للتاريخ… جريمة القرن… اللبنانية

تحتاج إلى سنوات لبناء الثقة، ويمكن بثوانٍ أن تدمّرها. في لبنان، انهارت الثقة في النظام السياسي وتبعها الآن انهيار الثقة في النظام المالي والقطاع المصرفي. بدأت القصة سنة 1995 في بداية الحقبة الحريرية المالية، والتي راهنت على عملية السلام. اعتمدت نظرية الإستدانة مهما بلغ ثمنها، لأنّ الفورة بعد السلم ستمحو الدين. فشلت الرهانات. خلالها، استذاق الفريق الحاكم لعبة الفوائد. بدأ الإغرار باللبناني المقيم والمغترب بالفوائد المرتفعة، ممّا استجلب المليارات منه ومن بعض العرب. كان أكثر اللبنانيين، وبسبب ضعف الثقافة المالية يتوهّمون أنّ لبنان لم ولن يقع مالياً. هو أعجوبة. وعلى كلّ حالٍ، قال في نفسه: «ماذا يمكن أن يحصل؟ أنا أعرف مدير الفرع أو مدير البنك. الميسور كان يعرف صاحب البنك. أكيد سأعرف قبل غيري في حال نذير خطرٍ ما، وأسحب مالي من السلة الكبرى في المصارف».

الغريب والملفت أنّ مدراء وأصحاب البنوك، والذين يتوقّع منهم معرفة الحدّ الأدنى من علم إدارة المخاطر، وقعوا أيضاً فريسةً للطمع. فلم يستطيعوا مقاومة الإغراءات ووظّفوا الودائع في دين الدولة بحجم 200 في المئة من رأس مالهم. وما فاض بعد تمويل القطاع الخاصّ بـ55 مليار دولار أو شهادات إيداع، أودعوه في البنك المركزي، حتّى بلغت ودائعهم لديه حوالى 156 مليار دولار، منها 114 مليار دولار من ودائع الناس و42 مليار دولار تسهيلات من البنك المركزي نفسه. بفائدة 2 في المئة ليعودوا ويوظفوا أغلبها بـ 12 في المئة لديه أيضاً. خطوة غير مسبوقة أنّ بنكاً مركزياً يسلّف مصارف ثم يعود لإيداعها لديه بفارق فائدة 10 في المئة، تسجّل أرباحاً لهم وخسارة له. أغلب أصحاب المصارف كانوا مطمئنين الى أنّهم بنوا علاقة ثقة مع الحاكم وسيخطرهم عند أي خطر.

خلال تلك الفترة الزمنية، انتبه السياسيون الى هذه اللعبة، ودخلوا شركاء مضاربين فيها، يؤمّنون الحماية لها مقابل مليارات الدولارات يجنونها في لعبة الفوائد، ومن دون أن يستثمروا دولاراً واحداً. كان بعض السياسيين أصحاب مصارف يؤمّنون تسهيلات بالدولار بفائدة 6-7 في المئة لشركائهم الذين يحولونها الى ليرات ويودعونها بفوائد 35 – 40 في المئة، وعند الاستحقاق يسدّون القروض ويجنون الفارق حوالى 30- 32 في المئة صافٍ دون قرش واحد مخاطرة.

الطرف الرابع والمايسترو الأساسي في هذه اللعبة كان البنك المركزي. أيضاً أغرته مليارات الدولارات التي دخلت البلاد، حتّى أصبحت الودائع في فترة ما تساوي 400 في المئة من الناتج، وهي سابقة مميّزة في تاريخ الدول. هذه الودائع وكلّ النظام الريعي جعلا حاكم البنك المركزي حاكماً مضارباً مع بقية حكّام البلاد، يحمونه ويحميهم، يدلّلونه ويدلّلهم، حتّى أعمت اللعبة أبصارهم جميعاً. سلطة المركزي أوصلت طموحه إلى رئاسة الجمهورية، فوضع تحت جناحه أغلب السياسيين، كبارهم وصغارهم، 8 و14، وتحالَف مع المصارف وأصحاب المصالح. اشترى ذمم عدد غير قليل من الصحافيين والصحافة والخبراء المزيفين.

لم يتصوّر احد انّ لعبة الكراسي الموسيقية ستتوقف يوما ماً، اي دخول الودائع. عاشوا جميعهم على وهم ثقة مزيفة، وانّ الـPonzi sheme في لبنان ليس كغيره، وانه لن ينهار.

في 27 تموز 2009 كتبت مانشيت في الجريدة بعنوان «مسرحية جريمة الدين العام، 56 مليار دولار». بسذاجة، اعتقدت انّ البلد سيهتز في اليوم التالي، لما احتواه الموضوع من تفاصيل حول منفذي المسرحية وممثليها ومنتجيها ومخرجها. زرت بعض الزعامات في اليوم نفسه، لأكتشف انّهم كلهم من دون استثناء لم يقرأوا عن الجريمة، ولم تخبرهم كاتبتهم الصحافية عنها. هكذا زعماء لبنان، وكذلك مصارفه وشعبه. بدأ الجميع يتحسس منذ سنة ونصف، فقط لأنّهم استشعروا الخطر على ودائعهم او رأسمالهم، المواطن يُذلّ بـ200 دولار فيلعن المصارف واصحابها، والمصارف تنتظر ما يرسله المركزي يومياً، فتلعن ايضاً سوء ادارته، والسياسيون يتفرّجون بعد ان حوّل اكثرهم جزءاً من امواله الى الخارج. اما بطريرك المركزي، ما زال يبشّر بسلامة الودائع، وسعر الصرف، ومتانة القطاع المصرفي، وانّه لا يخالف القوانين. لذلك يقول لا اقتطاع من الودائع ولا تغيير في سعر الصرف، بينما يبارك ويسهّل عمل الصرّافين بسعر موازٍ، ويمنع خروج الاموال، ويغضّ النظر عن خسارة 30% من المال لمن يريد تحويله الى الخارج.

كتبنا مراراً انّ ما حصل في لبنان على مستوى دولة ومجتمع، مقيم ومغترب، لا سابقة له في تاريخ الامم والشعوب. لا سابقة ان يتمّ إغرار شعب بكامله بنظام ريعي لمدة 25 سنة وبفوائد منفوخة اصطناعياً، حتى اصبحت اقسى من الإدمان على المخدرات. هذا النظام المالي استدام بحماية نظام سياسي أفسد منه وفي نفس الفترة. اصبح النظامان المالي والسياسي كالحشرات المتوالدة، يتغذّى الواحد من الآخر، والعكس ايضاً. هما في حلف فولاذي لا ينكسر لأن ضعف أحد عنصريه يقضي على الآخر. بنفس المفهوم بين النظامين، استدامت ايضاً حصانة اطراف كل منهما. فالبنك المركزي والمصارف ايضاً في سيرورة واحدة، اذا عطس احدهما، اصيب الآخر بالانفلونزا، كذلك اطراف نظام المحاصصة السياسي. لم يعد احد من العارفين بخفايا الامور يصدّق خلافاتهم ولو حصلت. فأكثرية الاطراف السياسية غدت كحبات المسبحة تطقطق بعضها على بعض ولو تباعدت، لكنها تعرف انّ انقطاع الخيط يفرط السبحة كلها. هذان النظامان يرّوج لهما ويعطيهما وسائل الاعلام الخاصة او من يشترون ذمتهم الصحافية. لماذا هذه المقدمة الطويلة؟ لأنّ سرقة القرن لمجتمع بكامله مستمرة. اصحاب الودائع التي تمثل للبعض جنى عمرهم لا ينامون الليل، بينما من اهدر واساء امانتهم ينامون كالعصفور بين ايادي من يحميهم.

إليكم بعض الحقائق والوقائع:

– لم يسمع احد كيف تمّت عملية تحويل عجز 2019، علماً انّ الرقم المعلن حينها 11 الف مليار ليرة ازداد بنسبة كبيرة نتيجة تضاؤل موارد الدولة في الربع الاخير من السنة، بعض الخبراء يقدّر العجز النهائي لـ 2019 بحوالى 15 الف مليار ليرة. ما هو الرقم النهائي ومن غطّاه، لا نعلم. لكن الترجيح ان البنك المركزي قام بعمليات دفترية غطّى من خلالها المبالغ المطلوبة، اي زيادة المخاطرة على الليرة اللبنانية.

