الاولى للأزمة في العام 2019.

 

ثانياً- لا يزال الغموض يكتنف تفاصيل الخطة التي تعهّدت الدولة بتنفيذها في إطار الحصول على التمويل. وحتى الجزئية المرتبطة بتوزيع الخسائر، والتي تسرّبت أو سُرّبت سابقاً، وتعرّضت لوابل من الاعتراضات والانتقادات، ليس معروفاً بعد إذا ما كان قد جرى تغييرها. وبالمناسبة ايضاً، استغرب راميريز ريغو، انّ كل القطاعات الاقتصادية غير مُطّلعة على الخطة، في حين انّ المطلوب إطلاع كل شرائح المجتمع عليها لتلقى القابلية وتسهيلاً لإقرارها من دون التسبّب بأزمات شعبية.

 

ثالثاً- ذُهل راميريز ريغو بحجم الإنكار واللامبالاة على مستوى المسؤولين اللبنانيين حيال عمق وخطورة الأزمة. وقد صارح من التقاهم، انّ صندوق النقد الذي يعطي الاولوية دائماً لمكافحة الفساد في أي خطة إنقاذ، مقتنع اليوم بأنّ الأولوية في لبنان ينبغي ان تكون لإجراءات مالية سريعة لوقف الهبوط المريع، ومن ثم يمكن التفرّغ لمشروع مكافحة الفساد.

 

رابعاً- من خلال الشروط المسبقة التي وضعها الصندوق لإقرار برنامج التمويل، وهو من فئة الـEFF المتخصّص في دعم الدول التي تعاني من أزمات مزدوجة في ميزان المدفوعات وفي العجز الهيكلي المزمن، ينبغي التركيز على البند الاول المتعلق بإعادة هيكلة البنوك، والذي يتحدث عن حماية المودعين الصغار، والحدّ من اللجوء الى الموارد العامة. وهذه العبارة، تعني على الأرجح انّ الصندوق ليس مؤيداً لفكرة ان تشارك الدولة بفعالية في عملية سد الفجوة المالية. وهذا يؤكّد انّ المودعين «الكبار» سيدفعون ثمناً باهظاً في عملية توزيع الخسائر. وبالتالي، من المرجّح ان تكون خطة الحكومة لتقسيط دفع الودائع لمدة 15 أو 20 سنة غير مقبولة.

 

خامساً- انّ برامج التمويل من فئة الـEFF يتمّ تحديد المبلغ المخصّص لكل دولة، بالإضافة الى مبدأ الكوتا، الى معيارين: حاجة الاقتصاد للتعافي، وقدرة هذا الاقتصاد على تسديد القرض والإقلاع. وبالتالي، هذان المعياران يفسّران لماذا المبلغ الذي أُقرّ متواضع نسبياً، لأنّ حجم الاقتصاد اللبناني صار أصغر، ولأنّ عمق الأزمة البنيوية يحول دون قدرة هذا الاقتصاد على تحمّل قروض اكبر من تلك التي تمّ التوافق عليها. وبالتالي، لو انّ هذه المفاوضات جرت في بداية الأزمة، لأمكن الحصول على مبالغ اكبر، لأنّ الاقتصاد في وضعه السابق، ومن خلال الاحتياطي الذي كان متوفراً، كان قادراً على الإقلاع وتحمّل سداد قروض اكبر.

أنطوان فرح

 

 

