يشتعل المشهد اللبنانيّ بحركات تمرّد يقوم بها موظّفو الخدمة المدنيّة، فهم غير راضين عن احتساب رواتبهم وفق المعدل الرسميّ (الوهميّ) لسعر صرف الليرة اللبنانيّة، أي ١٥٠٧,٥ ليرة لبنانيّة للدولار الأميركيّ، في حين أنّ جميع أسعار السلع الأساسيّة والكماليّة تُسعّر وفق سعر صرف السوق. لذلك، يواجه الموظّفون ما يرونه ظلمًا، بواسطة تعطيل سير المعاملات الرسميّة سواء بالإضرابات المفتوحة، أو بالتململ في التعامل مع المواطن نفسه.
أمّا الطبقة السياسيّة فهي مصمّمة على استخدام كافّة الوسائل المتاحة لديها لزيادة الواردات العامّة إلى خزينة الدولة، من دون المباشرة بالإصلاحات التي اشترطها صندوق النقد الدوليّ مقابل أيّ مساعدة يُبادر بها لوقف دوّامات الانهيار الآخذة بالاشتداد. فالحكومة ما تزال تعمل بمبدأ «حبر على ورق»، فموافقتها المبدئيّة على مقترحات صندوق النقد الدوليّ لم تشهد أيّ تحرّكاتٍ ملموسة على الصعيد العمليّ، لدرجة أنّ مؤسّساتها تزداد فقرًا وتُعلن حالة عجزها، ومكاتبها خَلت من «الحبر» ومن «الورق» وأصبحت معها معظم الدوائر بحكم المُعطَّلة.
عمليًّا، أبلغ بعض التجّار ومزوّدي الخدمات عملاءهم وزبائنهم أنّ الدولار الجمركيّ سيُحتسب وفق المعدّلات الجديدة المتصاعدة على وقع الإشاعات، فقد توقّعوا الموافقة على مشروع الموازنة منذ بداية العام، رغم أنّنا وصلنا إلى نهاية الشهر الثامن من دون أيّ انفراجات تلوح في الأُفق بهذا الشأن. ونستغرب هنا مصدر المعلومات الذي اعتمده هؤلاء التجّار لتحديد أسعارهم، من دون ظهور أيّ قراراتٍ رسميّة. كما أنّ هذه الإشاعات تبقى ضبابيّة، لأنّ ثمّة وعوداً بوجود حوالى ٦٠٠ سلعة أساسيّة مُعفاة من هذه الرسوم، وعلى المواطن أو التاجر تخمين ما هي السلعة الأساسيّة مع حكومة قَلّلت الدعم عن الأدويّة الأساسيّة وحليب الأطفال، وأبقته على بعض الكماليّات الغذائيّة. وما هي الأمور الكماليّة في عصر بات الهاتف المحمول من الأساسيّات ولو أنّه يأتي مستوردًا، والسيّارة ضرورة في ظلّ غياب وسائط النقل العامّة بوجهٍ مناسب؟
من الواضح أنّ الضريبة الجمركيّة هي ضريبة متغيّرة يعتمد فرضها على المعاهدات الدوليّة بين لبنان والاتّحاد الأوروبيّ، واتّفاقيّات التجارة الحرّة بين لبنان وبعض الدول العربيّة. إذ تنصّ هذه المعاهدات على الإلغاء التدريجيّ للضرائب الجمركيّة على مجموعة من البنود المحدّدة في مختلف القطاعات. وعليه، فإنّ السلع المستوردة من الدول المُعفاة من الرسوم الجمركيّة لن تتأثّر بأيّ تعديل في سعر صرف الدولار الجمركيّ، بل ستتأثّر بزيادة ضريبة القيمة المضافة التي لن يتمّ احتسابها بعد الآن على سعر الصرف الرسميّ للدولار الأميركيّ. كما أنّ بعض المنتجات معفاة من الرسوم الجمركيّة – بما في ذلك بعض المنتجات المستهدفة بموجب الاتفاقيّات التجاريّة المبرمة مع الحكومة اللبنانيّة – بينما تخضع منتجات أُخرى لضرائب قد تصل إلى 70% من سعرها قبل الضريبة بما في ذلك رسوم النقل والموانئ.