– غياب المرجعية القانونية لكل الاجراءات التي تُتخذ مؤخراً. فالمجلس النيابي اقرّ موازنة 2020 لحكومة مستقيلة وليست حتى تصريف اعمال، وتبناها رئيس حكومة دون استشارة وزرائه، من دون مراجعتها وبحث بنودها. حضر جلسة الإقرار دون صفة، لأنّه لم يحصل على ثقة المجلس. وزير ماليته صرّح في 2019 انّ هذه الموازنة لا تلبي الطموحات المطلوبة وارقامها غير واقعية. هذا قبل احداث تشرين الاول وما بعدها. اليوم نفس وزير المالية اصبح المسؤول الاول عن الموازنة التي عارضها سابقاً. لماذا؟ لأنّ قراره ليس بيده، كما انّ قرار إقرار الموازنة اللادستورية لم تكن بيد النواب الذين صوّتوا لها.

هذا في المبدأ، أما في تفاصيل الموازنة، فأرقامها ابعد ما تكون عن الواقعية. تتوقع حجم الواردات بحوالى 12 الف مليار ليرة، بينما الشعب اللبناني في غالبيته يتصرف وكأنّه يمارس العصيان المدني غير المعلن. اغلب المكلفين لا يدفعون رسوماً وضرائب، ان امكنوا، يتهرّبون من الـ TVA. ضريبة الدخل الفردية ستنخفض جذرياً نتيجة البطالة. وضريبة الدخل من الشركات ستهبط الى اكثر من النصف نتيجة اغلاق المصالح والمصانع وانخفاض القدرة الشرائية وعدم توفر الدولارات لاستيراد المواد الاولية. كذلك ستُضرب عائدات الجمارك والسوق الحرة والمرفأ والمطار والخليوي. ويقدّر البعض انّ عجز موازنة 2020 لن يقلّ عن 10 مليار دولار بالحد الادنى. من اين سيأتي تمويلها في ضوء استحالة اللجوء الى الاستدانة الخارجية بالدولار، او الداخلية بالليرة. لا تخافوا ولا تجزعوا المطبعة موجودة…

الحاجات التمويلية للدولة

نتيجة الانهيار الاقتصادي والقوة الشرائية سينخفض ايضاً الاستيراد بنسبة 40% على الاقل. لكن لبنان سيظل محتاجاً لاستيراد الحد الادنى من متطلبات الاستهلاك من غذاء ودواء وفيول وسيارات (ولو صغيرة) والبسة ومواد استهلاكية وقطع غيار وغيرها. وهذه لن تقل عن 14 مليار دولار. تاريخياً كان الاستيراد يُموّل من تحويلات اللبنانيين (وبعض الاجانب الذين غُرّر بهم ايضاً في نظام الفوائد)، ومن الاستثمارات المباشرة. اليوم وفي ضوء فقدان الثقة في النظام المصرفي، ستنخفض هذه التحويلات لتلبية الحاجات الحياتية الاساسية للاهل والاقارب فقط، واكثرها سيتم نقداً وليس عن طريق المصارف، ولن يكون هناك اية استثمارات مباشرة، اي سيكون العجز التجاري المقدّر 14 ملياراً (12 استيراد و2 تصدير) ممولاً من التحويلات (4 مليارات). فمن اين سيأتي تمويل الرصيد المتوقع لميزان المدفوعات (6 مليارات)؟ لا تخافوا ولا تجزعوا.. مطبعة المركزي موجودة.

– انظر الى الجدول، خلال سنة 2020 يستحق 590 مليون دولار شهادات ايداع بالدولار وفوائد مليار و100 مليون على رصيد شهادات الايداع. اي ما يقارب 1700 مليون دولار (مليار و70 مليوناً) ويستحق ايضا حوالى 2500 مليون دولار (ملياران ونصف) سندات يوروبوند، يُضاف اليها حوالى ملياري دولار فوائد على رصيد السندات المتبقية. اذن المطلوب من الدولة خلال العام الحالي حوالى (6 مليارات و200 مليون دولار).

الاخطر في هذا الموضوع ان البنك المركزي (ويتصرّف انه صاحب القرار، لا وزارة المالية) ينوي دفع اصل وفوائد السندات المستحقة للاجانب، وجدولتها للمصارف اللبنانية. هذا ان حصل يندرج في تفاصيل جريمة او سرقة القرن، حيث لا يُدفع لصاحب الودائع في لبنان ويُدفع للخارج. كل دولار يتمّ دفعه هكذا يكون استنزافاً اخيراً لما تبقى من حقوق للمودعين، او حرمان الشعب اللبناني من استيراد الاساسيات لعيشه من دواء وغذاء.

– في عملية حسابية للمبالغ التي ذكرت اعلاه، يكون لبنان بحاجة الى ما لا يقل عن 22 مليار و200 مليون دولار خلال سنة 2020، منها 12,2 مليار بالدولار و10 مليار بالليرة. من اين سيأتي بهذه المبالغ؟ هنا، عليكم ان تخافوا وتجزعوا لأنّ مطبعة المركزي تؤمن الليرات، ولكن غير معروف كيف ستؤمّن الدولارات.

هذه السيمفونية ادّت الى افلاس الخزينة والمالية والمركزي والمصارف وفقدان ودائع الناس.

اليست مفارقة انّ اكثر السياسيين، وممن يصنفون 8 و14 ومستقلين يسألون ويتساءلون عن الواقع الفعلي للمالية العامة ولوضعية البنك المركزي. لماذا؟

أليست مفارقة انّ فرقاء نظام المحاصصة لم يقتنعوا بعد انّهم لا يمكنهم اخفاء الحقيقة عن المجتمع الدولي، وبعضهم يعتقد انه سيكون شريكاً مضارباً لطرف دولي ما في الغاز والنفط.

– حجم الدين العام وفوائده:

بما انّ البنك المركزي اصبح في حالة سلبية ولم يعد «مقرض الملاذ الاخير» lender of last resort، لا يمكن بعد الآن الا واعتباره وحده حسابية مشتركة لا تتجزأ عن حساب الدولة.

في آخر ربع من سنة 2019 انخفضت عائدات الدولة جذرياً حتى ارتفع المبلغ الذي كانت تبحث عنه للتمويل من 11000 مليار ليرة الى ما لا يقل عن 15000 مليار ليرة. اي انّ عجز الدولة في سنة 2019 لم يقلّ عن 10 مليارات دولار. هذا الرقم يجعل الدين المعلن حوالى 94 مليار دولار. يضاف اليه مترتبات على الدولة لصالح الضمان الاجتماعي، بعد ان توقفت عن تسديد اشتراكاتها، بحوالى 3 مليارات دولار (تضاف الى اجبار الضمان بالاكتتاب منذ سنة 2000 بسندات الخزينة بالليرة اللبنانية بحوالى 6 مليارات ونصف دولار بدل توزيع مخاطرها عالمياً). ثم هناك استحقاق مؤسسة الكهرباء وللمقاولين والاستشفاء والاستملاك، مجموع كل هذه المبالغ يجعل دين الدولة يقارب الـ 100 مليار دولار (لا يهمّ ملياراً بالزائد او ملياراً بالناقص، كما قال لي احد أعلى المراجع في الدولة).

بلغ خدمة الدين للدولة سنة 2019 حسب الموازنة 6,25 مليارات دولار، اما الكارثة هو انّ لا احد يحتسب دين البنك المركزي الذي هو جزء لا يتجزأ من الدولة، ولو تمتع بالاستقلالية. فحسب تقرير المركزي الصادر في 31/1/2020 بلغت ودائع المصارف لديه 114 مليار دولار، منها تقديرياً حوالى 67 ملياراً بالدولار، و47 مليار دولار بالليرة. لكن ولاجتناب ازدواجية القيد، يُحسم من هذه المبالغ ما يملكه المركزي من دين على الدولة المقدّر بحوالى 42 مليار دولار (5,7 مليارات دولار يوروبوند بالدولار، و 36,3 مليار دولار بالليرة). هذا التقرير مبني على اساس دين الدولة ثلثيه بالليرة، اي 66 مليار دولار بالليرة يحمل منها المركزي 55% اي 36,3 مليار دولار بالليرة، وثلثه بالدولار اي 33 ملياراً يحمل منه المركزي (5,7 مليار دولار). بالمحصلة يصبح دين المركزي مقدّراً بـ 72 مليار دولار.

وقع العديد في وهم انّه يجب عدم احتساب ديون المركزي بالليرة لأنّه قادر على الطبع كما يشاء. هذا صحيح، لو كان المركزي غير متعلق بشراسة بتثبيت سعر الصرف.

في اليابان، ودون تثبيت لسعر الصرف، يبلغ مجموع الدين على الناتج 240% أغلبه بالين الياباني، وضمن نظرية عدم احتساب الدين بالليرة، تصبح اليابان دولة غير مديونة. هذا وهم. نعم، تنخفض قيمة الدين بالليرة عند تقديمه بالدولار في حال انخفاض سعر الصرف الى حينها، يجب احتساب الدين بالليرة والدولار على الدولة وعلى المركزي في حساب واحد، وهذا ما يجعل الدين العام على لبنان حوالى 172 مليار دولار، منه 95 مليار دولار بالدولار (61 ملياراً على المركزي و43 ملياراً على الدولة) و77 ملياراً دولار بالليرة (منها 11 ملياراً بالليرة على المركزي و66 ملياراً بالليرة على الدولة) مما يدحض عدم خطورة الدين العام كون اغلبه بالليرة، بينما تبلغ قيمة الدين بالدولار حوالى 55% و45% بالليرة.

