كيف نخرج من الأزمة المالية والركود الاقتصادي؟

ثلاثة إجراءات ضرورية للخروج من الأزمة المالية والركود الاقتصادي 1. تحرير سعر الصرف بالكامل وتطبيقه على جميع المعاملات المالية والسلعية والخدماتية في الداخل ومع الخارج للقطاعين العام والخاص. 2. العمل على تحقيق توازن مالي لمعاملات الدولة حالاً، واستهداف تحقيقه في غضون سنة واحدة من الآن. 3. إعادة جدولة التزامات القطاعين العام والخاص بالليرة والدولار، وكذلك أصول وخصوم الجهاز المصرفي بأكمله.

وللتوضيح:

إنّ التحرير الكامل لسعر صرف الليرة مقابل الدولار سيسهم في تحقيق التوازن الداخلي والخارجي، من خلال رفع القدرة التنافسية للإنتاج المحلي وزيادة الطلب عليه وكبح الطلب على السلع والخدمات المستوردة. فقد بدأت بوادر هذا الاتجاه في الاقتصاد حالياً، فانخفضت معظم المستوردات (باستثناء السلع المدعومة، وبدأت تتعافى بعض القطاعات التي اكتسبت قدرة تنافسية على إثر انخفاض سعر الصرف في السوق الموازي، على الرغم من التردّد في اخذ اية اصلاحات. ومن المهم الأخذ في الاعتبار، انّ تحرير سعر الصرف سينهي الدعم غير المباشر لنسبة كبيرة من السلع المستوردة واهمها المحروقات، التي تستحوذ على 5 مليارات دولار من الدعم سنوياً، لتسعيرها على أساس السعر الرسمي البالغ 1500 ليرة للدولار مقابل 15000 ليرة في السوق الموازي الحر. كما انّ تعدّد أسعار الصرف مع القيود المرفقة على السحب أدّيا الى فقدان الثقة في الأسواق المالية، وفي خلق تفاوت بين الدولار النقدي والدولار المصرفي، حيث أصبحت قيمة الأخير نحو ربع الدولار النقدي. كما انّ القرار الذي خَوّل دفع الديون والعقود بسعر الصرف الرسمي، خلق فجوة كبيرة بين الاستحقاقات والالتزامات، وشوّه الأسواق المالية وادّى الى استمرار تسجيل خسارات مصطنعة في المصارف. فلا بدّ من الالتزام بالاستحقاقات المالية حسب سعر الصرف المحرّر، وتبرير مراجعة العقود.

 

للدعم المباشر وغير المباشر من خلال تعدّد سعر صرف الليرة آفات عدّة ومن أهمها التالي:

يؤدي هذا الدعم الى: تردّي الوضع المالي، تهويد القطاع المصرفي، وضع قيود غير مبرّرة وغير شرعية على الودائع وعلى التدفقات المالية وهدر ودائع المواطن، انخفاض في النمو وارتفاع في البطالة ونزوح للطاقات البشرية، تردٍ في وضع ميزان المدفوعات مع خسارة الاحتياطات لمصرف لبنان وتدهور سعر الصرف، تحفيز تهريب السلع المدعومة الى الخارج، منح ارباح استثنائية للتجار والمهرّبين، دعم الفئة الغنية على حساب الفئة الفقيرة ويُفقر الفئتين معاً، نقص في السلع المدعومة لتهريبها وتخزينها، خلق سوق سوداء لها، تثبيط القطاعات الإنتاجية عن انتاج السلع البديلة للواردات المدعومة، ويخلق تشوهات في توزيع موارد الاقتصاد. كما يساهم في تقويض الثقة بالدولة في معظم مرافقها وقدرتها على ممارسة الحوكمة الصالحة، وفي الوقت نفسه يعطي سلطة غير دستورية للسلطة. وقد ينتج من كل ما تقدّم إذلال للمواطن وعوارض اجتماعية سلبية عديدة نتيجة البطالة وازدياد الفقر.

