بين اقتصادين… متعثر وجيد

حين نفكر في الاقتصاد نفكر عادةً في العوامل الجغرافية، والبيئية. حجم الموارد الطبيعية، طبيعة المناخ، الإمكانات السياحية. وكلها عوامل مهمة فعلاً، لكنها لا تصنع اقتصاداً جيداً بالمفهوم المعاصر لكلمة اقتصاد. وهو مفهوم تميز بتجاوزه للقيم الريعية (الحسابية) المجردة، ليكتشف ويقيِّم القيم المعنوية والاجتماعية والإدارية التي تصنع اقتصاداً جيداً، كالتنافسية، وآداب العمل، والانفتاح، وسعة الأفق. يقيِّمها، أي يحولها إلى قيمة مادية رقمية.
لو تابعنا الخطاب النخبوي في الأمم المتعثرة اقتصادياً، سنجد أن أهم ما يميزه التركيز على النوع الأول من العوامل الاقتصادية؛ الموارد الطبيعية. وسنجد أن تشخيصه للداء الاقتصادي ينصبّ أيضاً على ندرة الموارد أو «عدم استغلال الموارد»، أو «سرقة الموارد». لا أنفي احتمال أن يكون هذا وذاك سبباً حقيقياً في الفقر الاقتصادي. ما أعارضه هنا أن يكون السبب الوحيد، أو حتى السبب الأرجح. هذا كسل فكري مريح، لكنه مهلك، محدود التفكير الأخلاقي، ومحدود الخيال، ولا يبعث على الأمل في تغيير الحال.
تحدثنا سابقاً عن القيمة الأخلاقية للتنافسية في صياغة منظومة أخلاقية تمجّد حس المسؤولية والاجتهاد لدى الأفراد، تمجّد ملكية الشخص لنجاحه، وملكيته لفشله، وملكيته لما بينهما من درجات اليسر والعسر، وقيمتها في نبذ التواكل والشعور بالاستحقاق. عن قيمة التنافسية في تعزيز فكرة الجودة والإتقان، وفكرة العدالة الطبيعية. وعن قيمة التنافسية في توسيع أفق الابتكار واكتشاف المواهب داخل المجتمع، وبالتالي قيمتها في توسيع المشاركة. كل هذه الفوائد لها قيم مادية لا تقل أهمية عن قيمة الموارد البيئية والنصيب الجغرافي.
بعض الدراسات الاجتماعية ركز على ما يسمى «رأس المال المجتمعي». وهو مصطلح يبحث في شكل الأواصر بين الأفراد داخل مجتمع ما، وعلاقة هذا بالأداء الاقتصادي للبلد. هناك علاقة طردية بين قدرة المجتمعات على بناء منظومات اجتماعية تطوعية يتعاون فيها الأفراد، وبين قدرتها على التطور الاقتصادي. يمكن ببساطة فهم السبب. المجتمع المتزاور المتعاون مجتمع أكثر تمتعاً بالتآلف والثقة بين أفراده. وهما صفتان إن غابتا عن مجتمع انقلب على نفسه تناحراً، وانقلب على ضيوفه نافراً منفراً. إن كانت ثقافة المجتمع تُشيع -لأسباب مختلفة- عدم الثقة بين فئاته، رجاله ونسائه، أو أبناء الأديان والطوائف المختلفة فيه، فكيف تتوقع أن تشيع الثقة مع الغرباء وترحب بهم؟
الثقة إذن عامل «مادي» أساسي في الحسابات الاقتصادية. عامل يمكن للفرد أن يتخيله بسهولة في دائرته المحدودة، حيث البقال الأمين الموثوق أنجح من البقال الغشاش. لكننا لا نولي هذه القيمة الاجتماعية الأخلاقية حقها من التقييم المادي حين نتحدث عن الإدارة الاقتصادية للدول، وعن الكفاءة الاقتصادية للمجتمعات، كما نفعل مع «الموارد الطبيعية». السبب في هذا بسيط. نتخيل الاقتصاد بقيم مادية واضحة يمكن حسابها، ولا نتخيل دور القيم التي تحتاج إلى خيال لحسابها، والمسماة «اليد الخفية للسوق».
