عن صراعات المناخ وحروب التجارة و«مستقبل لم يعد كما كان»

في أثناء مشاركتي بإحدى حفلات الخريجين في الجامعات البريطانية لهذا العام، استمعت لمتحدثة باسم الخريجين وهي تكرر في كلمتها مقولة «إن المستقبل لم يعد كما كان»، مشيرة إلى أنه رغم سعادتها وأقرانها بإنجازهم الدراسي وحصولهم على مؤهلات أكاديمية من جامعة مرموقة، فإنهم يستشعرون قلقاً أكبر لما ينتظرهم في اقتصادات عانت من تقلبات حادة بسبب الجائحة وما سبقها من سنوات شهدت أزمات مالية وحروباً تجارية تراها تعود بقوة، ويتزامن مع ذلك كله إجراءات للتصدي لتغير المناخ لن تكون كلها بالضرورة حانية على سوق العمل.
وكلمات الخريجة النابهة ذات الأصول الأفريقية محقة في تخوفاتها، ويشاركها فيها أقران لها في بلداننا، ولن يهدئ من هذه التخوفات تعاطف مستحق أو إبداء تفهم لأسبابها. فالمطلوب حقاً هو نهج جديد للاستثمار والنمو المقترن بتوليد فرص للعمل اللائق.
ويردد مسؤولو الدول المتقدمة مقولة «إعادة البناء بشكل أفضل»، قاصدين بها السعي لنمو ذكي أخضر يعتمد على التحول الرقمي ومراعاة الاشتراطات البيئية. وقد رصدوا لذلك موازنات ضخمة ممولة بتكاليف منخفضة بسبب تدني أسعار الفائدة المصاحبة بإجراءات غير مسبوقة من البنوك المركزية، حتى تجاوز الإنفاق العام للتصدي للجائحة والتعافي الاقتصادي 10 في المائة في كثير من البلدان الغنية، وما زالت مستمرة في إنفاقها حتى الاطمئنان على التعافي.
أما في بلداننا النامية فلا يهدد فرص التعافي الاقتصادي فيها تحورات في فيروس كورونا ونقص اللقاحات وقلة الموارد المتاحة للإنفاق العام فحسب، بل ما يتجدد من صراع دولي حول أولويات التصدي لتغيرات المناخ، وشحذ استعدادات ترسانة الحمائية في سبيل حركة التجارة الدولية. ومع قدوم أجيال جديدة بأعداد غفيرة إلى سوق العمل في بلداننا يثور تساؤل مشروع، مماثل لما طرحته الخريجة البريطانية ذات الأصول الأفريقية، حول فرص التحاقهم بعمل لائق، وإن كانت التحديات أمامهم أكبر. وهذا يؤكد مرة أخرى ضرورة تبني سياسات دافعة للاستثمار والتشغيل والنمو مع التصدي لعقبات التمويل، ولكن كيف سيكون ذلك في ظل صراعات المناخ وحروب التجارة؟
– خطورة تبني سياسات للتصدي لتغيرات المناخ بمعزل عن إطار التنمية المستدامة: يجد المتابع للجدل الدائر حول تغير المناخ تسييساً مفرطاً في أولوياته، واستقطاباً حاداً حول برامجه، وتغلبت فيه الآيديولوجيا فأزاحت أهل العلم عن الصدارة، وصار إطار الحديث عن تغيرات المناخ والمشاعر المشحونة يذكرك بالصراعات الدينية في القرون الوسطى. فكأنك بين أشياع مبشرين وجموع من المشككين وآخرين متهمين بالهرطقة. وفي عصر يتباهى بتطورات العلم كان من المفترض أن تكون الأدلة المثبتة هي السند الأساسي للحوار حول تغيرات المناخ. وقد أكد أهل الاختصاص ما يحيق بعالمنا من مخاطر وجودية بسبب الانبعاثات الضارة بالمناخ وبما يهدد الحياة. ثم تأتي بعد هذا منطقياً الإجراءات التي ينبغي اتخاذها للتعامل مع هذه المخاطر، وقد استقر الأمر باتفاق دولي ملزم تم إبرامه في باريس في عام 2015. ثم يأتي بعد ذلك التنفيذ المحكم لما تم الاتفاق عليه، بما في ذلك وفاء الدول الغنية بتعهداتها السابقة بتوفير 100 مليار دولار سنوياً للدول النامية لتعينها في تمويل استثمارات التوافق مع متطلبات حماية المناخ. وهو رقم زهيد لم يتم الوفاء به، رغم الاحتياجات المكلفة، خاصة أن الدول النامية مطالبة للإسهام في إصلاح ما أفسدته الانبعاثات الضارة المتولدة من الدول المتقدمة. فوفقاً لمعهد الموارد العالمية هناك مصادر كبرى أكثر ضرراً بالمناخ والبيئة ومنها المصادر التسع التالية: 1) إنتاج الكهرباء والتدفئة بنسبة إسهام تقدر بنحو 33 في المائة. 2) النقل والمواصلات بنسبة 15 في المائة. 3) التصنيع والتشييد بنسبة 13 في المائة. 4) الزراعة والإنتاج الحيواني بنسبة 11 في المائة. 5) حرق أنواع مختلفة من الوقود بما في ذلك الأخشاب بنسبة 8 في المائة. 6) منتجات صناعية كثيفة الاستخدام للطاقة مثل الألمونيوم والإسمنت وغيرها بنسبة 6 في المائة. 7) إزالة الغابات الشجرية الاستوائية بنسبة 6 في المائة. 8) انبعاثات مرتبطة بإنتاج الطاقة بنسبة 5 في المائة. 9) دفن النفايات والمخلفات الصلبة 3 في المائة.
