سحب الليرات من السوق… ما مصير الناس؟

لا يختلف اثنان في هذه الحقبة على انّ السياسة النقدية المعتمدة تقضي بامتصاص أقدر قدر ممكن من السيولة بالليرة من السوق، تمهيداً لتخفيف التداعيات السلبية المتوقعة من بدء تنفيذ التعميم 158، والذي سيؤدّي الى ضخ حوالى 26 الف مليار ليرة يُفترض ان يحصل عليها اكثر من مليون مودع سيتسجلون في المصارف للإفادة من مندرجات تعميم بدء إعادة الودائع.

ما يحصل اليوم انّ مصرف لبنان يشتري الليرات من الناس بكلفة مرتفعة من اجل اعادة ضخها لفئة يُفترض أن تتمكّن من استعادة الودائع. وتتم هذه العملية، كما بات معروفاً، إمّا من خلال منصة «صيرفة» حيث يدفع مصرف لبنان مقابل الليرات التي يعيد جمعها سعراً يفوق سعرها الحقيقي في السوق الحرة بحوالى 48 %، وإمّا من خلال تغيير سعر دعم المحروقات من 1500 الى 3900، مع إلغاء نسبة الـ15 % التي كان يدفعها التجار بالدولار الطازج. وهذا يعني انّ المركزي سيضطر هنا ايضاً الى دفع دولارات اضافية للاستمرار في فتح اعتمادات شراء المحروقات. ولكنه يكسب في عملية تغيير سعر الدعم سيولة بالليرة يحتاج سحبها من السوق، تبلغ حوالى 500 مليار ليرة شهرياً، أي حوالى 6 آلاف مليار في السنة. واذا أضفنا الى هذا المبلغ ما يوازيه تقريباً جرّاء عمليات بيع الدولار عبر منصة صيرفة، فهذا يعني انّ مصرف لبنان قادر على امتصاص حوالى 12 الف مليار ليرة في السنة.

في المقابل، لا يستطيع مصرف لبنان ان يحتفظ بكامل السيولة المسحوبة من السوق عبر المنصة ودعم المحروقات، اذ سيضطر الى استخدام نسبة من هذه السيولة في تمويل عمليات اخرى، بالاضافة الى تمويل مندرجات التعميم 158.

وفي التقديرات انّ مصرف لبنان سيستفيد من الفارق بين العام 2021 والعام 2020، بمعنى انّ مستوى السيولة المسحوبة من السوق ستزيد بحوالى 9 آلاف مليار. واذا اعتبرنا انّ المركزي سيضطر الى زيادة نسبة ضَخ الليرة لتغطية الانفاق الاضافي في مصاريف الدولة بالليرة، فإنّ التقديرات تشير الى بقاء ما بين 6 الى 7 آلاف مليار ليرة للاستخدام في التعميم. هذا المبلغ قد لا يكون كافياً لتغطية مندرجات التعميم، لكنه يشكّل الجزء الاكبر من المبلغ المطلوب، على اعتبار انّ الـ26 تريليون المطلوبة لا يفترض تأمينها بالكامل، بل هناك حاجة ربما الى حوالى 30 الى 35 في المئة منها، لأنّ قسماً من الاموال التي تضخ تعود الى المركزي من خلال الانفاق. وهذا يدفع الى الاعتقاد انّ كتلة السيولة بالليرة، رغم تنفيذ التعميم 158، لن تزيد سوى بنسبة ضئيلة، بحيث لا تؤدي الى انهيار كامل وسريع لسعر صرف الليرة.

