أسواق الدَين البريطانيّة: أسوأ عام منذ الحرب العالميّة الثانية

لا يبدو أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قد مكّنها من تحييد اقتصادها عن تبعات الأزمة الاقتصاديّة التي تصيب الدول الأوروبيّة اليوم. بل وعلى العكس تمامًا، تدل جميع المؤشّرات إلى اتجاه بريطانيا نحو هاوية من الكساد الاقتصادي الذي لم تشهده في تاريخها، وبما يفوق بأشواط التأزّم الذي تعاني منه دول الاتحاد الأوروبي اليوم.

ومن الواضح أن أسواق المال البريطانيّة باتت تعاني اليوم من الضغوط نفسها التي تتعرّض لها سائر الدول الأوروبيّة، والمتصلة بأزمات الطاقة وتداعيات الحرب الأوكرانيّة وارتفاع الفوائد الأميركيّة. إلا أنّ بريطانيا تبدو اليوم أقل مناعة تجاه هذه الضغوط مقارنة بدول الاتحاد الأوروبي، بخلاف ما توقّعه مؤيدو الخروج من الاتحاد الأوروبي سابقًا، وهو ما يضعها اليوم في عين العاصفة الاقتصاديّة.

تدهور نقدي مقلق
على خطى اليورو والين الياباني وغيرهما من العملات الرئيسيّة، دخل الجنيه الاسترليني دوّامة الهبوط القاسي أمام الدولار الأميركي، لتلامس قيمته اليوم حدود 1.03 دولار أميركي، ما يدل على خسارته ربع قيمته مقارنة بالفترة المماثلة من العام الماضي. وبذلك، يكون الجنيه قد سجّل أسوأ مستوى له في تاريخه، بعد أن هبط إلى ما دون أدنى مستوياته التاريخيّة التي سجّلها عام 1985. أمّا سندات الدين الحكوميّة، فانخفضت قيمتها إلى أدنى مستوياتها منذ أكثر من ثلاثة عقود، ما سينعكس بارتفاع كلفة اقتراض الحكومة البريطانيّة إلى أعلى مستوى منذ ذلك الوقت.

ورغم سوداويّة المشهد الحالي، تذهب الغالبيّة الساحقة من الترجيحات إلى الإشارة إلى أنّ الأسوأ بالنسبة للاقتصاد البريطاني لم يحدث بعد. فحسب الأرقام، وبعد الانهيار الأخير في قيمة الجنيه وأسعار سندات الدين الحكوميّة، من المتوقّع أن ترتفع نسب الفوائد على الدين السيادي إلى مستويات أعلى من كل من إيطاليا واليونان، التي تعاني منذ زمن طويل من ارتفاع مخاطر ديونها السياديّة.

ولهذا السبب تحديدًا، أشار تقرير بنك أوف أميركا إلى أنّ أسواق السندات الحكوميّة البريطانيّة تسير في طريقها نحو أسوأ عام لها منذ العام 1949، يوم كانت أوروبا تخرج من تداعيات الحرب العالميّة الثانية. وتجدر الإشارة إلى أن نسبة الارتفاع الشهري في كلفة اقتراض الحكومة البريطانية لم تشهده بريطانيا منذ بداية خمسينات القرن الماضي، ما يؤكّد توقّعات بنك أوف أميركا.

نحو كساد اقتصادي عظيم
باختصار، وتمامًا كأحجار الدومينو، تتداعى المؤشّرات النقديّة السلبيّة، والتي يتوقّع الجميع ترجمتها على شكل كساد اقتصادي كبير قبل نهاية العام الحالي. فتدهور قيمة الجنيه ستعني تفاقم معدلات التضخّم، التي تسجّل أساسًا معدلات مرتفعة تجاوزت حدود 10% خلال الصيف الماضي، ما مثّل أعلى مستوى تضخّم تعرفه البلاد منذ أربعة عقود. وارتفاع معدلات التضخّم، وبهذا الشكل الهستيري، سرعان ما سيُترجم بتراجع في قدرة البريطانيين الشرائيّة، وبركود تضخّمي قاسٍ.