لو كان للاقتصاد -من هذا المنطق- كتاب مقدس، لكانت افتتاحيته «في البدء كانت الثقة». تحت هذا المتن ضع من الشروح ما شئت. تكلم عن دور الدولة في طمأنة أصغر مشارك في الاقتصاد إلى أكبر مشارك فيه إلى أن رأسماله لن يضيع بسبب قرار مفاجئ، يعطل له تجارته، أو بسبب مزاحمة من مركز نفوذ يريد أن يحتكر كل قطاع رابح، أو بسبب غموض القانون وغشاوة اللوائح.
عدم اكتراث دولة بقيمة الثقة لا ينبع من عدم أهلية ساستها للثقة، بل ينبع غالباً من غياب هدف إشاعة الثقة من لائحة أهدافهم. أحياناً لأسباب تتعلق بروافد ثقافتهم الاقتصادية. الساسة ذوو الأفكار الاشتراكية، ينصبّ جهدهم الاقتصادي على تعزيز دور الإدارة المركزية في تنفيذ المشاريع. يهتمون بالثقة المتبادلة بين أفراد هذا الجهاز البيروقراطي، وينتهي اهتمامهم بالثقة عند محيط تلك الدائرة. ينظرون إلى المجتمع كأنه كيان منفصل عن الدولة، كانفصال المولود عن أمه. يعدّونه كياناً مَعَولاً لا كياناً منتجاً، يعجزون عن رؤية طموح الفرد منفصلاً عن طموح المركز. لو كانت الإدارة المركزية نواة في ذرّة، لخمل العالم، وضاقت مدارات الإلكترونات، وانتحرت التفاعلات الكيميائية، لحدث المستحيل وعثرت في الطبيعة على ذرة مستقلة، أو على نواة تعتقد أنها إلكترون. المشكلة الكبرى في هذه النظرة أنها نظرة لا تنبع غالباً من شر محسوس، بل من نية طيبة، لكنها فاشلة إدارياً ومدمرة اقتصادياً. الأعمال في الاقتصاد ليست بالنيات.
ثم إن ثقافة كيان جغرافي تشبه هواءه ونهره. يتنفسها الجميع، ويتشربها الجميع. المجتمع الذي لا يسمع ولا يرى ولا يلمس أهمية الثقة في كل قرار يومي لا يلتفت إليها. قد يتحدث عنها في خطب الجمع أو مراجعات السبت أو مواعظ الأحد، لكنه في واقعه العملي يمجد الغش. لا تسارعوا إلى إساءة الظن به، فلن يستسيغ مدح الغش باسمه الحقيقي، سيسميه «شطارة»، سيسميه «فهلوة»، سيسميه «تقليب رزق»، سيسميه «على قد فلوسهم».
غياب الثقة بين أفراد ومؤسسات الكيان الجغرافي الواحد يجعل التنبؤ بالقيم الحاكمة لتعامله مع الغرباء قصة قصيرة، حزينة. رغم أن حبكتها سهلة، وعبرتها حاضرة. إن رأى رأس المال القادم، لكي يبادل النفع بالنفع سابقاً عليه، أُضير في هذه المبادلة فلن يخاطر بتقليده، ولن يصغي إلى كلمات الترحيب. احسبْ الضرر الاقتصادي بنفسك. راجع أرقام ونوعية الاستثمار الأجنبي، وأرقام السياحة.
الثقة إذن هي الهدف الأول. والهدف الأول هو الثقة. هذه ليست جملة إنشائية. بل جملة اقتصادية معاصرة تعبر بطريقة مبسطة عن الخطوة الأولى في التفكير الاستراتيجي لبناء اقتصاد. الثقة كلمة على كل مسؤول أن يرددها لنفسه كما يردد عابدٌ أذكار الصباح والمساء. الثقة لا تصلح أن تكون ضحية جانبية. لا تصلح لدور رهينة في مساومة لشراء الوقت. الثقة هي العقد غير المكتوب، قبل العقد المكتوب، وبعد العقد المكتوب