لكنّ هذه الخطة تنطوي على تأثيرات جانبية (side effects) لا تقل ضراوة وأذى بالنسبة الى الناس، عن ارتفاع سعر صرف الدولار. فهي اولاً تؤدي الى تقليص القدرات الشرائية للمواطنين بسبب سقوفات السحب الجديدة التي اضطرت المصارف الى فرضها بسبب ندرة الليرة النقدية. وهذا الانخفاض في القدرات الانفاقية سيؤدّي بدوره الى تقليص اضافي في حجم الاعمال وفي حجم الاقتصاد، الذي سجل انكماشاً دراماتيكياً في العام 2020، من النادر ان نجد له مثيلاً في تجارب دول أخرى انهارت مالياً واقتصادياً، كما هي الحال في الوضع اللبناني. وبالتالي، فإنّ الانكماش الاضافي يعني إقفال المزيد من المؤسسات، وفقدان عدد اضافي من الوظائف أي زيادة عدد العاطلين عن العمل الى مستويات قياسية جديدة. كما انّ سياسة امتصاص السيولة بهذه السرعة، ستؤدي الى أزمة دفع رواتب في المؤسسات العاجزة عن تأمين الرواتب نقداً لإيداعها المصرف لتوزيعها على الموظفين. وهذا يعني تعريض المؤسسات لخسائر اضافية، بحيث ان المؤسسة قد تضطر الى بيع شيكات في السوق، للحصول على النقد مع حسومات طبعاً، قد تزيد نسبتها عن 20 % أو أكثر في الايام المقبلة بسبب ازدياد الحاجة. والحل البديل هو إعطاء الموظفين شيكات غير قابلة للتسييل ما يضطرّ هؤلاء الى بيعها في السوق وخسارة نسبة الـ20 % من رواتبهم.

هكذا تبدو الدوامة سوداء وفق كل المقاييس. وفي المقابل، فإنّ عدم امتصاص السيولة، كما يفعل المركزي حالياً، قد يؤدي الى تسريع انهيار الليرة الى مستويات قياسية توصِل الى فقدان المواطن نسبة مرتفعة جدا من قدراته الشرائية، بحيث ترتفع نسبة الفقراء الذين لا يستطيعون تأمين الغذاء الكافي. وفي تقرير اليونيسف الأخير انّ 77 % من العائلات اللبنانية باتت غير قادرة على تأمين الغذاء الكافي لأفراد الاسرة.

في الحالتين، أي مع امتصاص السيولة بالليرة أو بدونها، الكارثة رهيبة في حق الناس. لكن السؤال لماذا لا تُعتمد الحالة الثالثة، أي إلغاء بند الدفع بالليرة، والابقاء على بند الدفع بالدولار من دون تغيير القيمة الشهرية طبعاً، لأن لا المصارف، ولا ما تبقى من احتياطي وطني، ينبغي هَدره في وقت مُبكر قبل الوصول الى مرحلة الانقاذ، والتي ستتضمّن حتماً مسألة توزيع الخسائر على الجميع بالعدل والمساواة.

انطوان فرح

لبنان يُصدِّر الأغنام والأرُز..هكذا تبدّدت أمــوال الدعم

بعد رفع الدعم عن السلة الغذائية التي استمر العمل بها حوالى العام، والتي تأمّن عبرها استيراد بعض السلع وفق سعر 3900 ليرة للدولار، لم يبق شيء من هذه السلة اليوم، فبعض السلع مفقود والبعض الآخر ارتفعت أسعاره أضعافاً مضاعفة ليتبيّن انّ كل الوعود بضبط المضاربة والتهريب للمواد المدعومة فشلت، فهل سيكتشف اللبناني يوماً اين وكيف صرفت أموال الدعم ومن استفاد منها؟

لا يختلف اثنان على انّ سياسة الدعم التي اتّبعت في لبنان، ومن ضمنها السلة الغذائية، هي أسوأ قرار اتخذ خلال فترة الأزمة المالية، إذ رغم تكشّف نتائجها باكراً في كونها ساهمت في دعم التجار على حساب المستهلكين وفي كون 70 الى 80 % منها صبّت لمصلحة المهرّبين الى سوريا وغيرها من الدول الافريقية والأوروبية، استمر العمل بها قرابة العام، بكلفة تقديرية بلغت حوالى 6.2 مليارات دولار، بلغت حصة السلة الغذائية منها ما بين 70 الى 80 مليون دولار شهرياً من دون ان تصل الى معظم اللبنانيين، ناهيك عن بيع مصرف لبنان خلال العام 2020 عملات اجنبية لملفات استيراد ادوية ومستلزمات طبية ومواد اولية للصناعة الدوائية بقيمة 1173 مليون دولار مقارنة مع 1432 مليون دولار منذ مطلع العام 2021 ولغاية أيار 2021 متجاوزاً قيمة ما صُرف خلال اكثر من عام كامل، والنتيجة الدواء مفقود. وكما في الادوية كذلك في المحروقات، فقد بلغت الكمية المسلّمة من البنزين خلال اربعة اشهر من العام الماضي 440 الف طن بينما بلغت الكميات خلال الفترة ذاتها من العام الحالي 570 الف طن والبنزين مقطوع.

