هذه هي وجهة نظر المراقبين والمحللين الماليين الدوليين الذين يعتبرون أنه أصبح واضحاً اليوم أنّ المؤسسات والسياسيين اللبنانيين غير قادرين على تصميم وتنفيذ برنامج إنقاذ اقتصادي لإخراج البلاد من الأزمات الاقتصادية والمالية التي تواجهها. عاجلاً أم آجلاً، لن يكون أمام لبنان خيار سوى الاتفاق مع صندوق النقد الدولي على برنامج إنقاذ. وأي خبير اقتصادي أو سياسي في لبنان ما زال يؤمن بعكس ذلك، عليه أن يطّلع عن تجارب البلدان التي واجهت أزمات اقتصادية خطيرة منذ خمسينات القرن الماضي وكيف تمكنت من الخروج منها.
يشدد أحد المسؤولين الماليين الدوليين، انه على الطبقة السياسية في لبنان التوقف عن إلقاء اللوم على القوى الخارجية أو على تخلّف الحكومة عن سداد السندات الدولية (يوروبوندز) في ربيع 2020، في التسبب بالأزمات الحالية. مؤكداً انّ الأزمات التي يواجهها لبنان محلية الصنع وزُرعت بذورها في أوائل التسعينات عندما تدخل السياسيون في إدارة السياسات النقدية وسياسات سعر الصرف، منتهكين قانون النقد والتسليف الذي يمنح مصرف لبنان الاستقلالية بهذا الخصوص، “مما شكل انحرافاً واضحاً عن الدور الذي لعبه مصرف لبنان منذ أن بدأ عمله في العام 1964، حيث عمل تاريخياً، كبنك مركزي مستقل ولم يكن للسياسيين أي تأثير على أدائه في إدارة سياسات سعر الصرف والسياسات النقدية. وبالتالي، لا يَسع لأحد إلا الاستنتاج أن إدارة مصرف لبنان نسّقت سياسات أسعار الصرف وأسعار الفائدة مع بعض السياسيين”.
وقال: هذا ما يفسر أسعار الفائدة البالغة 40 في المئة والتي تم تسديدها على سندات الخزينة الصادرة عن مصرف لبنان في العام 1995 في وقت كان سعر صرف الليرة اللبنانية يشهد ارتفاعاً. سائلاً: “من اشترى السندات التي أصدرها مصرف لبنان في ذلك الوقت؟ لماذا لم يتم استخدام نظام المزاد للسماح للسوق بتحديد مستوى سعر الفائدة؟ من قرر كيفية توزيع السندات الصادرة بين البنوك؟
واشار المسؤول الدولي الى انه لم يُسجّل تاريخياً لأي بلد في العالم، باستثناء لبنان، دفع فائدة بنسبة 40 في المئة على سندات دين بعملة في طور الارتفاع، “وهذا يعني أنّ ديون لبنان كانت تتضاعف كل عامين عندما كانت أسعار الفائدة حوالى 40 بالمئة. وهذه كانت بداية عدم استدامة الدين العام اللبناني. بالاضافة الى ذلك، فإنّ سياسة تثبيت سعر الصرف كانت خاطئة. فقد حصل السياسيون والاشخاص المرتبطون بهم على ضمانة “مبطّنة” من مصرف لبنان بعدم تخفيض قيمة الليرة اللبنانية، مما سمح لهم من الاستفادة من أسعار فائدة عالية من دون المخاطرة بتقلب سعر الصرف”.
اضاف: “مع مرور الوقت، وحتى عندما انخفضت أسعار الفائدة إلى نطاق 10-15 في المئة، انضمّت المصارف والأفراد إلى هذا المخطط واندفع السياسيون إلى إنشاء بنوكهم الخاصة للاستفادة منه، وأصبحوا حُماة النظام المصرفي الذي جعلهم أغنياء على حساب النموذج الاقتصادي غير المستدام.
وعَزا المسؤول الدولي استمرار هذا المخطط أو ما يُسمى بـ Ponzi scheme لأكثر من 20 عاماً، لسببين رئيسيين:
– أولاً، لأنه لا توجد في لبنان أسواق متطورة لرأس المال لمعاقبة السياسات الاقتصادية السيئة وغير المستدامة. لو تم تطوير مثل هذه الأسواق، كانت ستضطر إلى تصحيح السوق منذ وقت طويل، وكانت الدولة ستكون في مكان أفضل بكثير لو حدث التصحيح قبل 10 أو 15 عاماً. “هذه هي الطريقة التي يجب أن يعمل بها اقتصاد السوق الحر، مع العلم أنّ لبنان هو البلد الوحيد الذي يترأس فيه محافظ البنك المركزي، هيئة الاسواق المالية”.
– ثانياً، استمر السياسيون والمسؤولون الحكوميون (وزراء المالية، وحاكم مصرف لبنان ومعظم نواب الحاكم منذ العام 1992، ورؤساء الوزراء) في طمأنة المغتربين اللبنانيين بأن النظام المصرفي سليم، وأن قيمة الليرة اللبنانية لن تنخفض، ما ضمن استمرارية تدفّق رؤوس الأموال إلى المصارف اللبنانية.
