يتساءل البعض إذا كانت المعارك والتجاذبات الأخيرة حيال قانون «الكابيتال كونترول» تعود إلى الشق النقدي، أو التقني، أو المالي، للحفاظ على أموال المودعين واسترجاعها؟ أم هي كرة نار بين أيادي السياسيين يتراشقون فيها من منصّة إلى أخرى، ومن لجنة إلى أخرى، لأهداف سياسية وضغوط، قبل استحقاقات مصيرية بعيدة من مصلحة الشعب والمودعين.
إنّ قانون «الكابيتال كونترول» ليس قانوناً غريباً على الاقتصاد العالمي، ولا فريداً من نوعه، أو صُنع في لبنان للمرة الأولى، إنما هذا المشروع يحصل في كل بلدان العالم عند الحاجة، ولا سيما عندما يشهد بلد معيّن خضّات كبيرة، أكانت طبيعية، (هزّة أرضية أو غيرها)، حروباً، أو تقلّبات اقتصادية ومالية ضخمة، حيث ينجم عنها هلع وإخراج جزء كبير من الأموال بالعملات الصعبة من البلد.
فقانون «الكابيتال كونترول» يُقرّ بغية حماية الأموال، ووضع قيود محدّدة لفترة معينة، لإعادة الهيكلية، واستعادة الدورة الاقتصادية، وخصوصاً إسترجاع الثقة للحفاظ على العملات الأجنبية في البلاد.
أما في لبنان، عندما كنا نحتاج إلى هذا القانون بشكل عاجل للحفاظ على الاستقرار النقدي، منذ أواخر العام 2019 بعد إقفال المصارف 12 يوماً، ها نحن بعد عامين ونصف العام، لا نزال نتحاور ونتجادل على هذا المشروع الذي أصبح وهماً، وحتى من دون تأثير على الأموال القديمة التي أصبحت أرقاماً واهية وحبراً على ورق.
نذكّر أنّ «الكابيتال كونترول» ليس مخصصاً للبنان، لكن شهدنا مثله في بلدان عديدة وفي مراحل معينة. للتذكير، لقد طُبّق «الكابيتال كونترول» في فرنسا حتى أواخر الثمانينات من القرن الماضي، وطُبّق في أفريقيا بعد الحروب العديدة، ولا يزال يُطبّق حتى الساعة، وطُبّق أيضاً أخيراً في روسيا وأوكرانيا، بعد اندلاع هذه الحرب الجديدة، للحفاظ على العملات الصعبة في هذه البلاد، لتغطية تمويل حاجاتها الأساسية وبعض الاستيراد.
لو طُبّق قانون «الكابيتال كونترول» في أوائل الأزمة المالية بطريقة تقنية وواضحة وشفافة، كنا حمينا قسماً كبيراً من الودائع، وحافظنا على بعض الدورة الاقتصادية. فهذا الشر الذي لا غنى عنه، كان قد صاننا عوضاً عن الانزلاق يوماً بعد يوم.
لا شك في أننا كقطاع خاص ننتمي وندعم الاقتصاد الحر والانفتاح على العالم، لكن عند الحاجة كنا جاهزين لبعض التضحيات والقيود لإعادة الإعمار والإنماء على أسس جديدة ومتينة.
فهذا القانون في لبنان، جُرف مثل بقية القوانين، إلى وحول السياسة. فالذين ضدّ «الكابيتال كونترول» هم في الحقيقة فقط ضدّ الجهات التي تطالب به. أما الذين يُدافعون عن هذا القانون فهم بالأحرى فقط يُعارضون الذين يواجهون القانون. ونشك في أنّ أحداً منهم أو أياً من هذه الجهات قد اطلعت على تفاصيل هذا المشروع، من الجهتين التقنية والمالية، وخلافهم وتجاذباتهم هي فقط لأهداف سياسية وتحقيق بعض المكاسب قبل استحقاقات مقبلة. أما لبنان فلا يزال ينزلق يوماً بعد يوم نحو أزمة اقتصادية، اجتماعية، ومالية خانقة وبالغة الصعوبة.
في ظلّ هذه التجاذبات، نصرّ على أنّ قانون «الكابيتال كونترول» ليس خياراً، إنما واقع مرّ مجُبرين على إقراره لإعادة بناء الدورة الاقتصادية.
أما السؤال الذي يطرح نفسه، فهو إذا «الكابيتال كونترول» سيكون فقط مركّزاً على الأموال القديمة التي سُرقت ونُهبت وهُدرت وتبخّرت، أو ستكون من ضمنه الأموال الجديدة (الفريش)؟
حسب المراصد الدولية، والمنظمات المالية والوكالات العالمية، إنّ قانون «الكابيتال كونترول» يجب أن يشمل الأموال الجديدة للحفاظ عليها، ومراقبتها حسب حاجات البلد. فيُحكى عن تنظيم لجنة ستدرس كل طلبات «الفريش» حسب الحاجة، وهذا أمر مقلق في بلد مثل لبنان، مبني على التصدير والاستيراد.
في الوقت عينه، ليس لدينا الثقة بمن سيُراقب هذه التدفقات المالية والتبادل بالعملات، في ظلّ الفساد المستشري وغياب إدارة رشيدة وحوكمة وملاحقة وانعدام المسؤولية.
في النهاية، إنّ السياسيين يستعملون هذا القانون لرشق بعضهم البعض بكرة النار المخيفة. أما المجتمع الدولي فيُطالب بهذا القانون لمراقبة دقيقة للاستيراد والتصدير، والحدّ من غسل الأموال أو تمويل الإرهاب. أما القطاع الخاص فهو ضائع بين السياسة الداخلية والسياسة الإقليمية والدولية. فيما المودع فبعضُه يحلم ويتوهّم أنّ الكل يريد مصلحته، فيما الحقيقة هو الذي يدفع الثمن الباهظ.
د. فؤاد زمكحل