مجموع الفوائد المترتبة:

أمّا في حساب الفوائد، فلقد درجت العادة ان يتركز الانتباه على بند خدمة الدين في الموازنة الذي يعني دين الدولة والبالغ 6,25 مليارات دولار لسنة 2019، من المتوقع ان يكون الرقم الصحيح يوازي 7 مليارات دولار. لكن ما لا يحسبه أحد كونه خارج الموازنة هو ما يدفعه البنك المركزي من فوائد على ودائع المصارف او شهادات الايداع اضافة الى الخسائر التي يتكبدها من خلال إعطائه قروضاً ميسرة للمصارف بفائدة 2 % ثم يعودون لإيداعها بـ 12 % عنده. وممّا يفسّر انكشاف البنك المركزي بحوالى 67 مليار دولار هو تمويل ميزان المدفوعات ودعم القروض للشركات الصغيرة والمتوسطة وقطاع المعرفة والقطاع العقاري. كلّ هذا الدعم يسجّل أرباحاً عند المصارف وخسائر عند المركزي مدعومة من نظام الودائع الذي اعتبره البعض لا ينضب. كل هذه العمليات تجعل من الصعب تقدير قيمة الفوائد التي يدفعها المركزي على الودائع للمصارف لديه وعلى شهادات الايداع اضافة الى خسائره للدعم للقطاعات المذكورة. لكن لو احتسبنا تقريباً نسبة الفوائد على مجمل الودائع لديه 114 مليار دولار مع الخسائر على الدعم لاستنتجنا رقماً تقريبياً لا يقلّ عن 14 مليار دولار سنوياً. وهذا ما يفسّر ارتفاع بند ودائع المصارف سنوياً لدى المركزي …. تزداد فعلياً.

في المحصّلة، تبلغ فاتورة خدمة الدين العام المجمع للدولة والبنك المركزي ما لا يقل عن 21 مليار دولار سنويا، اكثرها يدوّر فيدفع ديون الدائنين على الدولة وديون المركزي لصالح المصارف.

حقيقة الـ 30 مليار دولار احتياط المركزي؟

لا يفوّت احد الخبراء المزيفين فرصة إلّا ويذكر انّ الوضع المالي والمصرفي بخير، وانّ لدى المركزي 30 مليار دولار احتياط. يجب التذكير دوماً بأنّ الاحتياط لدى جهة ما تعني ان لديها مبلغاً ما تملكه (لا يملكه طرف ثالث) تلجأ إليه في الطوارئ. هذا الاحتياط في المركزي ما هو إلّا ما تبقى من ودائع واحتياط إلزامي للمصارف تودعها لديه، وتغطية للسيولة النقدية الورقية المتداولة يومياً تبلغ الاحتياطات الالزامية للبنوك حوالى 18 مليار دولار، وتبلغ الكتلة النقدية المتداولة (mzero) 8,6 مليارات دولار بالليرة قبل وصول الشحنات الاخيرة. هذا يعني انّ ما تبقى من «احتياط» ليس ملك البنك المركزي للتصرّف له (وأصلاً لم تكن الاحتياطات لديه يوماً ما ملكه، بل ودائع الناس ورساميل البنوك).

الغريب انّ المركزي بات يتصرف بهاجس نفسي يحتاج الى تحليل طبي يتعلق بالهوس في اضفاء الجو الايجابي المزيف، وثبات سعر الصرف وصلابة «الاحتياط» لديه.

حقيقة ملاءة المصارف وضرورة زيادة رساميلها؟

لطالما تفاخرت البنوك اللبنانية بأنها تتمتع بنسب ملاءة مالية ومخاطرة من الافضل في العالم، وانها كانت ذا حصانة منعت تعرّضها لأزمات سنة 2008، وانّ الدين العام في لبنان لا يهدد متانة المالية كونه في مجمله داخلي.

إنّ لعبة النظام الريعي انتهت. فالملاءة المالية تكون فعلية عندما تكون الودائع مستثمرة في ادوات مالية قابلة للتسييل، لا ان تكون ودائع لدى البنك المركزي لسنوات قادمة لا يمكن تسييلها، وبعدها يكتشف انّ هذه السيولة لم تعد موجودة سوى كأرقام دفترية. كيف يمكن لبنك يدّعي انّ نسبة السيولة لديه 37 % وهي من الاعلى في العالم، بينما هذه السيولة موجودة في المركزي ولا شفافية توضِح كيف استعملت ولأية آجال. ولو كانت هذه السيولة موجودة لدى بعض المصارف لكانت متميزة عن غيرها وخدمت زبائنها. لقد بيّنت الازمة الخانقة، او بالأحرى الانهيار الاخير، انّ كل المصارف متساوية في ذوبان سيولتها وودائع زبائنها، وانّ المصرف المغامر او الكبير لا يختلف عن المصارف المحافظة او الصغيرة، وان اكثر ارباحها التي تمثّل السيولة، ما هي الّا دفترية لدى المركزي.

والأخطر، والذي يتجنّب الجميع التطرّق له، هو هشاشة الواقع الرأسمالي للمصارف. فلا احد يتطرق حتى الآن الى تأثر الرأسمال المجمع للمصارف من خلال انخفاض اسعار اليوروبوند بحوالى الثلثين. والمعروف انّ المصارف تملك 15,14 مليار دولار منها، اي ذوبان دفتري بحوالى 9 – 10 مليار دولار ولا احد يقيّم تأثر الرأسمال بانخفاض سعر الصرف الفعلي بحوالى 35 %، لأنّ المصارف ما زالت تعتمد الرقم الدفتري 1507 اضافة، وتزداد نسبة القروض المتعثرة لتصل الى اكثر من 25 % وهي قابلة للارتفاع في ظل الانهيار الاقتصادي القائم واختفاء السيولة وعدم قدوم اموال جديدة.

هذه الامور وغيرها، تدل الى انّ المصارف كما مالية الدولة، في ازمة عميقة لن تخرج منها الا بإعادة رسملتها وليس بزيادتها فقط. وهذا للأسف لن يحصل في ظل «الدولة الفاشلة» حالياً. الثقة هي اوّل شروط استقدام الرأسمال، والثقة انفقدت وتحتاج سنوات لإعادة بنائها. حسب تقديرات الخبراء، وللحفاظ على جزء من الودائع، يحتاج القطاع المصرفي الى ما لا يقل عن 30 مليار دولار، نسبة الى حجم الودائع. المشكلة التي سيواجهها المودعون، انّ اصحاب المصارف يتصرفون وسيتصرفون وكأنّ رأسمالهم الحالي له اولوية على الودائع وهذا قد يؤدي الى خسارة الاثنين معاً. اخيراً لا بد من الطلب الى المصارف الكف عن إشاعة جو ايجابي مزيّف بهدف استعادة الاموال النقدية في المنازل.

موضوع دفع استحقاقات اليوروبوند:

هناك جدل ولغط حول ما إذا كان من الأفضل للبنان ان يسدّ استحقاق 20 آذار 2020 وبعدها استحقاق نيسان وحزيران هذه السنة. اولاً، قرار السداد او عدمه يجب ان يكون للحكومة اللبنانية لا للبنك المركزي. بات الجميع يعلم انّ الاحتياط في المركزي يشحّ يومياً ولا احد يعلم ما تبقى فيه فعلاً، ولا احد من السياسيين يطالب بتقرير مكتوب وموثّق من «المركزي» عمّا يملكه.

