الهند تتجاوز بريطانيا

في احتفالية فيها الكثير من الرمزية، احتفت الهند بتحقيق اقتصادها المركز الخامس عالميا من ناحية الحجم، متجاوزة بريطانيا التي انتقلت إلى المركز السادس. رمزية هذه الاحتفالية بسبب التزامن مع ذكرى مرور 75 سنة على استقلال الهند عن بريطانيا. لم يخف رئيس الوزراء الهندي (مودي) فخره بهذا الإنجاز، مذكراً أن الهند خلال خمس وسبعين سنة، تمكنت من تجاوز المستعمر الذي ربض على شبه القارة الهندية نحو 250 سنة. فكيف تمكنت الهند من تجاوز اقتصاد بريطانيا في وقت يعاني فيه العالم من أزمات اقتصادية وصراعات جيوسياسية؟
خلال العامين الماضيين عانى العالم من عدة عوامل، استطاعت الهند بشكل أو بآخر تجاوزها أو تقليل آثارها السلبية، أولها هو التضخم الذي يؤكد الخبراء أنه وصل قمته في أبريل (نيسان) الماضي، ليبدأ بعدها في الانخفاض، فوصل إلى 6.7 في المائة في شهر يوليو (تموز)، منخفضا عن مستوى يونيو (حزيران) (7 في المائة). ويعزى هذا الانخفاض إلى السياسة التي اتبعتها الهند في حِزم مساعدات ما بعد الجائحة، ففي حين ضخت العديد من الحكومات السيولة في بلدانها لتخفيف آثار الجائحة على المواطنين، ركزت الهند على دعم الشركات والاقتصاد المحلي، بضخ نحو 3 في المائة من حجم ناتجها القومي. كما أن الهند تفوقت على جارتها الصين في مرحلة ما بعد الجائحة، ويعود ذلك إلى اتباع الصين سياسة (صفر كوفيد) التي تسببت في تعطيل الاقتصاد الصيني وإيقاف الكثير من المصانع وإبقاء حالات العزل للعديد من المناطق في الصين.
كما أن الهند اتخذت موقفاً محايداً من الأزمة الروسية الأوكرانية، ولم تقف مع الغرب كما كان يتوقع، ولذلك هي لم تقاطع روسيا ولم تحاول إيقاف استيراد النفط الروسي، بل على العكس فقد تضاعف استيرادها للنفط الروسي بنحو أربعة أضعاف، مستفيدة من السعر المخفض بنحو 30 دولاراً للبرميل. ورغم أن الصين اتبعت أسلوباً مشابهاً، فإن إيقاف العديد من مصانعها قلل من استفادتها من النفط منخفض الثمن. هذا الحياد الهندي قلل من التضخم بشكل كبير في الهند، ولم يجعلها تعاني من أزمة الطاقة كما هي الحال في أوروبا وأميركا.
وتمكن الاقتصاد الهندي من النمو خلال الفترة الماضية لأسباب منها زيادة نشاط القطاع العقاري، وزيادة الاستهلاك المحلي الذي يقدر بنحو 55 في المائة من الناتج القومي، إضافة إلى استثمار العديد من رؤوس الأموال في البلاد. وقدر صندوق النقد الدولي حجم النمو للاقتصاد الهندي هذا العام بنحو 7.4 في المائة، ويتوقع أن يستمر النمو مقارباً لـ7 في المائة خلال الخمس سنوات القادمة. وتطمح الهند إلى أن تصل إلى المرتبة الرابعة عالميا في 2027 متفوقة على ألمانيا، والثالثة بحلول 2029 متعدية اليابان. كما توقعت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن تكون الهند في المرتبة الثانية عالمياً في منتصف هذا القرن، متجاوزة الولايات المتحدة وخلف الصين فقط!
ويجدر التوضيح أن تفوق حجم الاقتصاد الهندي على نظيره البريطاني لا يعطي بأي حال أفضلية لأحدهما على الآخر، فالاقتصاد الهندي بلغ حجمه 3.5 تريليون دولار، مقارنة بـ3.2 تريليون للاقتصاد البريطاني، ولكن سكان الهند يزيدون 20 ضعفا على سكان بريطانيا (1.4 مليار هندي مقابل 68 مليون بريطاني)، وينعكس ذلك على الرفاه المعيشي للبريطانيين، حيث يبلغ الدخل لكل فرد في بريطانيا 47 ألف دولار مقابل 2500 دولار فقط في الهند. ولكن هذا الإنجاز يبقى معنويا للهند التي انتقلت من الاقتصاد العاشر في العالم في 2014 إلى الخامس في أقل من عشر سنوات، وهو يعطيها إثباتاً على أنها في الطريق الصحيح، حتى لو لم تكن هذه الخطى ثابتة.
تبدو الهند الآن إحدى الدول البارزة اقتصادياً في العالم، وهي بمعدل نموها الاقتصادي للربع الثاني، والمتوقع لهذا العام (7.4 في المائة) جاءت ثانية بعد المملكة العربية السعودية التي يعد اقتصادها الأسرع نموا لهذا العام (بنسبة نمو 7.5 في المائة). وفيما راهن الغرب لفترة طويلة على الهند كقوة اقتصادية تستطيع مجابهة الاقتصاد الصيني، إضافة إلى تمتعها ببعض القيم الغربية الديمقراطية، فإن تفوق الاقتصاد الهندي جاء بطريق لم يقره الغرب، ومن ذلك عدم إنكار الحرب الروسية على أوكرانيا، ومخالفة العديد من القيم الديمقراطية الغربية. وجاء هذا الإنجاز الذي يحمل معاني معنوية ليعطي الهند بارقة أمل على التفوق الاقتصادي الذي لطالما سعت له، والذي تملك مقوماته بلا أدنى شك.

