بين اقتصادين… متعثر وجيد

حين نفكر في الاقتصاد نفكر عادةً في العوامل الجغرافية، والبيئية. حجم الموارد الطبيعية، طبيعة المناخ، الإمكانات السياحية. وكلها عوامل مهمة فعلاً، لكنها لا تصنع اقتصاداً جيداً بالمفهوم المعاصر لكلمة اقتصاد. وهو مفهوم تميز بتجاوزه للقيم الريعية (الحسابية) المجردة، ليكتشف ويقيِّم القيم المعنوية والاجتماعية والإدارية التي تصنع اقتصاداً جيداً، كالتنافسية، وآداب العمل، والانفتاح، وسعة الأفق. يقيِّمها، أي يحولها إلى قيمة مادية رقمية.
لو تابعنا الخطاب النخبوي في الأمم المتعثرة اقتصادياً، سنجد أن أهم ما يميزه التركيز على النوع الأول من العوامل الاقتصادية؛ الموارد الطبيعية. وسنجد أن تشخيصه للداء الاقتصادي ينصبّ أيضاً على ندرة الموارد أو «عدم استغلال الموارد»، أو «سرقة الموارد». لا أنفي احتمال أن يكون هذا وذاك سبباً حقيقياً في الفقر الاقتصادي. ما أعارضه هنا أن يكون السبب الوحيد، أو حتى السبب الأرجح. هذا كسل فكري مريح، لكنه مهلك، محدود التفكير الأخلاقي، ومحدود الخيال، ولا يبعث على الأمل في تغيير الحال.
تحدثنا سابقاً عن القيمة الأخلاقية للتنافسية في صياغة منظومة أخلاقية تمجّد حس المسؤولية والاجتهاد لدى الأفراد، تمجّد ملكية الشخص لنجاحه، وملكيته لفشله، وملكيته لما بينهما من درجات اليسر والعسر، وقيمتها في نبذ التواكل والشعور بالاستحقاق. عن قيمة التنافسية في تعزيز فكرة الجودة والإتقان، وفكرة العدالة الطبيعية. وعن قيمة التنافسية في توسيع أفق الابتكار واكتشاف المواهب داخل المجتمع، وبالتالي قيمتها في توسيع المشاركة. كل هذه الفوائد لها قيم مادية لا تقل أهمية عن قيمة الموارد البيئية والنصيب الجغرافي.
بعض الدراسات الاجتماعية ركز على ما يسمى «رأس المال المجتمعي». وهو مصطلح يبحث في شكل الأواصر بين الأفراد داخل مجتمع ما، وعلاقة هذا بالأداء الاقتصادي للبلد. هناك علاقة طردية بين قدرة المجتمعات على بناء منظومات اجتماعية تطوعية يتعاون فيها الأفراد، وبين قدرتها على التطور الاقتصادي. يمكن ببساطة فهم السبب. المجتمع المتزاور المتعاون مجتمع أكثر تمتعاً بالتآلف والثقة بين أفراده. وهما صفتان إن غابتا عن مجتمع انقلب على نفسه تناحراً، وانقلب على ضيوفه نافراً منفراً. إن كانت ثقافة المجتمع تُشيع -لأسباب مختلفة- عدم الثقة بين فئاته، رجاله ونسائه، أو أبناء الأديان والطوائف المختلفة فيه، فكيف تتوقع أن تشيع الثقة مع الغرباء وترحب بهم؟
الثقة إذن عامل «مادي» أساسي في الحسابات الاقتصادية. عامل يمكن للفرد أن يتخيله بسهولة في دائرته المحدودة، حيث البقال الأمين الموثوق أنجح من البقال الغشاش. لكننا لا نولي هذه القيمة الاجتماعية الأخلاقية حقها من التقييم المادي حين نتحدث عن الإدارة الاقتصادية للدول، وعن الكفاءة الاقتصادية للمجتمعات، كما نفعل مع «الموارد الطبيعية». السبب في هذا بسيط. نتخيل الاقتصاد بقيم مادية واضحة يمكن حسابها، ولا نتخيل دور القيم التي تحتاج إلى خيال لحسابها، والمسماة «اليد الخفية للسوق».
