تشكيل الحكومة «نقطة» في «بحر» الإصلاح المالي والاقتصادي المطلوب

لم يعد موضوع استعادة ثقة الاسواق المالية والمستثمرين الاجانب هماً، كما كان في السابق، على تأليف الحكومات الجديدة في لبنان. ولم يعد الاستقرار السياسي، كما كان في السابق، عاملاً رئيساً لحلّ الازمات المالية والاقتصادية واستقطاب الدولارات الى القطاع المصرفي اللبناني. الازمة الحالية أكبر وأعمق من ذلك، ومسار الاصلاح، في حال انطلاقه، طويل ومعقّد وموجع

هي حكومة انتخابات نيابية أم حكومة إنقاذ اقتصادي ومالي؟ هل ان نجاح الرئيس المكلّف نجيب ميقاتي في تأليف حكومة جديدة، يعني وضع البلاد على مسار الاصلاح والنهوض من الازمة؟ هل مجرّد تأليف الحكومة كفيل باستعادة الثقة وبفرض نوع من الاستقرار في سعر الصرف الى حين بدء الاصلاحات المنشودة؟ أم انه مع انتهاء الموسم السياحي وتوقف ضخ دولارات المغتربين سيسجّلّ الدولار مستويات قياسية جديدة امام الليرة؟ هل ان تشكيل الحكومة سيعالج الازمات الآنية وسيؤمن العملة الصعبة لاستيراد المازوت والادوية والمستلزمات الطبية؟

آمال كثيرة وكبيرة معقودة على أي شخص يفلح في توفير الاستقرار السياسي المطلوب للبدء بمسار اصلاح طويل على كافة الاصعدة، علماً ان توجيه البلاد نحو سكة الإنقاذ، في حال حصوله، لا يعني حلّ الازمات بين ليلة وضحاها، وعودة الوضع الى ما كان عليه قبل ثورة تشرين، لأنّ المعالجة الجدّية قد تستغرق أعواماً وستتطلب تنفيذ اجراءات اصلاحية موجعة بحق ادارات الدولة والقطاع الخاص والمواطنين. فهل ان الحكومة الجديدة ستوفر العناصر الاساسية المطلوبة لعميلة الإنقاذ؟

في هذا الاطار، اوضح الخبير الاقتصادي د. بيار الخوري ان تشكيل الحكومة لا علاقة له بحلّ الازمة المالية والاقتصادية، بل له علاقة فقط بإدارة المستوى الحالي الذي بلغته الازمة في البلاد. مؤكداً لـ»الجمهورية» ان تأليف الحكومة يطرح احتمال البدء بمسار طويل لمعالجة الازمة وليس حتمية المعالجة.

ولفت الى ان «شروط ومعايير حلّ الازمة مرتبطة بمستوى «القاع» الذي سنبلغه حين تبدأ عملية الإنقاذ، وهو الامر الذي نجهله لغاية الآن، ولكن بغضّ النظر عن تلك المعايير، هناك عناصر رئيسية لا يمكن تجاوزها تسبق الحلّ المنشود، وهي:

– لا حلّ للازمة الاقتصادية من دون حوكمة سليمة للقطاع العام، حتّى في حال خصخصة ثروات البلاد.

– وضع استراتيجية اقتصادية شاملة ومتكاملة ترتكز على أفضليات الاقتصاد اللبناني، وهي: السوق المالي، القطاع التربوي، القطاع الصحي، القطاع السياحي، التكنولوجيا وريادة الاعمال. مع الاشارة الى ان تحديد هوية وشكل الاقتصاد الذي نريده، هو أولوية يجب بناء استراتيجية الحكومة على اساسها.

– بيئة سليمة ومناسبة للاعمال، اي اعادة هيكلة القطاع المصرفي، التوصل الى اتفاق مع الدائنين الدوليين لتسديد مستحقات لبنان المتأخرة، سياسة مستقرّة وغير ثابتة لسعر الصرف، التوصل الى اتفاق مع صندوق النقد الدولي حول برنامج إنقاذ.

وشدد خوري على انه لا يمكن تعميم الحلول المتّبعة في دول أخرى على لبنان، لأنّ الظروف هي التي تحكم شروط الحلّ، لافتاً الى توقيع اتفاق حول برنامج إنقاذ صندوق النقد الدولي ليس الشرط الوحيد لاستعادة ثقة المستثمرين ولعودة الاستثمارات الخارجية المباشرة، مشيراً الى انّ تجربة الارجنتين خير دليل على ذلك حيث فشل برنامجها مع صندوق النقد الدولي، ولم تفلح السلطة الحاكمة في اقناع المستثمرين والاسواق الخارجية في حكمها الرشيد. في المقابل، نجح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في تطبيق برنامج صندوق النقد الدولي واستطاع جذب المستثمرين الاجانب.

بالاضافة الى ذلك، اوضح الخوري ان تأليف حكومة وتأمين الاستقرار السياسي لم يعودا كفيلين كما في السابق، قبل 2019، باستعادة الثقة، لان الثقة تُفقد في مرّة واحدة وليس بعد تجارب عديدة، وبالتالي استعادتها اليوم ليس بالامر السهل.

