الجميع أصبح على بينة أن القوى السياسية فقدت السيطرة على لبنان من خلال المؤسسات الدستورية. فالإقتصاد الذي يحتاج إلى قوانين لضبطه أصبح رهينة كارتيلات تتحكم فيه من دون أي تطبيق للقوانين وهو نتاج غياب السلطة التنفيذية – أي الحكومة – ولكن أيضًا نتيجة تفشّي الفساد.
لبنان رسميًا لم يعد قادرا على تأمين المواد الغذائية ولا السلع الأساسية (محروقات وأدوية…) لشعبه. فمصرف لبنان – المؤسسة الأخيرة في الدولة التي تمتلك المال – أعلن عن أخر 400 مليون دولار أميركي لدعم الأدوية والطحين بوتيرة 50 مليون دولار شهريا للأدوية و15 مليون دولار للطحين، أضف إلى ذلك إعتمادات المحروقات التي يتمّ تمويلها من خلال القرض من أموال المودعين بقيمة 200 مليون دولار أميركي والذي أقرّه رئيس الحكومة حسان دياب بإقتراح من وزير المال غازي وزني.
رفع الدعم أصبح واقعًا بالنسبة للسلع والبضائع وبالتالي وكنتيجة لذلك أصبح التجّار هم المُتحكّمون الفعليون بالإقتصاد من خلال قدرتهم على الإستيراد بواسطة حساباتهم بالدولار في الخارج وبيعها بالسعر الذي يريدونه. من هذا المُنطلق، سترتفع الأسعار عمليًا بثلاثة إلى خمسة أضعاف (بأقلّ تقدير) في المرحلة المُقبلة مع بقاء الأزمة على البنزين والمازوت نتيجة الإحتكار والتهريب.
الدعم على الخدمات ما زال قائمًا على الإنترنت، والتلفون، والتأمين، وبقاء هذا الدعم هو مسألة وقت قبل أن يتمّ رفعه نظرًا إلى تراجع القدرات المالية لمصرف لبنان. أما فيما يخص القروض المصرفية بالدولار الأميركي، فهي تُراكم خسائر على مصرف لبنان نظرًا إلى أن الودائع بالدولار تُسدّ على 3900 ليرة لبنانية (تعميم 151) و12 ألف ليرة لبنانية (تعميم 158) في حين أن القروض للأفراد، أصحاب الدخل بالليرة اللبنانية، تتمّ على 1500 ليرة لبنانية. إلى متى سيستمر هذا الأمر؟ لا أحد يعلم ولكن وقف هذا الدعم يعني تعثر أكثر من 70% (تقديراتنا) من القروض بالدولار الأميركي وهي قروض آتية من ودائع المودعين! وهذا الأمر إن حصل، سيؤدّي إلى مشاكل قانونية جمّة نظرًا إلى أن القروض هي مُقابل ضمانات.
في هذا الوقت طوابير الإنتظار على محطات الوقود تطول وتطول حتى أنها أصبحت تُعيق السير بشكل جدّي، والظاهر أن لا نهاية للأزمة إلا بوقف التهريب أو رفع الأسعار إلى أكثر من 200 ألف ليرة للصفيحة الواحدة! أيضًا الأدوية والمستلزمات الطبية أصبحت مفقودة بسبب الإحتكار والتهريب الذي يُمارسه تجار الأدوية بالتواطؤ مع المهربين. في هذا الإطار، قال أحد أصحاب الصيدليات أن «بائعًا مُتجوّلا يقوم ببيع الأدوية للصيدليات بالدولار الأميركي ونقدًا»، وهذا إن دلّ على شيء يدل على مدى فظاعة العصابات التي تفشّت في كل القطاعات ليصحّ القول «أحقر الناس من ازدهرت أحوالهم يوم جاعت أوطانهم».