د. عبد الله الردادي

هل يملك مجلس الوزراء مشروعاً لهيكلة قطاع المصارف؟

لا شك في أن القرارات الجذرية بالنسبة لتحريك الاقتصاد لم تُدرس ولم تُنفذ، وكل ما نفذ كان القرار الأكثر ضرراً بقطاع #المصارف والعملة اللبنانية أي قرار حسان دياب وحكومته عدم تسديد مستحقات عن دين اليوروبوندز في آذار عام 2020.

اليوم يعمل #مجلس الوزراء على إعادة تنظيم القطاع المصرفي واقتراح القوانين التي يجب إقرارها بموافقة مجلس النواب، وكان نائب رئيس مجلس الوزراء، الاقتصادي المتخفي في المدة الاخيرة، قد اقترح إلغاء رخص المصارف ثم استصدار 5 أو 6 رخص لبنوك تستطيع تأمين موجودات تطمئن المودعين، ثم أعاد البحث في 14 أو 15 مصرفاً فقط كي لا يكون هنالك إفراط في عدد المصارف والفروع.

 

الأمر الأكيد أن ودائع المصارف مع انتظار دراسة ميزانيات 14 أو 15 مصرفاً لن تنجز قبل سنة، والامر الاكيد أن الودائع ستخسر 20-30 ملياراً خصوصا إذا جرى تسديد 100 ألف دولار لكل حساب تشكل نتيجة أعمال شرعية لا تشوبها مخالفات قانونية، والامر المطلوب بالتأكيد من المودعين ألا تخسر ودائعهم قيمتها بسبب طول الدراسات وهم يخسرون حالياً نسبة 80% من ودائعهم بسبب استيفائهم 8 ملايين ل.ل مقابل شطب 1000 دولار من وديعة الزبون المعني، وكل هذه العمليات تجرى دون أية قوانين ترعاها. فالمصرفيون من أصحاب الخبرة لم يواجهوا أية قيود على ممتلكاتهم وعلى تنقلاتهم واستكشاف حساباتهم، بل إن رئيس إدارة البنك الاكبر متغيب عن لبنان، ولا يجيب على المخابرات الدولية حتى لأصحاب حسابات بملايين الدولارات، توافرت نتيجة أعمال ريادية لأصحاب هذه الحسابات.

