بعصا سحرية وبصورة مفاجئة، بات الجميع حريصاً على ودائع اللبنانيين ويعمل على استرجاعها بطرق وهمية ووعود فارغة. يا للصدفة، بعد عامين ونصف العام على الجمود والإستهتار واللامبالاة في هذا الموضوع المؤذي، حيث يدفع الثمن الباهظ الشعب اللبناني الذي ينزف من دون توقف، إستيقظنا فجأة على أعمال دونكيشوتية ومسرحيات دراماتيكية وهمية، ووعود لم تنفّذ لاسترجاع الودائع اللبنانية.
إنّ استرجاع ودائع اللبنانيين بالحقيقة، ولا سيما الودائع المسجّلة بالدولار الأميركي، لا تتحقق إلاّ بالتركيز على أربع نقاط أساسية لإستعادة الدورة الإقتصادية وإستقطاب العملات الصعبة في السوق المحلية: المصدر الأول الطبيعي والمنطقي يأتي من قبل مَن يطبع العملة الخضراء وهي الولايات المتحدة. فمهما كانت قراراتنا وإتجاهاتنا السياسية لا حل في النهاية إلا أن يكون لدينا علاقات احترام وتبادل تجاري ودبلوماسي، مع البلد الذي يطبع الدولار. شئنا أم أبينا لا نستطيع مهاجمة الولايات المتحدة وشتمها يومياً ومن ثم محاولة جذب الدولارات. فالحياد الإقتصادي والتجاري والنقدي والمالي لن يكون خياراً لكن هو الأساس لإسترجاع الثقة والنمو الإقتصادي.
المصدر الثاني بالعملات الصعبة يأتي ممّن يستخرج البترول، وسائر المشتقات النفطية في العالم في ظل ارتفاع الأسعار الدولية، الذي سيخلق فائضاً كبيراً لدى هذه الدول المصدّرة. فالبلدان المجاورة لنا التي ستستفيد من هذه الفورة النفطية، هي البلدان العربية بامتياز. فسعر برميل النفط تجاوز الـ 140 دولاراً، لذا سيكون صعباً جداً للبلدان المستوردة أن تحافظ على توازنها المالي مثل لبنان. أما البلدان المصدّرة فستغرق بالفائض المالي والنقدي. والتحدّي الكبير هو استقطاب قسم من هذه العملات الفائضة وجذب إستثمارات لبلدنا والإتكال على هذا المصدر العربي والأخوي بإسترجاع أهم العلاقات والإستثمارات ودعم الدورة الإقتصادية.
المصدر الثالث لا يزال متمثّلاً في المغتربين اللبنانيين، هؤلاء الذين طُعنوا للمرة الأولى من قبل بلدهم الأم، حيث هُرّبوا من أرضهم، ثم طُعنوا للمرة الثانية، حين حُجزت وهُدرت وسُرقت أموالهم من قبل الدولة اللبنانية. فالهدف الأساسي اليوم هو إعادة بناء ثقتهم ليرجعوا ويستثمروا في بلدهم. فالتحويلات بالعملات الصعبة من المغتربين ستكون حبل الخلاص للإقتصاد شرط مصالحتهم مع بلدهم وإعادة بناء ثقتهم بمحبة وإخلاص.
المصدر الرابع والطبيعي يكمن في استرجاع الدورة الإقتصادية الطبيعية ولا سيما من خلال كل القطاعات الإنتاجية خصوصا الصناعة والتجارة، والسياحة والزراعة والخدمات. فالإقتصاد التقليدي سيبقى ركناً أساسياً لإعادة النمو، لكن علينا أن نركز أيضاً على اقتصاد المعرفة والإقتصاد الرقمي الذي سيكون ركن المستقبل في بلادنا ومنطقتنا والعالم. فتصريف سلعنا هو أساس استقطاب العملات الصعبة لكنّ تصدير معرفتنا ونجاحاتنا سيكون أيضاً مصدراً أساسياً لاسترجاع العملات الصعبة والودائع على المدى المتوسط.
في الخلاصة، إنّ هذه المسرحيات الدونكيشوتية والشعبوية التي تهدم ما تبقّى من الإقتصاد والثقة، وتضرب كل محاولات استعادة الدورة الإقتصادية لن تستقطب سنتاً واحداً من العملات الصعبة لكن ستُهرّب الكميات الضئيلة الموجودة في السوق اللبنانية. فإذا كان الهدف الأساسي هو استرجاع الودائع فلنُركز على استرجاع العملات الصعبة في سوقنا المحلية وليس تهريب ما تبقى منها بمغامرات ومسرحيات خيالية ووهمية، والتي ستُغرق سوقنا واقتصادنا نهائياً.
د. فؤاد زمكحل