هذا العنوان لا علاقة له بالحرب البائسة في أوكرانيا التي لم تضع أوزارها بعد حتى كتابة هذه السطور، ولا صلة له برؤوس نووية تتحكم فيها أكواد سرية يرجى أن تكون في أيدٍ أمينة، توجهها عقول رصينة. فقد اطلعت على كتاب عجيب يخلط بين الجد والمزاح، ويجمع بين العلم الرصين والهزل. وهي متناقضات قد تعين في تفسير الفوضى التي تكتنف عالمنا بأحداثه المتوالية التي تشبه الملهاة في عبثها بأحوال البشر. أما الكتاب فهو لمبرمج الكومبيوتر الكندي ريان نورث، وهو نفسه مؤلف سلاسل كوميدية شهيرة عن الديناصورات، وقد راجت مؤلفاته الأخيرة انتشاراً، بما في ذلك كتابه الأخير المعنون «كيف تسيطر على العالم.. أساليب عملية وحلول علمية للأشرار الطموحين».
ويعدد نورث مداخل مختلفة لهؤلاء الأشرار في سعيهم للسيطرة على العالم وتدميره، ومن أبرزها العمل على تدهور المناخ، وكذلك تدمير الإنترنت بأساليب متطورة تكنولوجياً، وهي بالمناسبة ذات السبل التي يمكن استخدامها لحماية العالم من هذه التهديدات إذا أتيحت لمن يرغب في الدفاع عن نظم البيانات والمعلومات الأساسية بتدعيم أمنها السيبراني أو حماية المناخ من مزيد من التدهور على النحو الذي سيوضحه هذا المقال.
وفي وصفه لجرائم الأشرار يحدد ريان نورث ثلاثة مكونات للجريمة الكاملة تبدأ بالتخطيط المحكم ثم التنفيذ باحتراف ثم الهرب بمهارة، ولكن هذا في تقديره عمل الأشرار المستجدين من منسوبي المراحل الأولية في الجرائم ضد العالم والبشرية. ولكن الشرير القدير هو من تطور بما يتجاوز هذه الحدود المتواضعة في الشر التي لا تهدف إلا لحماية المجرم فلا يظهر بجرمه للعيان متلبساً ثم يصعب تعقبه إذا أفلح في الهرب من دون أثر. ولكن صاحب هذا الشر المستطير لا يرغب في أن يكون مجهولاً في سجلات التاريخ بل متصدراً لصفحاته، والأدهى بأن صاحب الجريمة الكاملة من هذا الصنف اللئيم يسعى لأن يُذكر بأنه بطل مغوار وألا يحسب أبداً من زمرة الأشرار. فستجده يُشكر على جريمته ويمجَد على فعلته، ولم لا فسيظهر للناس بأنه من منقذي العالم والبشرية، وإذا أتت النتائج كاشفة عن مساعيه في الدمار فسرعان ما ستظهر له أبواق الممجدين لجده واجتهاده، مدعية أنه قد حالت بينه وبين مراميه السامية أنواء معاكسة وظروف قاهرة.
من عجب أن هذا العالم الذي تشغل أولى اهتماماته اليوم حرب كان يمكن تفاديها حقناً لدماء الأبرياء ومنعاً لمزيد من الانهيارات الاقتصادية، ما زال يعاني رسمياً من جائحة، لم يعلن أحد انتهاءها، أصابت أكثر من 470 مليوناً من سكانه بالمرض، وقضت على حياة ما يزيد على 6 ملايين إنسان، وتستمر في تهديدها لحياة مزيد من البشر وأسباب معيشتهم. إذا كان هناك حماس لحرب واستعداد لتضحية في سبيلها فلتكن حرباً على الوباء الفتاك أو حرباً على فقر مدقع ازداد بسببها عما كان قبلها، أو حرباً على البطالة التي ازدادت بسبب نمو متراجع عما كان مقدراً له للتعافي، أو حرباً على التضخم الذي سيتجاوز 5 في المائة في أغلب البلدان المتقدمة، وسيشعر به غلاءً أهل البلدان المتقدمة في موجات لارتفاع في الأسعار لم يشهدها العالم منذ 4 عقود، أو فلتكن حرباً على الديون الخارجية التي لم تشهد مثلها البلدان الأفقر دخلاً منذ نصف قرن. وسيتبين للباحثين عن مسببات هذه الأزمات أن الجائحة كانت كاشفة لعلل النظم الاقتصادية المتبعة، وأن الأعراض المشاهدة هي لأوجه خلل ازدادت استفحالاً بعد الأزمة المالية العالمية. وفي كل الأحوال لن يمكن تعليق تدهور المشكلات الاقتصادية العالمية الراهنة على مشاجب الحرب الأوكرانية، بالادعاء أن الأمور كانت تسير في أعنتها، ولكن عرقلتها الجائحة ثم أربكتها الحرب. فالعالم يعاني من مشكلات تفاوت حاد في توزيع الدخل والثروة، وخلل ديموغرافي، وتهديدات مناخية، زادت من آثارها السلبية سوءاً ويلاتُ الحرب وضحاياها والنزاعات الجيوسياسية والجائحة.