العمل الحالي للبنوك هو الصيرفة، وجمعية المصارف غائبة عن أي وقائع لإعادة ترتيب الأوضاع، بل معتكفة عن معالجة الشأن المصرفي. ومصرفيون يقررون كيفية الدفع لأصحاب الودائع دونما قدرة للمودع على الاعتراض، ونادراً ما نشهد قراراً قضائياً يؤيّد حق أو حقوق عدد من المودعين.

لا بد من المصارحة بأن البنوك المعتكفة عن تسديد حقوق المودعين وتأمين الإقراض التجاري، ولا نقول الاستثماري، قد تخلت عن دورها.

معلوم أن مراجعة حسابات البنوك مسؤولية لجنة الرقابة على المصارف، وإن كانت اللجنة تقوم بعملها بانتظام ودون تساهل مع المصارف يمكنها أن تؤمن تقييماً حقيقياً لأوضاع هذه المصارف، وحيث إن 62% من حجم الودائع ديون على الدولة وهي عاجزة عن الإيفاء، وإن كان لنا أن نستعيد دوراً للمصارف يسهم بتنشيط الاقتصاد فعلينا أن نبدأ بتشغيل عدد من المصارف التي حافظت على سيولة لا تقل عن 20% من التزاماتها.

ونؤكد هنا أن المسؤولين مشغولون عن القراءة وتفهّم ما يجري عالمياً، بإطلاق مواقف أقل ما يقال بشأنها أنها مواقف القصد منها تغطية هفوات وجرائم تبديد الأموال العامة دون محاسبة. وقيامة لبنان لن تكون دون إشراك مؤسسة مالية دولية في تملك محافظ أكبر 5 بنوك وتأمين رسملة على مستوى 10-15 مليار دولار وإدارة فعّالة ومدركة لأخطاء الماضي وهفواته وجموح القيادة السياسية لتمويل مشاريعها الفاشلة كما حدث مع الكهرباء وقروض 42 مليار دولار دون الفوائد.

لبنان لن يستعيد دينامية العمل المصرفي في وقت قريب، إن لم يحُز سلطة حاكمة بعيدة عن التحكم وقريبة من العلم والتطورات الدولية، فلا مستقبل للبنان وشبابه المثقف الباحث عن العمل في كل بلد مستقل وحضاري من بلدان الشرق الاوسط مثل الإمارات العربية، والبحرين، والكويت والسعودية وعسى أن يستقر العراق، فهذا البلد العربي العريق هو بين الدول الأغنى بالنفط والطاقات الزراعية إذا أقرّت برامج الاستفادة من مياهه.

إعادة تحريك البنوك، وتأمين سيولة ما بين 15 و20 مليار دولار أمر لا يتنافى مع ما يحدث يومياً في أسواق الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، والصين واليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة التي مؤسّسها زار لبنان في الستينيات واعتبر أن نظام لبنان القانوني والنظام الاقتصادي والمالي يؤمنان النموّ وهو اعتمد نظامنا، وأصبح معدل دخل المواطن السنغافوري بين أعلى المداخيل، وسنغافورة حلت تقريباً محل هونغ كونغ في الخدمات المصرفية… هكذا تنمو المجتمعات الحيّة مقابل جمود التطوّر لدينا وتحجّر أفكار القيادات على مختلف المستويات.