أزمة الطاقة والتضخم المالي

الشهر الحالي، يعني الربيع، وتغير التوقيت الشتوي إلى الصيفي يجعل النهار المشمس أطول، وظهور براعم الزهور على الأغصان يلون لوحة فنية للطبيعة تدعو إلى التفاؤل، لكنه مشهد من النافذة الإنجليزية فقط، فوراء الزجاج البارد الملمس، يوجد واقع آخر يوحي بأن المشهد خداع «فلا ربيع ولا يحزنون».
في الصباح كانت قطرات الثلج في الحديقة، فأول من أمس كان من أكثر أيام هذا العام برودة حسب مكتب الأرصاد الجوية، والأيام التالية (درجة الحرارة ما بين تحت الصفر والحد الأعلى ثماني درجات مئوية).
وخلافاً للعادة، لم تكن الأخبار الأولى عن خدعة أبريل (نيسان)، ورواج التجارة تسوُّقاً لعيد الفصح، بل كانت أخباراً تدعو للاكتئاب؛ ولا أقصد الحرب الدائرة في أوكرانيا وتدفق اللاجئين، فقد انسحبت أخبارها إلى الصفحات الداخلية.
الخبر الأول في نشرات التلفزيون والإذاعة، يركز على حالة بؤس اقتصادي تعيشها ملايين الأسر البريطانية بتضافر عوامل جعلت معدلات التضخم هي الأعلى منذ أربعة عقود.
العامل الأكبر تأثيراً، هو زيادة أسعار الغاز والوقود، وارتفاع الفواتير للبيوت وللنشاط الاقتصادي من الخدمات الفردية إلى الأعمال الكبرى بقرابة الثلثين، بعد انتهاء الفترة الموسمية التي تحدد فيها الحكومة سقف زيادة أسعار الوقود. شبكات التلفزيون والإذاعة أيضاً خصصت برامجها الحوارية لاستضافة خبراء ومتخصصين ينصحون الناس «الغلابة» بكيفية التوفير.
الخبر الثاني نشطاء حركة البيئة «إكستنينكشن ريبلليون» (يدعون أن التغير المناخي سيؤدي إلى فناء العالم) احتلوا الطرق أمام مراكز مستودعات البترول والديزل وزيوت وقود التدفئة في مناطق مختلفة في جنوب ووسط إنجلترا، ومنعوا الشاحنات من التحرك. ولمعلومات القارئ، فإن ملايين المساكن وأماكن النشاط في الريف البريطاني ليست مثل المدن موصلة بشبكات مواسير غاز التدفئة وأسلاك كهرباء الضغط العالي، بل تعتمد على زيوت الوقود (كالكيروسين) التي تخزن في صهاريج صغيرة تتراوح سعتها بين ما يكفي أسبوعاً، إلى شهر. ومنع الزيت من الوصول للناس في أيام شديدة البرودة أصبح خبراً؛ فمعظم مستهلكي الزيت أبقوا مستودعاتهم فارغة لشراء الحد الأقصى من الوقود بأسعار الخميس مارس (آذار) قبل ارتفاع الثمن أول الشهر، وليس في الصهاريج ما يكفي لتدفئة بيوتهم في الأيام القادمة بسبب منع النشطاء (وأغلبهم من أبناء الطبقات الميسورة المرفهين الذين لا عمل حقيقياً لهم) وصول الوقود إليهم. البرد في المنازل غير المدفئة بشكل كافٍ يتسبب في موت عشرة آلاف شخص من كبار السن في بريطانيا سنوياً، وذلك قبل أزمة الوقود؛ وارتفاع الأسعار.
المعارضة توجه اللوم للحكومة، وتدعمها التيارات الليبرالية اليسارية في صناعة الرأي العام بانتقائية التغطية الإخبارية، ولا تذكر أن الأدوات المتاحة للحكومة للتعامل مع الأزمة محدودة!
معدلات التضخم، وإضرابات عمالية قبل أربعة عقود كانت وراء فقدان حكومة العمال ( – ) بزعامة جيمس كالاهان ( – ) للانتخابات، وبقائهم خارج السلطة لعقدين.
أحداث سبعينات القرن والتي بدأت بارتفاع أسعار الوقود بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول) ، وأنهت حكومتهم ( – ) بزعامة السير إدوارد هيث ( – ) لا تزال في وعي ساسة المحافظين، ولا يريدون أن تنتهي فترة حكمهم منذ (وهي من أكثر الفترات نجاحاً اقتصادياً) بتكرار ما حدث للعمال في السبعينات.
مساحة تحرك الحكومة للتعامل مع الأزمات في الديمقراطيات البرلمانية محدودة، فلا تستطيع اتخاذ قرارات أو تصدر قوانين فورية التطبيق، فهناك ضوابط وتوازنات وقضاء مستقل، وقانون لا تستطيع الحكومة نفسها مخالفته. عادة ليس أمام الحكومة إلا السياسة الضرائبية، واستثناءات ما تسمح به لوائح وزارة المالية، حتى سعر الفائدة في يد بنك إنجلترا المركزي وقراره مستقل عن الحكومة.
وزير المالية، ريشي سوناك، في ميزانية الربيع قبل أيام، خفض الضريبة على وقود الشاحنات والسيارات لتخفيف ارتفاع أثمان نقل الأغذية، ومنحة وزارة المالية للحكومات المحلية بخصم مؤقت من ضريبة العقار لبعض الأسر لا كلها؛ لكن عوامل أخرى تؤثر على التضخم كشحن الواردات من الخارج ومواد التعبئة والتغليف، والتكاليف والرسوم التي تدفعها شركات نقل الأغذية والمواد الأساسية، لكنها إجراءات بسيطة لن تؤثر على معدلات التضخم أو ارتفاع أسعار فواتير الغاز، بشكل يساعد الغالبية وهم ذوو الدخول المحدودة.
أحزاب المعارضة، تريد من وزير المالية أن يقدم المزيد لمساعدة ذوي الدخول المحدودة ودعم أسعار الطاقة، كما تتهمه بتعمد عدم تخفيض الضرائب، ورفع رسوم الضمان الاجتماعي كضريبة مقنعة، وهي خطته كي يخفض الضرائب قبل الانتخابات القادمة في ليجذب مزيداً من الأصوات للمحافظين.
المعارضة العمالية والتيارات الاشتراكية والديمقراطيون الأحرار، يطالبون بفرض ضريبة استثنائية على شركات البترول والغاز لأنها «حققت أرباحاً استثنائية من ارتفاع أثمان البترول والغاز». «الإغارة» على الأغنياء وآيديولوجية الحقد الطبقي التي تحرك السياسات الاشتراكية دائماً وبلا استثناء تؤدي لنتائج عكسية.
فلا توجد ضريبة استثنائية في الخريف حيث يتوقع عند ارتفاع أثمان الطاقة!
والضريبة الاستثنائية ستؤدي إلى هروب الاستثمارات التي تحتاجها بريطانيا، بما فيها الاستثمار في وسائل الطاقة الخضراء التي تمولها شركات الطاقة (وهي من أحد أسباب ارتفاع فواتير الغاز) وتصر عليها تيارات البيئة اليسارية.
كما أن أرباح هذه الشركات تذهب إلى حملة الأسهم، وبعكس ما تروجه الصحافة الاشتراكية مثلاً، فالغالبية العظمى من حملة الأسهم هي مؤسسات مالية ترعى صناديق المعاشات واستثمارات التقاعد لملايين من العاملين وأصحاب الحرف الصغيرة، والتي يدعي الاشتراكيون أنهم يمثلونهم.
باستثناء صحافة يمين الوسط، وخدمة جي بي نيوز (والتي تمثل أقل من خُمس صناعة الرأي العام) كل التغطية الصحافية تتجاهل تعطيل محتجي البيئة لوصول زيت التدفئة للمساكن، وأثر نشاطهم على تعطيل الاستثمار في بناء محطات توليد الطاقة النووية، وهجر استخراج الغاز الصخري وغاز وبترول الحقول والمياه البريطانية كسبب رئيسي في أزمة الطاقة الحالية والاعتماد على استيراد الغاز من الخارج.
ساسة اليسار وحركة البيئة لا يذكرون أي حلول للتعامل مع المشاكل الآنية الحالية كخفض أسعار الوقود وتوفير الاحتياجات الأساسية، بل يركزون على اقتراحات ومشاريع بشعارات مثالية براقة على المدى طويل وباهظة التكاليف كتوليد الطاقة من الرياح التي لا يضمن استمرار هبوبها. استمرار حكومة المحافظين في تبني دعوة متطرفي ناشطي البيئة، ورفضها استغلال الموارد المتاحة لعلاج أزمة للطاقة قد يكلفها الانتخابات القادمة.