وبعد حديث مسترسل عن حالة اللايقين التي تعقّد من أمر التحليل الاقتصادي، وتزيد من صعوبة تحديد إجراءات السياسات العامة الأولى بالاتباع، حري بنا اليوم استناداً إلى أدلة دامغة على أن هناك حالات من اليقين الذي لا يمكن التغافل عنها، بوهم اللايقين، فيقيناً هناك تراجع للنمو والاستثمارات والتجارة والتقارب الاقتصادي بين الدول وداخلها، ويقيناً هناك زيادة في التضخم والفقر وسوء التغذية والديون واحتمالات التعثر في سدادها، ويقيناً العالم ليس على مسار تحقيق الاستدامة، بمفهومها الشامل الذي يتضمن أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر التي يجب تحقيقها قبل عام 2030، ولسنا كذلك على نهج تحقيق الاستدامة بمفهومها المحدد المرتبط بالتصدي لتغيرات المناخ وتلبية تعهدات اتفاق باريس لعام 2015.
فقد أفصح التقرير العلمي للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ أننا بعيدون عن أهداف الحياد الكربوني المتعهد بها، وأننا بدلاً من أن نخفض الانبعاثات الضارة بالمناخ بمقدار 45 في المائة بحلول عام 2030 فإننا نزيدها بنحو 14 في المائة بانحراف بمقدار 60 في المائة تقريباً عن المستهدف.
ومن المزعج حقاً أن الحلول العلمية للتصدي لتغيرات المناخ متعارف عليها بزيادة الاستثمارات في مصادر الطاقة الجديدة والمتجددة، ولكن إدارة عملية التحول تعاني من تردد وتخبط في البلدان المتقدمة، ويضاف إلى هذه المشكلات عجز في التمويل في البلدان النامية، خاصة مع التقصير المستمر في الوفاء بوعود قطعت منذ قمة كوبنهاغن في 2009 فيما يتعلق بتوجيه 100 مليار دولار من البلدان المتقدمة إلى النامية، وهو ما لم يتم تلبيته في أي سنة حتى انعقاد قمة غلاسكو العام الماضي، هذا رغم ميوعة أساليب التقدير لما يمكن اعتباره فعلاً تحويلاً مالياً لأغراض التصدي لتغيرات المناخ، سواء من خلال التخفيف للانبعاثات الضارة أو التكيف مع آثارها. ناهيك عن متطلبات الملف الحرج المتعلق بالخسائر والدمار الذي لحق بالبلدان النامية، تضرراً من الانبعاثات الضارة بالمناخ وتراكمها منذ الثورة الصناعية الأولى.
لم يعد هناك من شك أن تغيرات المناخ، حتى بافتراض بقائها عند مستويات الحرارة الحالية، أمست مهددة لوجود البشرية، وهذه التغيرات الحادة المتوالية في الطقس والأعاصير والفيضانات وحرائق الغابات وانتشار حالات الجفاف من مظاهرها المتكررة خسائر في الأرواح والطبيعة والتنوع البيولوجي والمنشآت وعوامل الإنتاج وما يرتبط بذلك من تهجير للسكان.