مروان اسكندر

الإبداع عصب الاقتصاد الجديد

الأسبوع الماضي كنت متحدثة «منتدى العالم القادم» الذي استضافته العاصمة السعودية الرياض لمناقشة موضوعات حيوية، تجمع بين الترفيه والاقتصاد، بمشاركة أكثر من 1000 شخصية فاعلة في هذا المجال، لاحت في مخيلتي عبارة منسوبة لـ«ألبرت أينشـتاين»: «الخيال أهم من المعرفة… نعم الخيال أهم من المعرفة… فبينما المعرفة محدودة، فإن الخيال لا حدود له… الخيال هو حافز كل تقدم، ومنشئ أي تطور».
وكان هنالك سؤال يدور لدى البعض؛ ما هو الدور الذي ستلعبه السعودية في مستقبل الألعاب والرياضات الإلكترونية والصناعات الإبداعية بشكل عام؟ ليأتي إعلان الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي عن الاستراتيجية الوطنية للألعاب والرياضات الإلكترونية، التي تؤكد أنها خطوة جديدة نحو الريادة وجعل السعودية مركزاً عالمياً في هذا القطاع، والأهم من ذلك ما قاله الأمير محمد بن سلمان؛ إن طاقة وإبداع الشباب السعودي وهواة الألعاب الإلكترونية هما المحرك للاستراتيجية الوطنية للألعاب والرياضات الإلكترونية، التي تلبي طموحات مجتمع الألعاب محلياً وعالمياً من خلال توفير فرص وظيفية وترفيهية جديدة ومميزة لهم، بهدف جعل السعودية مركزاً عالمياً لقطاع الألعاب والرياضات الإلكترونية بحلول 2030.
حقيقة التطورات المتسارعة التي شهدها العالم في الألفية الثانية تتحدث عن اقتصاد جديد مختلف عن القطاعات التقليدية التي سادت العالم في القرن الماضي؛ فالاقتصاد الإبداعي بدأ يتطور ويأخذ حيزاً كبيراً ويؤثر بشكل إيجابي في اقتصادات بعض الدول، مع إدراكها بأهميته في تنويع مصادر الدخل، وتوفير الوظائف، واستدامته، لأن مصدره خيال الموهوبين، وعقول المفكرين، فما دام هناك خيال يصنع واقعاً، فإن الاقتصاد الإبداعي سيستمر في النمو والتطور والازدهار… وبالتالي فإن الإجابة على السؤال؛ سعودية مبدعة… هي كلمة السر في فتح خزائن المستقبل.
وقد أجاب الأمير فيصل بن بندر رئيس الاتحاد السعودي للرياضات الإلكترونية عن أسباب استثمار السعودية وتركيزها على هذا القطاع بقوله: «السؤال الآن يجب أن يتغير من؛ لماذا السعودية؟ إلى؛ لِمَ ليست السعودية؟ لدينا مجتمع شغوف بالألعاب والرياضات الإلكترونية، ونظّمنا كثيراً من الفعاليات العالمية في مختلف القطاعات، لدينا جميع المقومات لننافس، والأهم من ذلك أن كوادرنا الشابة، رجالاً ونساءً، أظهروا للعالم مدى كفاءتهم وقدراتهم».
لقد كانت السعودية من أوائل الدول في المنطقة التي وضعت الاقتصاد الإبداعي ضمن رؤيتها المستقبلية من خلال وزارة الثقافة وصندوق الاستثمارات العامة، وشهد هذا الاقتصاد خلال الأعوام القليلة الماضية تطوراً متسارعاً، سواء عبر ضخ استثمارات في شركات عالمية والاستحواذ على بعضها، أو تطوير قدرات ومهارات المبدعين لإعداد الجيل القادم من قادة الاقتصاد الإبداعي، وتقديم دعم لرواد الأعمال الشباب لتأسيس مشروعاتهم الإبداعية. كان ذلك مبادرة إطلاق اعتماد برنامج لتمويل الألعاب والرياضات الإلكترونية بميزانية قدرها 300 مليون ريال سعودي… تمتلك السعودية الإدارة والإمكانات لقيادة هذا الاقتصاد إقليمياً وعالمياً، فكما صنعت السعودية اقتصاداً مزدهراً على مدار 100 عام ماضية، هي قادرة أيضاً على صنع اقتصاد إبداعي مستدام يحقق «رؤية السعودية 2030».
شخصياً، واجهت كثيراً من التحديات عندما بدأت عملي في الصناعات الإبداعية قبل 8 سنوات، واليوم أصبحت الأحلام تتحقق بقيادة الأمير محمد بن سلمان، وخير دليل على ذلك الاستراتيجية التي أطلقها للألعاب والرياضات الإلكترونية، التي تعمل على إزالة العقبات والصعوبات التي واجهتنا في السابق، خاصة أن الصناعات الإبداعية لم تعد وسيلة للترفيه فحسب، بل أصبحت مساهماً قوياً في الناتج المحلي للدول، ومن أبرز الأمثلة ظهور مصطلح «الاقتصاد البرتقالي» الذي تبنته كولومبيا قبل 20 عاماً لتصبح اليوم من أكبر 5 اقتصادات في أميركا الجنوبية، ومن أسرع الاقتصادات نمواً… نمتلك المواهب والخبرات والقدرات والإمكانات لنصنع اقتصاداً إبداعياً تنافسياً، يؤمن مستقبلاً مشرقاً للأجيال القادمة… بالأمس كانت منطقتنا تستهلك المنتج الإبداعي الذي يصنعه غيرنا، واليوم فرصتنا لنصنع منتجات إبداعية لبقية العالم تحمل رؤيتنا وبصمتنا وهويتنا وثقافتنا.
قلت لصديق أثق في رأيه؛ هل نحن نبالغ في الحلم؟ ردّ بثقة وابتسامة: «الإبداع والحلم كلاهما لا يخضعان للمنطق… لأنهما ببساطة يصنعانه».