يجب منع المركزي بالضغط على الحكومة، ويجب على الحكومة ان تعطي الاولوية للشعب اللبناني لا للمقرضين، لم يعد الّا حفنة قليلة من الدولارات، الشعب أولى بها لدوائه وغذائه وتنقلاته. لن يكون لبنان لا الاول ولا السبّاق في التخلف عن السداد، ويجب مساواة المستثمر الاجنبي بالمحلي، وعدم إعطاء الافضلية له. إنّ الحجة في انّ لبنان يفقد ثقة المجتمع الدولي في حال التخلف هي حجة باطلة، فالعشرات من الدول مرت بنفس التجربة وعادت الى الاسواق المالية للاقتراض مجدداً. الارجنتين تخلّفت منذ شهرين فقط، وللمرة الثامنة عن السداد، ولم تخرب الدنيا. فنزويلا عاندت واستمرت بالدفع حتى استنفدت كل احتياطها، مما أدى الى عدم الدفع على كل ديونها، لماذا يصرّ المركزي على سيناريو فنزويلا، لا الارجنتين؟

على الحكومة الحالية ان تعرف انها ستكون هي المسؤولة امام الشعب اللبناني في حال انصاعت لرغبة المركزي، وستحاسب على تعطيل المستثمرين على الامن الاجتماعي للمواطنين وحاجاتهم. كيف لدولة ان تدفع للمستثمرين الاجانب، الذي يمثل استثمارهم نسبة ضئيلة من محفظتهم، بينما يُذلّ المواطن يومياً في المصارف ليحصل على 100 او 200 دولار؟

وللمعلومة، لا يهوّل أحد، ويخرج جهابذه الصحافيين الذين باعوا ضمائرهم، ولا الخبراء المزيفين، انّ الاصول اللبنانية ستصادر في الخارج من طائرات واراض وذهب… فالطائرات ملك شركة خاصة اسمها MEA، يملكها البنك المركزي الذي يعتبر هيئة ذات صفة قانونية لا علاقة لها بالدولة، كما باقي الدول. لذلك بعض الدول تعترض بصفتها والبعض الآخر بصفة المركزي. كما انّ الذهب ملك المركزي لا يحق لأحد احتجازه. وإذا سلّمنا جدلاً اّن هذا المنطق غير صحيح، فلتقم الدولة ببيع الذهب الصالح المقرض الاول في لبنان، وهم المودعون. أليس هم ايضاً اصحاب حقوق لدى المركزي حيث توجد اكثر ودائعهم التي لا يعرف احد مصيرها؟

خطة الحلول: لا مخرج بدون دولارات جديدة

خطة مارشال لإعادة بناء الاقتصاد وخزينة الدولة استمرار النظام الريعي لمدة 27 سنة، وقبله كانت هناك حرب اهلية بشعة دمّرت اكثر ركائز القطاعات الانتاجية في لبنان. وبالاشارة الى المقطع السابق حول رسملة المصارف، واجواء الثقة المطلوبة لذلك، ينطبق نفس المبدأ على اعادة تأهيل القطاعات الاقتصادية الانتاجية من زراعة وصناعة وسياحة وخدمات وتجارة. هذا يتطلب رأسمالاً وتسهيلات مصرفية. وبدون اعادة رسملة المصارف لن يعود إحياء الانتاج في لبنان، وبدون تسهيلات مصرفية لن يستطيع مستثمرها ضَخ رأسمال كامل، وبدون اعادة الانتاج بشكل جدي وخلق فرص عمل وقدرة شرائية فعلية، لا رواتب دفترية، لن تستطيع الدولة تحصيل واردات من جمارك وضريبة قيمة مضافة وضريبة دخل وضرائب أرباح شركات ورسوم وغيرها…

أصبح لبنان بحاجة الى خطة مارشال متكاملة للوقوف على رجليه مجدداً وليكون قادراً ان يتنافس في محيطه. الخطوط العريضة لهكذا خطة لن تكون تقليدية، فاليوم كما العادة استفاقت الحكومة الجديدة كما سابقاتها بالضغط لتخفيض الفوائد لتشجيع الاستثمار وما الى هناك من نظريات تقليدية. كالعادة يعتمدون إجراء ما، ولو كان صحيحاً، ولكنه يكون متأخراً.

حتى تصفير الفوائد اليوم لم يعد يجدي كون كل الفوائد الدائنة والمدينة دفترية. ما يحتاج لبنان اليوم هو ضخ سيولة كبيرة في نظامه، بدءاً برسملة المصارف مروراً بتمويل ورسملة القطاعات الانتاجية. والمطلوب مبالغ ليست يسيرة. فكما قلنا تحتاج المصارف حوالى 30 مليار دولار (قد يكون جزء صغير منها) تحويل الودائع الى اسهم، كما يحتاج لبنان الى عشرات المليارات من الدولارات، لا يمكن تقديرها عند كتابة هذا المقال، لرسملة قطاعاته الاقتصادية. تترافق هذه الخطوات لو تمّت مع اعادة هيكلية الدين لتقليص حجمه وخدمته والتخلّص من نظام الفوائد الريعي، ممّا يعيد حجم الدين متوازياً مع حجم الاقتصاد.

فقط وعندها فقط، يمكن الحديث عن موازنة متوازنة والبحث في التخصيص او الشراكة مع القطاع الخاص. أبسط مقومات التخصيص هي الثقة ثم الثقة ثم الثقة، يليها وجود نظام القانون الغائب حالياً اضافة الى جهاز قضائي فعّال لا يرتبط بالسياسيين. بالخلاصة تحتاج الخصخصة، كما إعادة الرسملة المصرفية والاقتصادية، الى دولة مدنية حضارية قادرة وعادلة. كل هذه الاوصاف معدومة في لبنان، حيث تديره دولة فاشلة بكل معنى الكلمة.

الفساد والنفاق في التعاطي مع الداخل والمجتمع الدولي

– الفريق السياسي الذي حكم لبنان منذ انتهاء الحرب اللبنانية حتى اليوم، والذي كما ذكرنا، هو في حِلف فولاذي مع رجال المال والمصالح، لا يزال متمسّكاً بالسلطة غير آبه بما أوصل اليه البلاد. ما زال نفس الفريق يجتمع ويبتسم، وكأن لا مواطنين يبكون جَنى العمر وضياع المستقبل. ليس هناك أيّ وصف لغوي لهؤلاء. هم يعتقدون انهم خالدون كما صدّق فرعون وصدام والقذافي وزين العابدين بن علي وعيدي امين وغيرهم من جبابرة الانسانية.

نقول لهم لن يأتي حال بعد الآن بوجودكم، وتمسّككم بالسلطة سيقضي على ما تبقى من امكانية لإنقاذ الفقراء الذين تسببتم بمأساتهم. البعض منكم، وبعد ان كان يرفض مبدأ التواصل مع الهيئات والصناديق الدولية، سيستجديهم قريباً. وغير معروف اذا كانوا سيلبّون ام لا، ولكنهم لو لبّوا فسيكون لأهداف لهم وليست لكم. من المحزن انّ هناك فريقاً كبيراً من اللبنانيين بات لا يشجع أن تأتينا مساعدات او قروض وهبات جديدة من الخارج حتى لا يكون مصيرها كمصير باريس 1 و2 و3.

أيّ شخص في الداخل او المجتمع الدولي ما عاد يعرف أسماء الزعامات والاحزاب والشخصيات الفاسدة في لبنان؟ من لا يعرف انّ في لبنان دولة فاشلة يديرها سياسيون يتحاصصون مجلس القضاء الاعلى والمدعي العام التمييزي والمدعي العام المالي والمدعين العامين والقضاء العسكري والتفتيش القضائي والمراكز الامنية من جيش وأمن دولة وامن عام وامن داخلي، وهيئات الرقابة من ديوان محاسبة وتفتيش مركزي ومجلس خدمة مدنية ومجالس انماء واعمار وجنوب ومهجّرين وكازينو وريجي وضمان اجتماعي وكهرباء ومياه ومطار ومرفأ ونفط وغاز، وهيئات ناظمة ووكالات إعلامية وصحافة وجامعات ونقابات وبلديات. من لا يعرف ان لا أحد بعد الآن سيمدّ يده لهذا النظام التحاصصي الفاسد، وانّ أي خطة لإعادة الثقة في لبنان وبناء الدولة المدنية الحديثة لن تتمّ إلّا بعد التخلص من نظام المحاصصة والدولة الفاشلة والقائمين عليها. المجتمع الدولي والهيئات والمنظمات الدولية باتت تعرف كل الحقائق عن لبنان وما يحصل فيه.

يجب التذكير انّ كل المبالغ التي رصدت في صفقة القرن لإغراء كل الدول بالموافقة عليها كانت 50 مليار دولار، منها للبنان 6 مليارات فقط. فإذا كان الاغرار لهدف كهذا بهذه الضآلة، فمن أين ولماذا سيعطى لبنان حوالى 40 مليار دولار يحتاج لها للنهوض اضافة الى الحاجة السنوية بحدود 22 مليار دولار، منها 14 مليار دولار جديد و8 تدوير أرقام استحقاق وفوائد.

الحراك المدني:

لذلك، يجب على حراك الانتفاضة – الثورة ألّا يتوقف. ولكن ضمن قيادة وبرنامج عمل وتوحيد مطالب تبدأ أوّلاً، وفي المرحلة الحالية، بأن تركّز على استعادة الودائع والاموال المهرّبة والاموال المنهوبة. وفي حال فشل الجهود في الداخل، وعلى الأرجح ستفشل، يصبح لزاماً على قيادة هذا الحراك اللجوء الى كل السبل القانونية المتاحة دولياً لتحقيق هذا الهدف.