كما أنّنا نرى أنّ مصادر اقتصاديّة عدّة تتّفق في انتقادها النهج الذي تتّبعه الحكومة اللبنانيّة في إعداد مشروع الموازنة، وتحديد سعر الدولار الجمركيّ. فعلى الرغم من أنّ وزارة الماليّة أرادت الاقتراب من معدّل صرف يعكس الواقع الاقتصاديّ، إلّا أنّها فضّلت نهج الإنفاق على الإيرادات وليس العكس. وفي السياق نفسه، كان من الأفضل إجراء تخفيضات تدريجيّة في فاتورة أجور القطاع العامّ، وهي التخفيضات التي أوصَت بها في مناسبات عدّة منظّمات دوليّة مختلفة، بما في ذلك البنك الدوليّ.
من ناحية أُخرى، نجد أنّ ارتفاع معدّل صرف الدولار الجمركيّ لن يكون دوّامة مستقلّة ذات تأثيرات محدودة، بل ستتوسّع آثاره السلبيّة لتشمل الحلقة الاقتصاديّة الكليّة. إذ سيؤدّي ارتفاع سعر صرف الدولار الجمركيّ إلى تحويل الطلب على المنتجات المستوردة إلى الأصناف البديلة المنتجة محليًّا كأوّل ردّة فعل طبيعيّة. بالتأكيد، هذا ما نشهده اليوم في حالة القبول عند غالبيّة اللبنانيّين الذين تآكلت قوّتهم الشرائيّة بشكلٍ كبير، إذ باتوا يُقبلون على شراء منتجات لبنانيّة الصنع، مُسترجعين شعار «بتحبّ لبنان… حِبّ صناعتو» رغم أنّهم مسيّرون بخيارهم وليسوا مخيّرين.
هذا ما سيؤدّي إلى انخفاض حجم الواردات ولن تتحقّق الإيرادات المتوقّعة من زيادة الضريبة الجمركيّة، كما هو متوخّى في مقدّمة مشروع الموازنة. علمًا أنّ لبنان الذي لم تعرف حكوماته المتعاقبة كيفيّة ضبط حدوده، قد وصل حجم الاقتصاد غير الشرعي إلى أربعة أضعاف نظيره الشرعيّ، ولنا أن نتخيّل كيف ستكون حركة التهريب مع ارتفاع الدولار الجمركيّ.
عادةً ما تؤدّي الضرائب المفروضة على الاقتصادات الضعيفة، مثل الاقتصاد اللبنانيّ اليوم، إلى انخفاض الاستهلاك، وتقود المواطنين إلى دوّامة من الركود التضخّمي، يصعب جدًّا الخروج منها. مع العلم أنّ الزيادة في الدولار الجمركيّ ستؤثّر على كلّ حلقة من حلقات سلسلة الإنتاج المحلّي، وكلّ رابط في السلسلة التجاريّة. لكن من ناحية أُخرى، يُطرح السؤال، لماذا لا تُفرض ضرائب تصاعديّة تكون كفيلة بجلب الإيرادات المتوقّعة على خزينة الدولة بطريقة عادلة، وتخفّف من وطأة هذه القرارات على الطبقتين الفقيرة والمتوسّطة؟
يجب أن نذكّر أنّ معدّل صرف الدولار الجمركيّ لا يزال متوافقًا مع سعر الصرف الرسميّ، لكنّ المسؤولين أرادوا رَفعه دفعةً واحدة ليتطابق مع سعر صرف الدولار الأميركيّ وفق منصّة «صيرفة» التي يديرها مصرف لبنان، والذي يبلغ حتّى هذه اللحظة ٢٦٥٠٠ ليرة مقابل الدولار الأميركيّ. علمًا أنّ هذه القيمة ما تزال قليلة لأنّ سعر الصرف في السوق السوداء الموازية الذي تخطّى ٣٤٠٠٠ ليرة في نهاية الأسبوع المنصرم، والذي شهد ارتفاعًا حادًّا في الأيّام الأخيرة، في خضمّ تقليص ما تبقّى من دعم على البنزين، ورجوع المغتربين، وإخفاق التوقّعات للموسم السياحيّ الصيفيّ، وغيرها من عوامل فقدان الثقة بالعملة المحليّة.