لو كان للاقتصاد -من هذا المنطق- كتاب مقدس، لكانت افتتاحيته «في البدء كانت الثقة». تحت هذا المتن ضع من الشروح ما شئت. تكلم عن دور الدولة في طمأنة أصغر مشارك في الاقتصاد إلى أكبر مشارك فيه إلى أن رأسماله لن يضيع بسبب قرار مفاجئ، يعطل له تجارته، أو بسبب مزاحمة من مركز نفوذ يريد أن يحتكر كل قطاع رابح، أو بسبب غموض القانون وغشاوة اللوائح.
عدم اكتراث دولة بقيمة الثقة لا ينبع من عدم أهلية ساستها للثقة، بل ينبع غالباً من غياب هدف إشاعة الثقة من لائحة أهدافهم. أحياناً لأسباب تتعلق بروافد ثقافتهم الاقتصادية. الساسة ذوو الأفكار الاشتراكية، ينصبّ جهدهم الاقتصادي على تعزيز دور الإدارة المركزية في تنفيذ المشاريع. يهتمون بالثقة المتبادلة بين أفراد هذا الجهاز البيروقراطي، وينتهي اهتمامهم بالثقة عند محيط تلك الدائرة. ينظرون إلى المجتمع كأنه كيان منفصل عن الدولة، كانفصال المولود عن أمه. يعدّونه كياناً مَعَولاً لا كياناً منتجاً، يعجزون عن رؤية طموح الفرد منفصلاً عن طموح المركز. لو كانت الإدارة المركزية نواة في ذرّة، لخمل العالم، وضاقت مدارات الإلكترونات، وانتحرت التفاعلات الكيميائية، لحدث المستحيل وعثرت في الطبيعة على ذرة مستقلة، أو على نواة تعتقد أنها إلكترون. المشكلة الكبرى في هذه النظرة أنها نظرة لا تنبع غالباً من شر محسوس، بل من نية طيبة، لكنها فاشلة إدارياً ومدمرة اقتصادياً. الأعمال في الاقتصاد ليست بالنيات.
ثم إن ثقافة كيان جغرافي تشبه هواءه ونهره. يتنفسها الجميع، ويتشربها الجميع. المجتمع الذي لا يسمع ولا يرى ولا يلمس أهمية الثقة في كل قرار يومي لا يلتفت إليها. قد يتحدث عنها في خطب الجمع أو مراجعات السبت أو مواعظ الأحد، لكنه في واقعه العملي يمجد الغش. لا تسارعوا إلى إساءة الظن به، فلن يستسيغ مدح الغش باسمه الحقيقي، سيسميه «شطارة»، سيسميه «فهلوة»، سيسميه «تقليب رزق»، سيسميه «على قد فلوسهم».
غياب الثقة بين أفراد ومؤسسات الكيان الجغرافي الواحد يجعل التنبؤ بالقيم الحاكمة لتعامله مع الغرباء قصة قصيرة، حزينة. رغم أن حبكتها سهلة، وعبرتها حاضرة. إن رأى رأس المال القادم، لكي يبادل النفع بالنفع سابقاً عليه، أُضير في هذه المبادلة فلن يخاطر بتقليده، ولن يصغي إلى كلمات الترحيب. احسبْ الضرر الاقتصادي بنفسك. راجع أرقام ونوعية الاستثمار الأجنبي، وأرقام السياحة.
الثقة إذن هي الهدف الأول. والهدف الأول هو الثقة. هذه ليست جملة إنشائية. بل جملة اقتصادية معاصرة تعبر بطريقة مبسطة عن الخطوة الأولى في التفكير الاستراتيجي لبناء اقتصاد. الثقة كلمة على كل مسؤول أن يرددها لنفسه كما يردد عابدٌ أذكار الصباح والمساء. الثقة لا تصلح أن تكون ضحية جانبية. لا تصلح لدور رهينة في مساومة لشراء الوقت. الثقة هي العقد غير المكتوب، قبل العقد المكتوب، وبعد العقد المكتوب