تذكر وحدة أبحاث الإكونوميست البريطانية أن حرب أوكرانيا من شأنها تبديل شكل ممارسة الأعمال وأنماط التجارة بين الدول على 5 محاور؛ مزيد من الإرباك لسلاسل الإمداد التجارية، رفع لأسعار الطاقة والأغذية بما يهدد الأمن الغذائي، زيادة الاستثمارات في الطاقة المتجددة في الدول المتقدمة على حساب الدول النامية، التعجيل بالحلول الرقمية لعملات البنوك المركزية لتفادي النظام النقدي والمالي المعتمد على الدولار خشية وقوعها مستقبلاً للعقوبات من خلال تسليح الأدوات المالية، مثلما حدث مع روسيا، مزيد من التوترات الجيوسياسية فيما يتعلق بتكنولوجيا المعلومات واستخداماتها وزيادة مخاطر الأمن السيبراني. في تقديري أن هذه مجرد مظاهر تفصيلية لعالم شديد التغير يشهد إرهاصات تكون نظام جديد يعكس تغير أوزان القوى الاقتصادية، وحتى تتضح المعالم وتتجلى قواعد نظام جديد سيستمر التعامل بما زال متاحاً من بقايا نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية وترتيبات ما بعد الحرب الباردة، حتى حين.
خطف الاتفاق المبدئي بين السلطات اللبنانية وصندوق النقد الدولي الأضواء، ورغم انّ البعض خاب ظنّه في حجم المبلغ الذي جرى تخصيصه لتنفيذ خطة للتعافي الاقتصادي، الّا انّ المشكلة، إن وجدت، لا تكمن في هذه النقطة بالذات، بل في مكان آخر.
كثيرة هي الملاحظات التي يمكن إيرادها في معرض التعليق على الاتفاق المبدئي مع صندوق النقد الدولي. لكن هناك عناوين اساسية لا بدّ من التركيز عليها، لأنّها تبقى الأساس الصالح لتقييم النتائج التي قد ينتهي اليها هذا الاتفاق. والإجابة عن هذه العناوين-الأسئلة، يمكن ان تقود الى الإجابة عن السؤال الأهم: هل بدأت مسيرة الخروج من الأزمة، أم لا؟
في سرد الملاحظات على هامش الاتفاق، وطريقة الوصول اليه، يمكن إيراد النقاط التالية:
اولاً- «تنازل» صندوق النقد عن بعض الشروط المسبقة التي كان حدّدها لعقد اتفاق مبدئي، ومن بينها على سبيل المثال، إقرار قانون «الكابيتال كونترول» وموازنة العام 2022. وقرّر الصندوق إضافة هذه الشروط المسبقة على لائحة الشروط المؤجّلة، بمعنى الاكتفاء بوعد من السلطات اللبنانية بتنفيذها لاحقاً قبل موافقة إدارة الصندوق على برنامج التمويل. وفي تفسير أسباب هذا «التنازل»، يبدو انّ الامر يرتبط اولاً بحرص الصندوق بما يمثل (المجتمع الدولي)، على عقد الاتفاق مع لبنان بأي ثمن لمنع الانهيار التام للبلد. وهذا المشهد شهدنا مثيلاً له في مؤتمر «سيدر»، حين خفّض السفير الفرنسي بيار دوكان مستوى الشروط الى حدّ الاكتفاء بمطالبة السلطات اللبنانية فقط بتشكيل هيئة ناظمة للكهرباء مقابل البدء في الإفراج عن الاموال. ومع ذلك لم تنفّذ السلطات اللبنانية هذا المطلب اليتيم. وثانياً، لأنّ المسؤولين اللبنانيين الذين التقاهم وفد الصندوق برئاسة إرنستو راميريز ريغو، اقنعوه بأنّ إقرار «الكابيتال كونترول» والموازنة قبل الانتخابات من المستحيلات بسبب المعارضة الشعبية لبعض البنود في القانونين. وبالتالي، يصبح الامر ممكناً اذا منح الصندوق اتفاقاً مبدئياً يجعل إقرار القانونين اسهل على النواب المرشحين، لأنّ ردود الفعل الشعبية ستكون متقبّلة اكثر للوضع بوجود اتفاق يمكن ان يشكّل بداية الخلاص من الأزمة. وبالمناسبة، صارح راميريز ريغو المسؤولين، بأنّ ما يراه في لبنان مُذهل. إذ انّ صندوق النقد اعتاد مناقشة البرامج الإنقاذية، لا قوانين «الكابيتال كونترول»، لأنّ هذه الخطوة غالباً ما تتخذها الدول التي تواجه أزمات قبل وصول صندوق النقد اليها. في حين اننا في لبنان أمضينا فترة طويلة في مناقشة هذا القانون الذي كان ينبغي فرضه في الأيام الاولى للأزمة في العام 2019.