عادل درويش

كبير اقتصاديي معهد التمويل: إعادة هيكلة النظام المالي أصعب جزء في برنامج الصندوق

أصدر كبير الاقتصاديين في معهد التمويل الدولي د. غربيس إيراديان توقعات معدّلة للاقتصاد اللبناني، بعد توقيع الاتفاق المبدئي مع صندوق النقد الدولي، في تقرير أعدّه تحت عنوان: «اتفاق لبنان مع صندوق النقد الدولي – دعوة للعمل تتخلّلها عقبات وتحدّيات».

إعتبر ايراديان انّ الاتفاق مع الصندوق على مستوى الموظفين (SLA) يمنح بصيص أمل، بعد توصّل وفد صندوق النقد الدولي والسلطات اللبنانية إلى تفاهم حول السياسات الرئيسية والإصلاحات الهيكلية التي يمكن دعمها من خلال برنامج تمويل الصندوق (EFF) الممتد لـ 46 شهراً، والذي يؤمّن حوالى 3 مليارات دولار. مشدّداً على انّ هذه الاتفاقية قد تخضع لموافقة إدارة صندوق النقد الدولي والمجلس التنفيذي، إذا تمّ تنفيذ الإجراءات المسبقة في الوقت المناسب، والمتعلّقة بـ:

 

– إعادة هيكلة القطاع المالي.

– تنفيذ إصلاحات مالية مع التركيز على تأمين إيرادات إضافية.

– إصلاح المؤسسات المملوكة للدولة، ولا سيما مؤسسة كهرباء لبنان.

– تعزيز أطر الحوكمة ومكافحة الفساد.

– إنشاء نظام نقدي وسعر صرف موثوق يتسم بالشفافية.

 

وأشار الى ضرورة صياغة إطار الاقتصاد الكلي على أساس جدول زمني واضح، لتنفيذ الاصلاحات المالية والنقدية والادارية العامة المطلوبة.

 

ولفت ايراديان الى انّ الأزمة الاقتصادية والمالية الحالية تعود جذورها إلى تاريخ طويل من سياسات الاقتصاد الكلي غير المتسقة، والمحاولات الفاشلة لمعالجة تشوهات السياسات الاقتصادية. في حين تعكس هذه الإخفاقات السياسية الأساسية، العوامل الاقتصادية والفساد العام المتفشي الناجم عن نظام طائفي مختل، وتدخل في النظام القضائي ونقاط ضعف مؤسسية كبيرة. وهي التي تسبّبت بجزء كبير بالأزمة الحالية. موضحاً، انّ عجز الحساب الجاري الخارجي الواسع كان إلى حدّ كبير نتيجة تقييم العملة المحلية بشكل مبالغ فيه اكبر من قيمتها الحقيقية، مما شجع على الاستيراد وزاد الاستهلاك الخاص. في حين كانت البنوك مدعومة بعائدات عالية وبشكل مصطنع على ودائعها في مصرف لبنان وعلى سندات الخزانة الحكومية. وقد ولّدت أسعار الفائدة المرتفعة، تدفق العملات الأجنبية التي تمّ استخدامها لدعم سعر الصرف المبالغ في تقييمه، وأيضاً الواردات، مما فاقم الضرر اللاحق بالصناعة المحلية والقطاع الزراعي.

 

في الوقت نفسه، أدّت أسعار الفوائد المرتفعة الى ضرر أكبر وأكبر على الموازنة، التي كان لا بدّ من تمويلها عن طريق الاقتراض المتزايد، مما خلق حلقة مفرغة من ارتفاع الدين العام واتساع العجز المالي.