 

هذا غيض من فيض فضائح المدعوم التي لا بد ان تتكشّف يوماً. في هذه الاثناء اظهرت داتا الجمارك اللبنانية للعام 2020 ارتفاعاً في قيمة واردات بعض السلع التي كانت مدعومة من مصرف لبنان في حين فقدت من الاسواق، او زاد سعرها 5 أضعاف على الاقل، في المقابل سجلت بعض السلع تراجعاً طفيفاً في قيمة وارداتها.

 

فضائح المدعوم

 

في السياق، أعدّ الباحث في الشؤون الإحصائية عباس طفيلي جداول شملت كل السلع التي وفّر لها مصرف لبنان الدعم خلال العام 2020 من محروقات وطحين وقمح وأدوية الى جانب السلة الغذائية التي أعدّتها وزارة الاقتصاد.

 

يقسّم طفيلي الدعم الى قسمين، قسم قدّم له مصرف لبنان دعماً بنسبة 85 % وفق سعر صرف 1500 ليرة للدولار مثل الطحين والقمح والمحروقات والادوية والمستلزمات الطبية، والقسم الثاني طال السلة الغذائية التي أعدّتها وزارة الاقتصاد والتي كانت مغطّاة بالكامل وفق تسعيرة 3900 ليرة للدولار.

 

وفي السياق، يقول طفيلي لـ”الجمهورية”: صحيح ان غالبية مكونات هذه السلة تراجع استيراده قليلاً مقارنة مع السنوات الماضية، لكن في المقابل، هناك بعض السلع التي زاد استيرادها، منها على سبيل المثال اللحوم والمتمثّلة في الجدول بالحيوانات الحية، فيتبيّن انّ لبنان استورد في العام 2019 لحوماً بما قيمته 317 مليون دولار مقارنة مع 336 مليون دولار في العام 2020، ما يطرح السؤال التالي: بما ان اللحوم مدعومة 100 % في السلة الغذائية وفق سعر 3900 ليرة لماذا ارتفعت اسعارها العام الماضي لتقارب الـ100 الف ليرة احياناً؟ ولماذا انقطعت من الاسواق في احيان اخرى ما دام التجار استوردوا كميات اكبر من حاجة السوق، مع العلم انّ ارتفاع سعر اللحوم ساهم بتقليل الطلب عليها بسبب تعذر شرائها عند بعض العائلات.

 

في المقابل، كشف طفيلي عن إعادة تصدير أغنام الى قطر وحدها بما قيمته 33 مليون دولار، فهل يعقل في بلد يعاني أزمة أمن غذائي ويحتاج فيه الى كل دولار قدّمه مصرف لبنان تصدّر فيه الماشية بهذه الكميات؟ وحتى لو قيل انّ المصدّرين هم سوريو الجنسية، نتساءل لماذا تصدير الاغنام بشهادة منشأ لبنانية؟ لماذا لم يتم تصديرها ترانزيت؟

 

الامر سيّان بالنسبة الى اصناف الحبوب، إذ يظهر الجدول ارتفاعا في كميات الحبوب المستوردة، فاستيراد الفاصوليا زاد من 5.14 ملايين دولار في العام 2019 الى 8.13 ملايين دولار في العام 2020، السكر من 72.14 مليون دولار الى 95.83 مليون دولار والعدس من 7.82 الى 14.33 مليون دولار، والفول من 4.99 الى 5.02 ملايين دولار والحمص من 10.33 الى 13.62 مليون دولار.

 

اما الأرُز فرواية ثانية، إذ عدا عن ارتفاع الكمية المستوردة من 61.49 مليون دولار عام 2019 الى 76.02 مليون دولار في العام 2020، يتبين انّ لبنان صدّر أرُزاً بنحو 14 مليون دولار، 11 مليوناً منها تم تصديرها رسمياً الى سوريا، بما يؤكد عملية التهريب. لكن، هل التاجر الذي صدّر هذه الكميات الى سوريا عاد وأدخل الدولارات المدعومة الى السوق اللبناني؟ صحيح ان جدول الصادرات يُظهر اين اختفت الكمية الاضافية في واردات الارز لكن كيف يمكن تفسير انه رغم ارتفاع واردات الحبوب او غيرها من السلع فُقدت من الاسواق اللبنانية، فهذا يعني امّا ان التاجر الذي أدخل الحبوب المدعومة باع جزءاً منها بطريقة غير مدعومة، أو أعاد تصديرها او قام بتهريبها الى سوريا.