هذه المصادر ترتبط بها حياة البشر والإنتاج، ولكنها تتركز في دول بعينها أكثر استهلاكاً ودخلاً، وعليها أن تتحمل أعباءها ولا تحيلها إلى غيرها. كما أن القطاعات الحيوية المذكورة يمكن تسييرها وإدارتها بطرق أكثر كفاءة في استخدام الطاقة وأفضل فاعلية في توافقها مع الاعتبارات البيئية. وهنا تأتي الحلول الاقتصادية بما ينفع الناس؛ وأولها الاستثمار في التكنولوجيا والبحوث والتطوير، فبفضلها أصبحت الطاقة البديلة أكثر كفاءة وأقل تكلفة. فقد أوضح تقرير أخير صادر عن الوكالة الدولية للطاقة المتجددة، أن تكلفة الطاقة الشمسية قد انخفضت بمقدار 16 في المائة في العام الماضي وحده، بينما انخفضت تكلفة الطاقة المولدة من الرياح بنسب تتراوح بين 9 في المائة و13 في المائة، بما جعل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح أقل مما كانتا عليه سعراً منذ عشر أعوام بنحو 85 في المائة و52 في المائة على الترتيب.
الأمر إذن يتعلق بإدارة التحول بعناية حتى لا تأتي الهرولة والتعجل غير المنضبط بدعوى حماية المناخ بنتائج عكسية تضر بالنمو وفرص العمل بما يعوق في نهاية الأمر سياسات حماية المناخ نفسها. وعلينا أن نتذكر أن هدف حماية المناخ هو الهدف رقم 13 من 17 هدفاً عاماً من أهداف التنمية المستدامة لا يقل أي منها عنه أهمية بحال؛ فمنها القضاء على الفقر المدقع والجوع، والارتقاء بالتعليم والصحة، وزيادة النمو والتشغيل، وتوفير الطاقة والمياه، وغيرها من أولويات لا تستقر حياة المجتمعات ولا تطور الاقتصادات من دونها.
– أضرار العودة للسياسات الحمائية: يبدو أن دولاً متقدمة قد استمرأت التبني لإجراءات تدعو لها مبشرة طالما استفادت منها، ثم تحيد عنها بعدما تصل بها إلى مبتغاها. وقد كان هذا الشأن مع تحرير التجارة وإزالة معوقاتها كالتعريفة الجمركية والحصص. وقد لامت دول متقدمة التجارة الدولية على تعثر مشروعات وخسارتها على أرضها، في حين أن الأوْلى باللوم هو تراجع الإنتاجية والكفاءة وانخفاض مهارة العمل وارتفاع تكلفته. وقد لجأت أحزاب وحركات شعبوية لتأجيج مشاعر الغضب وتوجيه الاتهام لوارداتها من دول أكثر كفاءة وأفضل نوعية وأقل تكلفة. وحركت بعض الدول الغنية الحنين إلى ماضيها الصناعي برفع التعريفة الجمركية وزيادة قيود التجارة وتحجيم المنافسة وزيادة الدعم الموجه لصناعات فقدت مزاياها النسبية. ولم تحقق أكثر هذه الإجراءات إلا زيادة في أعباء الإنفاق العام والدعم. وفي مقال للاقتصادي الأميركي أدم بوزن في مجلة «الشؤون الدولية» عن ثمن الحنين إلى الماضي، ومقال آخر للاقتصادية الأميركية آن كروجر عن السياسة الصناعية الأميركية المضطربة، تحذير واضح عن التوغل المكلف في سياسات مدفوعة بمقاصد جيدة للتشغيل وحماية الصناعات وزيادة الإنفاق العام المرتبطة بها، ولكنها ستنتهي إلى ما انتهت إليه إجراءات سابقة عجزت عن انتقاء مشروعات مرشحة للنجاح، فقد كانت فعلياً أقرب للفشل والخسارة، وهو ما كان.