واشار الى ان تأليف الحكومة لا يعني استقرار سعر الصرف ولا يعني توفر المازوت والادوية، لأنّ الاصلاح والشرط المطلوب دوليا اليوم هو تحرير سعر الصرف، مما سيستوجب تأمين دولارات اضافية من قبل المستوردين الذين يتقاضون كلفة السلع المستوردة بالليرة اللبنانية من السوق، وبالتالي فإنّ تحرير سعر الصرف لن يزيد عرض الدولارات في السوق بل يخفف الضغط على مصرف لبنان ويحدّ من الاستنزاف الحاصل في احتياطه من العملات الاجنبية. وقال ان تحرير سعر الصرف رغم انه لا يعالج أزمة الدولار والتضخم، هو أفضل من مواصلة سياسة الدعم الفاشلة.

وردّا على سؤال، أوضح الخوري ان مسار الاصلاح، في حال انطلق، طويل جدّاً، «ووفق تقديرات البنك الدولي سيستغرق بين 12 و19 عاما لاستعادة مستوى الدخل الذي كان قائماً في العام 2019».

رنى سعرتي

عن توقعات كرة القدم وتنبؤات الاقتصاد

قبل المباراة النهائية لكأس أمم أوروبا لكرة القدم، سأل مذيع قناة «بي بي سي» البريطانية أحد مشجعي الفريق الإنجليزي المتحمسين عن توقعاته لنتيجة المباراة النهائية بين فريق بلاده وإيطاليا، وقبل أن تصله الإجابة قال المذيع: «أعلم أنه لا معنى للتوقعات الآن، وأعرف مدى صعوبتها، ولكني سأسألك على أي حال». وأجاب المشجع بحماس على السؤال عن توقعه بفوز محتوم للفريق الإنجليزي الذي يلعب على أرضه بفريق هو في رأيه الأفضل تشكيلاً وأداءً، وأنه فريق الآمال التي طال انتظارها الذي سيتوج بكأس الفوز، واسترسل المشجع عما سيقوم به مع باقي أنصار الفريق من أشكال الاحتفال حتى اليوم التالي الذي جعلته الحكومة عطلة في عموم البلاد. ولم يتحقق كما نعلم أي من ذلك، إذ انتهت المباراة القوية الشيقة بالتعادل لهدف لكلا الفريقين، ثم فازت إيطاليا بركلات الترجيح عائدة بالجائزة الكبرى لروما محاطة بنشوة النصر، مع حسرة الإنجليز وخيبة توقعات هذا المشجع ورفاقه، وربما قضى يوم العطلة مجتراً أحزانه، محللاً أسباب ضياع البطولة، لائماً حظاً عاثراً أو فرصة ضائعة أو خطأ للاعب.
وأسوق هذا المثال لتوضيح صعوبة العمل الذهني لاتخاذ التوقعات، وقد قيل على سبيل التهكم إن التوقعات عملية شديدة الصعوبة، خاصة عندما تكون عن المستقبل! فالتوقعات أسيرة خبرة عن ماضٍ لا يتحكم بالضرورة في مصائر المستقبل. والتوقعات، وكذلك القرارات، مقيدة بحدود المعرفة المتاحة في الحاضر، وهي تعاني بدورها من تحيز، كحالة هذا المشجع لفريقه، كما يضلل التوقعات ما يعرف بالضوضاء أو مؤثرات مشوهة لسلامة الرؤية والتقدير. فالتحيز، هو ما يصفه دانيال كانمان الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد في كتاب جديد ألفه مع أوليفر سيبوني وكاس سنستين بالانحيازات أو «الانحرافات المنهجية». والتحيز يكون مسبق الإعداد ويؤثر سلباً في القرار أو التوقع كافتراض أحد المحققين في جريمة ما بأن شريحة معينة من المجتمع أكثر عنفاً وضلوعاً في ارتكاب الجرائم. فإذا مثل أحد المنتمين لهذه الشريحة المجتمعية أمامه في حادثة كان هذا التحيز مسيطراً على تفكيره ومن ثم قراره بغضّ النظر عن الحقيقة التي قد تضيع ومعها العدل بسبب هذا التحيز.
ويذهب كانمان وزملاؤه إلى أن هذه التحيزات معروفة ويمكن التعامل معها بأساليب مختلفة حتى يتم التوصل للحقيقة كمراجعة الأحكام والطعن في سلامة التحقيق بسبب ما عرف عن المحقق من تحيز.
لكن هناك مشكلة أخرى لا تقل خطورة عن التحيز في اتخاذ القرار وأكثر صعوبة في التعامل معها وهو ما يوصف بالضوضاء التي تجعل القرار معانياً مما يعرف «بالبعثرة العشوائية». فرجوعاً إلى مثال المحقق لا تتوقف المشكلة عند انحيازه ضد جماعة معينة أو معها، ولكن في إطار الحكم على عناصر من ذات الجماعة قد يعاني القرار من عيوب وعدم اتساق، بناء مثلاً على الحالة التي كان عليها المحقق ذهنياً أو صحياً قبل أو أثناء التحقيق. والخلاصة هو أنه عندما يتم اتخاذ قرار أو حكم أو نصيحة طبية، على سبيل المثال، يجب العمل على تقليص التأثير السلبي لهذه التحيزات وكذلك مؤثرات الضوضاء على القرارات للاطمئنان على سلامتها من المشوهات.