 

فيما شدّد معهد التمويل الدولي في تقرير،على انّ موافقة مجلس إدارة صندوق النقد الدولي والمجلس التنفيذي على برنامج تمويل لبنان، رهن بالإجراءات المتوجب على الحكومة تطبيقها، أوضح انّ الاتفاق المبدئي (SLA) هو خطوة أولى في الاتجاه الصحيح، يغطي نطاقًا واسعاً من مجموعة الإصلاحات المحتمل تنفيدها، آملا ان تستغل السلطات اللبنانية هذه الفرصة، وتبدأ قريباً في تنفيذ الإصلاحات العاجلة، بما في ذلك الإجراءات الاولية، بهدف وقف تدهور الاقتصاد بشكل اكبر وتقليص مخاطر الانهيار الكامل للنظام المالي.

 

واعتبر ايراديان في هذا الإطار، انّ النظام السياسي اللبناني بانقساماته الطائفية، لا يزال يشكّل عقبة كبيرة أمام الإصلاحات الاقتصادية. وبالتالي، فإنّ التغييرات الهيكلية في النظام السياسي، بما في ذلك دخول نواب جدد أقل فساداً الى البرلمان، يمكن ان يسهّل إقرار الإصلاحات الاقتصادية الشاملة. آملاً أيضاً أن يكون هناك تغيير كبير في عقلية الأحزاب السياسية التقليدية التي حكمت لبنان على مدى العقود الثلاثة الماضية، للاستفادة من الفرصة الحالية مع صندوق النقد الدولي، وذلك من خلال تنفيذ إصلاحات اقتصادية ومؤسسية عاجلة ووضع الاقتصاد على طريق الانتعاش المستدام.

 

ولفت الى انّ إعادة هيكلة النظام المالي (أولى الإجراءات الاولية الخمسة المطلوبة) ستكون أصعب جزء في برنامج صندوق النقد الدولي المحتمل، حيث انّه في الوقت الذي قام القطاع المصرفي بعمليات دمج داخلية، إن كان من ناحية دمج الفروع او اتخاذ إجراءات لتقليص النفقات التشغيلية وخفض موازناته، فالمطلوب اليوم إجراء عمليات تدقيق لجميع البنوك من اجل تحديد البنك السيئ والبنك الجيّد، أي المصرف الذي يمتلك الملاءة المالية، والذي ليس لديه ملاءة مالية.

 

واعتبر ايراديان انّه يجب توحيد أصول ومطلوبات البنوك السيئة، وتسديد كامل ودائع صغار المودعين، على ان يتمّ بيع جميع الأصول المتبقية بالمزاد العلني، كجزء من عملية حماية أكبر المودعين بالحدّ الأقصى الممكن. مشيراً الى انّ مثل هذ العملية يمكن أن تؤدي إلى إنشاء نظام مصرفي أصغر حجماً وأكثر عافية.

 

كما لفت الى انّ لبنان بحاجة ماسة إلى إصلاح قطاع الكهرباء والاتصالات والمياه وأنظمة المرافئ والمؤسسات الاخرى المملوكة للدولة، مع الأخذ بالاعتبار إمكانية خصخصة وتنظيم هذه المرافق العامة. وفي هذا السياق، نوّه معهد التمويل الدولي، بموافقة مجلس الوزراء أخيرًا على خطة إصلاح مؤسسة كهرباء لبنان الجديدة، والتي تتضمن إنشاء هيئة ناظمة مستقلة، القضاء على الهدر، والتدقيق المنتظم لمؤسسة كهرباء لبنان، ورفع التعرفات لتغطية التكاليف، معتبراً انّه هذا شرط أساسي لتأمين 900 مليون دولار على شكل تمويل من قِبل البنك الدولي، وهو ما يمكن ان يُستخدم لدفع ثمن المحروقات من مصر والأردن وزيادة انتاج الكهرباء حتى 14 ساعة / يوم.

 

وشدّد على أنّ الاصلاح المالي يجب ان يعتمد بالكامل على تأمين الإيرادات الحكومية بعد انهيار الإنفاق في العامين الماضيين، معتبراً انّ الإجراءات الضريبية التالية يمكن أن تؤمّن إيرادات إضافية كبيرة في السنوات المقبلة:

 

– توحيد سعر الصرف المعتمد في الموازنة لجميع المعاملات، بما في ذلك الإيرادات والنفقات. (اعتماد أسعار صرف متعددة يوفر دعماً ضمنياً، مما يعزّز التهريب)

– يجب أن تستهدف ضريبة الدخل الشخصي (PIT) معدلات ضريبية أعلى للفئات ذات الدخل المرتفع، ما يؤدّي إلى تحويل العبء الضريبي للأسر الأكثر ثراءً والتي سيزيد عبئها الضريبي هامشياً كنسبة من زيادة دخلها.

– إدراج الدخل غير المرتبط بالأجور في الدخل الخاضع للضريبة.

– تعزيز إدارة الجمارك الضريبية.

– الاستثمار في الموارد البشرية والمالية والتكنولوجية، مما يوفر عائدات ضريبية أعلى.

 

كما شدّد إيراديان على ضرورة توحيد أسعار الصرف المختلفة، واعتماد نظام سعر الصرف العائم، مؤكّداً انّ وجود سعر صرف موحّداً يوازن بين الطلب والعرض من النقد الأجنبي، أمر بالغ الأهمية لاستعادة الاستقرار الكلي وتعزيز الاستثمار والنمو. كما انّه يعزز التنافسية والشفافية ويقضي على التشوهات المرتبطة بممارسات العملات المتعددة، ويحدّ من مخاطر الفساد.