حسن خليل.

عوامل مؤثرة في أسواق النفط

تتباين الآراء والتوقعات حول ميزان الطلب والعرض النفطي خلال المرحلة القريبة المقبلة، وبالذات قبيل اجتماع المجلس الوزاري المقبل لمنظمة «أوبك» خلال شهر مارس (آذار) المقبل. فهناك خلافات في الرأي حول مدى التأثير السلبي للمفاوضات التجارية الأميركية – الصينية على الطلب على النفط، رغم التوصل إلى الاتفاق المرحلي الأول للاتفاق التجاري في منتصف شهر يناير (كانون الثاني) الجاري.

أثارت هذه المفاوضات الخوف في الأسواق العالمية من إمكانية نشوب حرب تجارية ما بين أكبر دولتين اقتصاديتين في العالم واحتمال توسع آفاقه ليمتد إلى حروب اقتصادية أخرى ما بين الولايات المتحدة ودول أخرى، نظراً للطريقة التي يدير بها الرئيس دونالد ترمب المفاوضات التجارية بالتهديد والوعيد إلى أن يتحقق من اكتساب مواقع جديدة للولايات المتحدة. وقد فتح ترمب أبواب المفاوضات التجارية هذه مع الصين ودول السوق الأوروبية المشتركة. كما أعاد بحث وتعديل اتفاقات النافتا مع الجارتين كندا والمكسيك.

أثارت هذه المفاوضات المتعددة الصخب الإعلامي التي صاحبها الانطباع بأن الولايات المتحدة كانت الطرف الخاسر في كل منها، من ثم أعلن الرئيس ترمب أنه قد آن الأوان لتعديل نصوص هذه الاتفاقات لصالح الولايات المتحدة. وكما هي عادة الرئيس ترمب المعهودة وغير المألوفة في السياسة الدولية، على الأقل بالنسبة للدول الكبرى، في إلقاء اللوم – لما وصفه بـ«سوء» مجمل هذه الاتفاقات – على تقصير وأخطاء الرؤساء السابقين، بالذات مسؤولية الرؤساء الديمقراطيين، أثار هذا التخوف الذعر في الأسواق، وقد أدى إلى انكماش الاقتصاد العالمي خلال هذه المرحلة، الأمر الذي يتوقع البعض أنه سيلقي ظلاله على الطلب النفطي.

كما يسود الحذر الأسواق النفطية هذه الأيام أيضاً من المخاطر المترتبة على نشوب فيروس كورونا في الصين وانتشاره إلى دول أخرى بسرعة. وبما أن إحدى إجراءات الوقاية، كما بادرت السلطات الصينية باتخاذها هي الحجر على مدن بأكملها والتحذير من السفر، خاصة، الجوي منه، فتتخوف الأسواق من انكماش حركة السفر الجوي خلال الفترة المقبلة، إلى أن يتم التأكد من القضاء على الفيروس واضمحلال خطورة انتشاره السريعة والواسعة. من ثم، التخوف من انكماش الطلب على السفر الجوي والسياحة.

تتباين التوقعات حول حجم انخفاض الطلب على كل من هذين العاملين، كساد الاقتصاد العالمي بسبب مخاوف الأسواق من مخاطر حروب تجارية تقلص حجم التبادل التجاري. كذلك، ما هو مدى انخفاض السفر الجوي وما هو تأثير هذا الانخفاض في حال حصوله على الطلب العالمي للنفط. لكن، لا تنحصر التباينات في التوقعات على مدى إمكانية انخفاض الطلب على النفط. فهناك أيضاً وفي الوقت نفسه، احتمالات مختلفة حول مدى زيادة إمدادات النفط الصخري الأميركي.

تشير التوقعات إلى أن زيادة الطلب على النفط خلال العام الجاري تقدر بنحو مليون برميل يومياً، بينما زيادة الإمدادات تقدر بنحو مليوني برميل يومياً، بما معناه أن العرض سيفوق الطلب نحو مليون برميل يومياً، ولربما حتى أكثر، حسب بعض التوقعات.

من الملاحظ أن معظم الإمدادات النفطية الإضافية خلال عام 2020 ناتجة عن احتمال زيادة إنتاج النفط الصخري الأميركي نحو مليون برميل سنوياً، مما يعني أن نصف زيادة الإمدادات النفطية من خارج أقطار منظمة «أوبك» هي من الولايات المتحدة. ومن الجدير بالذكر أن إنتاج النفط الصخري الأميركي قد ازداد إلى نحو 7 ملايين برميل يومياً، ليصل مجمل إنتاج النفط الأميركي (التقليدي والصخري) نحو 13.5 مليون برميل يومياً، أي أن إنتاج الولايات المتحدة قد ارتفع إلى مصاف إنتاج الدولتين النفطيتين الكبريين، السعودية وروسيا.

هناك خلاف في الآراء حول صحة التوقعات بازدياد إنتاج النفط الصخري الأميركي نحو مليون برميل يومياً خلال كل سنة من أعوام النصف الأول من عقد العشرينات، وابتداء من عام 2020. هذا التباين في الآراء مطروح في دراسات وتوقعات كبرى شركات النفط الأميركية، هذا بالإضافة إلى خلافات التوقعات ما بين إدارة معلومات الطاقة الأميركية التابعة لوزارة الطاقة الأميركية ووكالة الطاقة الدولية من جهة، ومنظمة «أوبك» من جهة أخرى. يكمن الخلاف حول عدة أمور: مدى حجم الاكتشافات التي تم تحقيقها فعلاً في حوض برميان العملاق الذي يمتد في كل من ولايتي تكساس وأريزونا. هناك بعض التقديرات التي تشير إلى أنه قد تم اكتشاف نحو مليون برميل من النفط الصخري في هذا الحقل، وأن هذه الإمدادات جاهزة للإنتاج وحتى التصدير، في حال تشييد البنى التحتية اللازمة من أنابيب وخزانات وموانئ تصدير، وأن تشييد البنى التحتية اللازمة هو قيد التنفيذ وأنه سيتم استكمال جزء كبير من هذه المنشآت خلال هذا العام، وسيتم استكمال بقية البنى، بالذات التصديرية منها، خلال العام المقبل. والسؤال: متى سيتم الانتهاء من تشييد جميع هذه المنشآت؟ هل سيتحقق هذا خلال النصف الأول من العام، أو في نهاية عام 2020؟

برز مؤخراً عامل إضافي تتباين حوله التوقعات بالنسبة لحجم الإمدادات المتوقعة في الأسواق خلال الربع الأول من العام أو خلال عام 2020. وهذا العامل الجديد هو تدهور الأوضاع السياسية في ليبيا، رغم قرارات مؤتمر برلين. لقد تحول الصراع في ليبيا ما بين نزاع مناطقي وعشائري داخلي، إلى صراع إقليمي متعدد الأطراف لكل منها جماعات مسلحة تتصارع على الأراضي الليبية. أدت هذه النزاعات مؤخراً إلى إقفال عدد من الحقول (الشرارة والفيل)، وإلى توقعات تشير إلى احتمال انخفاض الإنتاج النفطي الليبي من نحو 1.5 مليون برميل يومياً إلى أقل من 100 ألف برميل يومياً، وإلى إغلاق أعداد أخرى من موانئ التصدير، بالإضافة إلى تلك التي تم إقفالها مؤخراً في المنطقة الغربية من البلاد.

من المتوقع أن يدرس الاجتماع الوزاري لمنظمة «أوبك» في اجتماعه المقبل في شهر مارس ما إذا كان يتوجب على المنظمة وحلفائها من المنتجين غير الأعضاء في المنظمة تمديد سياسة تخفيض الإنتاج المعمول بها. وفي حال التمديد، وهو الأمر المتوقع، ما هو معدل تخفيض الإنتاج للفترة المقبلة؟ سيؤثر التباين في التوقعات على القرار الذي ستتخذه المنظمة وحلفائها (بالذات روسيا). وسيكمن التحدي في تباين المعلومات ومصالح الدول المعنية.

وليد خدوري.

المصارف “تكنّس” آخر دولاراتها

لماذا لم يعد هناك من “دولارات”؟ سؤالٌ تحوّل إلى لازمة على كل شفة ولسان. مع بداية كل أسبوع يحتار المودعون صغاراً كانوا أم كباراً ماذا يفعلون ليسحبوا من ودائعهم القليل من العملة الصعبة. يتنقّلون بين فروع مصارفهم، من شارع إلى آخر ومن منطقة إلى أخرى، يُسابقون الوقت للحصول على مئة دولار، أصبحت تخرج من الصناديق عشرينات وخمسات، وكأن البنوك فتحت “قجّتها” لتعطي آخر ما تملك.