خالد البري

 

كبار المستثمرين بقيادة وارن بافيت يتخارجون من أسهم التكنولوجيا الصينية

اتجه بعض أشهر المستثمرين على مستوى العالم للتخارج من أسهم التكنولوجيا الصينية في مواجهة الإجراءات التنظيمية التي تطبقها بكين وإجراءات الإغلاق المرتبطة بفيروس كورونا وتراكم التحديات الاقتصادية لدى الدولة الآسيوية.

وتعد شركة الملياردير وارن بافت Berkshire Hathaway أبرز المتجهين لخفض حيازتهم في سوق الأسهم الصينية، بحسب بيزنس إنسايدر.

وعلى الرغم أن حصة الشركة في صانعة السيارات الكهربائية الصينية BYD كانت قد وصلت إلى حوالي 10 مليارات دولار في يونيو حزيران الماضي، فإن  Berkshire Hathaway باعت نحو 8% من حصتها بقيمة 600 مليون دولار على مدار الشهرين الماضيين.

أما المثال الثاني فهو اليابانية SoftBank التي استثمرت 20 مليون دولار في الصينية Alibaba في عام 2000.

وعلى الرغم أن الشركة لا يزال لديها حصة بنسبة 24% في شركة التجارة الإلكترونية حتى أكتوبر تشرين الأول من عام 2020 فإن تلك الحصة تقلصت بنحو 70% منذ وقتها.

وكانت صحيفة فاينانشال تايمز أفادت في أغسطس آب بأن SoftBank تنوي تقليص هذه الحصة إلى حوالي 15%.

كما تعد Naspers الجنوب إفريقية أبرز الشركات التي اتجهت للتخارج من سوق أسهم التكنولوجيا الصيني وذلك عبر تقليص استثماراتها في Tencent.

وفي عام 2001 استثمرت الشركة 32 مليون دولار في Tencent من أجل حصة قدرها 45.6%.

وعلى الرغم أن Prosus التابعة لـNaspers تمتلك اليوم 30% من الشركة الصينية إذ تبلغ قيمة تلك الحصة 100 مليار دولار، فإنها أعلنت مؤخراً أنها ستقلص تلك الحيازة.

واحد ونصّ من ثمانية… نجاح غير مسبوق

 

خمسة أشهر مرّت على الاتفاق المبدئي الذي عقدته السلطات اللبنانية مع بعثة صندوق النقد الدولي، في 7 نيسان الماضي، والذي يمهّد مبدئياً للوصول الى تفاهم على برنامج تمويل من قِبل الصندوق بقيمة 3 مليار دولار، مقسّطة على 4 سنوات، بهدف وقف الانهيار القائم، والعودة إلى التعافي الاقتصادي والمالي.

مع مرور الوقت، بدأت البنود الالزامية التي نصّ عليها الاتفاق الأولي تسقط من الذاكرة. لكن، ومن خلال مراجعة النصّ الأصلي للاتفاق على «مستوى الموظفين»، والذي وزّعته ادارة صندوق النقد في واشنطن، يمكن تقدير المرحلة التي قطعها لبنان حتى الآن في رحلة تنفيذ هذه البنود، والتي من دون تنفيذها، لا يمكن عقد اتفاق لبرنامج تمويل مع الصندوق. فهل ما أُنجز يوحي بأنّه تمّ قطع مسافة جيدة نحو الإنجاز، ولم يبق سوى القليل؟

 

8 بنود إلزامية وردت في الاتفاق الاولي، للوصول إلى توقيع برنامج التمويل، من المفيد تفنيدها مجدداً، لنعرف أين وصلنا اليوم.

