خلال الأسبوع الماضي، رفع مجلس الاحتياطي الاتحادي الأميركي -للمرّة الخامسة على التوالي هذا العام- معدلات الفوائد المستهدفة بمقدار 75 نقطة أساس، لتصبح في الوقت الراهن عند نطاق يتراوح بين 3% و3.25%، فيما ألمح المجلس إلى اتجاهه لاتخاذ المزيد من القرارات المماثلة قبل انقضاء العام الحالي. وبذلك، تكون معدلات الفوائد الأميركيّة قد وصلت إلى أعلى مستوى لها منذ العام 2008، أي منذ ما قبل حدوث الأزمة الماليّة العالميّة. وطوال اليومين الماضيين، أشارت التحليلات إلى أن مجلس الاحتياطي الاتحادي سيستمر بسياسة رفع الفوائد، حتّى تلامس حدود ال4.4% قبل بداية العام المقبلة، بغية التعامل مع معدلات التضخّم المرتفعة في السوق الأميركيّة المحليّة.
خضّة جديدة في الأسواق العالميّة
وكما كان متوقّعًا، هرعت المصارف المركزيّة حول أنحاء العالم لاتخاذ قرارات مماثلة، طوال اليومين الماضيين، بهدف ضبط الرساميل الموجودة لديها والحؤول دون تسارع خروجها باتجاه السوق الأميركي. وعلى هذا النحو، قررت المصارف المركزيّة الخليجيّة في كل من قطر والبحرين والسعوديّة زيادة معدلات الفوائد لديها بنسبة مشابهة تمامًا، أي 75 نقطة أساس (0.75% بالتحديد)، فيما زادت الكويت سعر الخصم الرئيسي (مرجعيّة تحديد الفوائد المحليّة) بنسبة 0.25%. وفي الأسواق الغربيّة، كان من الملفت قرار البنك الوطني السويسري زيادة أسعار الفوائد بنسبة 0.75% أيضًا، لتتخطى نسبة الفائدة -ولأوّل مرّة منذ ثماني سنوات- مستوى الصفر.
في المقابل، سار المصرف المركزي المصري بعكس التوقّعات، حين أعلن مساء الخميس الماضي تثبيت معدلات الفوائد وعدم مجاراة الاحتياطي الفيدرالي في هذه الزيادة، إلا أنّه تحوّط في المقابل من خلال قرار يعادل في تأثيره زيادة الفوائد، قضى بزيادة نسبة الاحتياطي النقدي التي تلتزم البنوك المصريّة بالحفاظ لديها لدى المصرف المركزي. وبهذه الطريقة، تحاول مصر تلقّف القرار الأميركي وضبط الرساميل الموجودة لديها، إنما دون تكبيد نظامها المالي كلفة رفع الفوائد على المقترضين من القطاعين العام والخاص.
مجددًا: أوروبا مكبّلة نقديًّا
باختصار، أطلق الاحتياطي الفيدرالي طوال الأيام الماضية موجة جديدة من موجات زيادة الفوائد في الأسواق العالميّة. وحده المصرف المركزي الأوروبي يبدو مكبّلًا اليوم. فرغم اتخاذ المصرف قرارًا تاريخيًّا برفع سعر الفائدة الأساسي بنسبة 0.75% في الثامن من الشهر الحالي، مازالت معدّلات الفوائد الأوروبيّة منخفضة إلى حد كبير مقارنة بالفوائد الأميركي. إذ مازالت مازال سعر الفائدة الأساسي لدى المصرف المركزي الأوروبي يقف عند حدود ال1.25%، ما يمثّل عتبة منخفضة للغاية مقارنة بالنطاق الأعلى للفوائد الأميركيّة المستهدفة، والذي يبلغ حدود ال3.25% (أي بفارق نقطتين بين الفوائد الأميركيّة والأوروبيّة).
وكما هو واضح، يعود تباطؤ المصرف المركزي الأوروبي بمجاراة ارتفاع الفوائد العالميّة إلى محاولته تلقّف الضغوط الاقتصاديّة الناتجة عن الغزو الروسي لأوكراني، وأزمة الطاقة في أوروبا، خصوصًا أن رفع معدلات الفائدة واعتماد سياسات نقديّة انكماشيّة غالبًا ما يفاقم الضغوط على معدلات النمو الاقتصادي. وهكذا، وبينما يملك المصرف المركزي الأوروبي أسبابه الوجيهة لعدم مواكبة ارتفاع الفوائد الأميركيّة بنفس النسبة، من المتوقّع أن يؤدّي تزايد الهامش بين الفوائد الأميركيّة والأوروبيّة إلى زيادة الضغط على سعر صرف اليورو، خصوصًا أن تزايد هذا الهامش سيزيد من وتيرة هجرة الرساميل باتجاه السوق الأوروبي.