 

وبهدف تحقيق استدامة الدين العام، يجب إعادة هيكلة الدين الحكومي (سندات اليوروبوندز) بما في ذلك اقتطاع منها بنسبة 70 بالمئة.

 

توقعات معهد التمويل الدولي

 

يفترض معهد التمويل الدولي باحتمال نسبته 50 في المئة، أن تبدأ السلطات اللبنانية في تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية العاجلة في غضون شهرين، بما في ذلك الإجراءات الاولية التي طالب بها صندوق النقد الدولي، ما من شأنه أن يمهّد الطريق امام موافقة إدارة الصندوق على برنامج التمويل EFF بحلول حزيران 2022. في هذه الحالة، سيكون الدعم الخارجي من مصادر خارجية ضروريًا للارتقاء بالاقتصاد من حالة الانهيار الى حالة الاستقرار وتعزيز النمو المستدام والعادل. وبالتالي، يمكن أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 2.5% في عام 2022 (وإن كان من قاعدة منخفضة) مع انتعاش أقوى في النصف الثاني من هذا العام. ويمكن أن يتسارع النمو بعد ذلك إلى 8% في عام 2023 مدفوعاً بالاستثمار العام وصافي الصادرات. كما يمكن أن تخف حدّة الضغوط التضخمية نتيجة ارتفاع سعر الصرف الموحّد للعملة المحلية، مع انخفاض متوسط ​​التضخم من 156% في 2021 إلى 98% في 2022، ونحو 20% في 2023. كما سيرفع فاتورة الاستيراد بشكل كبير. ومع ذلك، يمكن أن تبدأ الاحتياطيات الرسمية في الزيادة مدعومة بالتدفقات المالية الرسمية (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والقروض الميسرة CEDER).

 

كما يمكن لبرنامج محتمل مع صندوق النقد الدولي أن يضع الدين العام على مسار هبوطي ثابت، من خلال تنفيذ تدابير مالية وإعادة هيكلة الدين العام.

 

ولفت ايراديان الى انّ تحديد أولويات إجراءات الإصلاح وتسلسلها أمر حاسم، حيث يجب ان يكون التركيز في المدى القصير، على تحقيق استقرار الاقتصاد الكلي، بما في ذلك سعر صرف موحّد ومستقر نسبياً يحدّده السوق، نسبة تضخم أقل بكثير، وعجز أقلّ. يمكن تحقيق ذلك جزئياً عن طريق الحدّ من الزيادة في الأموال المتداولة بالليرة لبنانية في السوق. وشدّد على انّ هذه التوقعات عرضة لمخاطر سلبية نابعة من التأخير في تنفيذ الإصلاحات والنقص في مساعدات المانحين.

 

الاصلاح المالي اعتماداً على الإيرادات الحكومية

 

ارتفاع عجز الحساب الجاري

عقيدة «بتكوين»

«أنا لا أملك أي عملات مشفرة، ولن أملكها أبداً»، كرر الملياردير الأميركي وارن بافيت هذه العبارة مراراً وتكراراً في أكثر من لقاء تلفزيوني، مبيّناً وجهة نظره بشكل صريح ومباشر في العملات الرقمية التي وصفها سابقاً بـ«سم الفئران»، قبل أن يصفها في لقاء لاحق بـ«سم الفئران تربيع». هذه العبارات الحادة، واجهتها أخرى أكثر حدة من دعاة «بتكوين»، وتحديداً من بيتر تيل، الملياردير الأميركي الآخر أحد مؤسسي «باي بال»، وأحد أوائل المستثمرين في «فيسبوك».

ففي مؤتمر «بتكوين» الذي عُقد في ميامي الأسبوع الماضي، شن تيل هجوماً صارخاً وشخصياً على بافيت، بسبب مواقفه من «بتكوين»، وعدّه العدو رقم واحد لها، واصفاً إياه بـ«الجد المعتل اجتماعياً». هذا الهجوم المتبادل والمستمر بين مؤيدي العملات المشفرة ومناهضيها جعل هذا الخلاف كأنه خلاف عقائدي، وليس خلافاً في فلسفة اقتصادية أو استثمارية، لا سيما أنه يأتي من كبار المستثمرين في التيارين، فما نقاط الخلاف الرئيسية بين هذين التيارين؟

البداية مع بافيت، الملياردير الذي عُرف بحكمته المالية التي يتناقلها الناس. رأي بافيت بسيط في العملات المشفرة –وليس «بتكوين» فقط– وهو يتلخص في نقطتين، الأولى أن العملات المشفرة لا قيمة لها بحد ذاتها، وهي بذلك –في نظره– أقرب للوهم. النقطة الثانية تتعلق بعوائد العملات المشفرة، ويرى بافيت أن الأصول المدرّة مثل المزارع، تدر عوائد سنوية إضافة إلى قيمتها. فملّاك المزارع يراقبون أسعار المحاصيل للنظر في مدى الربحية، ولذلك فعند شراء هذه المزارع لا يُنظر في قيمتها فحسب؛ بل إلى ما تدره من دخل. أما في حالة العملات المشفرة، فإن الشيء الوحيد الذي يعطيها قيمة، هو وجود مشترٍ آخر لها، ولذلك فحين يشتريها شخص، فهو يفعل ذلك على أمل أن تزيد قيمتها ليبيعها لشخص آخر يأمل في الأمر ذاته. ولذلك فقد كرر بافيت كثيراً أن نهاية العملات المشفرة نهاية سيئة، وأنها لن تبتعد عن نهاية «التوليب» التي حدثت في هولندا في القرن السابع عشر الميلادي.