 

البند الاول، يتعلق بموافقة الحكومة على خطة إعادة هيكلة القطاع المصرفي. هذا الامر لا يزال غامضاً، لأنّ خطة اعادة الهيكلة غير واضحة بدورها.

 

البند الثاني، ينصّ على موافقة المجلس النيابي على خطة إعادة هيكلة المصارف، وهذا الأمر لم يتمّ حتى الآن.

 

البند الثالث، إعادة تقييم لأوضاع 14 مصرفاً، بالتعاون مع شركة عالمية متخصصة. هذا الامر ليس معروفاً أين أصبح، مع الاشارة إلى انّ النواب أبلغوا في خلال اجتماع اللجان النيابية المشتركة، انّ المهمة أُنجزت تقريباً، من دون ان يُفصح من بث الخبر السعيد عن أية تفاصيل تؤكّد صحة الخبر. وبالتالي، ينبغي الانتظار لمعرفة حقيقة ما جرى على هذا الصعيد، خصوصاً انّ البنوك غير المشمولة بإعادة التقييم تعترض على الامر، وتعتبر انّ هناك تعسفاً في اختيار 14 مصرفاً فقط. وقد سجّلت اعتراضها لدى الصندوق، ولدى الموفد الفرنسي بيار دوكان، الذي أبدى تفهمه للاعتراض، ووعد ببحث الموضوع مع الصندوق، ومع السلطات اللبنانية المعنية.

 

البند الرابع، إقرار المجلس النيابي لتعديلات على قانون السرية المصرفية تجعله متماهياً مع المعايير الدولية القائمة. وفي هذا السياق، تمّ إنجاز هذا البند، ولو انّ البعض يتحدث عن اعتراضات لدى صندوق النقد بسبب إفراغ القانون من مضمونه. لكن الصندوق يبدو راضياً بالتعديلات، لأنّه لا يركّز على النقاط التي تركّز عليها بعض القوى السياسية والمدنية اللبنانية، خصوصاً لجهة المفعول الرجعي. إذ ما يهمّ الصندوق هو ان يكون القانون صالحاً للتماهي مع خطة التعافي في المستقبل، ولا يعنيه ما يطمح اليه البعض في موضوع المحاسبة. وهو بالتالي لا يعترض ولا يؤيّد ما يتعلق بشق المساءلة (accountability) على الماضي. مع الاشارة هنا، إلى أنّ رئيس الجمهورية تراجع عن توقيعه على التعديلات على قانون السرية المصرفية، وأعاده الى المجلس النيابي، وبالتالي، يمكن القول انّ القانون بصيغته الجديدة أصبح معلّقاً بانتظار ما سيقرّره المجلس في هذا الصدد.

 

البند الخامس، إستكمال جردة الحسابات لمصرف لبنان، لمعرفة حجم الاحتياطي ووضعه المالي، بهدف إعادة الشفافية إلى البنك المركزي. هذا الأمر لم يتحقق بعد. وما زالت الامور على غموضها، طالما لا يوجد تقرير صادر عن مؤسسة دولية موثوقة، يحدّد الوضعية الحقيقية لمصرف لبنان.

 

البند السادس، ينصّ على إقرار الحكومة استراتيجية متوسطة المدى لإعادة هيكلة الدين العام، بهدف ضمان استدامة (sustainability) هذا الدين. وهذا الامر لم يتحقق بعد، ولن يتحقق طبعاً في حكومة تصريف اعمال.

 

البند السابع، يطلب إقرار المجلس النيابي لموازنة العام 2022، بهدف إعادة الانتظام المالي إلى الدولة. وهذا المطلب لم يتحقق بدوره، وما زالت الموازنة مشروع خلافات وتجاذبات لا تبشّر بأنّها ستُقرّ فعلاً، حتى ولو على طريقة كيفما تيسّر.

 

البند الثامن، يدعو إلى أن يقوم مصرف لبنان بتوحيد سعر الصرف، وان يتمّ دعم هذه الخطوة بتطبيق قانون «كابيتال كونترول».