عزيزة الأحمدي

هيستيريا الدولرة تنسف الموازنة: مفتاح الحل يبدأ بنظام سعر الصرف!

منذ عام 2019، شهد لبنان انهياراً متعدد الأوجه ماليا – نقديا – مصرفيا تحت ضغط دولرة هائلة جزئية غير رسمية مرتفعة جدا بما يتخطى الـ 80 % نسفت كل تقديرات أرقام الموازنة نظرا للضياع بشأن سعر الصرف الذي يمكن اعتماده لاحتسابها. دولرة بقيت مرتفعة حتى طيلة الـ22 سنة من تثبيت سعر الصرف على أساس دولار/ليرة 1507.5. علمياً تثبت كل الأدبيات الإقتصادية والتجارب الدولية أنه في هكذا أزمة متشعّبة الأوجة لا يمكن مقاربة الموضوع ومباشرة استراتيجية حل إلا بدءا بالشق النقدي واختيار نظام سعر الصرف المناسب والذي على أساسه يمكن احتساب كل الأرقام لبقية السياسات الاصلاحية لا سيما منها الموازنة!… ما هي خصوصية الشق النقدي وسعر الصرف في الأزمات المتعدددة الأوجه؟ ما هي الخيارات الممكنة في حال الدولرة الجزئية المرتفعة بعد سقوط نظام ربط سعر الصرف كما كان حاصلا بين 1997 و2019؟ وأي تقييم لكلفة ونتائج الخيارات المتاحة؟

 

منذ سقوط نظام سعر الصرف في تشرين الأول 2019، مع تعثّر إمكانية الاستحصال على الدولار على أساس السعر الرسمي المعتمد 1501-1514 وسعر وسطي 1507.5، لا من المصارف ولا من السوق الموازية وتنامي أسعار متفرقة على وقع «هيستيريا الدولرة» الناتجة عن سقوط مريب لثقة المواطنين بالعملة الوطنية والخيارات الاقتصادية ككل وهلع الناس لشراء الدولار والهروب من العملة اللبنانية، لم يعد من الممكن علميا ومنطقيا مقاربة الأزمة المتعددة الأوجه المالية-النقدية-المصرفية إلا بدءا بمقاربة انهيار نظام سعر الصرف وضرورة اختيار البديل.. ولكن للأسف هذا بالظبط ما لم يحصل، بل كان الخيار هو عدم الخيار، أي الهروب الى الأمام بترك عامل الوقت وحركة السوق تفرض وقعها بالاتجاه الذي تطغى فيه العملة الأقوى على العملة الأضعف من دون أن يتحمّل أحد لا مسؤولية إعلان سقوط نظام سعر الصرف السابق ولا مسؤولية الإعلان عن نظام سعر الصرف الأنسب للحالة التي يمر بها لبنان.