وبينما لم يُعرف بافيت بتصريحاته الحادة، عُرف عن تيل تصريحاته النارية والمثيرة للجدل. وتيل هو أحد أوائل المستثمرين في وادي السيليكون، وقد وصف «باي بال» -وهو أحد مؤسسيها- بأنها شركة محبطة، وأنها لم تفِ بما كان مأمولاً منها، ويذكر أن القيمة الحالية لهذه الشركة 130 مليار دولار.

انضم تيل إلى الحزب الجمهوري بداية رئاسة دونالد ترمب، وكان أحد الممولين لحملته الانتخابية. ويرى أن الاستثمار في «بتكوين» هو قرار سياسي، وأن «بتكوين» عبارة عن حركة شبابية ثورية قد تقلب الطاولة على النظام المالي التقليدي وتهدد القوى الحالية. وإضافة إلى هجومه على بافيت في مؤتمر ميامي، فقد استخدم وصف «الشيخوخة المالية» لوصف كل من المدير التنفيذي لـ«جي بي مورغان» ورئيس صندوق «بلاك روك»، وادعى أنهما يسعيان إلى إقصاء العملات المشفرة. واستمر هجوم تيل في المؤتمر، ولكن هذه المرة على القائمين على المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة (ESG)، ووصفهم بأنهم جزء من النظام المالي الساعي إلى سحق كل ما يهدد بقاءهم، وأنهم تحولوا إلى مصنع للكراهية، وشبَّههم بالحزب الشيوعي الصيني. وسبب هجوم تيل عليهم هو وصف «بتكوين» بأنها عملة ملوثة للبيئة، بسبب ما تستهلكه من طاقة أثناء عملية التعدين.

ويرى تيل -كغيره من كثيرين من المتحمسين للعملات المشفرة- أنها ستكون عملة المستقبل، وأن النظام المالي الحالي يشهد نهايته، وأن البنوك المركزية على وشك الإفلاس. وبالمقابل، فهو يصف «بتكوين» التي تُقيّم حالياً بنحو 830 مليار دولار، بأن لديها القابلية لتصبح نظيراً عالمياً للذهب الذي يساوي حالياً أكثر من 13 تريليون دولار. وادعى أن قيمة «بتكوين» قد تصل إلى أن تساوي قيم الملكيات العامة في العالم (115 تريليون دولار)، تماماً كما ساواها الذهب في السبعينات الميلادية. وحث حضور المؤتمر على أن يقاتلوا لكي تزيد قيمة «بتكوين» على 10 مرات، ومن ثم 100 مرة من القمة الحالية. واختتم المؤتمر بقوله: «يجب أن نخرج من هذا المؤتمر ونكتسح العالم».

الخلاف بين التيارين خلاف استثماري بحت، ولكنه تحوّل إلى عداء؛ لأسباب، منها: استنقاص مناهضي العملات المشفرة لها، وعلى رأسهم بافيت الذي يرى أن الناس يحبون الاستثمار فيما لا يفهمونه، وليس أفضل من «بتكوين» في ذلك، بينما يرى مؤيدو «بتكوين» أن هذا الاستثمار لا يناسب كبار السن، في إشارة إلى الفارق العمري بين مستثمري التيارين. والأكيد أن تيل ليس الشخص المناسب ليمثل مستثمري جيل الألفية، وهو الذي يبلغ من العمر 54 عاماً، ويستخدم مصطلحات مثل «ثورة الشباب»، وهو المصطلح المستخدم في أميركا في السبعينات الميلادية، في مطالبات الحقوق المدنية!

 

د. عبد الله الردادي

فكرة طارئة

الوضع المصرفي في #لبنان لا يسمح للمصارف العاملة، التي منها عدد تابع لإدارتها في الخارج لإصدار كتب اعتماد لاستيراد منتجات ضرورية لاستهلاك اللبنانيين وصحتهم، ومنها على سبيل المثال مشتقات النفط الضرورية للانتقال والنقل وإنتاج الكهرباء من معامل قائمة ومتقادمة، ومنتجات غذائية ضرورية منها القمح، ومنتجات تغذية مزارع الأبقار والدجاج، ومستوردات الأدوية الضرورية، وأجهزة إنجاز العمليات المعقدة إلكترونياً من قبل اختصاصيين متميزين وبالطبع مستوردات التلقيح لضبط انتشار وباء كورونا الخ.