المجتمع الدولي أصبح صريحًا جدًا مع السلطات اللبنانية حيث أصبح يتهمها علنًا بالتقاعس عن القيام بواجباتها تجاه الشعب اللبناني. وأخر هذه التصريحات، الردّ القاسي الذي وجهته السفيرة الفرنسية في لبنان آن غريو لرئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب والذي كلفها قطع البث وهي تتحدث! السفيرة الأميركية من جهتها أكدت على ما قالته السفيرة الفرنسية من أن المُجتمع الدولي قدّم مئات ملايين الدولارات إلى الشعب اللبناني مباشرة وأن السلطات اللبنانية تتقاعس عن القيام بواجباتها تجاه شعبها. والمُلفت في الأمر أكثر اللهجة الحاسمة التي إستخدمتها السفيرة الفرنسية والتي إن دلّت على شيء تدلّ عن مدى الإمتعاض الدولي من أداء السياسيين في لبنان. وشدّدت غريو على أن الأزمة الحالية هي نتاج الإدارة السيئة للدولة اللبنانية وليست نتاج الحصار الدولي على لبنان.
على صعيد المساعدات وتماشيًا مع طرح الرئيس الفرنسي ماكرون وصل إلى لبنان منسق المساعدات الدولية من أجل لبنان السفير بيار دوكان لتنسيق المساعدات الدولية للبنان والتي كان قد صرّح عنها ماكرون عبر قوله إن فرنسا تعمل مع شركاء دوليين لإيجاد آلية لتأمين إستمرار الخدمات للشعب اللبناني في ظل الأزمة الحالية. وبالتحديد سيقوم دوكان بإثارة ثلاث نقاط: تحذير المسؤولين اللبنانيين من خطورة إستمرار الوضع على ما هو عليه، إظهار الفوائد من تشكيل حكومة والمضي في إصلاحات إقتصادية، والبحث في آلية الدعم التي سيُقدّمها المُجتمع الدولي – أو بالأحرى إخطار المسؤولين اللبنانيين بهذه الآلية نظرًا إلى أن السلطة لن تكون جزءًا منها.
من ناحية أخرى تُغادر اليوم السفيرة الأميركية برفقة السفيرة الفرنسية إلى المملكة العربية السعودية بهدف عقد إجتماعات مع مسؤولين سعوديين كتكّمِلة للاجتماع الثلاثي الاميركي – الفرنسي – السعودي الذي عُقد في إيطاليا الأسبوع الماضي بشأن الوضع في لبنان. ومن المتوقّع بحسب بعض المصادر أن يتمّ بحث موضوع الملف الحكومي مع عبارة السفيرتين الشهيرة «ضرورة تشكيل الحكومة»، ولكن أيضًا موضوع المساعدات إلى الشعب اللبناني.
فشل القوى السياسية بتشكيل حكومة، دفع المجتمع الدولي من باب «تقاعس السلطات اللبنانية عن تأدية واجباتها تجاه شعبها» إلى أخذ المبادرة فيما يخص المساعدات إلى الشعب اللبناني مباشرة من دون المرور بالمؤسسات الرسمية بإستثناء الجيش اللبناني الذي يحظى بالثقة الدوّلية. هذه المبادرة التي بدأت من باب إيصال المساعدات الغذائية والعينية وحتى المالية مباشرة إلى الشعب، ستتمدّد لتصل إلى الشق المالي المتعلّق بالدولة اللبنانية حيث ينصّ أحد السيناريوهات على أن يتمّ تجميد الأصول المالية اللبنانية التابعة للدولة اللبنانية ووضعها تحت وصاية قد تكون على الأرجح أميركية – فرنسية – عربية ولا يتمّ إستخدامها إلا لدعم الشعب اللبناني مباشرة. في نفس الوقت، يقوم المجتمع الدولي بفرض عقوبات على عدد كبير من السياسيين من الصفين الأول والثاني مع تجميد كامل لحساباتهم الموجودة في الخارج. هذا السيناريو بحسب أحد المراجع القانونية هو سيناريو مُحتمل نظرًا إلى أن هناك خرقا لشرعة حقوق الإنسان (عبر تجويع الشعب) وبالتالي هناك أسباب موجبة تسمح للمجتمع الدولي بالقيام بمثل هذه الخطوة.
على كل الأحوال يبقى الواقع الأليم على الأرض وهو الواقع الذي يعيشه المواطن اللبناني والذي من دون مُساعدات خارجية، سيشهد مأساة غذائية ستكون من الأسوأ عالميًا.