ثانياً- لا يزال الغموض يكتنف تفاصيل الخطة التي تعهّدت الدولة بتنفيذها في إطار الحصول على التمويل. وحتى الجزئية المرتبطة بتوزيع الخسائر، والتي تسرّبت أو سُرّبت سابقاً، وتعرّضت لوابل من الاعتراضات والانتقادات، ليس معروفاً بعد إذا ما كان قد جرى تغييرها. وبالمناسبة ايضاً، استغرب راميريز ريغو، انّ كل القطاعات الاقتصادية غير مُطّلعة على الخطة، في حين انّ المطلوب إطلاع كل شرائح المجتمع عليها لتلقى القابلية وتسهيلاً لإقرارها من دون التسبّب بأزمات شعبية.
ثالثاً- ذُهل راميريز ريغو بحجم الإنكار واللامبالاة على مستوى المسؤولين اللبنانيين حيال عمق وخطورة الأزمة. وقد صارح من التقاهم، انّ صندوق النقد الذي يعطي الاولوية دائماً لمكافحة الفساد في أي خطة إنقاذ، مقتنع اليوم بأنّ الأولوية في لبنان ينبغي ان تكون لإجراءات مالية سريعة لوقف الهبوط المريع، ومن ثم يمكن التفرّغ لمشروع مكافحة الفساد.
رابعاً- من خلال الشروط المسبقة التي وضعها الصندوق لإقرار برنامج التمويل، وهو من فئة الـEFF المتخصّص في دعم الدول التي تعاني من أزمات مزدوجة في ميزان المدفوعات وفي العجز الهيكلي المزمن، ينبغي التركيز على البند الاول المتعلق بإعادة هيكلة البنوك، والذي يتحدث عن حماية المودعين الصغار، والحدّ من اللجوء الى الموارد العامة. وهذه العبارة، تعني على الأرجح انّ الصندوق ليس مؤيداً لفكرة ان تشارك الدولة بفعالية في عملية سد الفجوة المالية. وهذا يؤكّد انّ المودعين «الكبار» سيدفعون ثمناً باهظاً في عملية توزيع الخسائر. وبالتالي، من المرجّح ان تكون خطة الحكومة لتقسيط دفع الودائع لمدة 15 أو 20 سنة غير مقبولة.
خامساً- انّ برامج التمويل من فئة الـEFF يتمّ تحديد المبلغ المخصّص لكل دولة، بالإضافة الى مبدأ الكوتا، الى معيارين: حاجة الاقتصاد للتعافي، وقدرة هذا الاقتصاد على تسديد القرض والإقلاع. وبالتالي، هذان المعياران يفسّران لماذا المبلغ الذي أُقرّ متواضع نسبياً، لأنّ حجم الاقتصاد اللبناني صار أصغر، ولأنّ عمق الأزمة البنيوية يحول دون قدرة هذا الاقتصاد على تحمّل قروض اكبر من تلك التي تمّ التوافق عليها. وبالتالي، لو انّ هذه المفاوضات جرت في بداية الأزمة، لأمكن الحصول على مبالغ اكبر، لأنّ الاقتصاد في وضعه السابق، ومن خلال الاحتياطي الذي كان متوفراً، كان قادراً على الإقلاع وتحمّل سداد قروض اكبر.
الشهر الحالي، يعني الربيع، وتغير التوقيت الشتوي إلى الصيفي يجعل النهار المشمس أطول، وظهور براعم الزهور على الأغصان يلون لوحة فنية للطبيعة تدعو إلى التفاؤل، لكنه مشهد من النافذة الإنجليزية فقط، فوراء الزجاج البارد الملمس، يوجد واقع آخر يوحي بأن المشهد خداع «فلا ربيع ولا يحزنون».