لبنان شهد انحداراً في حجم المستوردات بلغ مستوى 50% عام 2021، لكن هذا الانخفاض سيتغيّر هذه السنة 2022 بسبب ارتفاع أكلاف استيراد النفط والمشتقات بنسبة 50% بحيث بلغ سعر برميل النفط بتاريخ كتابة هذا الكتاب 114 دولاراً مقابل 52-54 دولاراً قبل شهرين، وممارسات أصحاب المطاعم بالامتناع عن قبول بطاقات الاعتماد والإصرار على الدفع إما بالدولار النقدي أو النقد اللبناني على اعتبار أن سعر الدولار 1500 ل.ل غير منطقي بعدما بلغ 31 ألف ل.ل ثم انحسر الى 20 ألف ل.ل أي بنسبة 30% وأكثر، لكن أصحاب المطاعم يرفضون خفض أسعارهم التي أرسوها على سعر 31 ألف ل.ل للدولار، وهذا الأمر مخالف للقوانين كما هو مخالف لمصالح أصحاب المطاعم وسيشهدون انخفاضاً في الإقبال في وقت قريب.

يسعى مصرف لبنان الى ضبط أسعار الصرف بتوجيه المواطنين أفراداً ومؤسسات الى شبّاك الصيرفة في مصرف لبنان ويبدو أن هنالك توجّهاً نحو إعادة استحواذ نسبة كبيرة من إصدارات الليرة، التي كانت بسبب ارتفاعها السبب الأساس للمضاربات وتعدل قيمة الصرف التي استقرّت أخيراً ويبدو أنها مرشحة للاستمرار حتى نهاية شهر آذار الحالي.

لا شك في أن تذبذب أسعار العملة المحلية وندرة توافر الدولارات النقدية أسباب رئيسية في تقلب الأسواق ولا يمكن ضبطها بسهولة. عام 1995 حينما طرحت فكرة تمديد فترة الرئيس الهراوي لـ3 سنوات تعاظمت حركة المضاربة على سعر الليرة فهبط السعر من حوالى 1596 ليرة للدولار الى ما يزيد على 1646 ل.ل للدولار.

من أجل كبح جماح المضاربات استصدر آمر قوى الجيش المكلفة بحفظ الأمن في بيروت مذكّرة أقفل بموجبها جميع منافذ المضاربات من قبل هيئات مسجلة رسمياً وأخرى تعددت دون أية إجراءات، وقد تسببت مذكرة الرجل العسكري الأمني في ضبط نشاط المضاربات واستعادة الليرة مستوى تحويلاتها السابقة.

يبدو أن هناك اليوم نجاحاً محدوداً في ضبط سعر صرف الليرة وقد لا يستمر بسبب ارتفاع أسعار النفط ومشتقات القمح والحليب وما شاكل من المنتجات الضرورية وأخصّ هذه المنتجات الصحية والدوائية، وحجم الاستيراد سينخفض من جديد ربما بنسبة 10% ومع ذلك تبقى قضيّة سعر الصرف متحكمة بمساعي اللبنانيين لتأمين المداخيل الكافية، وحيث إن الفرص المتاحة محدودة أصبح الهدف هو الحصول على وظيفة في الخارج، وهذه الإمكانية استوعبت نسبة ملحوظة من أطبّائنا ومهندسينا وخبراء المعلوماتية.

يبقى السؤال: كيف لنا أن نؤمّن الحد الأدنى من الاستيراد المفيد والضروري لإنتاج الكهرباء، تحقيق النقل والانتقال، الثقة بتوافر الدواء والقدرة على إجراء العمليات في المستشفيات، وتمكن التلامذة من متابعة دراساتهم دون توافر الكهرباء سواء للإنارة أو التدفئة.
لقد ترافقت في رحلة الى باريس مع الأستاذ فراس الملاح، وهو الشريك المكلف بإدارة شركة استثمارية قابضة اسمها MMK Capital، وهي شركة مسجلة في سوق دبي المالي وصاحب الحصّة الكبرى فيها مستثمر من البحرين، الأمر الذي يبيّن كيف يتزايد التعاون بين بلدان الخليج.

أهداف الشركة واضحة وهي تحقيق مردود مفيد لصاحب الاستثمار من مختلف نشاطات توظيف الأموال، والأمر الذي يدعونا الى تفحّص منهج هذه الشركة أنها توصّلت ولديها شراكة مع مؤسسة الـIFC أي المؤسسة الاستثمارية التابعة للبنك الدولي، الى تأمين تمويل لاستيراد منتجات الذهب والمجوهرات والفضة لمؤسسات تجارية لبنانية مختصّة بتسويق هذه المنتجات. والعمل جارٍ منذ سنوات وليس هنالك شكوى من أيّ طرف.

هنا يطرح السؤال: لماذا اختيار شركة MMK تمويل مشتريات المجوهرات والذهب لحساب مصمّمين في لبنان وأصحاب منافذ بيع مرموقة؟

الجواب هو أن صادرات الذهب المشغول والمجوهرات تمثّل البند الأكبر في صادرات لبنان، وحيث تبلغ الصادرات اللبنانية كلياً 3.2 مليارات دولار منها ملياران من المجوهرات والذهب مصدّرة الى سويسرا، رأى المسؤولون عن شركة MMK أن بوسعهم تمويل استيراد المنتجات المشار إليها، وتحصيل مبالغ تمويلهم وعمولتهم، وحيث إن هذه العمليات تشكل 60% من صادرات لبنان يمكن التقدير أن حاجات الاستيراد قد تضاهي مليار دولار تتوافر من شركة استثمارية مسجّلة في سوق دبي بدلاً من أي بنك لبناني، وهنالك أكثر من بنك لبناني في دبي لا يمكن أن تخصّص مواردها لهذه العملية، ويرجّح أن لا يقبل المصدّرون الى لبنان ضمانات البنوك اللبنانية.