 

في الواقع ، حتى ما قبل حرب 1975-1990 في لبنان، في نهاية عام 1974، كانت الودائع بالعملات الأجنبية (823 مليون دولار أميركي) لم تتجاوز 18 ٪ من إجمالي الكتلة النقدية للبلاد وكانت أقل بكثير من الأصول بالعملات الأجنبية للنظام المصرفي (2.11 مليار دولار). هذا يعني أنّ معظم العملات الأجنبية التي كانت تدخل إلى لبنان كانت تتحوّل إلى ليرة لبنانية، مما ساهم بارتفاع قيمة العملة الوطنية.

 

منذ اندلاع الحرب الأهلية في عام 1975، بدأت التحويلات من الدولار الأميركي إلى الليرة اللبنانية تتضاءل تدريجاً لينتهي بها الأمر إلى الانعكاس مع بداية عملية الدولرة الجزئية غير الرسمية الناتجة عن الاختيار الحر للقطاع الخاص بعد التدهور للقوة الشرائية للعملة الوطنية وافتقاد الثقة بإمكانية ثباتها خلال الأزمة النقدية في الثمانينات، خاصة مع التضخم الجامح في عام 1987 الذي تلاه انخفاض حاد في قيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي، والذي تم الوصول إلى ذروته في عام 1992. ارتفاع دولرة الودائع الذي بلغ ذروته عام 1987 بمعدّل 86 % تراجع قليلاً ولكنه حافظ على معدّل مرتفع جدا لم ينزل عن 67 % في أفضل الفترات (اليوم عاد ليتخطى الـ 80 %). منذ الثمانينات، بدأ الدولار الأميركي يأخذ مكان الليرة اللبنانية بتأمين وظائفها الثلاث: وحدة الحساب، وسيط التبادل والمحافظة على قيمة المدخرات. ارتفع سعر الصرف الذي كان 3 ليرات لبنانية / دولار أميركي قبل الحرب إلى أكثر من 2850 ليرة لبنانية / دولار أميركي نهاية عام 1992.

 

منذ عام 1993، تخلى لبنان عن نظام سعر الصرف العائم Free Floating لاعتماد نظام ربط زاحف لـ Crawling peg 1993 إلى 1997 مما سمح بتخفيض سعر الصرف تدريجاً حتى تطبيق الربط التقليدي لنظام عملة واحد ملزم Conventional soft peg to one currency LBP إلى USD بسعر 1501-1514 بمتوسط 1507.5 منذ 1997.

 

في تشرين الأول 2019 سقط نظام سعر الصرف القائم على الربط المَرن لليرة اللبنانية بالدولار الأميركي، أي عملياً يعيش لبنان منذ ثلاث سنوات بدون أي نظام سعر صرف لتفادي الجميع الانغماس بمسؤولية اختيار النظام البديل في ظل هيستيريا الدولرة الجزئية الشرسة وغير الرسمية التي تفرض نفسها على وقع فوضى الأسواق وتسحق كل من لا يصل الى يده سوى مدخول بالليرة اللبنانية، وذلك بدلاً من مواجهة الواقع من قبل السلطات الرسمية المعنية لحماية المساواة الاجتماعية بين المواطنين وحقّهم ببدل أتعاب ومداخيل بنفس العملة التي يتكبّدون فيها تدريجا كل المصاريف، لا سيما منهم العاملين في القطاع العام الذين أصبحوا عملياً على هامش النظام الاقتصادي-الاجتماعي ككل. السبب هو الخطأ الفادح التي تتم فيه مقاربة الأزمة من كل الزوايا إلا الزاوية التي يفترض البدء بها، أي اعتماد نظام سعر صرف جديد قبل التطرق لبقية نواحي الأزمة وحتى الموازنة التي يستحيل تقديمها بأرقام حقيقية قبل بَت نظام سعر الصرف والخيار النقدي للبلاد بما يتناسب مع دولرة تتخطى نسبة 80 %.