وفي عالم الاقتصاد، إذا ما زادت ظروف المخاطرة يصعب اتخاذ القرار حتى إذا اتخذت التدابير للتخلص من التحيز في الأحكام أو تقليل أثر الضوضاء. ولهذا يتم اتخاذ القرار في حالة المخاطرة وفقاً لبدائل تتعلق باحتمالات المستقبل. أما في ظروف اللايقين فهي تتجاوز المخاطرة لأن احتمالات حدوث الواقعة وبدائلها لا تكون معروفة أصلاً. فهي كمحاولة إصابة هدف في ظلمة حالكة. وفي هذه الحالة ترتفع تكاليف اتخاذ القرار والتوقي من آثاره.
وإذا ما تابعنا نتائج وقرارات اجتماعات مجموعة العشرين التي انتهت منذ أيام تجدها حتماً تعاني من مشكلة التوقعات. فقراراتها تعتمد على شكل التعافي في النمو الاقتصادي في هذا العام والعام المقبل، وإذا ما كان معدل النمو سيتبع المسار المتوقع، في حدود 5.5 في المائة إلى 6.5 في المائة. لكن هذا التوقع يرتبط بدوره بتوقعات التعافي الصحي والسيطرة على الجائحة التي ما زالت تعصف بحياة الناس وأسباب معيشتهم. وهذا التوقع يرتبط بمدى فاعلية اللقاحات في التعامل مع فيروس كورونا وتحوراته المستجدة من ناحية وكذلك مدى فاعلية إجراءات التحفيز الاقتصادي في دفع قطاعات الإنتاج والتشغيل لتحقيق المستهدف منها.
وفي هذه الأثناء يهدد هذه التوقعات الاقتصادية، شديدة الارتباط بافتراضات متشابكة، 4 معوقات كبرى…
– عدم كفاية اللقاحات وعدم إتاحتها للبلدان النامية بما يهدد زيادة الإصابات والوفيات وارتباك القطاعات الصحية مع تحور الفيروس، وانتقال عدواه عبر الحدود بما في ذلك الدول المتقدمة التي نجحت في تطعيم نسب كبيرة من مواطنيها. علماً بأن وعد مجموعة السبع بتوفير لقاحات لا يفي إلا بأقل من 10 في المائة من عجز اللقاحات. وما زال هناك تعنت في السماح بإنتاج اللقاحات في الدول النامية، وذلك بتمسك دول متقدمة بقيود حقوق الملكية الفكرية رغم المطالبة في منظمة التجارة العالمية بالإعفاء المؤقت منها.
– تباين قدرات الإنفاق المالي للتصدي للجائحة والتعافي منها، ففي حين أنفقت البلدان المتقدمة ما يزيد على 25 في المائة من نواتجها المحلية الإجمالية، تقل هذه النسبة عن 7 في المائة في البلدان متوسطة الدخل، كما لا تتجاوز 2 في المائة في البلدان الأقل دخلاً.
– تداعيات ارتفاع التضخم، خاصة في الولايات المتحدة الذي وصل فيها معدل الارتفاع السنوي للرقم القياسي لأسعار المستهلكين، إلى 5 في المائة في شهر مايو (أيار) الماضي، وهو رقم مرتفع بمعايير الدول المتقدمة. ويؤثر ذلك على توجهات أسعار الفائدة وتكلفة الاقتراض وأوضاع الدين الخارجي ومدى استقراره، فضلاً عن ارتفاع تكلفة سلع أساسية مستوردة على ميزانيات الدول.
– جانب من النمو المتوقع لا يرتبط بخلق فرص عمل، ما يزيد من حدة التباين في توزيع الدخول والثروات.
هذه التفاصيل مهمة عند تحليل توقعات النمو، وبها تكمن شياطين، تُعيق التوصل للتعافي المأمول لصحة عموم الناس واقتصادهم. فقد اختزلت إجراءات التعافي في مجالات لا تجعل هذا التعافي شاملاً أو مستقراً أو مستداماً. فقد أصبح النمو بلا عمل والكسب بلا جهد. فأرقام النمو المذكورة غير مقترنة بالتشغيل للمتعطلين الذين تجاوز عددهم 250 مليوناً، وتتزايد أعداد أصحاب المليارات وتتفاقم ثرواتهم في حين يُدفع بأكثر من 120 مليون إنسان لهوة الفقر المدقع. هذا التباين في سرعات التعافي بين الدول لا يحمل معه سوى التوتر والنزاعات والاضطرابات الاجتماعيات التي طالما أعقبت الأزمات. والأزمة الراهنة من أشد أزمات العصر الحديث وطأة، بما يستلزم إجراءات أكثر حسماً وسرعة لإنقاذ حياة الناس وأسباب معيشتهم وأمن مجتمعاتهم.

محمود محي الدين