التشبيه الساخر ما هو إلا المرآة للحقيقة المرة للتحول الدراماتيكي الذي شهده الإقتصاد اللبناني بشقه النقدي تحديداً.

ففي الفترة الماضية كثُر الحديث عن ان القطاع المصرفي اللبناني يُعتبر واحداً من أكبر القطاعات المصرفية العربية والدولية مقارنة بحجم الإقتصاد الوطني، حيث تبلغ الأصول المجمّعة للقطاع حوالى 234.6 مليار دولار او ما يعادل أربعة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي، فيما تصل قيمة ودائع القطاعين العام والخاص في المصارف إلى حوالى 176.1 مليار دولار. فأين هي هذه الأموال؟ وهل تبخّرت كلها؟

تتوزّع ودائع القطاعين (176.1 مليار دولار) على الشكل التالي: 75 في المئة بالعملة الصعبة و25 في المئة المتبقية بالليرة اللبنانية. وعليه فإن قيمة الودائع الفعلية الموجودة في المصارف بالدولار تتراوح بين 120 و125 ملياراً.

70% من الودئاع للدولة

“خلال السنوات الماضية أقرضت المصارف القطاعين العام والخاص مبالغ كبيرة. وبشكل تقريبي فقد توزعت النسب على الشكل التالي: 30 في المئة للقطاع الخاص و30 في المئة إكتتاب بسندات “اليوروبوندز” و40 في المئة تم وضعها في مصرف لبنان”، يقول الخبير الإقتصادي جان طويلة.

وإذا عدنا للأرقام، فتكشف الميزانية المجمّعة للمصارف التجارية ان المصارف أعطت المصرف المركزي ما يقارب الـ 112 مليار دولار تشكّل حصة العملة الصعبة منها بحدود 70 ملياراً، استعمل القسم الأكبر منها لدفع ثمن مشتريات الدولة وحماية سعر الصرف.

باستثناء الـ 1.2 مليار دولار التي تتأتّى سنوياً من عقدَي الشركتين المشغّلتين لقطاع الخلوي “ألفا” و”تاتش”، فإن كل مقبوضات الدولة اللبنانية هي بالليرة فيما مشترياتها الخارجية من نفط وفيول وغيرها الكثير يُدفع ثمنها بالدولار. “قيمة هذه المدفوعات بلغت 15 مليار دولار دفعها المركزي من إحتياطي العملات الاجنبية الموجودة لديه في عملية سواب مع الدولة، أي ان الاخيرة تدفع بالليرة ما يسدّده المركزي بالدولار”، يوضح الخبير في الأسواق المالية دان قزي، ويضيف ان “المركزي تدخّل ايضاً لحماية سعر الصرف بما لا يقل عن 40 مليار دولار. إذ انه بحسب المنطق فان أي عملية شراء بالليرة لسلع مستوردة سواء كانت ملبوسات أو مواد استهلاكية أم سيارات أم غيره وكل عملية تحويل الليرة الى دولار من أجل الصرف والانفاق في الخارج يُدفع ثمنها من الدولارات الموجودة في المركزي فهذه العمليات ليست مجانية”.

بالمنطق ما زال يوجد في مصرف لبنان لغاية الآن حوالى 30 مليار دولار وهي تعتبر growth reserves فيما الـ net reserves الذي يظهر في وكالات التصنيف يُعتبر سلبياً.

مشكلة المودعين

المشكلة التي يعيشها المواطن اللبناني تتمثّل في فقدان “البنكنوت” أي العملة الورقية من المصارف. وهذا يعود برأي طويلة إلى سببين:

– استنفاد القطاع المصرفي السيولة الموجودة لدى المصارف المراسلة في الخارج Correspondent Banks، والتي انخفضت من 9 مليارات دولار في نهاية أيلول إلى مليار واحد حالياً.

– استنزاف العملة الورقية نتيجة ارتفاع وتيرة السحب اليومي للدولار من المصارف وخروج مبالغ نقدية كبيرة خلال الفترة الماضية.

النتيجة، لم يعد هناك من سيولة بالدولار واحتمال توقف المصارف عن اعطاء “بنكنوت” بالدولار أصبح قريباً جداً. وهو ما سيُفقد المودعين والمواطنين الذين يتقاضون رواتبهم بالدولار الأميركي حوالى 33 في المئة من قدرتهم الشرائية إذا بقي سعر الصرف في السوق الثانوية 2180 ليرة مقابل الدولار. ومما يزيد المشكلة ويعمّقها هو نسبة الدولرة المرتفعة في الإقتصاد والتي تتجاوز الـ 73 في المئة.

مصير الاستيراد

يرى الخبراء، أن هذه الإجراءات القاسية تهدف بجزء أساسي منها إلى المحافظة على كمية الدولار النقدي المتبقي لتأمين المستوردات الأساسية من الخارج، لاطول فترة ممكنة. إلا ان المشكلة هي ان هذه الإجراءات ستنفد من “سلة” المواطنين الدولارية، فيما لم يبرز أي اتجاه جدي لقوننة “الهير كات” المنطقي الذي من المفروض ان ينفذ على حسابات كبار المودعين الذين استفادوا من فوائد خيالية طيلة سنوات خلت تجاوزت الـ 20 في المئة.

هذا الواقع “المحبط” يترافق مع نمو سلبي في الودائع بعدما كانت نسبة الزيادة تصل في الأعوام الماضية الى 8 في المئة، وهو ما يحتّم إيجاد بدائل جدية وسريعة من خلال زيادة التصدير وتخفيض الفوائد للتشجيع على الإستثمار وتأمين الإستقرار لعودة السياح، تعوّض توقّف تدفقات الدولار عبر المصارف.

خالد ابو شقرا.

لا تنخدع بعذوبة الوداع الودي لـ«بريكست»