 

بعد سقوط نظام الربط المَرن لسعر الصرف ونفاد الاحتياطي بالعملات الأجنبية الذي كان المصرف المركزي يعتمد عليه للتدخّل المستمر في سوق القطع، ونظراً لاستحالة اعتماد نظام سعر الصرف العائم في اقتصاد مدولر بمعدلات مرتفعة تفوق الـ 80 %، لا يبقى علمياً أمام لبنان سوى خيار اللجوء الى نظام الربط الصارم لسعر الصرف المتمثّل بالدولرة الشاملة و/أو «مجلس النقد» الرديف لها.

 

طبعاً كان يمكن الانتقال التدريجي إلى نظام أكثر مرونة ومُتماهٍ مع مؤشرات ميزان المدفوعات، وطبعًا بأقل كلفة من العجز الفجائي عن التدخّل وترك الساحة للسوق الموازي، لا سيما منذ بدء تسجيل تراكم عجوزات ميزان المدفوعات منذ العام 2011. إستنادا الى نموذج الأكوادور الأقرب الى عناصر الأزمة في لبنان مع الانتقال من الدولرة الجزئية المرتفعة نحو الدولرة الشاملة، تبيّن أن الشرط الاساسي لنجاح عملية الانتقال الى «الدولرة الشاملة» يتطلّب أولاً امتلاك المصرف المركزي لـ احتياطي بالعملات الأجنبية بالدولار الأميركي يكفي لتغطية التزاماته تجاه القطاع الخاص، أي بشكل أساسي «القاعدة النقدية» monetaire base الأوراق النقدية المطبوعة من المصرف المركزي بالعملة الوطنية + احتياطي المصارف لدى المصرف المركزي، أي عمليا من الضروري احترام القاعدة التالية:

 

أولاً: اعتماد سعر صرف تتم على أساسه عملية التحويل.

 

ثانياً: التأكّد من توفّر الاحتياطي المطلوب لعملية استبدال، أي أن يرتفع سعر الصرف حتّى القاعدة النقدية بالعملة الأجنبية أو امكانية استدانة المبلغ الناقص وإلا ترك العملة الوطنية تنخفض الى المستوى الذي يسمح للمصرف المركزي بتغطية القاعدة النقدية بما يتوفّر لديه من عملات أجنبية.

 

ثالثاً: تحويل الموجودات والأصول في الجهاز المصرفي الى العملة الأجنبية وفق سعر الصرف المعتمد بلحظة التحّول الى الدولرة الشاملة…

 

بالنسبة للسلطات الرسمية، الدولرة الشاملة تعني أن يكون النقد الصادر عن المصرف المركزي قابلاً للاستبدال بالعملة الأجنبية ورقياً… ما يستدعي أن يبيع المصرف المركزي من احتياطاته العملة الأجنبية الى المصرف المركزي الفيدرالي الأميركي ليحصل مقابلها على الدولار الورقي ليتمّ تداوله في السوق بدلاً من العملة الوطنية.