 

وماذا يمكن القول عن الزيت، إذ بعدما شهدت السوبرماركات مشاجرات متنقلة لشراء الزيت المدعوم، وهو من أولى السلع المدعومة التي فقدت من الأسواق، تظهر الأرقام ارتفاعاً في واردات هذا المنتج من 41.70 مليون دولار عام 2019 الى 55,24 مليون دولار في 2020.

 

ولاحظ طفيلي ان كل السلع التي أدرجت ضمن السلة الغذائية المدعومة، وردت ضمن صادرات لبنان إنما بكميات متفاوتة، متسائلاً على سبيل المثال لماذا حافظت كمية الصادرات من الفوط الصحية والحفاضات على حجمها في حين تراجع استيرادها بشكل لافت من الخارج، وعانت السوق من النقص في الإنتاج المحلي ومن ارتفاع جنوني في أسعار هذه السلع مع العلم انّ البعض منها كان مدعوماً؟

 

اما بالنسبة الى حليب الاطفال، فقد استورد لبنان عام 2020 بما قيمته 62.75 مليون دولار حليب اطفال مقارنة مع 78.51 مليون دولار عام 2019، صحيح ان الاستيراد تراجع لكن السؤال بما ان هذا الصنف مدعوم بالكامل من مصرف لبنان لماذا ارتفع سعره اضعافاً.

 

ورداً على سؤال، أوضح طفيلي انه قبل السير بالسلة الغذائية المدعومة، أي قبل شهر تموز، كان سعر الدولار مقابل الليرة يتراوح ما بين 4000 و5000 ليرة في حين أتت السلة لتحتسب الدولار بـ3900 ليرة، بما يؤكد ان الأسعار أصلاً لم تكن مرتفعة ورغم الدعم الكامل لها زاد سعرها 5 الى 7 اضعاف.

 

وبالانتقال الى موضوع المحروقات، يؤكد طفيلي انّ وارداتنا من هذه السلعة لا يمكن مقارنتها بما استوردناه في العام 2019 حيث كانت كمية الاستيراد في تلك السنة استثنائية. لذا، ولدى مقارنتها بالاعوام التي تسبق 2019 يمكن القول انّ قيمة المستوردات أتت منطقية، خصوصاً ان أسعار النفط تراجعت عالمياً بشكل ملحوظ تزامناً مع تراجع استهلاك المحروقات بسبب الاقفال العام نتيجة جائحة كورونا.

 

في المقابل، كشف طفيلي انّ لبنان حقق منذ حزيران 2019 لغاية اليوم أرقاماً قياسية في صادرات الذهب الى سويسرا والتي تجاوزت المليار و700 مليون دولار، وأكد انّ أموال تصدير الذهب لم تدخل الى لبنان مجدداً بما يؤكد انه شكّل وسيلة لتهريب الأموال الى الخارج. والملفت بحسب طفيلي انّ الذهب المصدّر ليس ذهباً مشغولاً إنما اتى على شكل سبائك وذلك نتيجة تراجع قدرة اللبنانيين الشرائية وفقرهم، فاضطروا مرغمين الى بيع مقتنياتهم من الذهب فأقدم الصاغة على تذويبه وتصديره كسبائك.

 

كيف تم التصرّف بالسلع المدعومة؟

 

خَلص طفيلي الى ان كل سلعة مدعومة تم استيرادها كان مصيرها الآتي:

 

– التاجر الذي استوردها عاد وصدّرها للحصول على fresh money، والسؤال المطروح هل أعاد هذا التاجر أموال التصدير الى لبنان ام أبقاها في الخارج واستعمل التصدير كوسيلة لتهريب أمواله؟

 

– أبقى التاجر هذه البضائع في المستودعات ليعود ويبيعها فور رفع الدعم مُحقِّقاً بذلك أرباحاً إضافية.

 

– عرض قسماً من هذه السلع في الأسواق، مستبعداً ان يكون التجار قد طرحوا كل الكميات المستوردة المدعومة للبيع لأنها في غالبيتها فقدت او ارتفع سعرها بشكل لافت. وقد رأينا كيف كان يعمد بعض التجار الى تغيير غلاف البضاعة المدعومة كي لا ينكشف التلاعب.

ايفا ابي حيدر