 

أما التوازن المالي، فهو من الضروريات في هذه المرحلة، وسيسهم في تحقيقه التحسن التلقائي للإيرادات الاسمية (وخصوصاً الجمارك وضرائب الدخل، وايرادات القيمة المضافة) على إثر تطبيق سعر صرف حرّ وموحّد على جميع المعاملات. اذ انّ قيمة القواعد الضريبية الأساسية، كالدخل والواردات والاستهلاك ستُضاعف. فيما النفقات تتبع القرار السياسي المالي، باستثناء تكلفة خدمة الدين بالعملة الاجنبية (بعد انهاء توقف خدمته) ودعم شركة كهرباء لبنان بالوقود المستورد، وكليهما يُعالجان من خلال اعادة جدولة الدين وإنهاء الدعم السخي للكهرباء. وتحتل النفقات على الأجور والرواتب المرتبة الاولى في الإنفاق الجاري، ولا بدّ من إعادة النظر في تكلفتها، مع اعتبار القدرة الشرائية للموظف وتوخّي الحذر في الإسراف في تعديلها. وتليه خدمة الدين العام المحلي، وتتأثر تكلفته بتقلّبات أسعار الفائدة والتي يتوقع ان تنخفض وتستقر، بفعل استهداف تحقيق التوازن المالي واعادة الجدولة للدين.

 

وأجرينا محاكاة بالاستناد الى سعر الصرف الحرّ السائد حالياً في السوق الموازي. وأثبت انّ التوصل الى توازن مالي من الممكن بعد تحرير سعر الصرف خلال فترة وجيزة. إنّ تحقيق توازن كامل في المالية العامة سيعود على الاقتصاد بفوائد عدة، مع توقف الدولة عن منافسة القطاع الخاص في التمويل، وسيؤثر ايجاباً في تشجيع الاستثمار الخاص في جميع القطاعات، ويساهم في استقرار سعر الصرف نفسه. انّ معظم الدول التي عانت من أزمات مالية كان سببها الرئيسي العجوزات المالية المرتفعة وسياسات الصرف الخاطئة للعملة، وكان خفض العجز المالي من اهم الإصلاحات المتبعة.

 

وفي شق جدولة الدين العام، فهي حاجة ماسة لإعطاء الوقت اللازم لتعافي الاقتصاد ومالية الدولة. ومن الممكن معالجته بالعملات الأجنبية والمحلية مع القطاع الخاص المحلي (المصارف، مؤسسات القطاع العام، الشركات الخاصة، والافراد) من خلال الاتفاق على برنامج إعادة جدولة، بما فيها خدمة الدين. وسيسهم تحقيق التوازن المالي في خفض الفوائد ودعم الحل. وفي هذا الصدد، من المفضّل إجراء اختزال كلي لدين الدولة بالليرة لدى مصرف لبنان، او اعتباره ديناً استثنائياً دون اجل محدّد، وجزءاً من الأصول الأخرى. من الممكن اعادة جدولة الدين الخارجي مع المؤسسات المالية الدولية الخاصة (والذي لا يتعدّى استحقاقها 10 % من مجمل الدين العام)، من خلال طلب تشكيل لجنة موحّدة من قِبلهم للتفاوض مع الحكومة.

 

اضافة الى ذلك، لا بدّ من اعادة جدولة أصول وخصوم المصارف للقطاع الخاص، بمبادرة من جمعية المصارف، حسب صيغة تستند إلى الاستحقاقات التي كانت سارية حين بدء الأزمة. ومن المتوقع ان تجد المصارف الحلول المناسبة لحل أزمة القروض المتعثرة. إنّ التأكيد على صيانة الودائع سيعطي الثقة للمودعين ويسهم في التحول الى استعمال المعاملات الرقمية (بطاقات إئتمان وتحويلات الكترونية) والصكوك، بدلاً من المعاملات النقدية، مما يساهم في حلّ ازمة السيولة. انّ التَخوّف من الاستيلاء على الودائع، والذي طُرح جدّياً في الخطة السابقة، زعزع الثقة بالمصارف وأسهم في الإقبال على سحب الودائع منها.

 

والجدير ذكره، انّ القطاعات المحلية والخارجية تنتظر ان تبدأ الحكومة بإعادة جدولة ديونها وتقديم خطة تستند الى المصالح المشتركة، بدلاً من التوقف الغوغائي عن الدفع.

النتائج:

إنّ هذه الإجراءات الثلاثة كفيلة بأن توجّه الاقتصاد نحو التعافي لتحقيق نمو اقتصادي وتوازن في المعاملات مع الخارج. وهي أولويات قبل الانهماك في تفاصيل الإصلاحات الهيكلية، كالضمان الاجتماعي ومؤسسات القطاع العام، مع العلم أنّه لا بدّ من معالجة الكهرباء حالاً للجم الخسارات فيها، واهميتها للاقتصاد ودورها في تحقيق التوازن المالي.