في الصباح كانت قطرات الثلج في الحديقة، فأول من أمس كان من أكثر أيام هذا العام برودة حسب مكتب الأرصاد الجوية، والأيام التالية (درجة الحرارة ما بين تحت الصفر والحد الأعلى ثماني درجات مئوية).
وخلافاً للعادة، لم تكن الأخبار الأولى عن خدعة أبريل (نيسان)، ورواج التجارة تسوُّقاً لعيد الفصح، بل كانت أخباراً تدعو للاكتئاب؛ ولا أقصد الحرب الدائرة في أوكرانيا وتدفق اللاجئين، فقد انسحبت أخبارها إلى الصفحات الداخلية.
الخبر الأول في نشرات التلفزيون والإذاعة، يركز على حالة بؤس اقتصادي تعيشها ملايين الأسر البريطانية بتضافر عوامل جعلت معدلات التضخم هي الأعلى منذ أربعة عقود.
العامل الأكبر تأثيراً، هو زيادة أسعار الغاز والوقود، وارتفاع الفواتير للبيوت وللنشاط الاقتصادي من الخدمات الفردية إلى الأعمال الكبرى بقرابة الثلثين، بعد انتهاء الفترة الموسمية التي تحدد فيها الحكومة سقف زيادة أسعار الوقود. شبكات التلفزيون والإذاعة أيضاً خصصت برامجها الحوارية لاستضافة خبراء ومتخصصين ينصحون الناس «الغلابة» بكيفية التوفير.
الخبر الثاني نشطاء حركة البيئة «إكستنينكشن ريبلليون» (يدعون أن التغير المناخي سيؤدي إلى فناء العالم) احتلوا الطرق أمام مراكز مستودعات البترول والديزل وزيوت وقود التدفئة في مناطق مختلفة في جنوب ووسط إنجلترا، ومنعوا الشاحنات من التحرك. ولمعلومات القارئ، فإن ملايين المساكن وأماكن النشاط في الريف البريطاني ليست مثل المدن موصلة بشبكات مواسير غاز التدفئة وأسلاك كهرباء الضغط العالي، بل تعتمد على زيوت الوقود (كالكيروسين) التي تخزن في صهاريج صغيرة تتراوح سعتها بين ما يكفي أسبوعاً، إلى شهر. ومنع الزيت من الوصول للناس في أيام شديدة البرودة أصبح خبراً؛ فمعظم مستهلكي الزيت أبقوا مستودعاتهم فارغة لشراء الحد الأقصى من الوقود بأسعار الخميس مارس (آذار) قبل ارتفاع الثمن أول الشهر، وليس في الصهاريج ما يكفي لتدفئة بيوتهم في الأيام القادمة بسبب منع النشطاء (وأغلبهم من أبناء الطبقات الميسورة المرفهين الذين لا عمل حقيقياً لهم) وصول الوقود إليهم. البرد في المنازل غير المدفئة بشكل كافٍ يتسبب في موت عشرة آلاف شخص من كبار السن في بريطانيا سنوياً، وذلك قبل أزمة الوقود؛ وارتفاع الأسعار.
المعارضة توجه اللوم للحكومة، وتدعمها التيارات الليبرالية اليسارية في صناعة الرأي العام بانتقائية التغطية الإخبارية، ولا تذكر أن الأدوات المتاحة للحكومة للتعامل مع الأزمة محدودة!
معدلات التضخم، وإضرابات عمالية قبل أربعة عقود كانت وراء فقدان حكومة العمال ( – ) بزعامة جيمس كالاهان ( – ) للانتخابات، وبقائهم خارج السلطة لعقدين.
أحداث سبعينات القرن والتي بدأت بارتفاع أسعار الوقود بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول) ، وأنهت حكومتهم ( – ) بزعامة السير إدوارد هيث ( – ) لا تزال في وعي ساسة المحافظين، ولا يريدون أن تنتهي فترة حكمهم منذ (وهي من أكثر الفترات نجاحاً اقتصادياً) بتكرار ما حدث للعمال في السبعينات.