بالاضافة الى ذلك، اشار المسؤول الدولي الى ان تثبيت سعر الصرف واستخدام سياسة أسعار الفوائد للدفاع عن سعر الصرف الثابت من دون وجود سياسات اقتصادية كلية داعمة، قد دمّر تنافسية الاقتصاد اللبناني. ونتيجة لذلك، أصبح سعر صرف الليرة اللبنانية مبالغاً في تقديره بشكل كبير مما أدى إلى تدمير قدرة لبنان على التصدير وجعل البلد يعتمد بشكل كبير على الواردات. وللتعويض عن تأثير سياسات الصرف وأسعار الفائدة الخاطئة على الاقتصاد الحقيقي، نفّذ مصرف لبنان خطط تمويل مختلفة لقروض الإسكان، والشركات الصغيرة والمتوسطة، ووسائل الإعلام، وشركات تكنولوجيا المعلومات… “كل هذه الهندسات أضافت المزيد من التشوهات والفساد إلى نظام اقتصادي فاسد ومشوه بالاساس. ولا يمكن لعاقل الادّعاء أنّ لبنان كان يتمتع باقتصاد السوق الحر عندما كان مصرفه المركزي يتصرف ويعمل كبنك تنمية وتتأثر سياساته بالسياسيين”.
واشار الى انّ قلّة من صانعي السياسة في لبنان تعلم انه عندما كان العالم يتّبع المعيار الذهبي (gold standards) الذي انتهى في العام 1971، كان هناك دولتان فقط خارج هذا المعيار واعتمدتا نظام سعر الصرف العائم، وهما لبنان وكندا. وخلال الحرب الأهلية التي استمرت 15 عاماً، ورغم كل المآسي والبؤس الذي واجه البلاد، نجا النظام المصرفي ولم تُسجل أي خسائر في الودائع. قبل العام 1992، كان مصرف لبنان يعمل كمصرف مركزي، وكان لبنان يتمتع باقتصاد سوق حر حقيقي وبنظام سعر الصرف العائم، واستطاعت البلاد امتصاص الصدمات الاقتصادية العديدة التي واجهتها.
ونظراً لتلك الممارسات، يأمل المسؤول الدولي أن يعي معظم اللبنانيين أنّ التدمير التدريجي للاقتصاد بدأ في العام 1992 عندما تم تكليف أمراء الحرب بإدارة البلاد والسياسات الاقتصادية. “عندما كانت الدول في جميع أنحاء العالم منشغلة ببناء مؤسسات اقتصادية قوية واقتصادات قوية وتحسين مستويات معيشة سكانها، كان السياسيون اللبنانيون منشغلين ببناء إمبراطورياتهم داخل القطاع العام وتوظيف مؤيديهم في المؤسسات الحكومية. لسوء الحظ، سمحت سياسات مصرف لبنان لاستدامة السياسات الخاطئة التي أصبحت بدورها ركيزة مهمة للحفاظ على النظام الفاسد. إن وجود بنك مركزي مستقل يُدار من خلال فريق اقتصادي قوي على علم بالمعايير الأساسية لاستدامة الاقتصاد الكلي، كان ليتوقف عن تمويل الحكومة ويصرّ على تعويم سعر الصرف منذ فترة طويلة.
تابع: هناك حقائق لا يمكن إنكارها. على عكس تصريحات مصرف لبنان، هذه هي المرة الأولى في التاريخ الحديث التي يُفلس فيها بنك مركزي. مصرف لبنان يحتاج إلى إعادة هيكلة كبرى. كذلك الامر بالنسبة للنظام المصرفي بأكمله الذي يحتاج إلى إعادة هيكلة سينتج عنها عملية اقتطاع جدّية من الودائع. لا يمكن تقدير نسبة الاقتطاع haircut إلّا بعد إجراء تحليلات مفصّلة لميزانيات البنوك وإعادة جدولة الديون الحكومية. في نهاية هذه العملية، سيكون لدى لبنان عدد أقل بكثير من البنوك.
واكد المسؤول الدولي انه حان الوقت لصانعي السياسات في لبنان أن يستيقظوا ويفهموا أنّ هناك خيارين للبلاد لمعالجة أزماته الاقتصادية والمالية: التعديلات الاقتصادية المنظمة أو غير المنظمة. “وما يحدث حالياً هو تعديل غير منظم يؤدي إلى مزيد من البؤس والمصاعب للسكان والمزيد من الدمار للاقتصاد. لغاية الآن، كان هذا هو الخيار في لبنان.
امّا البديل، فهو برنامج إنقاذ منظّم يدعمه صندوق النقد الدولي والبنك الدولي اللذين سيعملان على استقرار الاقتصاد في اطار خارطة طريق متناسقة لتحقيق الانتعاش الاقتصادي مع مرور الوقت.
في ظل برنامج إنقاذ صندوق النقد الدولي (تخفيض قيمة العملة، تخفيض قيمة الودائع، التضخم، الانكماش الاقتصادي…) كان الاصلاح والانقاذ ليكون أقل صعوبة بكثير مما تشهده البلاد منذ تشرين الاول 2019.
وختم: انّ الشرط المسبق للتفاوض على أي برنامج إنقاذ مع صندوق النقد الدولي هو وجود حكومة متخصصة ومستقلة، يكون ولاء وزرائها للبنان فقط وليس لحزب سياسي أو أمير حرب.
رنى سعرتي