كل مواطن في كل دولة سيتأثّر
كما هي العادة عند صدور قرارات مماثلة من الاحتياطي الفيدرالي، غالبًا ما يسأل الجميع عن الأثر المعيشي المباشر لهذه التطورات على المقيمين في كل من دول العالم المختلفة. المسألة الأكيدة، هي أنّ ارتفاع الفوائد الأميركيّة، وتاليًا معدلات الفوائد في أسواق المال المختلفة، سيؤثّر على كل مواطن مقيم في أي دولة وبأشكال مختلفة:
– كلفة اقتراض القطاع الخاص: كلفة اقتراض القطاع الخاص سترتفع حتمًا، ما يزيد استنزاف الفوائد لميزانيّات الأسر والشركات. وهذه المسألة لن تتصل فقط بالديون المدولرة (الديون المقوّمة بالدولار)، بل بالديون المقوّمة بجميع العملات، طالما أن المصارف المركزيّة حول أنحاء العالم تُجاري في العادة زيادات الفوائد الأميركيّة، لمنع هجرة الرساميل وتخفيف الضغوط على سعر صرف عملاتها المحليّة.
– كلفة اقتراض الحكومات: سترتفع كلفة خدمة الديون العامّة، سواء فيما يتصل بسندات اليوروبوند الخاصّة بكل دولة (المقومة بالعملات الأجنبيّة)، أو بالسندات المقومة بالعملات المحليّة. وكما هو معلوم، على الحكومات أن ترفع فوائد سنداتها السياديّة، حتّى تلك المقومة بالعملات المحليّة، للحفاظ على جاذبيّتها في أسواق المال. ورفع كلفة اقتراض الحكومات، سيستنزف الميزانيّات العامّة ويخفّض إنفاق الحكومات على البنية التحتيّة وشبكات الحماية الاجتماعيّة.
– تراجع وتيرة الاستثمار: ارتفاع كلفة الاقتراض، وزيادة جاذبيّة الودائع مقارنة بالمشاريع الاستثماريّة، سيلجم وتيرة الاستثمار، ويرفع بالتالي من معدلات البطالة بشكل تلقائي.
– تراجع معدلات النمو الاقتصادي: كل ما سبق، سيعني انخفاض معدلات النمو الاقتصادي، وتزايد الضغوط على مستويات الناتج المحلّي للدول.
– الضغوط على العملات المحليّة: حتّى بعد مواكبة رفع الفوائد الأميركيّة، ستعاني الأسواق الناشئة من أثر نزوح الرساميل إلى الأسواق الغربيّة، ما سيزيد من الضغط على عملاتها المحليّة. وفي النتيجة، سترتفع أسعار السلع المستوردة في الأسواق الناشئة، وتتقلّص القدرة الشرائيّة للمقيمين فيها. المفارقة هنا، هي أن مقيمي هذه الدول سيدفعون كلفة هذه التطورات، على شكل تزايد في معدلات التضخّم، في حين أن سلسلة “الأحداث غير الجيّدة” هذه نتجت أساسًا عن محاولة الاحتياطي الفيدرالي التعامل مع معدلات التضخّم في سوقه المحلّي.
– زيادة الضغوط على السوق العقاري: كما هو معلوم، تعتمد الأسواق العقاريّة في مختلف دول العالم على الاقتراض بشكل كبير، سواء لتمويل شراء الشقق من قبل المستهلكين (القروض السكنيّة)، أو لتمويل الاستثمار العقاري نفسه (القروض للمطورين العقاريين). في النتيجة، سيعني كل ما سبق زيادة الضغط على سوق العقارات، وبالتالي التأثير على السياسات الإسكانيّة المحليّة.
في النتيجة، سيتأثّر الجميع بأشكال مختلفة. وحتّى بالنسبة إلى المواطن الأوروبي، الذي لن يعاني من ارتفاع الفوائد بنفس النسبة التي سيتحمّلها المواطن الأميركي أو الخليجي، فمن المتوقّع أن يواجه أثر انخفاضات قيمة اليورو مقابل الدولار، والتي ستنتج عن موجة ارتفاع الفوائد الحاليّة. وحتّى منتصف العام المقبل على أقل تقدير، من المتوقّع أن يعيش العالم تحت وطأة تداعيات السياسات النقديّة المتشددة، التي يعتمدها الاحتياطي الفيدرالي، والتي تتبعه فيها الغالبيّة الساحقة من مصارف العالم المركزيّة.
علي نور الدين