 

مع الاشارة الى أنّ تحويل الموجودات والأصول في الجهاز المصرفي من العملة الوطنية الى الدولار الأميركي يعني فقط استبدال الودائع المصرفية الموجودة في حسابات المصارف الى الدولار الأميركي على أساس سعر الصرف الذي يتم اعتماده لإجراء الدولرة الشاملة، مثلاً، ولكن هذا لا يعني أنه يصبح بإمكان جميع المودعين سحب المبالغ فوراً وبشكل كامل ورقياً بالعملة الأجنبية، كَون المصرف المركزي المحلي ليس هو من يطبع العملات الورقية الأجنبية إنما هو يحصل عليها من البنك المركزي الأميركي على أساس كمية من احتياطاته بالعملة الأجنبية.

 

أما إزاء «حساسية» البعض حيال اعتماد الدولرة الشاملة، على الرغم من أن الاقتصاد اللبناني بات مدولراً بأكثر من 80 % أي أن ما يعرف بـ»السيادة النقدية» لم يعد يتخطى حدود الـ20 %، ثمة خيار رديف للدولرة الشاملة وهو «مجلس النقد» الذي يتفادى اعتماد «الدولار الأميركي» رسمياً بحد ذاته كلياً بدلاً من الليرة اللبنانية، بل اعتماد إسم عملة آخر (الليرة أو إسم جديد) يحظى بتغطية الاحتياطي الموجود بالدولار الأميركي.

 

يبرز اقتراح إنشاء «مجلس النقد» Currency Board/Caisse d’Emission وتنص هذه القاعدة على أن القاعدة النقدية – المكونة من الودائع التي تحتفظ بها المصارف والأوراق النقدية الصادرة عن مجلس النقد – يجب تغطيتها بالكامل وهامشياً بالعملة الاحتياطية. تؤسس قاعدة الاحتياطيات 100 ٪ عدم مرونة فعليًا للعملة الأساسية ومن المفترض أن تثبت مصداقية السلطات النقدية بشكل دائم وعدم قابلية نقض سعر الصرف. على مستوى الأدوات، فإن مجلس النقد وحده يضمن قابلية التحويل على قدم المساواة (مثلاً بمعدل واحد إلى واحد) لإصداراته بالعملة الاحتياطية، وبالتالي يشكل احتياطيًا واحدًا.

 

عملياً، يغطي مجلس النقد الليرة اللبنانية بنسبة 100 % بالاحتياطي الأجنبي (العملات الأجنبية أو احتياطي الذهب)، فيعيد الثقة المفقودة بالليرة لأنه يضمن القدرة على تحويلها من دون قيود، ما يجذب المستثمرين الأجانب ويزيد من إيرادات الدولة. والأهم في هذا الخيار هو أنه يقيّد المصرف المركزي فيمنعه تحديداً من طباعة العملة الوطنية بشكل إستنسابي من تمويل الحكومة Discretionnaire، ما من شأنه أن يُرغم الدولة على القيام بالإصلاحات المالية نظراً لتوقف إمكانية تحميل السياسة النقدية تبعات عجزها المالي وتحميل النظام المصرفي مدّها بالسيولة، أكان ذلك بالتسليفات المباشرة أو عبر شراء سندات خزينتها بشكل متواصل من دون ضوابط كما حصل.

 

هذه هي القراءة العلمية للخيارات البديلة لنظام سعر الصرف الذي سقط منذ ثلاث سنوات ولا زلنا ننتظر البديل. البديل العلمي لا يمكن أن يكون سوى «نظام سعر الصرف الصارم». فهل يتم إقرار إنشاء «مجلس النقد» أو يُترَك السوق ليفرض الدولرة الشاملة التي تشق طريقها في لبنان بشكل تلقائي من قبل القطاع الخاص… هل ستحصل في حالة الفوضى أو تكون منظّمة ورسمية بما يحد من ضبابية توقّعات العملاء الاقتصاديين؟ هل تحمل السلطات الرسمية مسؤولياتها في هكذا خيار مصيري أم تترك الأمور على عاتق ومسؤولية المصرف المركزي اللاعب الوحيد على الساحة؟

د. سهام رزق الله