اتفقت المملكة المتحدة مع الاتحاد الأوروبي على الكثير من الأمور مؤخراً. لكن كلاهما سوف يحظى بالوجود في هذا العالم متحررين عن بعضهما البعض.
تبعد المسافة بين لندن وبروكسل حوالي ساعتين بالقطار، ولكن في يوم الجمعة؛ اليوم الذي تغادر فيه المملكة المتحدة رسمياً عضوية الاتحاد الأوروبي، استشعرت المدينتان الانفصال الحقيقي عن بعضهما البعض.
اقام البريطانيون احتفالات «بريكست»، التي تشبه تحرر الدولة المستعمرة المضطهدة من نير الحكم الإمبريالي البغيض. ولقد سُكّت عملة معدنية جديدة تذكاراً لهذه المناسبة، تحمل عبارة «السلام، والازدهار، والصداقة لكل شعوب الأرض». وكان هناك عرض ضوئي للاحتفال باستعادة المملكة المتحدة لاستقلالها. وليس مهماً أن المملكة المتحدة لم تعتمد عملة اليورو الأوروبية، وهي ليست جزءاً من منطقة «شنغن» لحرية الانتقال بين الحدود، ووفقاً لاختبار الجنسية البريطاني الخاص، كانت آخر مرة تعرضت فيها المملكة المتحدة للغزو في عام 1066. وجرى تعليق شعار «استعادة السيطرة مجدداً».
يرى المسؤولون والدبلوماسيون، الذين يقودون سياسات الاتحاد الأوروبي المؤلف من 27 دولة، الأمور من منظور مختلف بعض الشيء. فلاعملة جديدة، أو عرض ضوئي، وإنما الكثير من الشعائر الجنائزية! فهذه هي المرة الأولى التي تغادر فيها دولة من كبار أعضاء الاتحاد، وإنها خسارة كبيرة بكل المقاييس: فسوف تغادر بريطانيا بصحبة 14 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي، مع 40 في المائة من القوة العسكرية، فضلاً عن 13 في المائة من سكان أوروبا. ويعتبر «بريكست»، «كارثة جيوسياسية هائلة»، على حد وصف وزير المالية الهولندي فوبكي هوكسترا، وهو «خسارة كاملة المعالم»، وفقاً لما قاله ميشيل بارنييه كبير مفاوضي الاتحاد الأوروبي، ودوَّنه في مسندات الانفصال.
وتبدو الهتافات والدموع شديدة التطرف للوهلة الأولى لدى الجانبين، مع الأخذ في الاعتبار النذر اليسير من التغييرات التي شهدها الواقع يوم الجمعة. إذ تعني اتفاقية الانتقال التي جرى إبرامها، جزءاً من الخروج البريطاني من عضوية الاتحاد الأوروبي، أنه في غضون الـ11 شهراً المقبلة، سوف يتم التعامل مع المملكة المتحدة كما لو أنها لا تزال جزءاً من الاتحاد الأوروبي (على الرغم من تراجع الوجود الرسمي البريطاني في بروكسل). وسوف تستمر حرية حركة السلع ورأس المال والعمالة، كما كانت من قبل. ومن المحتمل أن تشهد محادثات اتفاقية التجارة الحرة قدراً من الصعوبة، كما هو متوقع، غير أن واقع الجغرافيا والطبيعة المتشابكة لاقتصادات المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي تشير إلى أنه سوف تكون هناك محفزات للمحافظة على وثاقة العلاقات بين الجانبين.
وفي حين أن أنصار «بريكست» يؤيدون «بريطانيا العالمية» كثقل موازن لسوق الاتحاد الأوروبي الحرة ذات الطبيعة الحمائية، فإننا لم نشهد حتى الآن حالة الانقسام الحقيقية بشأن ملفات التجارة والجغرافيا السياسية. وفيما يتعلق بمخاطر الأمن السيبراني من جانب الصين، فلقد قاومت المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي الضغوط الممارسة من جانب الرئيس الأميركي بشأن حظر أعمال شركة «هواوي» الصينية وشبكات الجيل الخامس للخدمات المحمولة الخاصة بها، كما رفضت أيضاً منح بكين الحرية المجانية للوصول إلى الأسواق الأوروبية. وعندما يتعلق الأمر بفرض الضرائب على الشركات التكنولوجية مثل «فيسبوك» أو «أمازون»، وجدت المملكة المتحدة نفسها تتخذ الموقف نفسه المعتمد من قبل فرنسا وإيطاليا، مع مقترحات فرض الضرائب الوطنية على الخدمات الرقمية التي تثير حفيظة، وربما غضب، الرئيس دونالد ترمب. أما بالنسبة إلى إيران، وقفت المملكة المتحدة إلى جانب فرنسا وألمانيا فيما يتصل بالاتفاق النووي الإيراني.
بيد أن حالة الوفاق الراهنة ليس من المتوقع لها الاستمرار لفترة طويلة. فكل من المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي يحاولان اقتطاع مكان منفصل لكل منهما على المسرح العالمي الذي تهيمن عليه راهناً الولايات المتحدة والصين. ويتطلع البريطانيون إلى التراجع عن أكبر سوق منفردة في العالم لصالح اقتصاد الجزيرة الإنجليزية ولمسته الناعمة، في حين تصور الخبراء تحول بريطانيا إلى ما يشبه سنغافورة على ضفاف التايمز، أو كندا الأوروبية، أو ربما بروكسل ذات الرؤوس النووية!
ويتحرك الاتحاد الأوروبي في الاتجاه المعاكس، ذلك الاتجاه الذي يعيد إلى الذاكرة تاريخ أوروبا إبان حقبة الحرب الباردة. وعندما انضمت المملكة المتحدة إلى المنظمة السابقة على الاتحاد الأوروبي في عام 1973، جنباً إلى جنب مع آيرلندا والدنمارك، ارتأت القوى القارية من شاكلة فرنسا الأمر على أنه مفاضلة: فإن أوروبا تتحرك على المسار الأطلسي بقوة دفع آلية، وعلى المسار الاقتصادي بقوة دفع ليبرالية، ولكن مكانتها سوف تنمو أيضاً مع اكتساب الكلمة المسموعة في الأوساط الدولية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي آنذاك. واليوم، ومع مغادرة المملكة المتحدة للاتحاد الأوروبي، انعكست المفاضلات كثيراً. حيث يتراجع تأثير الأطلسي لدى الاتحاد الأوروبي، ويتجه نحو سياسات اقتصادية أقل ليبرالية، مع درجة أكبر من التكامل الأوروبي – الأوروبي التي من شأنها الاستجابة لاهتمامات واحتياجات المواطنين مع قدر أكبر من التوازن في وجه الولايات المتحدة والصين.
ومن المحتمل أن يُنظر إلى «بريكست»، على اعتباره فرصة سانحة للتكامل الأوروبي الداخلي الوثيق، مع اعتباره أيضاً مفتاحاً أساسياً لتحقيق السيادة الجيوسياسية والتكنولوجية. وكانت الكتلة الأوروبية الأكثر وثاقة وترابطاً هي ما كانت بريطانيا تحارب بكل قوة للحيلولة دونها. على سبيل المثال، كان تكامل منطقة اليورو الاقتصادي هو أحد محفزات المغادرة البريطانية لعضوية الاتحاد. وفي حين أن ألمانيا سوف تنتحب لرحيل الصوت الليبرالي المؤيد لسياسات السوق، فإنه من العسير على الفرنسيين كتمان أو احتواء فرحتهم بذلك الرحيل. وقال الوزير الفرنسي الأسبق آلان لاماسور، مصرحاً لصحيفة «لوموند»، «ظل البريطانيون يشكلون وخزاً مؤلماً للغاية في خاصرة أوروبا منذ عام 1973، ومن شأن مغادرتهم أن تتنفس أوروبا الصعداء ولو بالقدر اليسير».
سوف تمثل الـ11 شهراً المقبلة معركة محتدمة وحاسمة بين هذه الطموحات المتنافسة. وسوف يسعى الاتحاد الأوروبي إلى ربط بريطانيا بالقرب من مداره التنظيمي للحيلولة دون تحولها إلى جسر رئيسي يعبر عليه النفوذ الأميركي إلى قلب القارة العتيقة، وفي الأثناء ذاتها، سوف تغري الولايات المتحدة بريطانيا نحو إقامة علاقات أكثر قوة ورسوخاً، بهدف تعويض فقدان التجارة غير الاحتكاكية مع الجارة الأوروبية الكبيرة. وحتى الآن، لا يزال هناك قدر كبير من التقارب بين الجانبين. ولكن واشنطن وبكين لا تلزمان الصمت والأيادي المكتوفة، فمن شأن الأجواء أن تزداد قتامة في المستقبل المنظور.

عن أزمة لبنان المالية: ماذا بعد؟

سؤال طرح علي للإجابة عنه في ندوة دعت إليها جمعية الروتاري في بيروت وتكرم بتوجيهها فواز المرعبي الصديق والرفيق لفترة في جمعية متخرجي الجامعة الأميركية.

المصارحة المبنية على تحليل المعطيات الرقمية والسياسية تشير حتى بعد تشكيل فريق الوزارة الجديدة والذي يضمّ عددًا من اصحاب الطاقات والخبرات المميزة لدى الذكور والاناث، إلى أن العهد مستمر في التركيز على سياسات خاطئة وغير عملية بالنسبة إلى موضوع الكهرباء.

لقد أظهرت دراسات لمواجهة تحديات ازمة الكهرباء منذ 1996 (من البنك الدولي) و2011 من باحثة قدمت دراسة وضعتها بمنحة من مؤسسة محمد الصفدي لجامعة ستاندفورد، وتصريحات لرئيس الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية، ودراسة جيدة وضعها وزير الاقتصاد السابق منصور بطيش عام 2014، وأخرى وضعها “تيار المستقبل” وصدرت في كتاب عام 2015، ان عجز الكهرباء سيؤدي الى تعجيز لبنان عن القيام بالتزاماته الدولية، ولو لم تكن نسبة الدين العام البالغ ما يساوي 91 مليار دولار بالليرة اللبنانية على مستوى 61 في المئة، لكانت الازمة حلت بنا منذ وقت.

التدفق الاستثماري على لبنان وتدفق تحويلات اللبنانيين العاملين في الخارج انحسر منذ 2015، علمًا بأن تحويلات اللبنانيين العاملين في الخارج لا تزال توفّر للبنان بالنقد الاجنبي ما يزيد على 7 مليارات دولار تستعملها العائلات التي تحول اليها في سد تكاليف الدراسة والايجارات والمعالجات الطبية وتسديد فواتير الكهرباء.

لبنان يحتاج في المقام الاول الى استعادة الثقة بمنهجية الحكم والادارة العامة وتوصل القضاء الى تسهيل معاملاته وتكاليفه للمتقاضين، وهذه أمور لن تتحقق على رغم كل القوانين والمبادرات التي يطرحها البيان الوزاري، خصوصاً ان معالجة الكهرباء لا تزال في أيدي التيار الذي تمكن من السيطرة على وزارة الطاقة والمياه منذ عشر سنين، ولم يقدم على اي تطوير لوسائل الادارة والتعاون مع صناديق استثمارية مهمة وشركات عالمية اختصاصها الكهرباء.

عجز الكهرباء بلغ 33.9 مليار دولار مدى 10 سنين 2010-2019، ومع اضافة فوائد الاقتراض وازت كلفة دعم خطط الكهرباء الهزيلة نسبة 52 في المئة من الدين العام، ولا يجهل أي مراقب ان هذه المشكلة بحد ذاتها هي سبب الأزمة الحالية. وجدير بالذكر ان لبنان الذي عايش ازمات التحركات الفلسطينية دون رادع منذ 1964 وحتى 1982 لم يتعرض لأزمة تأمين الكهرباء لأن مجلس ادارة مؤسسة كهرباء لبنان كان على مستوى المسؤولية.