مساحة تحرك الحكومة للتعامل مع الأزمات في الديمقراطيات البرلمانية محدودة، فلا تستطيع اتخاذ قرارات أو تصدر قوانين فورية التطبيق، فهناك ضوابط وتوازنات وقضاء مستقل، وقانون لا تستطيع الحكومة نفسها مخالفته. عادة ليس أمام الحكومة إلا السياسة الضرائبية، واستثناءات ما تسمح به لوائح وزارة المالية، حتى سعر الفائدة في يد بنك إنجلترا المركزي وقراره مستقل عن الحكومة.
وزير المالية، ريشي سوناك، في ميزانية الربيع قبل أيام، خفض الضريبة على وقود الشاحنات والسيارات لتخفيف ارتفاع أثمان نقل الأغذية، ومنحة وزارة المالية للحكومات المحلية بخصم مؤقت من ضريبة العقار لبعض الأسر لا كلها؛ لكن عوامل أخرى تؤثر على التضخم كشحن الواردات من الخارج ومواد التعبئة والتغليف، والتكاليف والرسوم التي تدفعها شركات نقل الأغذية والمواد الأساسية، لكنها إجراءات بسيطة لن تؤثر على معدلات التضخم أو ارتفاع أسعار فواتير الغاز، بشكل يساعد الغالبية وهم ذوو الدخول المحدودة.
أحزاب المعارضة، تريد من وزير المالية أن يقدم المزيد لمساعدة ذوي الدخول المحدودة ودعم أسعار الطاقة، كما تتهمه بتعمد عدم تخفيض الضرائب، ورفع رسوم الضمان الاجتماعي كضريبة مقنعة، وهي خطته كي يخفض الضرائب قبل الانتخابات القادمة في ليجذب مزيداً من الأصوات للمحافظين.
المعارضة العمالية والتيارات الاشتراكية والديمقراطيون الأحرار، يطالبون بفرض ضريبة استثنائية على شركات البترول والغاز لأنها «حققت أرباحاً استثنائية من ارتفاع أثمان البترول والغاز». «الإغارة» على الأغنياء وآيديولوجية الحقد الطبقي التي تحرك السياسات الاشتراكية دائماً وبلا استثناء تؤدي لنتائج عكسية.
فلا توجد ضريبة استثنائية في الخريف حيث يتوقع عند ارتفاع أثمان الطاقة!
والضريبة الاستثنائية ستؤدي إلى هروب الاستثمارات التي تحتاجها بريطانيا، بما فيها الاستثمار في وسائل الطاقة الخضراء التي تمولها شركات الطاقة (وهي من أحد أسباب ارتفاع فواتير الغاز) وتصر عليها تيارات البيئة اليسارية.
كما أن أرباح هذه الشركات تذهب إلى حملة الأسهم، وبعكس ما تروجه الصحافة الاشتراكية مثلاً، فالغالبية العظمى من حملة الأسهم هي مؤسسات مالية ترعى صناديق المعاشات واستثمارات التقاعد لملايين من العاملين وأصحاب الحرف الصغيرة، والتي يدعي الاشتراكيون أنهم يمثلونهم.
باستثناء صحافة يمين الوسط، وخدمة جي بي نيوز (والتي تمثل أقل من خُمس صناعة الرأي العام) كل التغطية الصحافية تتجاهل تعطيل محتجي البيئة لوصول زيت التدفئة للمساكن، وأثر نشاطهم على تعطيل الاستثمار في بناء محطات توليد الطاقة النووية، وهجر استخراج الغاز الصخري وغاز وبترول الحقول والمياه البريطانية كسبب رئيسي في أزمة الطاقة الحالية والاعتماد على استيراد الغاز من الخارج.
ساسة اليسار وحركة البيئة لا يذكرون أي حلول للتعامل مع المشاكل الآنية الحالية كخفض أسعار الوقود وتوفير الاحتياجات الأساسية، بل يركزون على اقتراحات ومشاريع بشعارات مثالية براقة على المدى طويل وباهظة التكاليف كتوليد الطاقة من الرياح التي لا يضمن استمرار هبوبها. استمرار حكومة المحافظين في تبني دعوة متطرفي ناشطي البيئة، ورفضها استغلال الموارد المتاحة لعلاج أزمة للطاقة قد يكلفها الانتخابات القادمة.
عادل درويش
بورصة انفو: الموقع الرائد لأخبار الذهب ، العملات ، البورصات. مع تحليلات