لا مراء أن للدولة واستثماراتها دوراً في علاج قصور السوق وعجز إمكانات المشروعات الخاصة المحلية والأجنبية وحدها عن الوفاء بمتطلبات التنمية. وهذه الاستثمارات العامة أولى بها أن توجه إلى البنية الأساسية والتكنولوجية ومساندة البحث والتطوير وتجويد التعليم والرعاية الصحية والإسهام في زيادة مهارات وقدرات رأس المال البشري وتأهيله للمنافسة الدولية في عالم سريع التغير. وإذا كان على الدولة أن تقدم دعماً، كما هو متوقع منها وفقاً لوظائفها، فيجب أن يكون موجهاً لمستحق من خلال نظم الضمان الاجتماعي الشامل. أما تبني الإجراءات الشعبوية كتقييد حركة التجارة والمنافسة فهي قصيرة الأمد عالية التكلفة، وإنْ صاحبها تشجيع المتهافتين في بدايتها فسيتبرأون منها بعدما تلحقه من دمار وإضاعة لفرص عمل حقيقية كتلك التي يمكن أن تلتحق بها هذه الخريجة الجامعية وأقرانها، إذا وفقت السياسات في تحديد أولوياتها صياغة وتنفيذاً.

د. محمود محي الدين

النفط إلى أين بعد اجتماع «أوبك بلس»؟

اليوم (الخميس) اجتماع مصيري آخر لتحالف منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) مع كبار المنتجين خارجها، وهو التحالف المعروف باسم «أوبك بلس». وفي ظروف مثل التي يمر بها الاقتصاد العالمي مع جائحة كورونا، فكل اجتماع للتحالف هو مصيري على ما يبدو. وبالنسبة للملايين الذين لا يتابعون أخبار «أوبك بلس»، ولا يهتمون لما يجري، فعليهم معرفة أن هذا التحالف اليوم يتحكم في أكثر من نصف الطاقة الإنتاجية للنفط في العالم؛ أي أن القرار الذي سيتخذه وزراء التحالف اليوم سيؤثر على أسعار وقود السيارات في المرة المقبلة التي سنذهب لتزويد مركباتنا به، خاصة أن أسعار النفط حتى لحظة كتابة هذه السطور عند أعلى مستوى لها منذ عامين (حول 75 دولاراً).
وحتى نعرف اتجاه الأسعار في الأشهر المقبلة، نحتاج إلى فهم ما سيجري في الاجتماع، حيث سيتم فيه مناقشة وضع عام 2021 الذي تبقى فيه النصف، وكذلك مناقشة ما يجب فعله في 2022، وهو جزء مهم كذلك مع توقع الجميع تعافي الاقتصاد العالمي.
هناك موقف واحد يجتمع عليه الجميع، وهو الحاجة لرفع إنتاج دول التحالف التي من بينها روسيا والسعودية، ابتداءً من شهر أغسطس (آب) المقبل، لكن الاختلاف حول: هل يتم رفع الإنتاج دفعة واحدة أم يُرفع تدريجياً على مراحل؟ ولكل اتجاه ما يؤيده ودوافع تؤدي إليه، غير أن النتيجة لن تكون واحدة في كل الاتجاهين. ولو أخذنا الاتجاه الأول، وهو رفع الإنتاج كاملاً دفعة واحدة، الذي تدعمه روسيا، فإن الكمية التي يمكن للتحالف إضافتها ما بين نصف مليون إلى مليون برميل إضافية، ولكنها ليست كافية لسد العجز في الإمدادات في السوق، وهذا الدافع هو ما أعلنته روسيا بطريقة غير مباشرة على لسان مصادر غير معلنة.