قبل الأزمة الناجمة عن عجز الكهرباء، والتي يؤكد البيان الوزاري ضرورة حلها ما بين سنة وثلاث سنوات، في حين أن الحل يجب ان يكون خلال ثلاثة اشهر لئلا تنقلب الأزمة الى حث للشعب على التخلي عن واجباته نحو الحكم، وهي واجبات يجب التزامها تجاه الحكام الذين يحافظون على القوانين وصحة المواطنين وحرياتهم وعلى فسحة الامل في مستقبل واسع، وكل ذلك مفقود والبرهان عليه عدد خريجي الجامعات الذين غادروا لبنان عام 2019، وعدد طالبي الهجرة عام 2020.

بعدما يئس اللبنانيون من تحسن أوضاع لبنان وانفتاح فرص العمل واقبال الشركات الاجنبية وشركات اللبنانيين الناجحة على نطاق عالمي على التركيز على لبنان، كان هنالك قطاع وحيد يدعو الى بعض الاطمئنان هو قطاع المصارف، وقد شاهدنا ميزانيات المصارف ترتفع الى 170-180 مليار دولار عام 2018، ومن هذه الميزانيات نسبة 45 في المئة لدى فروع المصارف اللبنانية العاملة في الخارج، ولم نتحسس ان القطاع مهدّد بالانقطاع عن القيام بدوره لان لبنان فقد صفة الاستقطاب لدى هذا القطاع منذ عام 2019، وأصبح توقع استصدار قوانين تنظيمية تطغى على حرية المواطنين أمراً يواجه كل مودع، سواء حقق أمواله المختزنة منذ سنوات نتيجة اعمال في الخليج العربي او البلدان الافريقية أو النشاطات العالمية، أو كانت ودائعه تشمل تعويضات عمله لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.

مع تراجع الدور المصرفي، ونتيجة رعونة بعض المصرفيين المسؤولين عن مصارف بارزة وأخرى بالكاد معروفة، أصبحت قرارات تقييد السحب – حتى من الحسابات الجارية – مقيدة لحرية أصحاب الودائع في التصرف بأموالهم. هكذا أصبح المؤتمنون على أموال الناس هم الذين يقرّرون معدلات التقييد لسحوبات اصحاب الودائع، ولهذا المنهج أخطار كبيرة. أولها ان حركة الأسواق ستنخفض، وتوافر الادوية والمعدات الطبية سيقتضي وقتًا طويلاً، واذا وجب على أحد المواطنين زيارة بلدان أخرى لاجراء عمليات معقدة لن يستطيع ذلك ما دام رئيس مجلس ادارة البنك الذي يتعامل معه هو من يقرر وحده. من أين أعطيت هذه القدرة لمصرفيين ليس بعضهم على مستوى من الاخلاق؟

اننا نرى ان تقييد السحوبات المصرفية سيؤدي بالتأكيد الى انحسار النشاط الاقتصادي بنسبة 10 في المئة على الأقل، ويزيد هذا التوقع التشاؤمي ان أرقام موازنة 2020 تشير إلى انها ستؤدي الى عجز قياسًا بالدخل القومي لا يزيد على 7.3 في المئة وهذا التقدير يعبر عن مدى استهتار النواب بأموال الشعب وعن مدى جهلهم للقضايا المالية.

عجز الـ2020 سيرتفع الى نسبة 10 في المئة مع تقلص حجم الدخل القومي، ويزيد على ذلك عجز بنسبة 2 في المئة نتيجة حاجات الكهرباء ودعمها، ولم تكن هذه الحاجات تدرج في أرقام الموازنة بل تصنف على انها ارقام دعم توفير الكهرباء، وكانت عند المحاولة الأولى لشرح التوقعات المالية تقارب زيادة للعجز 1500 مليار ليرة لبنانية، أي مليار دولار. وقد تبدى للوزارة الجديدة ان العجز سيرتفع الى 2500 مليار ليرة لبنانية، أي سيزيد 700 مليون دولار، على رغم الحديث عن اجراءات متعدّدة لخفض العجز ولن نشهد منها الكثير كما تعودنا فشل العاجزين عن تحفيز موازنة واقعية حقيقية. وعجز موازنة 2020 مع الـ2500 مليار ليرة لبنانية للكهرباء سيحول دون الحصول على مساعدات مؤتمر “سيدر” التي علقت على تحسين معالجة قضية الكهرباء، وكل ما نقرأه في بيان الحكومة انها ستقر تشكيل مجلس ادارة للكهرباء خلال ثلاثة أشهر، وبعد انقضاء بضعة أشهر انتخاب هيئة الاشراف على قضايا الكهرباء والمفترض أن تكون هذه الهيئة قد تشكلت منذ عام 1996.

زيادة في الاستهتار بمصالح المواطنين والاستمرار في تبديد الأموال العامة، يتحدّث البيان الوزاري عن نيّة تفعيل عمل مجلس المرئي والمسموع، هذا المجلس الذي تألف بتدخل سوري لرئيس فريق عسكري سوري شاء السوريون انهاء حياته في سوريا بعد الانسحاب السوري بنهاية نيسان 2005 وأحرقوا في قريته فيلا ضخمة أنجزها من ابتزاز 43 مليون دولار من مصرف في لبنان. هذا الرجل هو من نصب أعضاء مجلس المرئي والمسموع الذين لم يصدر عنهم أي موقف خلال العام 2019 على رغم تعاظم الاتهامات في البرامج التلفزيونية وتابعوا صمتهم مع اندلاع حركات الاحتجاج وكأنهم يقيمون على المريخ.

نعلم علم اليقين أن تعيين وزير التيار الوطني للطاقة أمر يناقض كل مستوجبات مواجهة الأزمة، ونعلم أيضاً ان الحديث لا يزال يدور على مصادر للطاقة لا تستند الى النفط والغاز بل الى الرياح والشمس. ويجب ان يعلم اللبنانيون ان الاردن توصل الى تجهيز حقل كبير لانتاج الكهرباء من الألواح الحرارية بالتعاون مع الصين، أكبر بلد منتج لهذه الألواح عالميًا، وارتفع تجهيز الاردن 1000 ميغاوات بهذه الوسيلة الاقتصادية. وكذلك تايلاند التي بعدما اقبلت على التصنيع على نطاق واسع وتشجيع السياحة استشعرت حاجتها الملحة إلى الكهرباء، فأنجزت خلال سنة واحدة حقولاً لانتاج الكهرباء من الطاقة الحرارية بكلفة 8 سنتات للكيلووات/ساعة (مقابل 22-24 سنتًا تكلفنا في لبنان) وتبلغ طاقة هذه الحقول 4000 ميغاوات أي أكثر من حاجة لبنان لسنوات. ونحن لا نزال نعتبر أن الاردن في حاجة إلى الانماء، وان تايلاند تصلح لزيارة سياحية فقط، ونحن في الواقع متخلفون عن كلا البلدين سواء في التخطيط للمستقبل أو معالجة مشاكلنا التي منها الكهرباء، والنفايات، والسير، ونقاء الجو، وتوافر المياه النظيفة.

لبنان يحتاج الى وثبة ضمير وترسيخ المطالبة بحياة أفضل لمواطنيه، ويحتاج الى استعادة النظام الاقتصادي الحر، والى خفض تكاليف الاتصالات، والى تأمين الكهرباء للجميع بكلفة تراوح بين 10-12 سنت للكيلووات/ساعة، ويحتاج الى مكننة استصدار الأحكام فلا يمضي القاضي أو القاضية ما يعادل الفرصة السنوية لكتابتها، ويحتاج الى دفع التقنيات الحديثة في الادارة واستصدار الوثائق التي تسهل الأعمال والتملك.

ان ما يحتاج إليه لبنان فريق من الحكام والاداريين معاصرين للتحولات التقنية والفنية التي بدأت تقولب برامج العمل والانتاج والترتيبات المالية عالميًا.

ما يحتاج إليه لبنان تغليب اندفاع الشباب بمواكبة خبرة القياديين المنزهين الذين يمكن ان يشكلوا ما يعرف بمجلس الحكماء، أو مجلس الشيوخ الذي لا نزال نبحث عنه.

ولبنان يحتاج بعدما عانق روح الحرية والتآخي في طرابلس الى نهضة وانعاش لهذا البلد الذي احتوى جميع المطالبين بالاصلاح وجميع من يؤمنون بالتآخي. ليست هذه كلمات تذوب في الهواء فقد آذاناً انكار العقل والضمير.

د. مروان اسكندر.

بورصة انفو: الموقع الرائد لأخبار الذهب ، العملات ، البورصات. مع تحليلات