استناداً إلى هذا الواقع، وبسبب الحاجة الملحّة لاستيراد منتجات أساسية للحياة العادية في لبنان كما لتمويل مستوردات يمكن بعد تعديلها فنياً وتوضيباً أن تصبح قابلة للتصدير، والأمر لا يتوقف على المجوهرات والذهب، علماً بأن منافذ البيع للمؤسسات اللبنانية في الخارج متميّزة، فالاختصاصيون بالمجوهرات لديهم منافذ أنيقة في سويسرا وفي شمال شرق أستراليا التي يقصدها اليابانيون، لأن السفر الى أستراليا جوّاً من اليابان تنقص كلفته عن كلفة بطاقة السفر بالقطار الكهربائي السريع من طوكيو الى كيوتو العاصمة القديمة لليابان، وحيث لا نزال نشاهد الغزلان تجوب الشوارع وكأنها في محيطها الطبيعي.

أكبر استهلاك لمنتج ضروري هو استيراد النفط ومشتقاته، والكلفة لاستيراد مشتقات النفط لا تقلّ عن نصف كامل كلفة المستوردات، وبالتالي إذا استطعنا تأمين وسيلة تمويل كما تحقق شركة MMK Capital لمصلحة وضعي المجوهرات والذهب، نستطيع أن نشعر بأننا على طريق النجاح في معالجة مشاكلنا التي تبدو مستعصية.

إننا ندعو الى تأسيس شركة لاستيراد مشتقات النفط والغاز برأسمال ملياري دولار لاستيراد مشتقات النفط والغاز للاستعمال المنزلي، والمليارا دولار تكفي على مدار السنة لاستيراد مشتقات يبلغ ثمنها 6-7 مليارات دولار سنوياً، وبالإمكان إشراك شركات النفط القائمة في رسملة الشركة العتيدة التي نوصي بقيامها، لأن أصحاب الشركات الملحوظة مقتدرون على تأمين 600 مليون دولار تشمل 30% من رأسمال الشركة يضاف إليها 600 مليون دولار من الـIFC الشريكة في شركة MMK Capital والرصيد الباقي يكون من البنك الدولي أو البنك الأوروبي للإنماء.

يجب التذكير بأن الدول الصناعية التي تملك شركات النفط الكبرى مقبلة على مرحلة انكماش، وهي تحتاج الى تحريك رساميلها لكي تؤمن مردوداً يمنع عنها ضرورات تسريح العمال، وشركات النفط اللبنانية التي تشترك في الرسملة وتسويق غالبية المشتقات قادرة على إيفاء التزاماتها بالعملات الحرّة لأن الطلب على البنزين والمازوت يفرض تأمين المدفوعات بالعملات الحرة.

هل سيتمتع لبنان بتدفق العملات الحرة للاستثمار والإيداع؟ الجواب عن هذا السؤال أن جمهور اللبنانيين المطالبين بتحسّن الاوضاع يمكن أن يكرّسوا المطالب المعروضة أعلاه كأهداف وطنية بامتياز، وحينئذٍ لن تكون هناك مشاكل جذرية.

وكي نكون مطمئنين إلى تحقيق النتائج المشار إليها نشير الى أن التحويلات من اللبنانيين في الخارج ستزيد وتحويلات الخدم وعمّال البناء من لبنان ستتناقص بسبب انحسار الطلب، والمساعدات للجامعات، والجيش، ونفقات قوات الانتشار الدولي في الجنوب، وإخراج بعض الادخارات من مخابئها لدى العائلات الميسورة قد تؤدّي الى توافر تدفقات تفوق 9 مليارات دولار، الأمر الكافي مع وفورات الاقتراحين المقدّمين لاستعادة نبض الحياة الاقتصادية والى حدّ ما الاجتماعية في لبنان.

إن الاهتمام بمستوردات الأدوية والقمح والأعلاف للأبقار ضروري، ويبدو أن بعض جوانبه بدأت تتأمّن من تمويل الجيش بـ300 مليون دولار بالفعل، والمدارس الجامعية والثانوية بـ250 مليون دولار من المساعدات الأميركية والفرنسية، وقد انضمّت الى مساعي فرنسا المملكة العربية السعودية، كما كانت دولة الإمارات قد سبقت بتأمين تمويل مشتريات غذائية ومثلها فعلت الكويت، وبالتالي برغم غيوم حرب روسيا مع أوكرانيا، قد تتوافر معونات أكبر للبنان إذا أحس المجتمع الدولي بأن الحكومة جادة في رسم خطة مفيدة بدءاً من تأمين الكهرباء المستمرّة بأسعار معقولة وهذه النتيجة لن تتأمن بالتأكيد ممّا يسمّى خطة الكهرباء؟ ويا لها من خطة، لا خطة ولا تفكير ولا سعي لتأمين الطاقة بسرعة وأكلاف معقولة، وهذا أمر ممكن لو خصّصت أعمال الإنتاج والتوزيع على أساس المحافظات للقطاع الخاص المناسب في كل محافظة.

 

– مروان اسكندر

بورصة انفو: الموقع الرائد لأخبار الذهب ، العملات ، البورصات. مع تحليلات