خالد البري

 

كبار المستثمرين بقيادة وارن بافيت يتخارجون من أسهم التكنولوجيا الصينية

اتجه بعض أشهر المستثمرين على مستوى العالم للتخارج من أسهم التكنولوجيا الصينية في مواجهة الإجراءات التنظيمية التي تطبقها بكين وإجراءات الإغلاق المرتبطة بفيروس كورونا وتراكم التحديات الاقتصادية لدى الدولة الآسيوية.

وتعد شركة الملياردير وارن بافت Berkshire Hathaway أبرز المتجهين لخفض حيازتهم في سوق الأسهم الصينية، بحسب بيزنس إنسايدر.

وعلى الرغم أن حصة الشركة في صانعة السيارات الكهربائية الصينية BYD كانت قد وصلت إلى حوالي 10 مليارات دولار في يونيو حزيران الماضي، فإن  Berkshire Hathaway باعت نحو 8% من حصتها بقيمة 600 مليون دولار على مدار الشهرين الماضيين.

أما المثال الثاني فهو اليابانية SoftBank التي استثمرت 20 مليون دولار في الصينية Alibaba في عام 2000.

وعلى الرغم أن الشركة لا يزال لديها حصة بنسبة 24% في شركة التجارة الإلكترونية حتى أكتوبر تشرين الأول من عام 2020 فإن تلك الحصة تقلصت بنحو 70% منذ وقتها.

وكانت صحيفة فاينانشال تايمز أفادت في أغسطس آب بأن SoftBank تنوي تقليص هذه الحصة إلى حوالي 15%.

كما تعد Naspers الجنوب إفريقية أبرز الشركات التي اتجهت للتخارج من سوق أسهم التكنولوجيا الصيني وذلك عبر تقليص استثماراتها في Tencent.

وفي عام 2001 استثمرت الشركة 32 مليون دولار في Tencent من أجل حصة قدرها 45.6%.

وعلى الرغم أن Prosus التابعة لـNaspers تمتلك اليوم 30% من الشركة الصينية إذ تبلغ قيمة تلك الحصة 100 مليار دولار، فإنها أعلنت مؤخراً أنها ستقلص تلك الحيازة.

واحد ونصّ من ثمانية… نجاح غير مسبوق

 

خمسة أشهر مرّت على الاتفاق المبدئي الذي عقدته السلطات اللبنانية مع بعثة صندوق النقد الدولي، في 7 نيسان الماضي، والذي يمهّد مبدئياً للوصول الى تفاهم على برنامج تمويل من قِبل الصندوق بقيمة 3 مليار دولار، مقسّطة على 4 سنوات، بهدف وقف الانهيار القائم، والعودة إلى التعافي الاقتصادي والمالي.

مع مرور الوقت، بدأت البنود الالزامية التي نصّ عليها الاتفاق الأولي تسقط من الذاكرة. لكن، ومن خلال مراجعة النصّ الأصلي للاتفاق على «مستوى الموظفين»، والذي وزّعته ادارة صندوق النقد في واشنطن، يمكن تقدير المرحلة التي قطعها لبنان حتى الآن في رحلة تنفيذ هذه البنود، والتي من دون تنفيذها، لا يمكن عقد اتفاق لبرنامج تمويل مع الصندوق. فهل ما أُنجز يوحي بأنّه تمّ قطع مسافة جيدة نحو الإنجاز، ولم يبق سوى القليل؟

 

8 بنود إلزامية وردت في الاتفاق الاولي، للوصول إلى توقيع برنامج التمويل، من المفيد تفنيدها مجدداً، لنعرف أين وصلنا اليوم.

 

البند الاول، يتعلق بموافقة الحكومة على خطة إعادة هيكلة القطاع المصرفي. هذا الامر لا يزال غامضاً، لأنّ خطة اعادة الهيكلة غير واضحة بدورها.

 

البند الثاني، ينصّ على موافقة المجلس النيابي على خطة إعادة هيكلة المصارف، وهذا الأمر لم يتمّ حتى الآن.