في سياق الفترة الانتقاليّة التي ستبدأ فيها الحكومة اللبنانيّة في تعديل سعر الدولار الجمركيّ، يجب أن تأخذ في حسبانها شرطين أساسيّين: انخفاض القوّة الشرائيّة بسبب التضخّم والاستهلاك، إذ بلغ معدّل التضخّم ٢١٠,٨ ٪ في نهاية شهر حزيران بحسب المعدّل السنويّ، كما فقدت العملة حوالى ٩٥ ٪ من قيمتها منذ العام ٢٠١٩. يُضاف إليها المطالب المشروعة لموظّفي الخدمة المدنيّة في زيادة رواتبهم. كما أنّ معدّلات التضخّم لن يقابلها زيادة في احتياطات العملة الأجنبيّة، مما سيُجبر البنك المركزيّ على ضخّ أكبر لليرة اللبنانيّة.
كما أوصت المنظّمات الاقتصاديّة بتحديد سعر صرف الليرة اللبنانيّة بمعدّل ٨٠٠٠ ل.ل. للدولار الأميركيّ قبل رفعه تدريجاً إلى السعر المطلوب، وهو ما قامت به فعلاً بعض الشركات لكن بشكلٍ غير رسميّ منذ بداية العام ٢٠٢٢. من الناحية المثاليّة، سيكون من الأفضل توحيد سعر الصرف وتعديله بحسب سعر صرف السوق، وتقليل الرسوم الجمركيّة لتجنّب التأثير الكبير على الأسعار بالعملة المحلّيّة.
إنّ معظم التحليلات الاقتصاديّة تجد أنّ الزيادة في سعر صرف الدولار الجمركيّ أمرٌ لا مفرّ منه، حتّى لو لم تتحقّق الأهداف المباشرة المرجوّة منه التي من أجلها فُرضت هذه الضريبة… لكنّ ثمّة نظرة اقتصاديّة مغايرة، ترى أنّ الرسوم الجمركيّة تضرّ أكثر ممّا تنفع البلدان التي تطبّقها. فلطالما واجه الاقتصاد العالميّ احتمال أن تتنافس بعض البلدان على أسواق التصدير بفرض أسعار منخفضة بوجهٍ مُصطنع. إذ يقترح الخبراء الاقتصاديّون فرض رسوم لتعويض خزينة الدولة، غالبًا ما يفشل مؤيّدو هذا القرار في إدراك أنّ مثل هذه الرسوم ستكون ضارّة جدًّا بالاقتصاد المحلّي على المدى البعيد. فعلى نحوٍ غير متوقّع، يمكن أن تكون الآثار السلبيّة على لبنان كبيرة، حتّى ولو التزم التجّار بدفع ما يترتّب عليهم من رسوم خاصّة.