 

إذا حاولنا تلخيص النتائج للخروج بعلامة، يمكن القول، وفي أحسن الحالات، انّ لبنان حصل حتى الآن على علامة 1,5 على 8، نصف علامة لكلٍ من البنود 1،3،4.

 

إذا أضفنا إلى هذه البنود الثمانية والتي تُعتبر الممر الإلزامي للوصول إلى اتفاق نهائي مُنجز مع صندوق النقد الدولي، مسألة التعديلات على خطة التعافي، والتي أعلن عنها رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي في المجلس النيابي، والتي تعني انّ الخطة التي تمّ الاتفاق بموجبها مع صندوق النقد لم تعد قائمة، ويحتاج الامر إلى التوافق مجدداً مع الصندوق حول هذه التعديلات، سنصل الى نتيجة مفادها انّ الاتفاق مع الصندوق لا يزال على مسافة بعيدة، وبعيدة جداً، قد لا يقطعها لبنان ابداً.

أنطوان فرح

تحديات صعبة أمام الطاقة الأوروبية

تعاني أسواق الطاقة العالمية أصعب تجربة مرت بها منذ عقود بسبب حرب أوكرانيا، والقرارات الأوروبية لمقاطعة الغاز والنفط الروسيين اللذين يشكلان عماد إمدادات الطاقة لأوروبا. ومن ثم رد الفعل الروسي بقطع الإمدادات الطاقوية إلى أوروبا.
كان من المستغرب في بادئ الأمر كيف تقاطع أوروبا الإمدادات الروسية؟! من المفهوم أن أوروبا أرادت أن تعبر عن دعمها لأوكرانيا واستهجانها للغزو الروسي، كما أن الولايات المتحدة كانت ولا تزال تضغط منذ عقود لفك الاعتماد الأوروبي على الإمدادات الغازية الروسية لأوروبا؛ لكن من غير المفهوم أن تقاطع دول صناعية المصدر الأساسي لمصدر طاقاتها الرئيسة، بتبني قرارات مستعجلة، دون التحضير اللازم مسبقاً للحصول على التعويضات. فقرار المقاطعة هذا غريب من نوعه، إذ إنه ضار للدول التي وافقت عليه قبل غريمها وأكثر. وهذا ما بدأ يحصل فعلاً مع تسييس ومقاطعة الغاز الروسي لأوروبا.
شعرت أوروبا بثقل عبء قراراتها هذه. وأول رد فعل هو الارتفاع الحاد في أسعار الكهرباء للمستهلك الأوروبي. وهذا ما تشير إليه بوضوح الزيادة الشهرية العالية على فاتورة كهرباء المنازل، ناهيك عن ارتفاعها على الشركات الصناعية والخدماتية، مما أخذ يزيد من التضخم في أوروبا.
بدأت الدول الأوروبية حالاً بعد اتخاذ قرارات المقاطعة الاتصال مع دول مصدِّرة للغاز، على غرار قطر والولايات المتحدة والجزائر ونيجيريا ومصر وإسرائيل. لكن -كما هو متوقع- فإن الطاقات الإنتاجية الإضافية لهذه الدول مجتمعة من الصعب أن تعوض الإمدادات الغازية الروسية الإضافية. هذا الأمر لا بد من أنه كان معروفاً لدى الخبراء والمسؤولين الأوروبيين عند اتخاذ القرار. كما أنه من المعروف أن الاتفاق السريع مع الدول أعلاه، سيعني معادلات سعرية أعلى مما كانت تدفعه الأقطار الأوروبية باتفاقاتها الطويلة المدى مع روسيا. وهذا ما أخذ يحصل الآن فعلاً. والاهتمام الأوروبي حالياً هو تخزين أكبر كميات ممكنة من الغاز قبل حلول فصل الشتاء؛ حيث الحاجة الماسة للتدفئة في حال برد قارس.