 

البند الثالث، إعادة تقييم لأوضاع 14 مصرفاً، بالتعاون مع شركة عالمية متخصصة. هذا الامر ليس معروفاً أين أصبح، مع الاشارة إلى انّ النواب أبلغوا في خلال اجتماع اللجان النيابية المشتركة، انّ المهمة أُنجزت تقريباً، من دون ان يُفصح من بث الخبر السعيد عن أية تفاصيل تؤكّد صحة الخبر. وبالتالي، ينبغي الانتظار لمعرفة حقيقة ما جرى على هذا الصعيد، خصوصاً انّ البنوك غير المشمولة بإعادة التقييم تعترض على الامر، وتعتبر انّ هناك تعسفاً في اختيار 14 مصرفاً فقط. وقد سجّلت اعتراضها لدى الصندوق، ولدى الموفد الفرنسي بيار دوكان، الذي أبدى تفهمه للاعتراض، ووعد ببحث الموضوع مع الصندوق، ومع السلطات اللبنانية المعنية.

 

البند الرابع، إقرار المجلس النيابي لتعديلات على قانون السرية المصرفية تجعله متماهياً مع المعايير الدولية القائمة. وفي هذا السياق، تمّ إنجاز هذا البند، ولو انّ البعض يتحدث عن اعتراضات لدى صندوق النقد بسبب إفراغ القانون من مضمونه. لكن الصندوق يبدو راضياً بالتعديلات، لأنّه لا يركّز على النقاط التي تركّز عليها بعض القوى السياسية والمدنية اللبنانية، خصوصاً لجهة المفعول الرجعي. إذ ما يهمّ الصندوق هو ان يكون القانون صالحاً للتماهي مع خطة التعافي في المستقبل، ولا يعنيه ما يطمح اليه البعض في موضوع المحاسبة. وهو بالتالي لا يعترض ولا يؤيّد ما يتعلق بشق المساءلة (accountability) على الماضي. مع الاشارة هنا، إلى أنّ رئيس الجمهورية تراجع عن توقيعه على التعديلات على قانون السرية المصرفية، وأعاده الى المجلس النيابي، وبالتالي، يمكن القول انّ القانون بصيغته الجديدة أصبح معلّقاً بانتظار ما سيقرّره المجلس في هذا الصدد.

 

البند الخامس، إستكمال جردة الحسابات لمصرف لبنان، لمعرفة حجم الاحتياطي ووضعه المالي، بهدف إعادة الشفافية إلى البنك المركزي. هذا الأمر لم يتحقق بعد. وما زالت الامور على غموضها، طالما لا يوجد تقرير صادر عن مؤسسة دولية موثوقة، يحدّد الوضعية الحقيقية لمصرف لبنان.

 

البند السادس، ينصّ على إقرار الحكومة استراتيجية متوسطة المدى لإعادة هيكلة الدين العام، بهدف ضمان استدامة (sustainability) هذا الدين. وهذا الامر لم يتحقق بعد، ولن يتحقق طبعاً في حكومة تصريف اعمال.

 

البند السابع، يطلب إقرار المجلس النيابي لموازنة العام 2022، بهدف إعادة الانتظام المالي إلى الدولة. وهذا المطلب لم يتحقق بدوره، وما زالت الموازنة مشروع خلافات وتجاذبات لا تبشّر بأنّها ستُقرّ فعلاً، حتى ولو على طريقة كيفما تيسّر.

 

البند الثامن، يدعو إلى أن يقوم مصرف لبنان بتوحيد سعر الصرف، وان يتمّ دعم هذه الخطوة بتطبيق قانون «كابيتال كونترول».

 

إذا حاولنا تلخيص النتائج للخروج بعلامة، يمكن القول، وفي أحسن الحالات، انّ لبنان حصل حتى الآن على علامة 1,5 على 8، نصف علامة لكلٍ من البنود 1،3،4.

 

إذا أضفنا إلى هذه البنود الثمانية والتي تُعتبر الممر الإلزامي للوصول إلى اتفاق نهائي مُنجز مع صندوق النقد الدولي، مسألة التعديلات على خطة التعافي، والتي أعلن عنها رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي في المجلس النيابي، والتي تعني انّ الخطة التي تمّ الاتفاق بموجبها مع صندوق النقد لم تعد قائمة، ويحتاج الامر إلى التوافق مجدداً مع الصندوق حول هذه التعديلات، سنصل الى نتيجة مفادها انّ الاتفاق مع الصندوق لا يزال على مسافة بعيدة، وبعيدة جداً، قد لا يقطعها لبنان ابداً.

أنطوان فرح