يكمن أحد العيوب الرئيسيّة لهذه الرسوم الجمركيّة، انّها ولو قادت إلى دعم الصناعات المحليّة التي تتنافس بشكلٍ مباشر مع بعض السلع المستوردة، فإنّها مع ذلك ستمارس تأثيرًا مخفّفًا بشكلٍ عام وتقلل الإنتاج، والاستثمار، والعمالة في الاقتصاد ككلّ. قد تبدو هذه النتائج مفاجئة على المدى البعيد، فبعد تحويل الطلب إلى السلع المنتجة محليّاً ورفع أسعار الواردات المنافسة، لن تؤدّي الرسوم الجمركيّة إلى زيادة الإنتاج والعمالة مع عدم القدرة على التحكّم بالتضخّم. فقد لاحظ روبرت مونديل، الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد للعام ١٩٩٩، أنّه من خلال الوعد بتحسين ميزان المدفوعات الأساسيّ في البلد المستورد، ستُعزّز مكانة العملة المحليّة في سوق صرف العملات الأجنبيّة، ممّا قد يُقلّل من الناتج المحلّي الإجماليّ، والعمالة، وفي هذه الحالة يؤدّي إلى تفاقم العجز التجاريّ في نهاية المطاف.
في الأفق البعيد، ليس لدى لبنان سوى تعديل معدّلات الصرف. في المقابل يراوغ القطاع الخاصّ ليجد سعر الصرف الأنسب بين ٨٠٠٠ ل.ل أو ١٢٠٠٠ ل.ل مقابل الدولار الأميركيّ. كما أنّ إجراءات الزيادة تؤثّر على المنتجات الفاخرة من دون إعطاء مزيد من التفاصيل، مؤكّدًا على أنّ سعر صرف الدولار الجمركيّ قيد الدراسة حاليًّا ليبلغ ٢٠,٠٠٠ ل.ل للدولار الأميركيّ. ومع ذلك، سيكون الأمر متروكًا لوزارة الماليّة ورئيس الحكومة، وحاكم مصرف لبنان.
هكذا نجد أنّ لبنان تتجاذبه دوّامتين في ظلّ تعثّره الاقتصاديّ، فإمّا أن يوحّد أسعار الصرف التي قد تعدّدت بتعدّد الاستخدامات والمصطلحات، أو بتطبيق بعض القوانين الاستثنائيّة لضبط قيمة الدولار الجمركيّ، الأمر الذي تطلّب الاتّفاق بين وزير الماليّة وحاكم مصرف لبنان. على أيّ حال ستقع التداعيّات الاقتصاديّة على المواطن اللبنانيّ الذي ينحدر أكثر فأكثر نحو حالة فقرٍ غير مسبوق.
ممّا لا شكّ فيه أنّ انهيار الدولة حاصل لا محالة، وقد تشابه في سقوطها ما حصل مع صوامع القمح في مرفأ بيروت، فهي في بادئ الانفجار الاقتصاديّ خرجت عن العمل، وحاولت الصمود لفترة، لكنّنا نشهد في الفترات الأخيرة سقوطها مؤسّسةً تلو الأخرى، حتّى تُصبح أطلالًا تحتاج إلى من يسندها. فالدولة غير القادرة على تمويل رواتب الخدمة المدنيّة هي بحكم المنهارة.
كما أنّ مسلسل تعديل الرسوم الجمركيّة لا يقوم على بطولات وهميّة، فإن بادر أحد الأطراف بطرحه، أو «تلبيسه» لطرفٍ آخر، فلا ننخَدع من الأطراف الرافضة من الحلقة السياسيّة التقليديّة، التي تذرّعت بضرورة الرفع التدريجيّ للرسوم الجمركيّة، ردعًا للنتائج الكارثيّة، أو ضرورة دراسة تبعات هذا الارتفاع، في حين أنّ غالب قراراتهم لم تعرف لا دراسة… «ولا هُم يحزنون»، وفي عهدهم اتّسعت الهوّة بين طبقات المجتمع، فجُلّ آمالها هي تبييض صفحتها قبل مغادرتها المشهد السياسيّ، وانّ الحفاظ على ورقة التين لن يستر تاريخها الجائر بحقّ المواطن… إذ أخذته معها إلى جهنّم.
البروفيسور ندى الملّاح البستانيّ
بروفيسور في جامعة القديس يوسف