 

يجب ان يرتكز الجهد أولاً على انعاش الاقتصاد وليس على ادارة الخسارات (ومنها خسارات وهمية) كما اتُبّع في الخطة السابقة. وتستهدف أولاً الاصلاحات ذات الأثر المباشر والآني، ومن أهمها تحرير سعر الصرف وتوحيده لجميع المعاملات. وسيُخوّل هذا الاجراء، تعديل الاجور في القطاع الخاص تلقائياً، استجابة الى قوى سوق العمل ومرونته. فكلما ارتفع الفارق بين أسعار المبيع وأسعار التكلفة فلا بدّ للأجور من ان تتعدل.

 

ومن المتوقع بعد اخذ هذه الإجراءات الثلاثة، ان يستقر سعر الصرف على مستوى من التنافسية الداعمة للاستقرار الاقتصادي، وتحقيق معدلات نمو ايجابية مع انخفاض في البطالة. فمن الأفضل للسياسات ان تخلق فرص عمل تنتج سلعاً، بدلاً من ان توفّر سلعاً بأسعار بخسة مصطنعة وغير قادرة على الاستمرارية. اما انتظار المؤسسات المالية الدولية لكي تقدّم حلاً فسيعمّق الأزمة المالية.

د. منير راشد

900 مليون دولار تهبط من السماء

يمكن القول انّ 900 مليون دولار سوف تهبط على لبنان من حيث لا يتوقع، إذ يتجه صندوق النقد الدولي الى إقرار حقوق السحب الخاصة للدول الاعضاء لدعم الاحتياطات العالمية، خصوصاً في ظل جائحة كورونا. لكنّ التساؤلات تتمحور حول سبل استخدام هذا المبلغ في حال وصل الى لبنان، ومن سيقرّر مصير تلك الأموال؟

 

تبلّغ وزير المال في حكومة تصريف الاعمال غازي وزني أمس أنّ المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي ناقش اقتراح تخصيص حقوق السحب الخاصة للدول الاعضاء (SDR) البالغة 650 مليار دولار، ليُحال بعدها الى مجلس المحافظين الذي يدرسه بدوره في شهر تموز.

 

وفي حال إقراره تتم عملية التخصيص ‏نحو نهاية شهر آب المقبل. ‏والمتوقع أن تكون حصة لبنان زهاء 900 مليون دولار، يستطيع الاستفادة منها بعد الإقرار، وفق ما أعلن المكتب الإعلامي لوزني.

 

وقد أكدت المديرة العامة لصندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا، في تصريح امس، انّ التخصيص القادم لحقوق السحب الخاصة «مهمّ» لأنه سيوفّر زيادة في الاحتياطات المالية التي تشتد الحاجة إليها في الأسواق الناشئة والبلدان النامية، وخاصة البلدان ذات الدخل المنخفض والتي استنفدت احتياطاتها بشدة، وذلك استجابة لوباء كورونا، مشيرة الى انّ تعزيز احتياطات تلك البلدان قد يجعلها في وضع أفضل يمكّنها من تخصيص حيّز مالي لمكافحة الوباء وتطعيم شعوبها ودعم الفئات الضعيفة من السكان، وفقاً لجورجيفا.

 

وبما انّ تجربة لبنان مع الدعم المالي الخارجي الذي يحصل عليه غير مشجّعة ولا تصبّ دائماً وبشكل كامل في مصلحة الفئات المستهدفة او الاهداف المرصودة، وهي في حالة الـ900 مليون دولار المنتظرة أواخر آب، مكافحة الوباء وتطعيم المواطنين ودعم الفئات الضعيفة من السكان، فإنّ الدولة لا يمكنها تجيير تلك الاموال لمصرف لبنان لدعيم احتياطاته المستنزفة على غرار قرض البنك الدولي البالغة قيمته 246 مليون دولار لدعم الأسَر الفقيرة والمتضررين من الأزمة الاقتصادية، والذي قررت السلطة التشريعية والتنفيذية في لبنان توزيعه بالليرة اللبنانية وعلى سعر صرف حَدّده البنك المركزي لا يمتّ بصلة الى أي سعر صرف معتمد في السوق اليوم.