وتبادر الأقطار الأوروبية بتبني سياسات متعددة للالتفاف على الأزمة التي تعانيها الآن. فكانت هناك أولاً قرارات المقاطعة. وقد ردت موسكو بقرار مواجه لها من جانبها، بالمبادرة بقطع الإمدادات الغازية للصيانة ولوقت غير محدد، كما هو حاصل مع خط أنبوب «نورد ستريم- 1» الذي يزود ألمانيا ودولاً أخرى في الشمال الأوروبي بالغاز. سيكون من الصعب على ألمانيا المعتمدة كلياً على استيراد الغاز عبر الأنابيب، ومن دون منشآت وعقود لاستيراد الغاز المسال عبر الناقلات، أن تعوض الغاز الروسي بسهولة.
والجولة الجديدة للسوق الأوروبية المشتركة في معركة «تسييس الطاقة» هي فرض سقف سعري على صادرات النفط الروسية. تم إصدار قرار أوروبي مؤقت بهذا الصدد في شهر يونيو (حزيران) الماضي؛ لكن لم تتم متابعته أو تنفيذه فعلاً.
تفيد المصادر النفطية بأن الرئيس الأميركي جو بايدن أعاد إحياء الاقتراح في اجتماعات زعماء دول «مجموعة السبع» الأخيرة، لأجل استمرار الضغط على روسيا وريعها البترولي، وللحد من ارتفاع أسعار المنتجات البترولية في السوق الأميركية، ومعدلات التضخم العالية التي وصلت إلى معدلات قياسية، بالذات قبل حلول الانتخابات التشريعية في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.
سيتم تنفيذ خطة الرئيس بايدن من خلال قرارات المقاطعة والحصار النفطي الثانوية الأميركية التي تؤهل وزارة المالية الأميركية لملاحقة ومعاقبة المصارف وشركات الشحن والتأمين التي تتعامل مع العقود الروسية، دون السقف السعري في الدول المستوردة. وتتأمل واشنطن أن يردع هذا القرار موسكو عن إمكانية الحصول على أسواق نفطية جديدة تعوض الأسواق الأوروبية.
لم تتبين حتى الآن ما هي قرارات المقاطعة الأميركية التي تنوي واشنطن تبنيها في عقوباتها. المعروف أن الشركات الروسية كانت على اتصال مع الشركات الصينية والهندية لاستيراد كميات إضافية من النفط بعد الحصار الأوروبي؛ حيث تعتبر روسيا مصدراً مهماً للنفط للدولتين الآسيويتين الكبريين.
من جانبها، قررت مصلحة الكهرباء الفرنسية (إي دي إف)، نظراً للضغوط التي يمارسها عليها وزير الطاقة، إعادة تشغيل 32 مفاعلاً نووياً عاطلاً عن العمل حالياً، للقيام بأعمال الصيانة وتشغيل المفاعلات هذه قبيل فصل الشتاء، بحسب صحيفة «فايننشيال تايمز». أدى توقف هذه المفاعلات وتوقف الغاز الروسي إلى شح موارد الطاقة في فرنسا، واضطرارها إلى استيراد الكهرباء من بريطانيا ودول مجاورة أخرى، كما ارتفعت أسعار الكهرباء.

وليد خدوري

من دولة المصالح المهترئة إلى الدولة المنتجة

إننا في لبنان اليوم محكومون بإعادة الهيكلية الداخلية الصارمة، وإعادة بناء الوطن وإدارته من القعر. هذه المتطلبات لم تعد خياراً لكنها أصبحت واجباً، والحل الوحيد لإعادة الدورة الإقتصادية. الترميم ليس صالحاً، لذا علينا البناء من الأساس، والإستراتيجية الأسهل والأفضل والأسرع، وهي أن نعمل عكس الخطط القديمة على نحو 180 درجة من العقود الأخيرة.

سنُركّز في هذا المقال على نقطتين أساسيتين حيال إعادة هيكلة الدولة اللبنانية، وهما: تقليص حجم الدولة، والتركيز على الموارد البشرية المجدية والتي لديها النية الصافية والقدرة التقنية لإعادة البناء على أسس متينة.