وبالنسبة للسوق، فإن زيادة الإنتاج دفعة واحدة بمليون برميل لن تكون غير متوقعة، بل قد تكون غير كافية إذا ما نظرنا للتوقعات المختلفة. فإذا أخذنا توقعات وكالة الطاقة الدولية (المنظمة المنافسة لأوبك)، فإن السوق ستمر بعجز هذا العام والعام المقبل، لولا أن يتحرك التحالف لضخ 1.4 مليون برميل يومياً بشكل إضافي. وإذا نظرنا لأرقام «أوبك»، فإن السوق في حالة شح، خاصة مع هبوط المخزونات التجارية من النفط في الدول الصناعية المتقدمة، لتصل عند مستوى أقل من مستوى متوسط الخمس سنوات (2015 – 2019) بنحو 20 مليون برميل، وهذا مؤشر مهم على أن السوق تعاني من شح في الإمدادات، مع وجود تحسن في الطلب. وفي الوقت ذاته، تتوقع «أوبك» زيادة الطلب على النفط بنحو 5 ملايين برميل في النصف الثاني من هذه السنة، وترجح أن يكون متوسط العجز بين الطلب والعرض في السوق بنحو 1.9 مليون برميل في النصف الثاني. أما مصرف «غولدمان ساكس»، فيرى أن السوق حالياً حتى هذه اللحظة تمر بعجز قدره 2.5 مليون برميل يومياً، وسيصل العجز إلى 5 ملايين برميل يومياً بنهاية العام الحالي.
إذن، نستطيع أن نفهم أنه حتى لو زادت «أوبك بلس» إنتاجها بمليون برميل يومياً دفعة واحدة ابتداءً من أغسطس (آب)، فإن السوق ستظل تشهد عجزاً بين 900 ألف برميل يومياً إلى 4 ملايين برميل. وفي هذه الحالة، لماذا يتردد التحالف في زيادة الإنتاج، خاصة أنه قادر على إضافة 5.8 مليون برميل إضافية ابتداءً من هذا الشهر؛ أي خمسة أضعاف الكمية التي يتم التفاوض عليها؟
لا تزال هناك بعض عوامل الضبابية في السوق التي تتطلب من التحالف أن يزيد إنتاجه تدريجياً؛ أولها تأثير الاتفاق النووي الإيراني الذي لا يزال التفاوض مع إيران جارياً عليه. فمتى توصلت إيران إلى اتفاق مع الدول الكبرى، صار من المحتمل أن يتم السماح لها بتصدير نفطها مجدداً، مما يعني دخول مليوني برميل تقريباً من النفط إلى السوق. ثانياً، لا أحد يعلم قدرة المنتجين خارج «أوبك» على زيادة إنتاجهم هذا العام والعام المقبل مع بقاء الأسعار مرتفعة. ثالثاً، لا يزال العالم يواجه جائحة جديدة مع «كورونا المتحور»، وحركة السفر والسياحة لم تنتعش بالشكل المطلوب. رابعاً، بافتراض أن التحالف أراد ضخ مليون برميل الآن في السوق، ماذا سيفعل ذلك في الأسعار؟ تقريباً لا شيء يذكر. والسبب في هذا أن الدول إذا زادت إنتاجها في أغسطس (آب)، فإن النفط سيصل إلى المصافي على نهاية الشهر، ويدخل في دورة تكرير، ومن ثم بيعه للمستهلكين، وهذه الدورة تأخذ بين 30 إلى 45 يوماً؛ أي أن موسم الصيف سينتهي، وسيقل الطلب في الربع الثالث، ولن يستفيد من هذه الزيادة، إذا تمت بصورة مستعجلة، المستهلك ولا الدول المنتجة.
وبالأخير، سيصل التحالف إلى حل وسط، مثل ما حدث في ديسمبر (كانون الأول) الماضي. وتبقى النقطة المهمة التي يحرص عليها الجميع هي: ما تأثير كل هذا على الأسعار؟ لا أزال أرى صحة توقعات «غولدمان ساكس» بأن النفط في 2021 سيصل إلى 80 دولاراً (مع هامش صعود ونزول حوله). ويتوقع «غولدمان ساكس» أن زيادة «أوبك بلس» نحو مليون برميل ستؤثر بنحو 3 دولارات هبوطاً (أي 77 دولاراً). لذا من المنطقي أن نتوقع سعر النفط هذا العام في حزمة بين 70 و80 دولاراً؛ خبر جيد لميزانيات الدول، وغير جيد للمستهلك الذي سيذهب لمحطات الوقود الشهر المقبل. أما عام 2022، فمن المبكر توقع أسعاره في ظل كل المتغيرات أعلاه.