 

وبالتالي، عَلت الاصوات المحذّرة من كيفية استخدام حصة لبنان من حقوق السحب الخاصة للدول الاعضاء (SDR) التي سيوزّعها صندوق النقد الدولي في نهاية شهر آب المقبل والبالغة 900 مليون دولار، حيث اعتبر البعض انّ على المجتمع الدولي منع لبنان من الاستخدام الحرّ لهذه المخصصات الإضافية، على ان تتم مراقبة استخدامها للتأكد من انها تستهدف فئات المجتمع التي تحتاجها بشدّة، أي لبناء شبكة الأمان الاجتماعي، وليس لدعم سياسات الدولة المالية والاقتصادية الخاطئة التي لم ولن تؤدي سوى الى إفلاس البلاد، وإفقار السكان وتجويعهم أكثر فأكثر.

 

كما شدّد المراقبون على انّ المخصصات المالية المنتظرة لا يجوز ان تُستخدم لخدمة الزعماء والسياسيين ولتمويل الانتخابات بشكل ضمنيّ من خلال بناء شبكة أمان اجتماعي مفصّلة على قياس الناخبين، أي تخصيص التقديمات المالية من خلال البطاقات التموينية او التمويلية لمناصري أحزاب السلطة الحاكمة.

 

ما هي حقوق السحب الخاصة وكيف تُستخدم؟

هي الأصول الاحتياطية لصندوق النقد الدولي، والتي يمكن استبدالها بالدولار واليورو والجنيه الإسترليني والين واليوان الصيني أو الرنمينبي. يتطلّب تخصيص حقوق السحب الخاصة موافقة أعضاء صندوق النقد الدولي الذين يمتلكون 85% من إجمالي الأصوات. ولأن الولايات المتحدة تمتلك 16.5% من الأصوات، فإنّ وجهة نظر واشنطن حاسمة.

يُصدر صندوق النقد الدولي حقوق السحب الخاصة للبنوك المركزية في البلدان الأعضاء كاحتياطي يمكن استبداله بسهولة بالعملة الصعبة مع بنك مركزي آخر. وتجري معظم البنوك المركزية عملية التبادل طواعية، ولكن إذا لم يكن الأمر كذلك فإنّ صندوق النقد الدولي لديه سلطة إصدار مرسوم في شأن من يجب أن يقبل حقوق السحب الخاصة.

 

ويتم تحديد قيمة حقوق السحب الخاصة يومياً إستناداً إلى سلّة من 5 عملات دولية رئيسية: الدولار الأميركي (42%) واليورو (31%) واليوان الصيني (11%) والين الياباني (8%) والجنيه البريطاني (8%) والعملة المحلية.

 

ونظراً لأنّ حقوق السحب الخاصة يتم تخصيصها على أساس نسبي مرتبط بالكوتا المحدّدة لكلّ بلد عضو في صندوق النقد الدولي، فإنّ التوزيع يميل بشكل أكبر نحو البلدان الأكبر والأغنى التي يمكن القول إنها الأقل حاجة إليها. ستتلقّى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة وحدها حوالى نصف السيولة الجديدة.

وقدّر المحللون أنّ تخصيص حقوق السحب الخاصة للدول الاعضاء (SDR) والبالغة 650 مليار دولار، سيوفّر حوالى 21 مليار دولار من الاحتياطات المضافة إلى البلدان المنخفضة الدخل. وقد يكون الرقم أكبر بكثير إذا قامت الدول الغنية، التي ستحصل على حوالى 400 مليار دولار من المخصصات، بإقراض أو التبرّع ببعض حقوق السحب الخاصة الجديدة الخاصة بها.

 

وبحسب المحللين أيضاً، فإنّ تلك المخصصات ستضاعف احتياطات الدول من العملات الأجنبية لزامبيا على سبيل المثال، وتزيد احتياطات زيمبابوي بأكثر من 6 أضعاف. في حين انها سترفع احتياطات الأرجنتين وتركيا وسريلانكا وجنوب إفريقيا وباكستان ونيجيريا بنسبة بين 10% و20%.

 

أمّا لبنان الذي لا يعرف أحد الحجم الفعلي والحقيقي لاحتياطه المتبقّي من العملات الاجنبية، والذي يتم استنزافه بشكل يومي على سياسة الدعم الفاشلة، فإنّ تقدير نسبة الزيادة على احتياطه او تداعيات تلك الزيادة غير مجدٍ، لأنّ الطبقة الحاكمة أثبتت انها تنوي استنفاد كامل احتياطي البنك المركزي حتّى آخر دولار لخدمة مصالحها السياسية والشخصية.

رنى سعرتي