 

إذا ما نظرنا إلى الوراء، بالنسبة الى حجم الدولة اللبنانية مقارنة بالناتج المحلي، وعدد السكان في لبنان، نكتشف بوضوح أنّ هذه الموازنة القديمة وهذا الإستثمار بالموارد البشرية كان هائلاً مع مردود خجول، ليس سراً أنه كان تقريباً 15% من الشعب اللبناني، موظفاً أو مستفيداً بطريقة غير مباشرة من القطاع العام. فحجمُ الدولة كان أكثر بكثير من إمكاناتها الحقيقية، من معاشات أو إعاشات، واستفادات عشوائية بكلفة مرتفعة، ومردود ضئيل.

 

بكل موضوعية، لن نشمل كل موظفي القطاع العام، ونضع الجميع في سلة واحدة، لكن بعد سنوات من الهدر والفساد، أصبح الموظف المجدي والمنتج والشفاف ضحية، وليس له مكان في هذه الشِباك العنكبوتية.

 

التوظيف الحقيقي والمستدام كان لسوء الحظ، توظيفاً طائفياً، مذهبياً، حزبياً وخدماتياً وليس لخدمة الشعب، ولا لكي نبني ونؤهّل ونطوّر الدولة اللبنانية، ولم يكن مبنياً على الخبرات والإنتاجية والقدرات والحاجات، بعيداً عن خدمة الشعب، لكن كان مركزاً لخدمة بعض السياسيين ومصالحهم الإقطاعية والإنتخابية والخدماتية والمحسوبيات.

 

زيادة على ذلك، لا نغضُّ النظر عن بعض الموظفين الذين كانوا يتقاضون رواتب عدة من مؤسسات عامة عدة، حتى أنهم كانوا يجهلون مكان عملهم الأساسي، وحتى أنهم مراراً يكونون خارج الأراضي اللبنانية.

 

فمن جهة، كيف يُمكن إدارة الدولة بهذا المنطق التخريبي، والإستفادي الأناني؟ وكيف يُمكن للدولة تمويل هذا الحجم غير المجدي ولا المنتج؟

 

هكذا دُمّرت الدولة وانهار الهرم الوهمي، وبُني الإفلاس والإنهيار والعجز على مدى سنوات عديدة.

 

إنطلاقاً مما تقدم، إن إعادة الهيكلية الحقيقية وإعادة البناء المتين، والحجر الأساسي للإصلاح، يبدأ من تعزيز واستقطاب أهم الموارد البشرية الكفوءة والمجدية والمنتجة، لبدء هذه الورشة من الأساس.

 

بدءُ الإعمار هو جذب الناجحين والكفوئين والمبتكرين وخرّيجي الجامعات بتفوق، ليُديروا البلاد، وليس الإتكال على توظيف مَن ليس له عمل، في بعض الخدمات الإجتماعية والحزبية.

 

لسوء الحظ، بدلاً من أن تكون الدولة تبحث عن أهم الموارد البشرية، لإدارتها الشفافة، أصبحت مؤسسات الدولة هي الملجأ لمن ليس له عمل، ولمن يتّكل على السياسيين، ولمن يريد الإستفادة من الدولة بدلاً من أن يخدم الشعب.

 

في الخلاصة، إن إعادة بناء الدولة اللبنانية والإقتصاد يبدأ بتقليص حجم الدولة الحقيقي، واستقطاب وتوظيف أهم الموارد البشرية، الأكثر كفاءة ومهارة في تخصصاتهم، لإعادة البناء على أسس جديدة، وإذا بقي السياسيون على النهج والعقلية القديمة نفسها باستعمال الدولة كشركات إجتماعية خاصة بهم، لبعض المساعدات لجماهيرهم، ولمصالح انتخابية مذهبية وحزبية، والوعود والزيادات برواتب وهمية، سنبقى نحفر بالنفق المظلم ذاته.

د. فؤاد زمكحل