أمّا ارتفاع الفوائد، فسيساهم بالضغط على كلفة اقتراض القطاع الخاص، ما سيزيد من المنحى الانكماشي الذي تسلكه البلاد اليوم. مع الإشارة إلى أنّ جميع التحليلات تركّز على الهواجس المتصلة بالقطاع العقاري بالتحديد، الذي يعتمد على الاقتراض إلى حد بعيد لتمويل الاستثمار والشراء. فبمجرّد ارتفاع الفوائد، من الطبيعي أن تتراجع جدوى الاقتراض لتمويل النشاط العقاري بالنسبة للمستثمر التجاري، كما من المتوقّع أن تتراجع قدرة المواطنين البريطانيين على الاقتراض لشراء العقارات السكنيّة.

وكان بنك إنكلترا قد رفع معدلات الفوائد على أمواله سبع مرّات منذ شهر تشرين الثاني الماضي، لمجاراة ارتفاع الفوائد الأميركيّة، وتخفيف ضغط التحويلات باتجاه السوق الأميركي. وآخر هذه الزيادات، جرت منذ أيّام، حين رفع بنك انكلترا معدل الفائدة الرئيسي لديه بمقدار 0.5%، ليبلغ حدود 2.25%. ومع ذلك، اعتبرت معظم التقارير أنّ هذه الزيادة مازالت غير كافية للتعامل مع معدلات التضخّم المحليّة، وضبط خروج الرساميل باتجاه الولايات المتحدة بعد ارتفاع الفوائد فيها. وهذا تحديدًا ما يشير إلى إمكانية تسجيل زيادات جديدة في معدلات الفوائد البريطانيّة، مع كل ما يعنيه ذلك من زيادة في الضغوط الإنكامشيّة على مستوى الاقتصاد البريطاني المحلّي.

أخيرًا، يبقى من الأكيد أن ارتفاع كلفة الاقتراض على هذا النحو بالنسبة للحكومة البريطانيّة، سيعني المزيد من تراجع الثقة بأداء الاقتصاد البريطاني وقدرة الحكومة على التدخّل، ما سيُترجم بمزيد من الضغط على أسواق المال البريطانيّة. وهذا تحديدًا ما جرى خلال الأيام الماضية، مع اندفاع حملة سندات الدين السيادي البريطانيّة إلى التخلّص منها، في ظل الخشية من تداعيات ارتفاع الفوائد، وعدم الثقة بالخطط الحكوميّة التي اقتصرت على رزم من الإعفاءات الضريبيّة لإنعاش الاقتصاد، والتي يُتوقّع أن تؤدّي إلى المزيد من الضغط على الميزانيّة العامّة.

سيناريو الأزمة الشاملة
رغم سوداويّة المشهد الحالي، ورغم تشاؤم جميع التحليلات، لا يمثّل كل ذلك أسوأ ما يمكن أن يحدث خلال الأشهر المقبلة. فخلال الأيام الماضية، شهدت أسواق الرهن العقاري تخبطات واضطرابات سريعة وغير مألوفة، وهو ما أجج المخاوف من إمكانيّة تداعي الأحداث السيئة بشكل متوقّع نحو سيناريو الأزمة الشاملة، كما حدث عام 2008. أمّا أكثر ما أجج هذا النوع من المخاوف، فهي التقارير التي استندت إلى بيانات بنك إنكلترا التي تعود إلى العام 1772، والتي تبيّن منها أن بريطانيا لم تسجّل المستوى الحالي من العجز في حسابها الجاري إلا ثلاث مرّات في تاريخها، أي خلال 249 سنة المشمولة بهذه البيانات. وهذا تحديدًا ما يدل على قسوة الأزمة الراهنة، وما يمكن أن ينتج عنها من تداعيات غير متوقعة.

خيارات بنك إنكترا خلال المرحلة المقبلة محدودة للغاية، وهي تبدأ بفرض زيادات إضافيّة في الفوائد، لحماية قيمة الجنيه، لكن هذه الخطوة ستؤدّي إلى المزيد من الأعباء على المقترضين من أسر وشركات، وعلى خدمة الديون السياديّة. كما يملك البنك خيار التدخّل المباشر في السوق، لدعم عملته، بأدوات مختلفة قد تشمل الشراء المباشر للجنيه أو التداول بأصول ماليّة أخرى. أمّا الحكومة، فيبدو أنّها مازالت أسيرة خيارات اليمين التقليديّة، المحصورة برزم الإعفاءات الضريبيّة، بدل التدخّل الفاعل لمعالجة الأزمة، ما يضيف من قلق الأسواق تجاه هذا التصلّب غير المفهوم في أداء الحكومة.

علي نور الدين